منظمات المجتمع المدني بين النشأة والتطور
أ.د. عزالدين عمر موسى
عميد كلية العلوم الإستراتيجية
بجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية
يلمح الناظر في التاريخ البشري أن الإنسان في مبتدأ حياته عرف، قبل قيام الدولة، مؤسسات اجتماعية تكافلية بسيطة تعينه على كسب عيشه، وحفظ نفسه،متدرجاً في هذا من الأسرة إلى العشيرة ثم القبيلة، ومن القرية إلى المدينة ثم الدولة.
وتتميز هذه المؤسسات بعفوية التكوين وحاجية الغايات. وكلما ارتقى المجتمع في مدارج التحضر تحول في نظمه وتنظيماته من البساطة إلى التعقيد، ومن الفردانية إلى التنوع والتعدد، ومن الاستقلالية إلى التداخل في شبكة تبادلية. فتتعدد الأهداف، فتناغم حيناً، وقد تتضاد في أحيان أخرى، ومن ثم تختلف طرائق تحقيق تلك الأهداف التي تتنوع مجالاتها، اجتماعية وثقافية وتنموية، اقتصادية وسياسية.
وتختلف درجة هذه التحولات من مجتمع إلى آخر، ومن بيئة إلى أخرى، ومن عصر إلى عصر. فما من مجتمع، حتى البدائي، إلا عرف شكلاً من أشكال تلك المؤسسات، ذلك لأن المجتمع سابق للدولة، وما قيام الدولة إلا نمط واحد من أنماط المؤسسات التي تبلورت نتيجة تلك التحولات. بيد أن المؤسسات الأهلية لا تتوقف بعد قيام الدولة، وربما تتزايد وتتنامى، فالتنمية هدف بشري في كل عصر، وأدواتها تستحدث وتتجدد.
من هنا يتبدى أن مفهوم المجتمع المدني لا ينفصل عن أهدافه ووظائفه التي عرفت قبل قرون مديدة، متخذة صوراً عديدة، بيد أنها لم تُعرف بهذا المصطلح وإن عُرف المفهوم.. والمصطلح حديث، وهو في نشأته واستخدامه المعاصر مرتبط بالتجربة الغربية، وملتصق بثلاثة نظم؛ هي الليبرالية والرأسمالية والعلمانية وتجسداتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ومن ثم فإن المجتمع المدني نشأ – في رأيهم – من خلال الصراع الذي خاضته الطبقة المتوسطة (البرجوازية) الأوروبية للفصل بين "المدني" و"الكنسي"، وهما ما جُمع بينهما في كثير من الحالات في التجربة الأوروبية. لقد كانت السلطة الزمنية والسلطة الدينية تتركزان في يد واحدة، هو الملك أو الامبراطور الروماني المقدس مثلاً. وهناك اتجاه آخر يربط نشأة المجتمع المدني الأوروبي بتعدد القوى الحزبية وظهورها في التجربة الغربية.
ولعله من المفيد الإشارة إلى أن المفهوم السياسي لمصطلح المجتمع المدني ليس وليد القرن الثامن عشر الميلادي، وإنما ترجع جذوره إلى العصر الكلاسيكي مع أرسطو بصورة جلية في حديثه عن الجماعة المنظمة في كيان سياسي، وهي الدولة ذاتها... ثم يغيب ذلك المفهوم قروناً مديