| لاندماج الاجتماعي فيبلد واحد - من المجتمع الأهلي إلى المجتمع المدني (من الرعوية إلى المواطنة) | |
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
باحث اجتماعي عضو زهبي
التخصص : علم اجتماع عدد المساهمات : 1494 نقاط : 3052 تاريخ التسجيل : 01/01/2010 العمر : 54
| موضوع: لاندماج الاجتماعي فيبلد واحد - من المجتمع الأهلي إلى المجتمع المدني (من الرعوية إلى المواطنة) الإثنين مارس 09, 2015 1:04 pm | |
| بقلم : . . جاد الكريم الجباعي
الاندماج الاجتماعي فيبلد واحد *
من المجتمع الأهلي إلى المجتمع المدني (من الرعوية إلى المواطنة)
مقدمة
تحاول هذه الورقة أن تجيب عن سؤال: كيف يمكن أن يتحقق الاندماج الاجتماعي في بلد واحد، كسوريا أو لبنان أو العراق أو غيرها، فتناقش قابلية الاندماج لدى الأفراد والجماعات، وشروط إمكانه، والصعوبات والعقبات التي تعترضه، مبتعدة عن خطابين متطرفين: خطاب استاتيكي، ينفي وجود أي مظهر من مظاهر الاندماج، مفترضاً أن المجتمع المعني مجرد تجاور أفراد وجماعات كتجاور حبات الرمل، وأن تفاصل الجماعات وتحاجزها واقع ثابت ودائم؛ وخطاب افتخاري لا يخفي زهوه بالعلاقات الروحية الدافئة التي لم تفسدها الأنانية الفردية والعلاقات المادية والصراعات الطبقية، وخاصة في معرض السجال مع الآخر "الغربي"[1]
فإن واقع الحال في كل بلد عربي يبدي صورتين متناقضتبن: صورة مجتمع تقليدي تخترقه انقسامات عمودية عميقة الغور في التاريخ، لا تتصل مباشرة بغناه أو فقره، ولا بمساحته أو مناخه أو عدد سكانه، على أهمية هذه العوامل وغيرها في تشكُّل المجتمعات والدول، بل تتصل مباشرة ببنيته الاجتماعية الاقتصادية والثقافية والأخلاقية ونظامه السياسي. ويبدي في الوقت نفسه صورة مجتمع حديث يتجه نحو الاندماج بخطا بطيئة ومتعثرة، تعترضها صعوبات وعقبات أو موانع. تتعلق الصعوبات ببنيته الاجتماعية، وتتعلق العقبات والموانع بنظامه السياسي، فإذا ما زالت العقبات والموانع يغدو تذليل الصعوبات أمراً يسيراً. فقد كشفت وقائع "الربيع العربي" عن الأثر الحاسم للأنظمة السياسية والسلطات الحاكمة في لجم عملية تشكُّل المجتمع المدني والدولة الوطنية، والتحول إلى الديمقراطية في بلدانها، على الرغم من زيادة الطلب الاجتماعي على الحرية والمساواة والعدالة والحياة الإنسانية الكريمة.
فلا تزال السلطة، في مختلف البلدان العربية، تتحكم في الإنتاج الاجتماعي، المادي والثقافي، وتوجِّهه وتسيِّره وتضبطه وتراقبه، بما تملكه من وسائل القوة والإكراه وأدواتها. وتتصرف بالثروات الوطنية وناتج عمل المجتمع تصرف المالك بأملاكه، وتمن على رعاياها بالعطايا والمنح والهبات، فتتحكم، من ثم، في عملية تشكيل المجتمع، وتنسِّق، بناه، بما يضمن سيطرتها وديمومتها "إلى الأبد ويوم"[2]. ولا تزال المؤسسات والدساتير والقوانين، حيثما وجدت في هذه البلدان، أدوات لتقييد المجتمع والأفراد، لا لتقييد السلطة، والحد من تجاوزاتها على حقوق المواطنين وحرياتهم وكرامتهم الإنسانية.
ولما كان مفهوم الاندماج الاجتماعي (Social integration)ملتبساً بمفاهيم أخرى كالتوحيد الوطني أو القومي (National Unification)والاستيعاب (assimilation)والصهر والتذويب (homogenization)أو التمثل، ومُحَمَّلاً بدلالات أيديولوجية وقيم ذاتية وأحكام مسبقة ومضامين شعبوية كان لا بد من محاولة تأسيسه وتعيين حدوده وعلاقته بالمواطنة والوحدة الوطنية (National Integrationأو National uniformity)والتشارك الحر في الحياة العامة وحياة الدولة (Political Participation). وبحثه في نطاق مجتمع معين ودولة قائمة بالفعل، لارتباطه الوثيق بتشكل المجتمع المدني ونشوء الدولة السياسية.
إشكالية الوصف والتحديد
تبدو فكرة الاندماج الاجتماعي محببة ومرغوباً فيها شعورياً، ومتفقاً عليها أيديولوجياً، وكذلك فكرة الوحدة الوطنية والوحدة القومية أو الإسلامية، وكلها ذات صلة بالدمج والتوحيد. فـ "التوحيد" قاسم مشترك بين أتباع الديانات التوحيدية جميعاً، وجذوره ضاربة في أعماق التاريخ البشري. خطاب الوحدة والاندماج يذهب غالباً في هذا المنحى. فليس ممكناً لقوة اجتماعية أن تجمع الناس على هدف مشترك إلا بأيديولوجية توحيدية أو دمجية. فهل نحن إزاء أدلوجة اندماج اجتماعي تتبناها "قوة اجتماعية" تقنِّع بها الأثرة والقهر والهيمنة والتسلط والتلاعب[3]، أم إزاء سيرورة أو عملية تشكُّل مجتمع مدني ودولة وطنية ونظام ديمقراطي؟ تحليل الخطاب السياسي، القومي والإسلامي التوحيديين، أو تفكيكه، يكشف صلته الوثيقة بالمعنى الأول وممانعته الشديدة للمعنى الثاني، وهذه من أبرز مفارقاته.
لذلك تتحرَّز هذه المقاربة من وصف المجتمع بأي صفة إثنية أو دينية، لكي لا تحيل الصفة على "لحمة اجتماعية" مفترضة قبلياً، فتغدو نوعاً من مصادرة على المطلوب، ولا سيما أن الصفة قد تأكل الموصوف، وتجوهره، فتغدو هي الموضوع، وتكف عن كونها مجرد تعيين وتحديد من تعييناته وتحديداته الكثيرة، ومحمولاته الكثيرة. فإن وصف المجتمع السوري أو السعودي، مثلاً، بأنه عربي أو إسلامي، يضمر افتراضاً قبلياً بأن العروبة و/أو الإسلام هما جوهر المجتمع، ولحمة اجتماعية كافية للحكم عليه بأنه مندمج ومتماسك، "كالبنيان المرصوص، يشد بعضه أزر بعض"، وواقع الحال ليس كذلك اليوم، ولم يكن كذلك في الماضي.
إضافة إلى أن كلاً من هاتين الصفتين، الجوهريتين والمجوهِرتين، تضمر، في خطاب المتكلم، تصوراً عما هو المجتمع، وعما ينبغي أن يكون، إذ يفترض المتكلم، بل يعتقد، أن المجتمع متجانس إثنياً أو دينياً، أو مذهبياً أو ينبغي أن يكون كذلك. وفي هذا إنكار ضمني لوجود المختلفين، وتنكُّر للتعدد والاختلاف، أي إنهما تضمران رؤية تشتق المجتمع والأمة والشعب والدولة من العروبة أو من الإسلام.
التحرُّز من وصف المجتمع بأنه عربي أو إسلامي، قد يولِّد غير قليل من سوء التفاهم، إذا لم يفصح عن الفرضية المضمرة فيه، ومؤداها أن لكل من العروبة والإسلام طابعاً تناقضياً، في مجال العلاقات الاجتماعية، يجعل كلاً منهما، إما فضاء روحياً مواتياً لقابلية الاندماج وقابلية الاستقبال غير المشروط، وإما "عصبية"[4] تحول دون ذلك، فتغدو عاملاً من عوامل الانقسام والتنابذ. لا يقتصر الأمر هنا على العلاقة العكسية بين التضمُّن النابذ والشمول الجاذب، في كل منهما، فقط، بل يتعدى ذلك إلى اعتبار أي منهما أو عدم اعتباره هوية سياسية للفرد والمجتمع وصفة للدولة[5]. فلم تؤد العصبية العربية أو الإسلامية إلى الاندماج الاجتماعي لا في الماضي ولا في الحاضر، وكذلك الصيغة الأيديولوجية التي تدمجهما معاً.
في هذا السياق، رأى محمد عابد الجابري أن "العصبية - عصبية قريش أولاً وعصبية العرب جميعاً - كانت شرطاً ضرورياً في نجاح الدعوة الإسلامية وقيام دولة العرب. مثلما أن الإسلام نفسه كان شرطاً ضرورياً لالتئام العصبيات العربية وتأسيسها الدولة .. فإذا كان الإسلام قد وحد العرب وجعل منهم قوة اكتسحت إمبراطوريتي الروم وفارس شرقاً ودول البربر والعجم غرباً، فإن هذه الوحدة لم تكن سوى إطار ممطط لعصبيات متعددة، كانت كل منها تحتفظ بكيانها وشخصيتها. إن إسلام العرب لم يكن يعني زوال العصبيات التي فرقت بينهم، مثلما أن إسلام الفرس والروم والبربر والترك وغيرهم لم يكن يعني اندماجهم الكلي في "أمة" العرب والإسلام"[6].
يمكن أن نلاحظ هنا نوعاً من تطابق، أو اندماج، وتحديد متبادل، واعتماد متبادل، بين عصبيتين: دينية وإثنية، مختلفتين نوعياً، الأولى تضفي على الثانية طابع القداسة، والثانية تمد الأولى بالقوة والبأس. ففي كلتا العصبيتين الانتماء يحدد الاعتقاد، والاعتقاد يحدد المعرفة، والمعرفة تحدد الممارسة، والممارسة تحدد العلاقات الداخلية والخارجية وتتحدد بها. هذا التطابق والتحديد المتبادل ينتجان حركة دورانية لا على صعيد الإنتاج المادي فقط، بل على صعيد إنتاج المعاني والقيم والرموز ومجال تداولها. ينطبق ذلك على العصبية الموسَّعة أو المركبة والعصبيات الفرعية على السواء، ويتجلى بوضوح عند انفجار العصبية الموسَّعة وتشقق منظومة الولاء. إذ يغلب أن تنتحل كل عصبية فرعية نحلة، دينية أو علمانية، تمتاز بها، وتعدها "العقيدة القويمة"، وتعارض نحلة العصبية الغالبة[7]. لذلك نعتقد أن تسييس العروبة وأدلجتها، واعتبارها هوية سياسية للفرد والمجتمع وصفة للدولة، مثل تسييس الدين أو المذهب وأدلجته، واعتباره هوية للفرد والمجتمع وصفة للدولة. فمن منظور الاندماج الاجتماعي والوحدة الوطنية وشروط التحول الديمقراطي، تبدو الأحزاب العقائدية القومية، كجماعات الإسلام السياسي بنيةً ووظيفة[8].
ما يهمنا هنا أن الفكر القومي العربي المعاصر، الذي سيطر على الفضاء الثقافي العربي، إلى جانب الفكر الإسلامي وفكر "الصحوة الإسلامية"، ظل أسير الأطروحة القائلة: "العروبة مادة الإسلام والإسلام روحها"[9]، فلم تكن الحركة القومية، التي سيطرت على المجال السياسي في غير مكان، لا حركة دينية ولا حركة علمانية، بل أقرب إلى عصبية موسَّعة ومركَّبة، كالتي وصفها الجابري، لم تستطع، بصفتها هذه، أن تكون حاضنة للاندماج الاجتماعي أو عاملاً من عوامله. وقد يكون هذا أساس تناقضها الداخلي ومأزقها الذاتي. ولا يخفى أن مضمون الأطروحة المشار إليها يختلف باختلاف المتكلم، ما يعني تنسيب العروبة وتنسيب الإسلام، وتعزيز الانقسامات العمودية، وإعادة إنتاج ثقافة "الفتنة".
فلا بد من الإشارة إلى فارق نوعي بين الاندماج الاجتماعي، بصفته قابلية واستقبالاً، وبين ما يسميه الفكر القومي العربي "الاندماج القومي"، النابع من رؤية قومية والمقترن بمشروع نهضة قومية، وتطلُّع (مشروع) إلى دولة عربية واحدة أو وحدة اندماجية. يتجلى هذا الفارق في التوتر بين الواقع والممكن، من جهة، وبين الواقع المأمول أو المرغوب فيه من جهة أخرى، أو بين الواقع الموضوعي والمطلق الذاتي. هذا الفارق يقتضي أن يكون الاندماج الاجتماعي في كل بلد عربي على حدة مقدمة ضرورية أو شرطاً لازماً لقيام دولة واحدة تقرر الشعوب والدول المستقلة شكلها ونظامها. ولا بأس أن نعترف بأن هذه الصيغة تضمر ميلاً فدرالياً وديمقراطياً.
| |
|
| |
باحث اجتماعي عضو زهبي
التخصص : علم اجتماع عدد المساهمات : 1494 نقاط : 3052 تاريخ التسجيل : 01/01/2010 العمر : 54
| موضوع: رد: لاندماج الاجتماعي فيبلد واحد - من المجتمع الأهلي إلى المجتمع المدني (من الرعوية إلى المواطنة) الإثنين مارس 09, 2015 1:04 pm | |
| ندعي أن الرؤية الوحدوية "الاندماجية" أكثر توفزاً حيثما تشعر النخبة العربية، الثقافية والسياسية، بنقص في "الاكتفاء الكياني" للدولة، بتعبير ياسين الحافظ. يتعلق الأمر إلى حد بعيد بالتقسيم الكولونيالي الحديث، بعد الحرب العالمية الأولى. فالنخبة العربية لم تعترف بعد بالدولة القائمة بالفعل، وتسميها "دولة قطرية"، وهي تسمية تحقيرية، بسبب من نقص أصلي في شرعيتها، أو "خطيئة أصلية"، بل إن موقفها منها أقرب إلى موقف القوى السلفية من التنظيمات العثمانية ثم الكولونيالية، ومن الوطنية أو القومية الحديثة. وقد عبر عبد الله العروي عن ذلك بقوله: "الحركة الوطنية التي كانت تريد نزع السلطة من الأجانب امتزجت بالحركة السلفية التي كانت تهدف قبل كل شيء إلى إعادة الشريعة الإسلامية إلى مركز التسيير"[10]. فالحركة الوطنية، قل القومية، والحركة السلفية وجهان للعملة ذاتها، في هذا الموضوع.
لذلك لن نتحدث عن العوامل الجاذبة والعوامل النابذة، على نحو ما تحدث كثيرون، بل سنموضع عمليتي الجذب والنبذ في الشمول والتضمن، وقابلية أو عدم قابلية الأفراد للاندماج، وقابلية البنى الاجتماعية السياسية أو عدم قابليتها للاستقبال، أو الدمج، فنؤسس مفهوم الوحدة الوطنية على حرية الفرد وحقوق الإنسان والمواطن، ومبادئ الحرية والمساواة والعدالة. ونحاول استشفاف إمكانية الاندماج الاجتماعي وشروط تحققه والصعوبات والعقبات التي تعترضه، هنا أو هناك، وهذه وتلك متغيرة، لا تتوفر إلا على ثبات نسبي، وقد يكون هنالك من الصعوبات والعقبات ما لم يخطر في البال. لا يستقيم ذلك إلا بـالاعتراف المبدئي والنهائي بالواقع القائم، هنا والآن، وفهمه وفهم ضروراته شرطاً لتغييره وعتق الإنسان كإنسان والمواطن كمواطن، وتجاوز فكرة الأكثرية والأقلية، وتجاوز الطوائف إلى المجتمع والفرد"[11].
تتحرز هذه المقاربة أيضاً من إطلاق تعميمات من نوع: مجتمع متخلف، مجتمع متأخر، مجتمع تابع، مجتمع تعددي، مجتمع فسيفسائي، مجتمع طبقي .. إلخ. فثمة بون شاسع بين الانطلاق من هذه التعميمات، وبناء نموذج نظري لما هو المجتمع على أساس أي منها، وبين رصد الظاهرات الاجتماعية الواقعية، وتحليلها، واكتشاف منطقها الداخلي وعلاقاتها المتبادلة، وما تنطوي عليه كل منها من توتر وتناقض، ومقاربة حركة هذه التناقضات، واتجاه سيرها، وتعيين العوامل التي تؤثر في ذلك سلباً وإيجاباً. فليس المجتمع ما هو عليه فقط، بل ما يعمل على أن يكونه"[12]. فلا يحدث تقدم أو تراجع، يكسر الحركة الدائرية، أو "حركة الاعتماد"، والدوران العقيم حول الذات، حيث تُخمد القوى بعضها بعضاً، أو تخمدها جميعاً قوة طاغية، كما في النظم السلطانية والتسلطية، إلا حينما تتجه حركة هذه التناقضات في اتجاه واحد، إما إلى الماضي وإما إلى المستقبل، على اعتبار المستقبل ممكنات الحاضر فقط. وحين نتحدث عن اتجاه حركة التناقضات إنما نتحدث عن نسبة القوى الاجتماعية[13]، على اختلاف أشكالها، وأثر الفاعلين اجتماعياً، من الأفراد والجماعات، في تغليب هذا الاتجاه أو ذاك. فثمة في كل مجتمع قوى دافعة للاندماج وأخرى تعيقه أو تحبطه، وثمة بنى منفتحة قابلة للاستقبال والدمج وأخرى مغلقة وكتيمة تصد عن ذلك صداً، معيارها تفاضل "الهويات" المنقوشة على صخرة الوجود وعلى الوجوه والأجساد، وفي الذاكرة الجمعية والمخيال الجمعي.
ثمة في الطب قاعدة ذهبية تقول: ليس هنالك مرض، بل هناك مريض. وعليه، ليس هناك تخلف أو تأخر أو تبعية .. بل هناك مجتمع معيَّن يعاني نوعاً من التخلف أو التأخر أو التبعية وشكلاً من أشكالها، يختلف في النوع والدرجة عما يعانيه مجتمع آخر. يتوقف علاجه على بنيته ومناعته وما يتوفر عليه من آليات الدفاع الذاتي. ما يعني أن سلامة الجسم الاجتماعي وسلامة نظامه وقدرته على القيام بوظائفه هي الحاسمة في تحديد التخلف والتأخر والتبعية ونقائضها. فالإمبريالية والصهيونية وتيارات العولمة وما شئتم من قوى خارجية ليست مسؤولة عن ضعف أي مجتمع وهشاشة بنيانه وقصوره الذاتي.
| |
|
| |
باحث اجتماعي عضو زهبي
التخصص : علم اجتماع عدد المساهمات : 1494 نقاط : 3052 تاريخ التسجيل : 01/01/2010 العمر : 54
| موضوع: رد: لاندماج الاجتماعي فيبلد واحد - من المجتمع الأهلي إلى المجتمع المدني (من الرعوية إلى المواطنة) الإثنين مارس 09, 2015 1:04 pm | |
| تناقضات مزمنة
فلا يتحدد التخلف أو التأخر بمقارنة المجتمع بالمجتمعات المتقدمة فقط، حسب ما هو شائع، بل بمقارنة عوامل التخلف أو التأخر ومظاهره بعوامل النمو أو التقدم ومظاهره، في المجتمع نفسه، مهما بدت هذه المظاهر الأخيرة هشة وسطحية ومهما بدت العوامل متفاوتة. وإلا فإن الحديث عن التخلف والتأخر يظل حديثاً عن مفاهيم مجردة، ومقارنة صورة ذهنية كالحة بصورة ذهنية أخرى مشرقة ومتوهجة لا ينتج منها، أي من المقارنة، سوى الإحباط واليأس. التقدم والتأخر كلاهما نسبيان وقابلان للقياس وقابلان للنقد والمراجعة على واقع المجتمع وتناقضاته الداخلية الملازمة. نفترض أن التناقض بين التقليد والحداثة وبين التبعية والاستقلال، وبين الاستبداد والديمقراطية وبين التيوقراطية والعلمانية وبين الرعوية والمواطنة تناقضات داخلية تخترق جميع مستويات الحياة الاجتماعية وجميع البنى والمؤسسات. كما أن التبعية لا تتحدد إلا بالاستقلال، وليس في الواقع من تبعية مطلقة ووحيدة الجانب، حتى تبعية العبد للسيد. لذلك يحسن استبدال مفهوم الاعتماد المتبادل بمفهوم التبعية المثبِّط، والعمل دوماً في سبيل تحسين شروط التبادل، وليس هذا بمستحيل.
فلا بد من معاندة سلطة النموذج، ولا سيما نموذج المجتمع الحديث والدولة الحديثة، لتلمس إمكانات تصحيح العلاقة بين المجتمع والدولة، هنا والآن، بتعميق التحولات الاجتماعية الملموسة التي تحمل هذه الإمكانات، فتجعل من المجتمع قوة سياسية، لا يطابق نفسه دوماً ولا يطابق أي مجتمع آخر. هذا يقتضي منا تغيير زاوية النظر إلى مجتمعاتنا، فننكب على دراسة عوامل التقدم ومظاهره في كل مجتمع، وسبل تنميتها وتعميقها، عوضاً عن التذمر من التخلف والتأخر والتبعية ومعارضتها بثورة على الطبيعة البشرية، تحت عناوين قومية وإسلامية واشتراكية، كما فعلنا على مدى نصف قرن.
هذه التناقضات الداخلية تتمفصل عندنا مع اعتباط الطبيعة، الخارجة عن إمكانية السيطرة عليها، واعتباط السلطة وتعسفها، واعتباط السوق ودكتاتوريتها، سواء في ذلك سوق السلع والخدمات أو سوق العمل والتبادل الثقافي، فهي تناقضات تعتمل في مناخ اعتباطي، ما يجعل الفرد مشتتاً منقسماً على نفسه بين الامتثال والتمرد، ليس لشخصيته، ومن ثم لحياته، نقطة ارتكاز أو مركز ثقل يشد بعضها إلى بعض، لنقص في حياته النوعية، في المجتمع والدولة. إذ ليس ثمة نقطة ارتكاز أو مركز ثقل للمجتمع يشد أجزاءه بعضها إلى بعض، وأفراده بعضهم إلى بعض. بل يمكن القول إن مركز ثقل شخصية الفرد يقع خارجها، في العائلة الممتدة أو العشيرة أو الطائفة ... ومركز ثقل المجتمع يقع خارجه أيضاً. نعني أن "الدولة"، وهي نقطة الارتكاز أو مركز الثقل، لا تزال مخارجة للمجتمع، ولاجمة لاستقلال الأفراد والجماعات، ولاجمة من ثم للاندماج الوطني المنفتح على أفق إنساني.
الدولة السياسية هي مركز ثقل المجتمع أو نقطة ارتكازه، بصفتها العمومية، الجمهورية، (Republic)، وشرعيتها الدستورية، أي بصفتها دولة جميع مواطنيها بالتساوي، مع أننا لا نستطيع أن نتحدث عن دولة كاملة العمومية[14]، بحكم ازدواجية السلطة التي تمارس سياسة الدولة، حتى في الدول الديمقراطية، إذ السلطة ليست سلطة الجميع، بل سلطة الأكثرية، ولكن تداول السلطة سلماً وقوة المؤسسات وعقلانية النظام وحكم القانون ومساحة الحرية وشرعية المعارضة والنقد تسد هذا النقص. أما حين تتقلص عمومية الدولة حتى تتطابق مع سلطة فئة اجتماعية أو عائلة أو عشيرة أو حزب عقائدي .. فإنها تصير مخارجة للمجتمع وغريبة عنه، وفق مبدأ القرابة والغرابة المؤسِّس لهذه البنى، وتسلسل الولاءات والامتيازات المقابلة لها. وهذا يعني اغتراب المجتمع نفسه وتناثره، واغتراب كل فرد من أفراده وتشتته. يتعلق الأمر بنوع الشرعية[15] التي تقوم عليها الدولة وتستند إليها السلطة السياسية. لعل نوع الشرعية مما يقتضي بحث الاندماج في كل بلد على حدة، في ضوء الدول القائمة بالفعل وطبيعة كل منها والمبادئ التي تقوم عليها شرعيتها، وتحدد طبيعة علاقتها بالمجتمع. حتى في البلدان المتقدمة لا نستطيع الحديث عن نظام ديمقراطي ونظام رأسمالي، بل عن نظم ديمقراطية مختلفة ونظم رأسمالية مختلفة.
التخارج المزمن بين المجتمع والدولة هو ما جعل التناقضات التي أشرنا إليها تناقضات مزمنة، لا سبيل إلى حل أي منها، في ظل هذا التخارج، وما جعل حركة المجتمع أقرب ما تكون إلى حركة اعتماد، لا حركة نقلة إلى الأمام وإلى الأعلى، فالتقدم القطاعي قلَّما يتكامل لينتشر في الجسم الاجتماعي حيثما تنتشر السلطة، ليولد أشكالاً جديدة لمقاومتها أو معارضتها. هذا كله مما يوحي بأن التخلف والتأخر والتبعية سمات ثابتة من سمات المجتمع. ومن البديهي أن هذا التخارج يضع الأفراد في مأزق وجودي وأخلاقي، أو أزمة ضمير، بين تطلعهم إلى الاستقلال والحرية والمساواة والعدالة وخضوعهم لعلاقات رعوية محدثة، لم تفقد مبرر وجودها بعد، في مناخ الاستبداد المحدث أو السلطانية المحدثة، وفي ظل الوعي العصبوي وسياسات الهوية. يتجلى ذلك في التوتر والتناقض في وعي الفرد نفسه وفي سلوكه ونوع استجابته للوقائع والأحداث، في محيطه وفي العالم، كما يتجلى في موقفه من حرية الفكر وحرية الرأي والتعبير، في ظل الفضاءات المفتوحة والإعلام الكثيف والتواصل الكثيف الذي وفرته تقنيات الاتصال.
وإذ يتفق كثير من المفكرين والباحثين العرب، منذ عهد الكواكبي، على نقد الاستبداد وتشريحه والكشف عن عوامله، الاجتماعية والسياسية والثقافية والنفسية، وتشخيص مظاهره، وإن بمصطلحات مختلفة، كالاستبداد المحدث، والدولة السلطانية الحديثة، والدولة التسلطية، والنظام البطركي الحديث .. هل يمكن تفسير تخارج المجتمع والدولة بالأصل التاريخي للسلطة، وظروف ولادة الدولة الحديثة، في ظل الاستعمار الكولونيالي، التي أدت إلى الإشاحة عن الدولة الدستورية وإعادة إنتاج التسلط والطغيان، أي بتناقض "سيادة السلطة وسلطة السيادة"، وتناقض الخطاب التاريخي – السياسي، المعبر عن الأولى، والخطاب القانوني الفلسفي، المعبر عن الثانية[16]؟ وهل يمكن افتراض أن سيادة السلطة نتيجة لازمة لحرب العصبيات، أو حرب الهويات الجوهرانية والنزعات الحيوبة والعنصرية؟
كل ما من شأنه أن يحافظ على تحاجز الجماعات الإثنية والعشائرية والقبلية أو الجماعات الدينية والمذهبية وعزلتها وانغلاقها على ذاتها، ويعمق، من ثم، خطوط الفصل فيما بينها هو عقبة في طريق الاندماج الاجتماعي الوطني، وهو، في الوقت ذاته، عقبة في طريق نمو الفردية وتفتح الشخصية واستقلالها. هذا لا يعني تجاهل وجود الجماعات الإثنية والدينية والمذهبية، أو وجوب حذفها وانتزاع الأفراد منها، بأي صورة من صور الإكراه والقسر الماديين أو المعنويين، بل يعني إلغاءها سياسياً، وتوفير جميع الشروط اللازمة لنموها وتطورها مدنياً. فليس بوسع أحد أن يلغي الوجود المدني لهذه الجماعات لمجرد أنه يرغب في ذلك، أو لأنه يظن أن تحرر الأفراد من ربقتها شرط لازم لتحررهم السياسي. إذ يمكن أن يكون الشخص متديناً، بل متعصباً لعقيدته ومواطناً، في الوقت نفسه، مثلما يمكن أن يكون طبيباً ومواطناً في الوقت نفسه، فالطب ليس وظيفة سياسية، وعقيدة الطبيب مستقلة عن علمه ومهنته الإنسانية، فما من طبيب وما من طب يشفي المرضى لأنه مسلم أو مسيحي أو عربي أو كردي أو أمازيغي.
لاحظ كارل ماركس، في نقده لموقف برونو باور من "المسألة اليهودية"، أن حق الاقتراع العام، وهو أحد مظاهر المواطنة في الدولة الدستورية، يجعل غير المالكين لوسائل الإنتاج، وهم أكثرية المجتمع، يشرِّعون للمالكين. ومن ثم فإن الاقتراع العام إلغاء سياسي للملكية الخاصة؛ أي إن الملكية الخاصة لا تنتج حقوقاً مدنية وسياسية للمالكين أكثر أو أقل من حقوق غير المالكين، على صعيد المجتمع السياسي، أو الدولة السياسية؛ ولا تمنح الملكية الخاصة والمالكين أي امتياز، على هذا الصعيد، من حيث المبدأ. ولكن هذا الإلغاء السياسي لم يلغ الملكية الخاصة في المجتمع المدني، حيث تنمو وتزدهر وتمتاز. فالمالكون بتساويهم مع غير المالكين، في الحقل السياسي، لم يخسروا ملكيتهم الخاصة، بل ربحوا "حق التملك" المعترف به دستورياً وقانونياً، وربحوا حماية الدولة للملكية الخاصة من أي اعتداء عليها. وعلى هذا النحو، فإن الاقتراع العام، على قاعدة المواطنة، إلغاء سياسي للإثنيات والأديان والمذاهب، لا يلغي وجودها الفعلي، في المجتمع المدني، حيث تنمو وتزدهر وتتمايز، بل يمنحها شرعية قانونية، واحترام خصوصيتها وحماية الدولة لها من أي تجاوز على حقوقها وحريتها وكرامتها.
لا بد من الإشارة، هنا، إلى أن موطن الداء، يكمن في الوعي السديمي الذي لا يفرق بين ما هو اجتماعي وما هو سياسي وما هو اقتصادي، بحصر المعنى، وما هو ثقافي. ولا يدرك اختلاف المجالات واستقلال كل منها، لكي يمكن التكامل فيما بينها في مجال عام. ولا يدرك، من ثم، العلاقة الجدلية بين المجتمع والدولة بصفتهما مجالين من طبيعتين مختلفتين، وحدين متعارضين، ومستقلين أحدهما عن الآخر، ومختلفين اختلافاً هو ما يجعل تعارضهما الجدلي (الديالكتي) ممكناً؛ إذ لا ينشأ تعارض جدلي إلا من اختلاف، بين قوتين متشارطتين في الوجود، (وجود كل منهما شرط وجود الأخرى) ومتكافئتين في الوجود أيضاً. التشارط لا يعبأ بالأسبقة، لأن ولادة الجماعة هي نفسها ولادة السلطة، وولادة المجتمع هي نفسها ولادة الدولة. والفرق بين سلطة الدولة وغيرها من السلطات، يكمن في كون سلطة الدولة عامة، بغض النظر عن القوة الاجتماعية التي تمارسها. فشرعية السلطة هي ما يحدد معنى عموميتها ومحتوى العلاقة بين الحاكم والمحكوم أو مضمونها.
ولا بد أن نفرق أيضاً بين بنى قابلة للتفكك والزوال وأخرى أقل قابلية أو غير قابلة لذلك. فالعائلة الممتدة والعشيرة والقبيلة قابلة للتفكك، حين تفقد وظائفها الأساسية، وقابلة للزوال حين تفقد جميع وظائفها. ولم يعد ممكنا لها أن تمد يدها إلى ما لدى الآخرين حين تمد عينها إليه، إلا إذا استولت على السلطة العامة وجعلت منها سلطتها الخاصة.
| |
|
| |
باحث اجتماعي عضو زهبي
التخصص : علم اجتماع عدد المساهمات : 1494 نقاط : 3052 تاريخ التسجيل : 01/01/2010 العمر : 54
| موضوع: رد: لاندماج الاجتماعي فيبلد واحد - من المجتمع الأهلي إلى المجتمع المدني (من الرعوية إلى المواطنة) الإثنين مارس 09, 2015 1:05 pm | |
| يمكن لأي باحث أن يلاحظ ضمور النفوذ المادي للبنى الأولية، منذ استقلت عنها عملية الإنتاج، وانتقلت بعض وظائفها إما إلى الدولة وإما إلى تنظيمات ومؤسسات مدنية وسياسية حديثة، كالحماية والرعاية والتربية والتعليم والحفاظ على الصحة. وأن ظاهرة الأسرة النووية تتوسع باطِّراد، والفجوة بين المدن والأرياف تضيق شيئاً فشيئاً، وأن ما سمي "ترييف المدن" يقابله تمدين الريفيين الذين انثالوا إليها، وتمدين نسبي للريف، إذ لم ينقطع عنه من انتقلوا منه إلى المدن، علاوة على شيوع نوع من علاقات رأسمالية مبتورة في الاقتصاد، وتغير طبيعة السكن، وتوسع التعليم أفقياً، وتطور الخدمات الصحية والمواصلات والاتصالات، والتنافس في اقتناء التقنيات الحديثة ... إلخ. وازدياد وتيرة التأثر بأنماط الحياة الحديثة وما يرافقه من تراخ في المعايير الاجتماعية والأخلاقية، هذه جميعاً مؤهبة للاندماج وتعزيز الوظائف الاجتماعية للدولة، لا يعوقها عن ذلك سوى طبيعة الدولة ذاتها ونوع شرعيتها وطبيعة نظام الحكم وآليات ممارسة السلطة. وكذلك استمرار العصبيات والوعي العصبوي وسياسات الهوية. ما يعني أن طبيعة السلطة وطبيعة الدولة لا تزال العقبة الكأداء في طريق الاندماج الاجتماعي، وفي طريق التحول الديمقراطي والمواطنة المتساوية.
غير أن الجماعات الدينية والمذهبية و"القومية" أقل قابلية، إن لم تكن غير قابلة للتفكك والزوال. والمشكلة ليست في وجودها، في المجتمع المدني، كما أشرنا، بل في تطلع كل منها إلى دور سياسي لا يعدو كونه ممارسة فجة وهمجية للعصبية، واستثمار لمصادر القوة يمكن أن يتطور إلى احتكار. فلا نستطيع أن نتحدث عن مشكلة طائفية، ونلقي مسؤوليتها على "الأقليات" الدينية والمذهبية وأيديولوجياتها الأقلوية الطاردة أو النابذة، ما دامت العصبيات متشارطة في الوجود، ومتفاوتة في القوة، والنابذ منها هو المنبوذ. ولا يجوز أن ندعي أن وجود الجماعات القومية عقبة في طريق الاندماج وفي طريق الوحدة العربية، فنصب جام غضبنا عليها. فالعصبيات الإثنية أو "القومية" كالعصبيات الدينية والمذهبية، متشارطة في الوجود ومتفاوتة في القوة أيضاً. درس الاقتراع العام، بصيغته الدورية، الذي أثبت نجاعته في غير مكان، على الرغم من شوائبه الكثيرة، يبدو المدخل الوحيد والضروري للاندماج الاجتماعي (الوطني)، أي لإلغاء الأديان والمذاهب والإثنيات سياسياً، وتجاوز الأكثرية والأقلية إلى المجتمع والفرد.
وإذ ندرك أهمية الاندماج الاجتماعي في عملية تشكل المجتمع المدني وبناء الدولة الوطنية[17]، لا نميل إلى تحسينه أو تزيينه، بصورة مطلقة، بل نعارضه بالاستقلال الذاتي للأفراد والجماعات والتنظيمات المدنية، واستقلال مجالات الحياة الاجتماعية، وإلا فإنه قد يؤؤل إلى هدر الأفراد والجماعات واستبداد الأقوى. الاستقلال والحرية هما عاملا النمو والتطور والتغير في مجتمع لا يطابق نفسه في كل حين، فليس من ثبات نسبي في المجتمع سوى لبعض الوظائف والمؤسسات، كوظيفة الأب والأم والمعلم والقاضي والمشرِّع .. إلخ والمؤسسات التي ينضوون فيها، لكن مضامين هذه الوظائف وأساليب ممارستها ليست ثابتة إلا بصورة نسبية، أو لنقل إن تغيُّر مضامينها بطيء نسبياً، وكذلك المؤسسات.
وإلى ذلك، ثمة فروق لا يمكن تجاهلها بين الاندماج الطوعي الحر وبين أشكال الصهر والتذويب والاستيعاب والتمثل وما ينطوي عليه كل منها من قسر وإكراه وتمييز وإذلال، كالتعريب القسري، ونميل إلى مفهوم المواطنة والتشارك الحر، الذي يحترم الخصائص والتحديدات الذاتية للأفراد والجماعات، بدلاً من الاندماج الذي لا يعبأ بها. فإن قابلية الأفراد للاندماج الحر والانضواء الطوعي في تشكيلات اجتماعية وسياسية حديثة لا تفصح عن نفسها إلا من خلال العلاقة الجدلية بين الفرد والمجتمع والنوع. فالاندماج، وفق هذه العلاقة، ولادة ثانية للأفراد من رحم الجماعة الأولية (الطبيعية) وانقطاع عن ثدييها، أي إنه ولادة اجتماعية / إنسانية للفرد، بعد حمل طويل ومخاض عسير. وما سميناه قابلية الإدماج، هو قابلية الاستقبال، وفق هذه العلاقة ذاتها، وكان يمكن تسميتها "الاستضافة"، كما سماها كانط، أو قابلية الاستضافة، لولا غلبة الطابع الأخلاقي على الحقوقي والسياسي.
| |
|
| |
باحث اجتماعي عضو زهبي
التخصص : علم اجتماع عدد المساهمات : 1494 نقاط : 3052 تاريخ التسجيل : 01/01/2010 العمر : 54
| موضوع: رد: لاندماج الاجتماعي فيبلد واحد - من المجتمع الأهلي إلى المجتمع المدني (من الرعوية إلى المواطنة) الإثنين مارس 09, 2015 1:05 pm | |
| حدود النظريات الاجتماعية
علاقات القوة التي تشكل أي مجتمع وتنتج سلطاته ومؤسساته المختلفة وتعيد إنتاجها تتأبى على الحصر والتعيين، علاوة على كونها متغيِّرة وموَّارة، وعلى ما تتسم به من عشوائية واعتباط مردهما اختلاف الأفراد واختلاف مصالحهم وتوجهاتهم واستجاباتهم للبواعث الداخلية والخارجية. فإذا كان من الممكن تعقل بعض علاقات القوة ونمذجتها ومأسستها فإنه من غير الممكن تعقل العشوائية والاعتباط ومأسستها. ولعلهما يشغلان فضاء لامتناهياً، هو خلفية الحياة الاجتماعية القابلة للتعقل، أو "العمق الأنطولوجي" للمجتمع، والبنية الخفية للعلاقات الاجتماعية. فالعالم ليس شفَّافاً، ولا تستنفده "العلوم الموضوعية" و"القوانين العلمية"، بل لعلها تحجب عنا حقيقته جزئياً أو كلياً، حين تمنح نفسها، أو نمنحها، صفة الحقائق الناجزة والنهائية. فالنظريات الاجتماعية والسياسية وشبكة المفاهيم والمقولات والمصادرات .. نتاج عملية تعقُّل وصورنة للمجالات القابلة للتعقل والصورنة، والقابلة للتعقيل[18]، في الحياة الاجتماعية، هنا أو هناك، أي للجزء الطافي من جبل الجليد. وهي عملية يحكمها موقع من يتعقَّل ويعقِّل ومنظوره ومرجعيته وغايته. ومن ثم فهي ليست صحيحة إلا بقدر ما يمكن نقدها ودحضها من مواقع مختلفة ومنظورات مختلفة ومرجعيات مختلفة، لغايات مختلفة، وليست نهائية على كل حال. المفاهيم والمقولات مجرد أدوات للفكر من طبيعة الفكر ذاته؛ موضوع الفكر هو ما يحدد صلاحيتها وقوتها الإجرائية، وهو ما يصقلها ويمنحها دقتها ورهافتها، ويمنحها شيئاً من الموضوعية. الموضوعية المطلقة مستحيلة، كالذاتية المطلقة، لكن شيئاً غامضاً فينا ولاعقلياً يشرئب دوماً إلى معانقة المستحيل.
الدراسات والبحوث العربية الجادة والمعمقة، في موضوعنا، كانت ولا تزال تتناول "المجتمع العربي"، الأكبر أو الأوسع، بصورة عامة، ويبدو أن فائدتها قد تكون محدودة لمن يريد البحث في المجتمع السوري، أو اللبناني أو المصري أو غيرها من المجتمعات (العربية) المخصوصة. كما أن الدراسات والبحوث التي انتهت إلى بناء نماذج نظرية خالصة، كالمجتمع الزراعي والمجتمع الصناعي وغيرهما، قد لا تفيد إلا في الخطوط العامة والمبادئ العامة كسابقتها. ولذلك تبدو المهمة صعبة، وتحتاج من الباحث أن يمزج معارفه النظرية بخبراته العملية وتجاربه الشخصية، ويستنطق المسوح والدراسات الميدانية والبحوث القطاعية، على قلتها وعدم شمولها ودقتها وصدقيتها بحكم كتامة الفئات الاجتماعية والمؤسسات الحكومية، وصعوبة الوصول إلى المعلومات، والتخوف من "نشر الغسيل الوسخ"، فضلاً عن تحيُّز الجهات الرسمية وغير الرسمية التي تقوم بهذه المسوح والدراسات.
وإلى ذلك، فإن محاولات الوصف والتفسير والتأويل وغيرها مما تضطلع به النظريات الاجتماعية محدودة كلها بالفروق النوعية بين الأفراد والمجتمعات التي ينتمون إليها، وباختلاف الأفراد وتفاوت مقدراتهم، بصورة عامة، واختلاف الإناث عن الذكور بصورة خاصة. فالفرد والنظام الاجتماعي (المجتمع والدولة) نوعان مختلفان؛ كلاهما "كلية عينية" أو "وحدة تناقضية"، تختلف خصائصها عن الأخرى. ومن ثم فإن افتراض علاقة تحديد متبادل بينهما لا تخلو من تعسف، لأن النظام الاجتماعي بنية صنعية خالصة من إنتاج الأفراد، مستقلة عنهم وأكثر دواماً منهم. وبنية علائقية (علاقات قوى) موَّارة ومتغيِّرة، بحكم علاقاتهم المتبادلة وعلاقاتهم بالأشياء المادية التي تدخل في تكوين بيئتهم الاجتماعية[19].
يمكن القول إن المجتمع والدولة تجريد لما هو مشترك بين الأفراد، وتجريد علاقاتهم المتبادلة، وعلاقاتهم ببيئتهم وعالمهم، في زمان ومكان محددين. فهما، بهذا المعنى بنية تصورية، كلية، وسلطة ميتافيزيقية عليا لبنى وتنظيمات ومؤسسات ونظام عام، تقنِّع علاقات القوة. إن مجرد وصف النظام الاجتماعي السياسي بالعمومية والكلية يوحي بالتشابه بين الأفراد، والتشابه بين الفرد والمجتمع، ويخفي واقع الاختلاف، الذي هو مجال الحرية. ففي حال الانطلاق من تشابه الأفراد، فقط، (وهذا ما دأب عليه الفكر السياسي والاجتماعي بصورة عامة) يمكن الحديث عن تشابه الفرد والمجتمع، وعن تحديد متبادل بينهما، و(تفهُّم) صنميَّة المجتمع وصنميَّة السلطة وموقفهما من الاختلاف والمعارضة.
لعل المركزية الذكورية، البطركية، ومركزية السلطة، وتنكرهما لاختلاف الأفراد واستقلالهم وحريتهم تقبع في أساس هذه الصنمية. لذلك نميل إلى فكرة التأثير المتبادل بين الفرد والمجتمع، بدلاً من التحديد المتبادل، على اعتبار النظام الاجتماعي لا يزال مستقلاً عن الأفراد وشكلاً من أشكال اغترابهم، وعلى اعتبار أن تحديدهم أشبه ما يكون بختمهم بخاتم المجتمع، أو وسمهم بميسمه، كما توسم الماشية.
فإن أفعال الأفراد وخياراتهم الواعية والهادفة، وأفكارهم وتصوراتهم ورغباتهم، والبنية اللاشعورية واللاعقلانية الخافية لهذه الأفكار والتصورات والرغبات، تؤثر في البنى والعلاقات الاجتماعية وتعمل على تغييرها. لكن العلاقة بين هذه الأفعال وتأثيرها ليست بسيطة ولا مباشرة، فلا تظهر نتائجها في الحال، وليست مجرد تثبيت للعلاقات القائمة وإعادة إنتاجها، بل تحمل دوماً إمكان بناء علاقات جديدة تخترق البنى والعلاقات القائمة، وتؤدي إلى تطويرها أو تغييرها، وذلكم هو رهان الاندماج الاجتماعي، بما هو تشارك حر في إنتاج "الحياة النوعية" للأفراد والجماعات.
فلا يمكن فصل عملية تشكُّل التنظيمات والمؤسسات عن أفعال الأفراد ومساعيهم الواعية والهادفة، ما يعني أن هذه التنظيمات والمؤسسات مجرد وسائل وأشكال للفاعلية، لا غايات في ذاتها، لذلك تتحدد كل منها دوماً بوظيفتها، قبل أن تتحدد ببنيتها. هنا تبدو مسألة الوعي الذاتي والفضاء الثقافي الذي يغذيه ويتغذى منه مسألة حاسمة تتحدد بها المصالح والأهداف.
نعتقد أن معظم مشكلاتنا المعرفية والقيمية ناجمة عن مقارنة المجتمع الذي ينتمي إليه المتكلم بنموذج "المجتمع الحديث"، "الغربي"، (المندمج قومياً)، وتحويل الحداثة "الغربية" إلى قيمة معيارية مطلقة، سلباً وإيجاباً، والتحرج من نقدها ونقد منتجاتها أو العجز عن ذلك، مع أننا لا ننفي أثر النموذج المُلهِم. لكن نقد الحداثة شيء ورفضها المطلق شيء آخر. فالرفض المطلق كالقبول المطلق سواء بسواء، كلاهما لا يخدمان إلا التبجح والتذمر. لا ندعو إلى موقف تلفيقي، بل إلى إدراك التوترات والتناقضات التي تخترق المجتمع وإمكانات تطورها واتجاهات حركتها، لكي يصير التدخل فيها، وفق الخيارات والأهداف الذاتية للقوى الفاعلة، أمراً ممكناً، فالتاريخ الفعلي توقيع ممكنات على حساب ممكنات أخرى.
| |
|
| |
باحث اجتماعي عضو زهبي
التخصص : علم اجتماع عدد المساهمات : 1494 نقاط : 3052 تاريخ التسجيل : 01/01/2010 العمر : 54
| موضوع: رد: لاندماج الاجتماعي فيبلد واحد - من المجتمع الأهلي إلى المجتمع المدني (من الرعوية إلى المواطنة) الإثنين مارس 09, 2015 1:05 pm | |
| إنتاج واستهلاك، تبادل وتداول
نقطة الانطلاق التي كانت مضمرة في الصفحات السابقة هي تَمَوْضُع العمل البشري[20]، عمل الرأس واليدين؛ أو عملية الإنتاج الاجتماعي بسفحيها: المادي والروحي، على اعتبار هذه العملية هي عملية إنتاج "المجتمع" لنفسه، وإعادة إنتاجها مرة تلو مرة. ففي ضوء عمليات التموضع وأشكاله يمكن تعيين ما هو جوهري في الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية والأخلاقية، بما هي أشكال أو مظاهر للوجود الاجتماعي، أو الحياة النوعية للأفراد والجماعات، يعبر كل منها عن بعد من أبعاد الذات الإنسانية ووجه من وجوه الشخصية. كما يمكن فهم واقع الاغتراب أو الضياع والتشيؤ وتفسير مظاهر الشقاء الإنساني. ولا يمكن الحديث عن التموضع بمعزل عن مقولتي "الوجود بالقوة" و"الوجود بالفعل" الأرسطيتين، اللتين لا تزالان مناسبتين لتلمس العلاقة بين الواقع والممكن، مقترنتين بنفي الحتمية والاطراد. فالمجتمع والدولة، على ما بينهما من تناقض جدلي، هما "عالم الإنسان"، الذي هو من إنتاجه، وليس فيهما من شيء جوهري سوى الإنسان ذاته[21]. فإن الاندماج الاجتماعي، من هذه الزاوية، يتصل أوثق اتصال بالشروط التي تمكن الأفراد، من تلبية حاجاتهم الإنسانية وإنتاج حياتهم النوعية، على اختلاف أشكالها، وإمكانية تجاوز هذه الأشكال. ندعي أن هذه الشروط ممكنة، أو موجودة بالقوة، ويمكن تحقيقها بالفعل، فإن الفرص لا تعدو أن تكون هذه الممكنات.
الأساس الذي ينهض عليه الإنتاج، بسفحيه المادي والروحي، هو التملُّك. "كل إنتاج هو تملُّك"؛ وما الملكية الخاصة للثروة ووسائل الإنتاج سوى شكل خاص من أشكاله. التملك بالمعنى الأشمل، أي تملك الفرد الإنساني لعالمه الفيزيقي والأخلاقي، بالمعرفة والعمل، هو إنتاج الذات/الذوات الفردية أو تأسيسها في مواضيع فكرها وعملها[22]، من جهة، وتأسيسها في الآخر/الآخرين، في الوقت نفسه، من جهة ثانية. الآخر ليس موضوعاً للذات، بل هو تجلي ماهيتها الإنسانية عينها[23]. كل فرد هو "أنا" و"آخر"، في الوقت نفسه. فلا ينشأ تسلط واستبداد إلا بجعل الفرد موضوعاً لنظيره ونظيرتها، وجعل المرأة موضوعاً للرجل.
هذه العملية المركبة التي يقوم بها كل فرد، لاختيار ذاته وتأسيسها وتحقيقها، هي ما يحدد سيرورة الاندماج الاجتماعي[24]، أو التشارك الحر، وما يعترضها من عقبات، هي ذاتها العقبات التي تعوق تأسيس ذات الفرد وتحقيقها، وتحول دون استقلاله، بل هي ما يعيِّن الآفاق المعرفية والأخلاقية لكل فرد، وحدود عالمه. إننا في كل لحظة إزاء ذوات تتموضع ومواضيع تتذوَّت، وعلاقات شبكية بين أفراد وجماعات، تجري كلها في شروط متغيرة باستمرار، أي إننا إزاء عملية / عمليات تشكُّل، هي إنتاج وإعادة إنتاج، لا تفتر، ولا تني، ولا تتوقف، ولا تكتمل. وذلكم ما ينفي مشروعية المفاضلة بين المجتمعات والحضارات والثقافات، ويستبدل بها مشروعية المقارنة بين أشكال العمل والنشاط وما تولِّده من بنى وعلاقات وبين مخرجاتهما المادية والروحية، على اعتبار المعرفة عملاً بالقوة والعمل معرفة بالفعل، وعلى اعتبار أن كل ما أُنتِج، حتى يومنا، كان متضَمَّناً في العمل البشري، وكل ما يمكن أن يُنْتَج متضَمَّن فيه. فالإنسان هو الإنسان في كل زمان ومكان.
يتجلى البعد الاجتماعي للإنتاج وتتعين قيم المنتجات المادية والروحية ومعانيها في التبادل والتداول الملازمين للحياة الاجتماعية: تبادل الأشياء النافعة والأفكار النافعة، والمعارف والقيم الإنسانية وتداولها. التبادل مبدأ كلي، يؤسس عملية التداول، التي يبدو أنها عملية تعميم، تتحدد في ضوئها وعلى إيقاعها الاتجاهات والميول، ويتشكل الوعي الاجتماعي والرأي العام. ولا يكتمل مفهوم التبادل إلا بالتعاقد المؤسس على حرية الإرادة، أو على الإيجاب والقبول، بلغة الحقوقيين. ومن ثم فإن الأطر التي تجري فيها عملية/عمليات التبادل والتداول، هي ما يعين مستوى الاندماج الاجتماعي وحدوده. ثمة علاقة طردية بين الاندماج الاجتماعي/الإنساني واتساع مجال التبادل والتداول. الوجه الآخر لهذه العلاقة هو ارتباط الاندماج ببيئة تنافسية قوامها الحرية والاستقلال وتكافؤ الفرص وحكم القانون.
تحديد التبادل بأنه تبادل الأشياء النافعة والأفكار النافعة يعني بالضرورة أن التبادل يقوم على تكافؤ المعاني والقيم التي يضفيها الأفراد على الأشياء والمنتجات المادية والروحية. التكافؤ هو الصيغة العملية الأولية للمساواة والصيغة العملية الأولية للعدالة. فلا يتحقق اندماج اجتماعي، بالمعنى الذي نبسطه إلا على أساس هذا التكافؤ، لا على أساس التفاضل والامتياز، أو الغلبة والقهر وعقود الإذعان، ولا على أساس ما يسميه الاقتصاديون "تدهور شروط التبادل"[25] المحكوم بالهيمنة والتسلط والطغيان. لذلك سنعتبر التكافؤ في المعاني والقيم، بين الأفراد والجماعات، معياراً أساسياً من معايير الاندماج الاجتماعي، تتأسس عليه معاني المواطنة وقيمها، ولا سيما الحرية والمساواة القانونية في الحقوق المدنية والسياسية، التي لا تظهر فضائلها إلا في أوقات السلم، كأنها مرهونة به.
لا بد أن نلاحظ هنا، استطراداً، أننا لا نستطيع أن نتحدث عن عملية إنتاج اجتماعي، على صعيد "الوطن العربي"، بحكم المخرجات المادية والاجتماعية والثقافية والسياسية لعملية الإنتاج الاجتماعي في كل بلد على حدة. ولا نستطيع أن نتحدث عن بعد "قومي عربي" لعملية الإنتاج في كل بلد (عربي) بصيغة مختلفة عن البعد الإنساني لعملية الإنتاج في هذا البلد. ومن الضروري أن نلاحظ أن سائر ما يسمى "مؤسسات قومية"، رسمية أو شعبية، ليست مخرجات عملية إنتاج اجتماعي على الصعيد "القومي"، وهذا ما يفسر هشاشتها وانعدام فاعليتها أو محدودية فاعليتها.
| |
|
| |
باحث اجتماعي عضو زهبي
التخصص : علم اجتماع عدد المساهمات : 1494 نقاط : 3052 تاريخ التسجيل : 01/01/2010 العمر : 54
| موضوع: رد: لاندماج الاجتماعي فيبلد واحد - من المجتمع الأهلي إلى المجتمع المدني (من الرعوية إلى المواطنة) الإثنين مارس 09, 2015 1:06 pm | |
| جدلية الفرد والمجتمع والنوع
مقولات الإنتاج / التملك والتبادل والتداول، بالمعنى الذي ألمحنا إليه، لتلبية الحاجات والرغبات الإنسانية، لا لمجرد الاستهلاك، بالمعنى الرائج[26]، تحيل من جميع الوجوه، على الطبيعة المركَّبة للفرد الإنساني. وتدل من ثم على الهوية المركَّبة، بما هي نتاج العلاقة الجدلية بين الفرد والمجتمع والنوع. وتعيِّن الحدود بين الحياة الشخصية أو الخاصة للفرد وحياتها أو حياته النوعية، التي يتوسطها المجتمع. فحدود الوجود الإنساني للفرد هي المعرفة والعمل والحب، ولكل منها بعده الاجتماعي (الخاص) وبعده الإنساني (العام). فلا نجافي الواقع إذا افترضنا أن الاندماج الاجتماعي يتوقف على طبيعة المعرفة وطبيعة العمل وطبيعة الحب، في المجتمع المعني، على اعتبار أن "الوسط الاجتماعي مصنوع جوهرياً من أفكار ومعتقدات وعادات وميول (وقيم) مشتركة"[27] يتضمنها العمل بالقوة ويظهرها بالفعل. ومن ثم فإن السؤال الذي ينبغي ألا يغيب عن البال هو سؤال الفرد والتناقضات التي تخترق وجوده والقوى التي تهدر إنسانيته وتقفِّر حياته، أي تجعلها قفراً، وتحدِّد طبيعة معرفته وعمله وتحُّد من قدرته على الحب.
نشير هنا بوجه خاص إلى أن الانشقاق الجنسي بين الذكور والإناث، والطبيعة الذكورية للمجتمع وثقافته وأخلاقه، وموقفه من الأنوثة، بوجه عام، ومن الحب الجنسي (EROS)بوجه خاص، تدل كلها على وجود إنساني مبتور، وحياة إنسانية ناقصة، يبقى معها الاندماج الاجتماعي ناقصاً ومبتوراً أيضاً، وحاملاً جرثومة التسلط والاستبداد.
فما تحقق عندنا، حتى اليوم، من مساواة قانونية بين النساء والرجال، ليس ناقصاً ومثلوماً فحسب، بحكم ما يسمى "قوانين الأحوال الشخصية" والقوانين الجزائية الجائرة ذات الصلة، بل لا يعدو أن يكون نوعاً من تذكير النساء، أي اعتبارهن ذكوراً، والتنكُّر لإنسانيتهن وأنوثتهن. يتوجب علينا، هنا، أن نتساءل مع الحركة النسوية النقدية الأحدث: أليس ما أُنتج حتى اليوم من علوم وتقنيات وبحوث ودراسات، في سائر فروع المعرفة والعمل، ولا سيما العلوم الاجتماعية والإنسانية، إنما أنتج من وجهة نظر الذكور، لا من وجهة نظر إنسانية متوازنة؟ يبدو للباحث أن المسألة النسوية تقع في صلب مسألة الاندماج الاجتماعي أو التشارك الحر، ويجب أن تتصدر جدول أعمال أي مجتمع يريد أن يبرأ من أمراضه المزمنة.
ولما كان الانشقاق الجنسي عميق الغور في حياة الجماعة البشرية ندعي أن التنكُّر لإنسانية الأنثى هو أساس جميع أشكال التنكُّر وأساس التسلط والاستبداد، فهو ضرب من تنكُّر الذكور أنفسهم لإنسانيتهم، أو تعبير عن إنسانيتهم المبتورة. فليس بوسع أحد أن يتسلط على الآخر ويضطهده إلا إذا جرَّده من إنسانيته جزئياً أو كلياً، (بحسب درجة التسلط) وهو، إذ يفعل ذلك، لا يدرك ولا يعي أنه يتجرد هو نفسه من إنسانيته. فإن مسألة نقص الاندماج الاجتماعي، من هذا الوجه، هي مسألة نقص الحياة الإنسانية أو مسألة الإنسان المبتور.
العصبية والوعي العصبوي
لا مراء في أن العصبية لا تزال من أبرز الظواهر في المجتمعات (العربية) ولا يزال مفهوما العَصَبَة والعصبيِّة الخلدونيان يتوفران على قوة دلالية وإجرائية في تحليل البنى والعلاقات الاجتماعية، على نحو ما بسطهما وطورهما محمد عابد الجابري[28]، فالعائلة الممتدة والعشيرة، المقترنة بعقيدة دينية، عصَبَة نسليِّة، بيولوجية، وقوة اجتماعية، تتحول إلى عصبية أو قوة "سياسية" قوامها القهر أو التلاعب أو التسلط، في حالين: حال النزاع بين العَصَبَات أو العُصَب. وحال التطلع إلى السلطة، أي إلى السيطرة والتسلط، وفي هذه الحال لا بد أن تجمع العصبة حولها ما أمكن من العصبات الأخرى، فتشكل معها عصبية موسَّعة أو مركَّبة، هي عصبية انتماء وولاء، تتجه إلى المطالبة والمدافعة، وتنتج أشكالاً فظة من التعصب والتطرف والعنف.
ومع ذلك تظل العصبيَّة الموسَّعة بنية هشة، بخلاف العَصَبَة، التي هي مؤسسة طبيعية مقوَّاة بمودة وتكافل طبيعيين، وعقيدة دينية وثقافة مشتركة، ما يعني أن العقيدة والثقافة عنصران خارجيان لا يدخلان في نسيج العصبة الطبيعي، ولا يؤثران في بنيتها، إذ الطبيعي يؤسس الوضعي ولا يتأسس عليه. لذلك تتراخى العصبية ويضمر الوعي العصبوي في أوقاتالاستقرار والسلم، ويعاد تنشيطها وتأجيج الوعي العصبوي وإطلاق الغرائز الطبيعية الفجة في أوقات النزاع. ما يعني أن الاستقرار الاجتماعي والسياسي عامل حاسم في تراخي العصبية وضمور الوعي العصبوي، وبيئة مناسبة للتواصل وإطلاق عملية الاندماج. النزاعات والحروب هواء العصبيات وماؤها وغذاؤها.
تكمن المفارقة هنا في أن البيولوجي أو الحيوي يؤسس الاجتماعي والسياسي، وينتج مختلف السلطات الحيوية، كالفاشية والنازية، ومختلف أشكال التمييز العنصري، الخفية منها والظاهرة. الداروينية الاجتماعية تذهب في هذا الاتجاه، ويمكن تلمس بعض أشكال السياسة الحيوية في حياتنا العامة. هذه المفارقة تنم على الفروق النوعية بين المجتمعات التقليدية والمجتمعات الحديثة، أو بين المجتمع الأهلي والمجتمع المدني، وعن الفروق النوعية بين النظم السلطانية والتسلطية وبين النظم الدستورية والديمقراطية، من دون إن ننفي إمكانية انزلاق أي مجتمع حديث وأي دولة قومية أو وطنية حديثة إلى سياسات حيوية، فالسياسات الاستعمارية والإمبريالية، ومقولة "صراع الحضارات" لا تخلو من هذا العنصر الحيوي. ولعل من أبرز خصائص عصبية الانتماء والولاء أنها:
1 – مناهضة للدولة السياسية الحديثة سواء كانت حاكمة أو محكومة، ومناهضة من ثم للديمقراطية، ونافية للعمومية بقدر ما هي نافية للفردية، ولكنها نزَّاعة إلى السيطرة والاستتباع والإخضاع، واحتكار السلطة والثروة ومصادر القوة، في المجالين الاجتماعي والسياسي. ينطبق هذا على العصبية التقليدية والعصبية المحدثة، القومية أو الدينية أو الطبقية، وعلى الحزب العقائدي أيضاً، ولا سيما الحزب العابر للحدود الوطنية.
2 – منظومة استبدادية تسلطية تتداخل فيها العلاقات الأبوية (البطركية) و"علاقة الشيخ والمريد"، بحكم اقتران كل عصبية بعقيدة دينية أو علمانية. فبقدر ما تعتز الأولى بالرجولة والفحولة، تقوم الثانية بـ "تأنيث المريد"[29] أو إخصائه زيادة على استتباعه، فتجدنا إزاء رجولة قولية أو خطابية تدغدغ الغرائز الوحشية، وتطلقها في ساحات الوغى، و"أنوثة" واقعية، بالمعنى الشائع حتى اليوم للأنوثة على أنها عجز وتبعية وطاعة وامتثال وتعلق بالمستبد حتى التماهي. العصبية تتنكر لإنسانية أفرادها، بقدر ما تتنكر لإنسانية الآخر، فليس لها من مظاهر القوة سوى "قوة الشوكة"، أي القوة العارية، أو الوحشية، المقنَّعة بعقيدة ما.
3 – يمكن تفسير تخارج الدولة والمجتمع، وتخارج الحرية والدولة بكون "الدولة" دولة العصبية الغالبة، في الماضي، ودولة العصبية المحدثة الغالبة، اليوم، والقانون قانونها، أي إرادتها الذاتية. مثال ذلك "دولة البعث" في سوريا، وفي العراق سابقاً. هنا يقترن نقص الاندماج أو عدم الاندماج بالاستبداد والتسلط والرعوية المحدثة (نسبة إلى الرعية)، التي لم يتبق من قيمها التقليدية سوى التبعية والخضوع والمسكنة والذل، أي إنها لم تعد حق الرعية في الحفظ والصون والتنمية والرعاية، حسب دلالاتها المعجمية، على الرغم من الاستعارة المهينة. وبالمقابل، يقترن الاندماج الاجتماعي بالمواطنة والنظام الديمقراطي.
4 – مطلب السلطة والمجد الذي يشد أوصال العصبيَّة الموسَّعة، هو نفسه ما يقطِّع أوصالها بعد تحققه والالتفات إلى اقتسام المغانم ودفع المغارم، ثم الانصراف إلى ذلك، فينقلب مبدأ المطالبة والمنازعة إلى الداخل، بعد أن كان متجها إلى الخارج، وتأخذ أقنعة العصبية بالتساقط واحداً تلو الآخر، فتنفجر منظومة الانتماء والولاء، ومنظومة الأمر والطاعة، ومنظومة الهيمنة، ويثوب الأفراد إلى عصبياتهم الفرعية وروابطهم الأولية، بحثاً عن ملجأ وملاذ. وهكذا تتشظى العصبية الإسلامية الجامعة إلى عصبيات مذهبية وطائفية، والعصبية القومية الجامعة إلى عصبيات عائلية وعشائرية وقبلية وجهوية. هذا ما وصفناه بالطابع التناقضي للعروبة والإسلام، وما نشاهد تجلياته في أيامنا.
5 – العصبية، كما وصفها مصطفى حجازي، "أم"، رحم وثدي. لا يتحقق اندماج أو تشارك حر، ما لم يولد أفرادها اجتماعياً وإنسانياً، فيخرجوا من عتمة الرحم، حيث "جميع البقرات سوداء" ويبلغوا سن الفطام، فينقطعوا عن الثدي الطبيعي الذي كان يغذيهم (والثدي الآخر الأيديولوجي، الذي يمدهم بالوعي العصبوي). فالعصبية، بهاتين الصفتين: الطبيعي والأيديولوجي، تهدر إنسانية أفرادها؛ وتهدر إنسانية الآخرين الغرباء عنها، فلا تنظر إليهم إلا بصفتهم أعداء، كفرة أو عملاء لقوى خارجية يتواطؤون معها على "هوية الجماعة".
فقد يساعدنا مفهوم العصبية على تفسير قهر الإنسان/الفرد (ذكراً وأنثى) وتعطيل إمكاناته وحرمانه من حقوقه الأساسية، وتداعي المجتمع من الداخل، وسيطرة المؤسسات والجماعات الوسطية أو الوسيطة على المجتمع، على الرغم من هيمنة (جهاز) الدولة"[30].وتفسير مظاهر الاغتراب والتجنب والعزلة، على الرغم حيوية المجتمع وديناميته "ونزوعه الدائم وعدم استقراره"، جراء تناقض الاتجاهات والقوى التي تحكم حركته. هذه الحيوية والدينامية والنزوع الدائم وعدم الاستقرار تعني أنه مجتمع في حالة تشكُّل وتكوُّن وجهاد، أي في حركة صيرورة تاريخية.
الوعي العصبوي وعي ذاتي، شعوري وأيديولوجي، مفرط في ذاتيته، لا يعبأ بالأفكار والوقائع التي تصدمه وتهدد تماسكه أو تكشف هشاشته وخواءه، فإما أن يتجاهلها كأنها لم تكن، وكأنه لم يسمع ولم يرَ، وإما أن يؤوِّلها وفق مسبقاته وثوابته، وإما أن يقوم بعملية تحويل، يقبل بموجبها الفكرة ويرفضها في الوقت نفسه، ويؤيد رفضه بأدلة منتقاة من ميادين غير ميدانها ومجالات غير مجالها، على نحو يمكِّنه من استعادة توازنه وانسجامه مع ذاته. ومن أبرز خصائصه:
1 – الشعور بالامتياز والتفوق، وكمال الذات وعصمتها، ومطابقتها لمحمولاتها.
2 – التماهي بالعصبية، دينية كانت أم "قومية" أم أيديولوجية. فهي التحديد الأول والأخير للهوية. ذلك لأنها تلتهم الأفراد، وهؤلاء يلتهمونها، فيغدو الفرد والعصبية شيئاً واحداً، ويمكن أن يتقيأها من يخرجون من رحمها وينقطعون عن ثدييها.
3 – النرجسية والتماهي بالمستبد والتعلق بمثل أعلى ميتافيزيقي[31].
4 – تضخم الـ "نحن" في الخطاب العصبوي على نحو ينم على التبعية الخالصة والولاء الخالص، وضمور الـ "أنا أفكر". فيظهر الفرد كأنه المعنيُّ الوحيد بالدفاع عن "الجماعة" أو عن العقيدة، والناطق الرسمي باسم هذه أو تلك.
5 – يتمحور على ثنائيات تعادمية: القريب والغريب، الخير والشر، الحق والباطل، الطهارة والنجاسة، الوطنية والخيانة.
6 – حساسية مفرطة إزاء النقد وحرية الفكر وحرية الرأي والنقاش الحر، تحكمها معايير معرفية وأخلاقية ثابتة وصارمة.
7 - الأصولية التي تولد التطرف والعنف.
8 – التنكر لإنسانية الآخر وجدارته واستحقاقه وكرامته.
9 – يتجلى الوعي العصبوي في ممارسات همجية في أوقات التجنب والنزاع، كالتي نشاهدها ونسمع عنها.
10- واحدية الحقيقة وثباتها.
11 – إرادوية مفرطة تنظر إلى الآخر على أنه موضوع لها وأداة لتحقيق أهدافها.
| |
|
| |
باحث اجتماعي عضو زهبي
التخصص : علم اجتماع عدد المساهمات : 1494 نقاط : 3052 تاريخ التسجيل : 01/01/2010 العمر : 54
| موضوع: رد: لاندماج الاجتماعي فيبلد واحد - من المجتمع الأهلي إلى المجتمع المدني (من الرعوية إلى المواطنة) الإثنين مارس 09, 2015 1:06 pm | |
| معنى الاندماج الاجتماعي وحدوده
في ضوء ما تقدم، يمكن أن نحدد معنى الاندماج الاجتماعي بأنه سيرورة أو عملية نمو وتطور تاريخية، شاملة وتراكمية، ينتقل بها سكان البلد المعني من جماعات مغلقة ومتحاجزة تتعايش على مضض، يحكمها مبدأ التفاصل والتفاضل والامتياز والتنازع على الثروة والسلطة، وأفراد تابعين ومقهورين ومهدورين[32] .. إلى مجتمع منسوج أو نظام اجتماعي سياسي، قوامه علاقات متبادلة واعتماد متبادل بين أفراد أحرار ومستقلين، وبين جماعات ومؤسسات حديثة تعزز استقلال الأفراد وحريتهم وتعيد إنتاجها اجتماعياً. تتأسس هذه العلاقات على التكافؤ في القيم والمساواة في الكرامة الإنسانية والمساواة في الحقوق، والعدالة في توزيع الثروة وعوامل الإنتاج وممارسة السلطة.
بعبارة أخرى، الاندماج الاجتماعي حصيلة جملة من الشروط الاجتماعية الاقتصادية والثقافية والسياسية والأخلاقية، التي تلبي مطالب الروح الإنساني، وتجعل أي فرد من أفراد المجتمع المعني يشعر أنه في بيته. وإذا تحدثنا بلغة هيغل نقول: تجعل العقل يشعر أنه في بيته. حديث العقل هنا ليس نافلاً، ولكنه ليس كافياً، إذ يقترن الاندماج الاجتماعي بالتنظيم العقلاني (البيروقراطي) للمجتمع ومؤسساته، وفق تقسيم العمل وتنظيم الإنتاج، ولكن هذه العقلانية لا تستنفد الحياة الاجتماعية.
هذا كله لا ينفي التعارضات الملازمة للحياة الاجتماعية، بالطبع، بل يبتكر لها حلولاً سلمية، ترضي العقل والحكمة، وتنمي الروح الإنساني في الأفراد والجماعات. وفق هذه الرؤية لا ننظر إلى المساواة القانونية إلا بصفتها مدخلاً إلى الاندماج أو التشارك الحر، وشرطاً لازماً، وليس كافياً، من شروط تحققه. الشرط اللازم والكافي هو الاعتراف المبدئي والنهائي بتساوي الأفراد إناثاً وذكوراً في الكرامة الإنسانية والجدارة والاستحقاق، وتساوي الجماعات الإثنية والدينية والمذهبية المختلفة، في القيمة الروحية والحقوق المدنية والسياسية. وغني عن البيان أن تساوي الجماعات مؤسس على تساوي الأفراد. هذا السياق يؤدي بنا إلى القول: إن الاندماج الاجتماعي تشارك حر ومتكافئ في إنتاج المعاني والقيم، بالتلازم الضروري مع إنتاج الثروة.
معايير الاندماج الاجتماعي
لم تقتفِ هذه المقاربة أي نموذج معطى، في تعريف الاندماج الاجتماعي واقتراح معايير قد تساعد في تلمس مظاهره وممكناته، على أهمية النماذج المعطاةوالمكاسب المحرزة، بل آثرتالاسترشاد بخصائصها العامة، مما لا يجوز أن يهمله أي باحث، ولا سيما أن المجتمع المدني الحديث (المتدامج) والدولة السياسية الحديثة، أي الدولة الوطنية أو القومية، (ولا فرق)، والمبادئ التي تأسسا عليها باتت منجزات ومحرزات إنسانية عامة، تعدت حدود منشئها. يتعلق الأمر هنا بعالمية الثورة العلمية التقنية والثورة الصناعية والثورة الديمقراطية، وثورة المعلومات والاتصالات والأفق التشاركي، المؤسسة كلها على كلية الإنسان وكونية العقل (المذكر) والحكمة (المؤنثة)، وهما أعدل الأشياء قسمة بين الناس، وكذلك اللاعقل واللاحكمة، لأن أفعال الأفراد لا تنتج النظام فقط، بل تنتج الفوضى، وهذه، أي الفوضى، شقيقة الحرية. في ضوء ذلك تبدو لنا المعايير الآتية أساسية ومتكاملة:
1 - طبيعة النظام السياسي، وآليات تشكل السلطة وأساليب ممارستها وإمكانية أو عدم إمكانية تداولها سلماً. يتعلق الأمر كلياً بما إذا كان الإنتاج الاجتماعي، كما وصفناه، هو ما ينتج السلطة ويحدد خياراتها وآليات عملها وأساليب ممارستها، أم العكس. وتتعلق طبيعة السلطة كلياً بما إذا كان المجال السياسي، أو "المجتمع السياسي" مجالاً عاماً، يعبر عن البعد العمومي الخالص لعملية الإنتاج الاجتماعي، والحياة النوعية للأفراد، ويحمل إمكانية الانفتاح على الفضاء الإنساني، أم مجرد حقل صراع يتعيَّن بنسبة القوى ومبدأ الغلبة.
الدولة هنا هي الشكل النقي لعنصر العمومية أو للبعد النوعي في حياة الأفراد والجماعات، أو هي "الحياة النوعية للشعب"، بتعبير كارل ماركس[33]، وهذا ما يميزها من السلطة بطابعها المزدوج: العام والخاص، بما في ذلك السلطة التشريعية.
نفترض أن عملية أو سيرورة تشكل المجتمع عملية جدلية، (ديالكتية)، مستمرة، قوامها علاقات جدلية لا حصر لها بين الفردي والخاص والعام، أي بين الفرد والمجتمع والدولة[34]. وهذه العلاقات مُسْتَغْرَقَة في دائرة علاقات جدلية أوسع بين الفرد والمجتمع/الدولة والنوع، وإلا فإن هذه السيرورة يمكن أن تنفتح على عصبية وطنية أو قومية كانت ولا تزال عاملاً من عوامل الحروب والنزاعات الإقليمية والدولية.
ونفترض من ثم أن تعيُّن العام في الخاص هو نفسه تعيُّن الفردي فيه، سواء كان العام هو الدولة السياسية أم النوع الإنساني، وأن الاندماج الاجتماعي هو توازن هذه العلاقات وتكاملها وانتظامها أنساقاً أو بنى ومؤسسات. فالتربية والثقافة والممارسة الاجتماعية والسياسية كفيلة إما بإظهار عنصر العمومية الأصيل، الموجود بالقوة لدى الأفراد والجماعات وتنميته، وإما بكبحه وهدره. وكفيلة إما بمداواة المصالح الفردية والخاصة العمياء من عماها، وإما بإطلاقها وتركها على عواهنها.
من الثابت أنه يمكن لأي مجتمع معافى أن يداوي هذه المصالح من عماها مثلما يداوي أي مريض، فلا يجوز قتل المريض للتخلص من المرض. لولا تعدد المصالح المختلفة لما أحس الناس بالمصلحة المشتركة"[35]. ويبدو أن الدواء الناجع هو النظر، في كل مرة، إلى الفردي والخاص بمنظار العام، في المجال الوطني، ومراجعة العام على الخاص والفردي، في الوقت نفسه، مرة تلو مرة، للحيلولة دون تجريد الفرد وتبخيره أو تبديده في "الإرادة العامة"[36]، والتنكر للمصالح الخاصة باسم مصلحة عامة مزعومة.
2 - اتساع مجال التبادل والتداول، أي تجاوز حدود البنى الأولية، وتجاوز الحدود الوطنية. فلا يتقوى الاندماج ويترسخ إلا بحرية الأفراد في التبادل وانفتاح البنى الأولية، التي لا سبيل إلى حذفها[37]، على الفضاء الوطني العام، وانفتاح المجتمع المعني على العالم الخارجي.
3 – تكافؤ المعاني والقيم المادية والمعنوية، ولا سيما تكافؤ الأنوثة والذكورة، بصفتهما قيمتين اجتماعيتين تحددان طبيعة العلاقة بين البيولوجي والاجتماعي والإنساني.
4 – المساواة في الحقوق المدنية والسياسية، وتتضمن المساواة القانونية بين النساء والرجال. هذه المساواة صورية، لا تتعيَّن واقعياً إلا بتساوي الشروط وتكافؤ الفرص، حسب توكفيل[38]، إذا أخذنا اختلاف الأفراد وتفاوت قدراتهم ومعارفهم وخبراتهم وذكائهم وسويات وعيهم في الحسبان. الاختلاف ينفي المساواة مهما كان طفيفاً، وهو واقع لا يمكن تغييره إلا بثورة على الطبيعة البشرية؛ ولا سيما اختلاف الإناث عن الذكور. والتفاوت نقيض المساواة على طول الخط، وبعض أشكاله لا يمكن حذفها أو نفيها، بل يمكن تقليصها وتلافي آثارها الضارة. الأفراد، إناثاً وذكوراً، متساوون أنطولوجياً في الإنسانية وسياسياً في المواطنة والوطنية، أي في الانتماء إلى الوطن والدولة، ومختلفون في ما عدا ذلك، بين هذين الحدَّين. أو لنقل إنهم متساوون في أشكال وجودهم النوعي وحياتهم النوعية، ومختلفون في ما عدا ذلك، و"الحرية هي السم المضاد الضروري للمساواة" أو للتطرف في المساواة، حسب توكفيل أيضاً[39].
التوتر الدائم والمستمر بين التشابه والاختلاف وبين التساوي الأنطولوجي والتفاوت الاجتماعي سمة ملازمة للجماعات والمجتمعات تتأتى جميع أمراضها من اختلال هذه العلاقة ورجحان أحد طرفيها على الآخر أو طغيانه. الاختلاف والتفاوت مما يجعل "العقد الاجتماعي"[40] أو الاندماج الاجتماعي ضرورياً والمساواة هي ما تجعله ممكناً. هنا يبدو الاعتدال فضيلة اجتماعية وسياسية، علاوة على كونه فضيلة أخلاقية.
5 – التشارك الحر، في الشؤون العامة وفي حياة الدولة تشاركاً تتجلى فيه خصائص الأفراد الشخصية والنوعية واتجاهاتهم وميولهم. أو بقول آخر، تحقق أو عدم تحقق فضاء اجتماعي/إنساني عام هو فضاء الحرية، ومجال سياسي عام ومشترك بين الأفراد والجماعات هو مجال القانون الوضعي المتسق مع القانون الدولي وشرعة حقوق الإنسان والعرف العالمي لحقوق المواطن.
6 – قدرة المجتمع على تحقيق ذاته قوةً سياسيةً معادلةً لقوة الدولة ولاجمة للسلطة عن أي تجاوز على حقوق الأفراد وحرياتهم. ولا يتأتى ذلك إلا باستقلال منظمات المجتمع المدني وحريتها، ولا سيما النقابات وجماعات الضغط والأحزاب السياسية البرنامجية ذات الطابع الوطني، لا الأحزاب العقائدية، ولا النقابية السياسية.
7 – وحدة الاتجاه العام للتربية والتعليم وطبيعة العلاقة بين قطبيهما، هل هي مؤسسة على الحرية والاحترام المتبادل أم على السيطرة والتحكم و"التأديب" أو الوصاية على العقل والضمير والقوامة عليهما باسم "الحقيقة" و"الفضيلة" وهيبة السلطة ومصونية النظام العام.
8 – استقلال القضاء استقلالاً فعلياً، وفصل السلطات، وفقاً لاستقلال الأفراد واستقلال مجالات الحياة الاجتماعية وتكاملها.
9 – حرية المناقشة العلنية والنقد والتعبير عن الرأي، على جميع المستويات، بلا حدود ولا قيود، ولا تحريم ولا تجريم، ولا سيما حرية الإبداع العلمي والأدبي والفني، ونزع صفة العصمة والقداسة عن الأفكار والأشخاص والرموز.
10 – تكافؤ الجماعات الإثنية والدينية والمذهبية في القيم، وتساويها في الحقوق المدنية والسياسية، والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، بغض النظر عن عدد أفراد كل منها، لأن كثرة العدد أو قلته لا تضيف إلى ماهية أي من هذه الجماعات شيئاً ولا تنقص منها شيئاً.
11 – عمومية التنمية الإنسانية والبشرية والاقتصادية وتوازنها وعدالة توزيعها على مختلف المناطق وعلى مختلف الفئات والشرائح الاجتماعية. يقترن هذا المعيار بالشفافية وحق الأفراد ومنظمات المجتمع المدني في الوصول إلى المعلومات ونقد السلطات المعنية ومساءلتها.
| |
|
| |
باحث اجتماعي عضو زهبي
التخصص : علم اجتماع عدد المساهمات : 1494 نقاط : 3052 تاريخ التسجيل : 01/01/2010 العمر : 54
| موضوع: رد: لاندماج الاجتماعي فيبلد واحد - من المجتمع الأهلي إلى المجتمع المدني (من الرعوية إلى المواطنة) الإثنين مارس 09, 2015 1:07 pm | |
| في ضوء هذه المعايير يمكن اقراح مؤشرات لقياس مستوى الاندماج الاجتماعي ووتيرة نموه ومدى عمقه ورسوخه، إمبريقياً. لعل من أهمها:
1 – مدى استقلال الأفراد عن البنى الأولية، وما يتمتعون به من حقوق مدنية وسياسية وحريات شخصية وعامة، ولا سيما حرية الفكر والضمير وحرية الرأي والتعبير. يُسْتَدَل على ذلك بمدى إقبال الأفراد على تنظيمات المجتمع المدني الحديثة، ولا سيما النقابات والأحزاب السياسية وتعدد وسائل التعبير عن الرأي وحرية المؤسسات الإعلامية والثقافية واستقلالها.
2 – مدى توسع الزواج المدني بين الفئات الاجتماعية المختلفة إثنياً ودينياً ومذهبياً وطبقياً، مما يشير إلى مستوى استقلال الأفراد وحريتهم.
3 - مدى توسع الأسرة النووية واستقلالها مادياً ومعنوياً، واستقلال أفرادها الراشدين.
4 – مدى الاعتراف بالكرامة الإنسانية للمرأة، أي مدى حريتها واستقلالها وتمكينها من المشاركة في الحياة العامة وحياة الدولة وفي إنتاج المعنى.
5 – مستوى التعليم، من حيث توسعه الأفقي والشاقولي ومن حيث مُدْخَلاته ومخرجاته الكمية والنوعية، ومدى تأثيره في التربية واندماجه في العمل وارتباطه بالتنمية الإنسانية والبشرية والاقتصادية، ودرجة إسهامه في انتشار المعرفة العلمية.
6 – مستوى الفقر أو الغنى، ودرجة التفاوت بين الفئات الاجتماعية
8 – مستوى الرضا في الحياة الخاصة والعامة ومجالات العمل والإنتاج.
9 - درجة التكامل بين البادية والريف والمدينة، ومدى قدرة المدينة على القيام بوظيفتها التمدينية. هنا لا يسع الباحث ولا ينبغي له أن يسلم رأسه لمقولة "ترييف المدينة"، على إطلاقها، فلا يلاحظ سيرورة تمدين الريف وتحضير البادية وحدود هذين التمدين والتحضير وطبيعتهما، ولا يلاحظ تراخي المعايير[41] وتغير أنماط السلوك في البادية والريف عامة ولدى من انتقلوا إلى المدن خاصة، ولا سيما لدى الشابات والشباب منهم.
10 – مستوى الاحتكام إلى القانون الوضعي العام، بدلاً من العرف والشريعة، وأسباب العزوف عن ذلك أو التردد فيه، مما يشير إلى مستوى التداخل أو التخارج بين المجتمع والدولة، ومستوى التداخل أو التخارج بين الحرية والقانون، الذي هو ماهية الدولة وجوهرها.
11 – مدى التمييز أو عدم التمييز بين المواطنات والمواطنين على أساس الانتماء الإثني أو اللغوي أو الديني أو المذهبي أو الجهوي، أو الجنسي أو على أساس المنبت الاجتماعي والموقع الاجتماعي، سواء في القوانين أو في الممارسة الاجتماعية والسياسية.
12 – مدى اقتراب منظومة القيم الاجتماعية السائدة من القيم الإنسانية العامة أو ابتعادها عنها، ومدى تقدم الوعي بقضية حقوق الإنسان والمواطن[42]، وأثر ذلك في علمية الاندماج الاجتماعي.
خاتمة
المجتمع قوة سياسية ممكنة
في ضوء ما تقدم يمكن القول إن المجتمع في أي من البلدان العربية، في طور إنتاج نفسه مجتمعاً مدنياً، وقد قطع خطوات مهمة على هذه الطريق، بدلالة نمو الأعمال الخاصة وتحديثها كلياً أو جزئياً، على الرغم من العقبات والمعوقات والانتكاسات المتعلقة بالوظائف العامة، أي وظائف الدولة، التي لا بد من الوقوف عليها ونقدها والعمل على تذليلها. لذلك كنا ولا نزال نرى أن تنمية عملية الاندماج الاجتماعي (الوطني) وتسريع وتائرها وتعميقها يمكن أن تحوِّل المجتمع من "مجتمع عاجز" إلى قوة سياسية فعالة على الصعيدين الوطني والإقليمي، بنسبة تحول الأفراد من رعايا تابعين إلى مواطنين أحرار، وبنسبة سيطرة المجتمع على مجالات حياته، ولا سيما المجال السياسي، الذي يتوِّجها ويعيد إنتاجها. نستند في ذلك إلى وحدة المجتمع المدني والدولة السياسية.
وفي هذا المجال لا نرى بأساً في الحرية الاقتصادية، التي تتأسس عليها حريات خاصة وعامة، لخلق بيئة تنافسية ملائمة للاندماج الاجتماعي والمشاركة السياسية، وملائمة، من ثم للتحول الديمقراطي، ووضع حدود صارمة للاحتكار، والحرص على أن تقوم شركات القطاع الخاص ومؤسساته بمسؤولياتها الاجتماعية، ومسؤوليتها إزاء البيئة.
لقد درج المثقفون والسياسيون على إيلاء "العامل الذاتي" أهمية قصوى في التغيير الاجتماعي، لا تأثراً بـ "النظرية اللينينية" والنزعة الإرادوية، التي لقيت رواجاً واسعاً، لدى الشيوعيين وغير الشيوعيين، فقط، بل استجابة لواقع تجر فيه السلطة جميع العربات، أو تسيِّر جميع قطاعات المجتمع، ولا سيما القطاعين الاقتصادي والمالي. لذلك خُيِّل للجميع أن مجرد السيطرة على هذه القاطرة (السلطة) سيحل جميع المشكلات، وسيفرض التغيير الاجتماعي من فوق. تلكم هي حال مختلف المجتمعات ما قبل الصناعية، التي لا يحتل فيها العمل المنتج سوى حيز ضيق جداً من حياة الفرد اليومية، ولا يحتل فيها الإنتاج الحديث إلا حيزاً ضيقاً من الحياة الاجتماعية. فليس غريباً وهذه الحال غياب مقولتي المجتمع المدني والدولة السياسية وجهل تناقضهما الجدلي، على مدى أكثر من نصف قرن، والنظر إليهما بازدراء، بصفتهما مقولتين بورجوازيتين ومنجزين غربيين، والنظر إلى الديمقراطية، التي تعيد السلطة إلى المجتمع وتجعل منه قوة سياسية، على أنها "لا تناسب طبيعة مجتمعنا".
في مقابل تعويل النخب الثقافية والسياسية على العامل الذاتي (الوعي والإرادة والتنظيم)، الذي كان ولا يزال أساساً للشعبوية الغرائزية، يحمل جرثومة الاستبداد، ندعو إلى إعادة التفكير في العلاقة الجدلية بين الذات والموضوع، على الصعيدين المعرفي والاجتماعي والسياسي، وفق النتائج التي تمخضت عنها العلوم الحديثة، ومن أهمها انتفاء مبدأ الحتمية ومبدأ الاطِّراد، ليحل محلهما مبدأ الإمكان والاحتمال وانبثاق اللامتوقَع وتأثُّر موضوع المعرفة والعمل بالذات العارفة والعاملة. فإن تصحيح العلاقة بين الذات والموضوع من شأنه أن يعيد تعريف السياسة بأنها شأن عام، وفضاء مفتوح على احتمالات شتى وممكنات مختلفة، فضلاً عن كونها علم الدولة، أو علم إدارة الشؤون العامة، ويدرجها في عملية تحسين شروط الحياة الاجتماعية وتحسين نوعيتها، كما من شأنه أن يعيد تعريف المجتمع بصفته قوة سياسية، وتعريف الفرد، بصفته فاعلاً اجتماعياً، بغض النظر عن شروط ولادته، فتكف السياسة عن كونها حرباً أو امتداداً للحرب بوسائل أخرى، إذا قلبنا مأثور كلوزفيتز[43]، أي مجرد صراع على السلطة والثروة، بين عصبيات وهويات، لا بأس أن توظف فيه أكثر الغرائز همجية وأكثر الأساليب دناءة.
| |
|
| |
باحث اجتماعي عضو زهبي
التخصص : علم اجتماع عدد المساهمات : 1494 نقاط : 3052 تاريخ التسجيل : 01/01/2010 العمر : 54
| موضوع: رد: لاندماج الاجتماعي فيبلد واحد - من المجتمع الأهلي إلى المجتمع المدني (من الرعوية إلى المواطنة) الإثنين مارس 09, 2015 1:07 pm | |
| الاندماج الاجتماعي في الفكر العربي المعاصر
لم يتناول المفكرون الباحثون والكتاب العرب قضية الاندماج الاجتماعي إلا لماماً، ومن تناولها منهم عالجها في إطار "المجتمع العربي" الأوسع أو الأكبر، ومن منظور الوحدة العربية، أو في إطار "مشروع النهضة العربية"، أو في "التحول الديمقراطي"، كياسين الحافظ وعزمي بشارة وحليم بركات وهشام شرابي وغسان سلامة ومحمد عابد الجابري وعبد الله العروي وبرهان غليون وإسماعيل صبري عبد الله وغيرهم.
يمتاز ياسين الحافظ بإيلاء هذه القضية أهمية تستحقها في ما سماه مشروع "الثورة القومية الديمقراطية ذات الأفق الاشتراكي". وقد عبر الياس مرقص عن ذلك بقوله: "كان فكر ياسين الحافظ محاولة جادة لقراءة العالم، الواقع، الوطن والشعب، التاريخ والبشرية. علمانيته كانت هذا أولاً: الاعتراف بالعالم الزمني اعترافاً أولياً ونهائياً، فهمه وفهم ضروراته شرطاً لتغييره. هذا ما يؤسس العلمانية بالمعنى (الآخر)، المعلوم، فصل "الدين" و"الدنيا"، علمنة المجتمع العربي والدولة، عتق الإنسان كإنسان والمواطن كمواطن، تجاوز فكرة الأقلية والأكثرية، تجاوز الطوائف إلى المجتمع والفرد"[44]. لعل تعريف ياسين الحافظ للتجزئة القومية بأنها "محصلة وضع التأخر التاريخي للأمة العربية والأوضاع الإمبريالية التي نشأت عنه"[45]، يحدد معنى "الاندماج القومي" وحدوده في ترسيمته الفكرية. فإن "نقص الاندماج القومي" أو "التكسر الاجتماعي الصلبي"، عنده من أبرز تظاهرات التأخر التاريخي للأمة العربية، ومن ثم، فإن الاندماج القومي شرط لازم للوحدة العربية والتقدم العربي. فالعوامل الجاذبة للوحدة العربية هي ذاتها العوامل الجاذبة للاندماج القومي، والعوامل النابذة للوحدة العربية هي العوامل النابذة للاندماج، ولا سيما "الأيديولوجيات الضمنية أو الصريحة للأقليات الدينية والقومية"[46]. ترسيمة الحافظ ديمقراطية علمانية ذات محتوى اشتراكي، تُحَلُّ وفقها مسألة الأقليات القومية حلاً ديمقراطياً، حسب شروط كل بلد، بدءاً من توفير شروط اندماجها وصولاً إلى "منحها نوعاً من حكم ذاتي أو ما هو أكثر من حكم ذاتي". أما مسألة الأقليات الدينية والمذهبية فتُحَلُّ حلاً علمانياً بامتلاك الأكثرية الإسلامية وعياً علمانياً وامتلاك الأقليات الدينية (المسيحية خاصة) وعياً قومياً[47].
ويمكن أن نتلمس موقف محمد عابد الجابري من خلال قراءته لابن خلدون في كتابه "العصبية والدولة"، إذ يقرر أن الدين كان شرطاً ضرورياً، ولكنه ليس كافياً، لقيام الدولة، لأن "الدعوى (هكذا) الدينية لا تتم من غير العصبية" .. وأن العصبية، عصبية قريش أولاً وعصبية العرب جميعاً كانت شرطاً ضرورياً لنجاح الدعوة الإسلامية وقيام دولة العرب"، وأن جميع الحركات الإصلاحية التي لم تعتمد على إحدى العصبيات باءت بالفشل"[48]. ويخلص إلى أن الأيديولوجا (الدين) والعصبية وشؤون المعاش عوامل أساسية في تشكل العمران.
ولكن العمران الحديث انتقال من الرعوية (نسبة إلى الرعية) إلى المواطنة، ففي نقده للرعوية وتخارج المجتمع والدولة قرر الجابري أن "الرعية لا تطمع بالتحرر أصلاً، ولا تطرحه حتى كأمل". فالصراع بين السلطان / الراعي والمقربين إليه من خاصته من ناحية، والرعية من ناحية ثانية، ليس صراعاً على الاستقلال وانتزاع حق الاعتراف بكيان ذاتي يفتح الباب أمام الناس لبناء مشروع مستقبلي وباب المشاركة الديمقراطية، أي باب الوجود، بل هو صراع يتناول رفع الغبن وإيقاف الجور والعسف والمطالبة بالعدل، ولا يتعرض مطلقاً لوحدة الجماعة (الراعي والرعية) ولا للنظام القائم. إنه لا يتعرض للسلطان المستبد وخاصته، بل للاستبداد والجور وحدهما. إنه ينحصر في نقد رعاية الرعية التي تتسم بالجور، ولا يتطرق إلى نقد ذات السلطان أو العلاقة معه، فهذه الذات وحقها في السلطنة على الرعية ليست موضوع تساؤل.
ومن موقع آخر يذهب مصطفى حجازي إلى أن مجتمعات الهدر لا تطمح إلى تداول السلطة من أجل التجديد والتجاوز، بل تطمح إلى العدل وإصلاح الحال الذي يهدف إلى تأزيل سلطة السلطان على الرعية، وبالتالي تأزيل الوضع القطيعي (التبعي) للرعية[49]. "المستبد يحتل العالم الذاتي لرعيته"، لا بصفتها مصدر تهديد وموضوع رهبة فقط، بل بصفتها مصدر إعجاب وافتتان وموضوع تعلق. وهو ما يعزز تشكيل السلوكات والأذهان والأفئدة، ويعزز هيمنة السطوة، ومعها تتعزز بالطبع حالة هدر كيان الناس ووعيهم وإرادتهم واستقلالهم. في هذا الجانب تقوم العقيدة الدينية والموروث الثقافي (التراث) في تعزيز سطة المستبد وجعلها أمراً طبيعياً.
الاستبداد هو المحصلة المنطقية للعصبية التي تنتج التعصب والعنف والأصولية التي تنتج التطرف وتسوغ الاحتكار، فما من استبداد لا يقوم على هاتين الركيزتين. ما كان للعصبية والأصولية أن تكونا ركيزتي الاستبداد لولا أن الأولى تولد علاقات الأمر والطاعة، التسلط والخضوع، مما يسند الاستبداد وينشره في شبكة العلاقات الاجتماعية، ولولا أن الأصولية تضفي على العصبية طابع القداسة والجوهرانية والثبات وبناء المعرفة على القطعية ومنع الاختلاف.
في سياق مختلف نسبياً تناول عزمي بشارة هذه المسألة بموضعتها في سيرورة تشكل المجتمع المدني[50] والتحول إلى الديمقراطية، فلاحظ أن "حالة الارتداد عن الحداثة إلى مؤسسات المجتمع التقليدية، خارج الدولة، لا تنتج أنظمة حكم، بل مراحل انتقالية نحو تفسُّخ الدولة والتحول إلى جماعات عضوية محزَّبة. فالطائفية والعشائرية حالة انفصالية تفتت نظام الدولة وتدخل في إطار الصراعات والتوازنات الإقليمية والدولية[51]. ورأى أن الهويات الوطنية المحلية لم تتمكن من التغلب على الطائفية أو العشائرية كهويات سياسية، لأنها غالباً أقل شرعية منها، أو لأنها بنيت أصلاً على التوازن الطائفي المحلي، أو على سيطرة طائفة منذ العهد الاستعماري[52]. ولكنه لاحظ أن هناك فرقاً بين تخلف المجتمع عن الوصول إلى معايير المواطنة والدولة والوطن والمجتمع ومراوحته التاريخية في الطائفة والعشيرة والقبيلة والحارة والبلدة .. وبين تبدد عقيدة الدولة الوطنية والأمة والمواطنة، كأنها وهم في نظر أوساط وفئات واسعة من الناس، وغالباً ما يتبع انهيار الوهم ارتداد إلى البنى ما قبل الحداثية"، إذ تصبح هذه العودة أيديولوجية. "الطائفية هنا لم تعد مجرد انتماء طبيعي، بل أصبحت انتماء سياسياً واعياً لذاته كأيديولوجيا وكأداة تصفية حساب مع انتماءات وهويات أخرى"[53]
كذلك وضعها هشام شرابي في إطار عملية انتقال شامل من نظام الأبوية (المحافِظة والمستَحدَثة على السواء) أو من النظام البطركي الحديث[54]، إلى نظام الحداثة، .. على صعيد الدولة كما على صعيد الفكر، وعلى صعيد الاقتصاد كما على صعيد المجتمع والحضارة ككل"[55]. لأن "نظام الرعاية الذي يفترض الخضوع والتبعية لا يخضع المجتمع لإرادة مشتركة، بل لإرادة فردية، لا تحدها سوى حدود مادية (القوة) أو روادع أخلاقية (الدين). ولا يكون القانون في خدمة المجتمع، بل في خدمة الوضع القائم، والعقوبة لا تستهدف الإصلاح، بل توكيد قدسية القانون والحفاظ على النظام. وبما أن المعارضة متعذرة قانونياً فالتآمر والتمرد يصبحان الشكلين الوحيدين للعمل السياسي. وبما أن النقاش العلني الحر ممنوع فإن العنف يصبح وسيلة الإقناع الحديثة[56].
وكتب حليم بركات فصلاً خاصاً، في كتابه "المجتمع العربي المعاصر"، بعنوان "مصير الاندماج الاجتماعي والسياسي" لا تنفصل فيه مسألة الاندماج الاجتماعي عن مسألة الوحدة العربية، ولاحظ أن ثمة انتماء عربياً عاماً وانتماءات خاصة: وطنية محلية ودينية وطائفية ومعيشية وقبلية وإثنية وغيرها[57]، فخلص إلى أن الوحدة العربية ليست حتمية، بحكم هذه التناقضات، خلافاً لرؤية منير شفيق، (وخلافاً لرؤية ياسين الحافظ). ورأى أن "المجتمع العربي مصاب بحالة الاغتراب، فلا يسيطر على موارده ومصيره ويتداعى من الداخل حتى يكاد يفقد محوره وصميمه، فلا يملك إرادة وهدفاً وخطة، وتسيطر عليه مؤسساته بدل أن يسيطر عليها فتستعمله لمصالحها الخاصة أكثر مما تخدم مصالحه وتثبت مناعته وتقدمه، وحتى يستعيد المجتمع سيطرته على موارده ومؤسساته ويتكون له صميم ومحور وغاية سيستمر الانهيار العربي بسرعة أقصى فأقصى"[58]. الخروج من حالة الاغتراب ووضع حد للانهيار والسير نحو الاندماج الاجتماعي والسياسي تستوجب: القضاء على التبعية والتخلف وإلغاء الطبقية وإنجاز الوحدة العربية والتخلص من الاغتراب وتحقيق الحرية والعدالة[59].
ويرى علي حرب أن الاستبداد الثقافي هو الذي يتيح الاستبداد السياسي والسلوكي. فالاستبداد الفكري هو أن يقع المرء أسير أفكاره، أو حبيس أصوله وثوابته، وأن يتعامل مع المرجعية الفكرية كسلطة مطلقة لا تخضع للجدل والمساءلة، أو يتصرف إزاءها بمنطق التسليم والطاعة. يكمن أساس الاستبداد في فقدان المرء حريته الفكرية إزاء شخص أو نص أو حدث يجري التعامل معه كأصل ثابت أو مرجع مطلق أو رمز مقدس".تكتمل حلقة الاستبداد والطغيان المرتكز على علاقة الأمر والطاعة والسيطرة والخضوع بما يسميه مصطفى حجازي التعلق الرضوخي، الذي يتخذ شكل إعجاب بالمستبد أو الطاغية، وهو إعجاب يتغذى من الموروث الثقافي والديني وآليات التجميل والتفخيم، بل إن هذه الآليات لا تفعل فعلها إلا بسبب تحرك آلية التعلق الرضوخي، الذي يتجاوز الخضوع والتبعية المحضة كي يفتح باب الإعجاب ويثير سلوكات الحصول على العفو والرضى. هنا تتحرك آلية التماهي بالمستبد أو الطاغية التي تتيح قلب المعادلة تماماً. فمن جرح نرجسي وجلد ذات وتحقيرها بسبب العجز والخسارة يبرز الإعجاب بل الافتتان بشخص الطاغية المتعالي. كل واحد يتخلص من بؤس كيانه ونقائصه ويداوي جرحه النرجسي بأن يأخذ قبساً من عظمة المستبد أو الطاغية، يعطيه قيمة بديلة ومجالاً للاعتزاز بالكيان البديل. إنه يتحول هوامياً إلى طاغية أو مستبد صغير يمارس بطشه على من هم دونه في حالة من الشعور بالتعالي مقارنة بتدني قيمتهم.
| |
|
| |
باحث اجتماعي عضو زهبي
التخصص : علم اجتماع عدد المساهمات : 1494 نقاط : 3052 تاريخ التسجيل : 01/01/2010 العمر : 54
| موضوع: رد: لاندماج الاجتماعي فيبلد واحد - من المجتمع الأهلي إلى المجتمع المدني (من الرعوية إلى المواطنة) الإثنين مارس 09, 2015 1:08 pm | |
| يقدم برهان غليون في هذا الشأن خطاباً مسكوناً بهاجس التضاد بين الأكثرية والنخبة ونزعة شعبوية مصدرها عصبية مضمرة، إذ يقرر أن البنى التقليدية التي نحملها كل مسؤوليات التخلف والتأخر والركود هي التي أصبحت وما زالت درع المقاومة للجماعة السياسية القومية .. وإن ما حال دون التحلل الكامل لهذه الجماعة هو بالضبط كل ما ورثناه من الماضي والذي نفد الآن ونفدت معه مقاومتنا: الاعتقاد الديني والإيمان الذي يولد الثقة والحماس والاندفاع لدى الشعب، الاقتصاد الطبيعي الذي لا تهزه الكوارث، والتضامن العائلي والعشائري الذي لا تحطمه ألاعيب السياسة ويتجاوزها باستمرار، ومع ذلك فإننا مدانون بالحداثة.[60] فما زال التعايش بين العلم والدين في نظره، هو المبدأ الوحيد الذي يسمح للثقافة العربية أن تستمر في وجودها وأن تتجدد في الوقت ذاته. وهو الذي يسمح لها بأن تعطي للمجتمع الشعور بهويته واستقراره النفسي حتى يستوعب الحضارة ويجذرها في تربته نفسها ومن أفق المفاهيم والقيم الأساسية لثقافته"[61]. يبدو للدكتور برهان غليون أن نموذج الثورة الإيرانية يمكن أن يحل التضاد بين النخبة والأكثرية، وبين الدولة والأمة، إذ يقرر أنه "بعد سنوات الاغتراب الطويلة يبدو كما لو أن النخبة المثقفة العربية التقت نفسها في لهب الأحداث الإيرانية، وكان تبنيها السريع لها وسيلة، بلا ريب، للتعبير عن مشاغلها الذاتية، وعن رفضها للوضع العربي الراهن. وهكذا جاءت الثورة الإيرانية في الوقت المناسب، لتعيد إلى الوجدان العربي المثلوم فرحه الزائل وإلى الشعور العميق بالخيبة أملاً متجدداً في القدرة على استملاك العالم من جديد. فالتقت في هذه المناسبة التاريخية العروبة روحها الإسلامي الضائع، كما التقى الإسلام موطنه العربي الجافي"[62].
للموضوع أو مجال البحث سلطة على الذات تفوق سلطتها عليه. تنقلب هذه الحال رأساً على عقب حين يكون الموضوع مُتَخَيَّلاً، أو محدداً تحديداً ذاتياً، بشكله ومضمونه، فيغدو عجينة لينة أو صلصالاً تشكله الذات على هواها، وتحدد وظيفته بتزكية الهدف وتسويغه. الانطلاق من الهدف وإرادة تحقيقه أو العزم على تحقيقه، فقط، لا يؤديان إلى معرفة الواقع الذي يراد تحسينه أو تغييره، بل إلى تأويل أيديولوجي لما هو الواقع، ولا يؤديان من ثم إلى تحقيق الهدف ذاته. وهذا ما يحيل في كل مرة على التوتر بين ممكنات الواقع وتطلعات الأفراد والجماعات، والأحزاب السياسية خاصة، ويساعد في تفسير الإحباطات والهزائم.
* بحث قدم للمؤتمر الفلسفي بقطر لعام 2012
[1]- راجع في هذا الشأن، عبد الله العروي، مفهومم العقل، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، وبيروت، لبنان، الطبعة الثالثة 2001، ص 23 وما بعدها، إذ عرض نماذج من السجال بين محمد عبده وإرنست رينان، تحت عنوان "مفارقة محمد عبده".
[2]- عنوان رواية للشاعر والروائي السوري عادل محمود.
[3]- للتوسع في وصف القوة الاجتماعية وأشكالها، خلدون حسن النقيب، الدولة التسلطية في المشرق العربي، دراسة بنائية مقارنة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الثالثة، 2004، ص 19.
[4]- سنستعمل مفهوم العصبية الخلدوني، على نحو ما طوره محمد عابد الجابري، للكشف عن البنية العميقة للقوى الاجتماعية وعلاقاتها المتبادلة، والكثافة الأيديولوجية التي تسم خطاب كل منها. (راجع الإحالة على الحاشية رقم 4)
[5] - السجال الدائر اليوم في سورية حول تسمية الدولة، هل هي الجمهورية العربية السورية أم الجمهورية السورية، وهل الفقه الإسلامي أحد مصادر التشريع والإسلام دين رئيس الدولة أم لا، يكشف عن هذه الإشكالية.
[6] - محمد عابد الجابري، العصبية والدولة، معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة السادسة، ص 255 – 256.
[7]- نشير هنا إلى الانشقاق الإسلامي الأول، أو ما سماه بعضهم "الفتنة الكبرى"، وآليات تشكل المذاهب والملل والنحل، في الماضي، وإلى انشقاقات الأحزاب العقائدية في أيامنا، وادعاء كل منها أنها العقيدة القويمة.
[8]- راجع، جاد الكريم الجباعي، وردة في صليب الحاضر، نحو عقد اجتماعي جديد وعروبة ديمقراطية، من منشورات رابطة العقلانيين العرب، دار الفرات للنشر والتوزيع، بيروت، دار بترا للنشر والتوزيع، دمشق، الطبعة الأولى، 2008.
[9]- برهان غليون، الوعي الذاتي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثانية 1992، ص 79. إذ يرى أن "الثورة الإيرانية جاءت في الوقت المناسب، لتعيد إلى الوجدان العربي المثلوم فرحه الزائل وإلى الشعور العميق بالخيبة أملاً متجدداً في القدرة على استملاك العالم من جديد. فالتقت في هذه المناسبة التاريخية العروبة روحها الإسلامي الضائع، كما التقى الإسلام موطنه العربي الجافي".
[10]- عن غسان سلامة، نحو عقد اجتماعي جديد، بحث في الشرعية الدستورية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، طبعة ثانية منقحة، 2011، ص 80.
[11] - ياسين الحافظ، في المسألة القومية الديمقراطية، الأعمال الكاملة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 2005، ص 7 (5 / 963).وقد تصرفنا بالنص بما لا يمس أفكاره.
[12] - ألان تورين، إنتاج المجتمع، ترجمة الياس بديوي، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1976، ص 8.
[13] - يعرف خلدون حسن النقيب القوة الاجتماعية بأنها المقدرة على تحوير سلوك الآخرين وتعديله، لتحقيق نتائج مقصودة أو متوقعة .. في: خلدون حسن النقيب، الدولة التسلطية في المشرق العربي، دراسة بنائية مقارنة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الرابعة، 2004، ص 18.
[14]- يفرق كارل ماركس بين الدولة السياسية الناقصة التي تحابي عقيدة دينية ما وتمنحها امتيازاً على غيرها، وبين الدولة السياسية الكاملة المحايدة إزاء عقائد مواطنيها ومذاهبهم. راجع في ذلك، كارل ماركس، المسألة اليهودية، ترجمة الياس مرقص، دار الطليعة، بيروت.
[15]- للتوسع في أنواع الشرعية وأثرها في الاندماج الاجتماعي، غسان سلامة، نحو عقد اجتماعي جديد، بحث في الشرعية الدستورية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، طبعة ثانية منقحة، 2011، ص 33 وما بعدها.
[16]- ميشيل فوكو، يجب الدفاع عن المجتمع المدني، دروس ألقيت في الكوليج دي فرانس لسنة 1976، ترجمة وتقديم وتعليق د. الزواوي بغورة، دار الطليعة، بيروت، 2003، ص 18، وما بعدها.
[17]- راجع، جاد الكريم الجباعي، طريق إلى الديمقراطية، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، 2010.
[18]- نستعير مفهوم "التعقيل" من الفيلسوف الفرنسي إدغار موران في كتابه "مقدمات للخروج من القرن العشرين"، من إصدارات وزارة الثقافة، دمشق. ويقصد بالتعقيل تسويغ الأفكار والتصورات والعلاقات على أنها عقلانية ومطابقة للحقيقة.
[19]- إيان كريب، النظرية الاجتماعية، من بارسونز إلى هابرماس، ترجمة د. محمد حسين غلوم، مراجعة د. محمد عصفور، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والعلومم والآداب، الكويت، العدد 244، أبريل 1999، ص 40.
[20] - كارل ماركس، مخطوطات كارل ماركس لعام 1844، ترجمة محمد مستجير مصطفى، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، بلا تاريخ نشر، ص 69 وما بعدها.
[21]- راجع، كارل ماركس، في المسألة اليهودية، ترجمة الياس مرقص، دار الطليعة، بيروت.
[22]- راجع في ذلك موقف كانط من "وحدة الوجدان" وعلاقة الذات بالموضوع، في إميل برهييه، تاريخ الفلسفة، القرن الثامن عشر، ترجمة جورج طرابيش، دار الطليعة، بيروت، ط1، ص 263.
[23] - اعتبار الآخر موضوعاً للذات هو أساس التسلط والاستبداد، ولا سيما اعتبار المرأة موضوعاً هامداً لا حول له ولا طول.
[24]- مفهوم الاندماج، (الإيجابي)، مختلف عن مفهوم التكيف، (السلبي)، ولا يستبعده، وكذلك، يختلف مفهوم التبادل، (الموضوعي)، عن مفهوم التعاون، (الذاتي)، ولا يستبعده. الاندماج مرتبط هنا بالمواطنة المختلفة عن التعايش اختلافاً بعيداً، ويتعارض على طول الخط مع الدمج القسري أو الصهر والتذويب والتمثل.
[25] - كل من يعتقد بنسبية القيم يدرك أن المجتمعات التي حققت مستوى معيناً من الاندماج الاجتماعي حققت قدراً مناسباً من تكافؤ القيم وتكافؤ الفرص بين أفرادها وجماعاتها، والأخير قابل للملاحظة والقياس.
[26]- الاستهلاك، كما حدده كارل ماركس، هو ما يخلق الحاجة إلى الإنتاج، ويسهم في زيادته وتحسينه، وهو في الوقت نفسه تدمير المنتج وتغيير خصائصه. لذلك فإن وصف المجتمعات العربية بأنها استهلاكية وصف غير دقيق من عدة وجوه، اللهم إلا من حيث تدمير المُنْتَج وتغيير خصائص المنتجات المادية واللامادية، كتدمير خصائص العلمانية والديمقراطية مثلاً.
[27] - إميل دركهايم، الانتحار، ترجمة حسن عودة، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة، دمشق، 2011، ص 287.
[28] - محمد عابد الجابري، العصبية والدولة، ملامح نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة السادسة، 1994.
[29] - عبد الله حمودي في "الشيخ والمريد"، ترجمة عبد المجيد جحفة، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط 4، 2010، ص 12 وما بعدها. يعتبر عبد الله حمودي علاقة الشيخ بالمريد علاقة نموذجية لفهم علاقات السلطة.
[30] - حليم بركات، المجتمع العربي المعاصر، بحث استطلاعي اجتماعي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة السادسة، ص 9.
[31]- راج في ذلك، مصطفى حجازي،الإنسان المهدور،مصدر سابق.
[32] - نستعير مفهومي القهر والهدر من مصطفى حجازي. راجع تعريفهما في: مصطفى حجازي، الإنسان المهدور، دراسة تحليلية نفسية اجتماعية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب وبيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2005، ص 15. وللاستزادة، راجع أيضاً، مصطفى حجازي، التخلف الاجتماعي، مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، وبيروت، لبنان، الطبعة التاسعة، 2005.
[33] - راجع، كارل ماركس، المسالة اليهودية.
[34]- راجع، جاد الكريم الجباعي، المجتمع المدني هوية الاختلاف، الطبعة الثانية، دار النايا، دمشق، 2010.
[35]- جان جاك روسو، العقد الاجتماعي أو مبادئ القانون السياسي، ترجمة بولس غانم، اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع، بيروت، 1972، ص44.
[36]- عرف ديدرو الإرادة العامة في الموسوعة بقوله: الإرادة العامة هي، في كل فرد، عمل الفهم الخالص، الذي يحاكم في صمت الأهواء، ما يمكن للإنسان أن يطلبه من أمثاله، وما لأمثاله من الحق في أن يطلبوه منه". عن ألان تورين، نقد الحداثة، ترجمة صياح جهيم، وزارة الثقافة، دمشق، ، 1998 ص 25،راجع أيضاً، جان جاك روسو، المصدر السابق، ص 44 – 46.
[37]- نفترض أن العقيدة الدينية، أو نزعة التقديس والتأليه، ملازمة للعشيرة، بما هي امتداد للعائلة الطبيعية، فلا يمكن الحديث عن العشيرة بمعزل عن أفكارها ومعتقداتها وأعرافها وعاداتها.
[38]- راجع أليكسي دي توكفيل، الديمقراطية في أمريكة.
[39] - راجع، توكفيل، المرجع السابق،
[40] - جان جاك روسو، العقد الاجتماعي أو مبادئ القانون السياسي، ترجمة بولس غانم، اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع، بيروت، 1972، الصفحات 33 – 36.
[41]- يعرف الباحث بتجربته الخاصة كيف تراخت المعايير إزاء الزواج الخارجي، ولا سيما خارج الطائفة أو الملة، وإزاء المهور، وإزاء الملبس والمأكل والمشرب. وكيف كان الريفيون يترفعون عن بيع الحليب ومشتقاته وبيع الخضروات والفاكهة، وخاصة بيع العنب لمصانع الخمور، ويعيبون فعل من يفعل ذلك ويؤثمونه ثم ما لبثوا حتى صاروا يتنافسون في ذلك، ويعدونه نشاطاً ضرورياً لزيادة الدخل وتحسين نمط الحياة. وكيف تكاثرت الأسر النووية وتقلص نطاق "الدار الكبيرة" التي تضم الأب والأم وأولادهما وأحفادهما، بعد أن كان خروج أحد الأولاد من الدار حدثاً يتداوله أهل القرية ويتكهنون أسبابه. وكيف كان رجال الدين يحرمون الاستماع إلى المذياع ثم مشاهدة التلفزيون، وكيف تخطى الناس ذلك وتراخى التحريم، وغير ذلك كثير. فضلاً عن التغير النسبي في أساليب الإنتاج الزراعي وتطور أدواته، والإقبال على زراعة محاصيل جديدة برسم السوق. وإلى ذلك لم نعد نرى المقايضة والمعاوضة وزواج البدل إلا نادراً جداً.
[42] - تكاثرت في سوريا، بعد عام 2000، الجمعيات غير الحكومية لحقوق الإنسان، وكانت أولاها "الجمعية السورية لحقوق الإنسان"، التي أسهم الباحث في تأسيسها، عام 2001، ثم تلتها الجمعية العربية لحقوق الإنسان وجمعية سواسية والجمعية الكردية لحقوق الإنسان وغيرها، وكذلك الجمعيات التي تعنى بتمكين المرأة.
[43]- نميل إلى هذا القلب الذي أجراه ميشيل فوكو، وبسطه في كتابه "يجب الدفاع عن المجتمع المدني، مرجع سابق.
[44] - راجع، ياسين الحافظ، في المسألة القومية الديمقراطية، الأعمال الكاملة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 2005، ص 7 (5 / 963).
[45]- ياسين الحافظ، المصدر السابق، ص 16 (5 / 971).
[46] - ياسين الحافظ، المصدر السابق، ص 38 (5 / 994)
[47] - راجع، ياسين الحافظ، المصدر السابق، بحث الطائفية وأزمة لبنان الدائمة، ص 125 (5 / 1081) وما بعدها.
[48]- محمد عابد الجابري، العصبية والدولة، معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة السادسة، 1994، ص 256.
[49] - راجع حجازي، المصدر السابق، ص 106
[50] - راجع أيضاً، عزمي بشارة، المجتمع المدني، دراسة نقدية (مع إشارة للمجتمع المدني العربي)، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الثانية، 1998.
[51] - عزمي بشارة، في المسألة العربية، مقدمة لبيان ديمقراطي عربي، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثانية، 2010، ص 68.
[52] - عزمي بشارة، المصدر السابق، ص 164.
[53] - عزمي بشارة المصدر السابق، ص 243 – 244.
[54] - هشام شرابي، البنية البطركية، بحث في المجتمع العربي المعاصر، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 1987. فقد حدد خصائص النظام البطركي باستمرار التركيب القبلي والشقاق والتنازع أو فصل الذات عن الآخرين وتقسيم الجسم الاجتماعي إلى أزواج متنافية (قريب / غريب. إسلام / كفر) وأخلاق بسيطة واختزالية (الواجبات والالتزامات محددة بدقة ووضوح داخل التنظيم القبلي، أما خارجه فهي غير محدودة وغير واضحة، وانغراس الولاء القبلي في الحاجات الأساسية للأفراد وتماهي الفرد والقبيلة. راجع تفصيل ذلك في الصفحات 39 - 41.
[55] - هشام شرابي، في النقد الحضاري للمجتمع العربي في نهاية القرن العشرين، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ص 11
[56] - هشام شرابي، البنية البطركية، بحث في المجتمع العربي المعاصر، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 1987، ص 55.
[57] - راجع، حليم بركات، المجتمع العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة السادسة، 1998، ص 111، وما بعدها.
[58] - حليم بركات، المصدر السابق، ص 447 – 448.
[59] - حليم بركات، المصدر السابق، ص 457 – 460.
[60] برهان غليون، مجتمع النخبة، معهد الإنماء العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1986، ص 294 – 295.
[61] - برهان غليون، الوعي الذاتي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثانية 1992، ص 76.
[62] - برهان غليون، المصدر السابق، ص 79.
| |
|
| |
| لاندماج الاجتماعي فيبلد واحد - من المجتمع الأهلي إلى المجتمع المدني (من الرعوية إلى المواطنة) | |
|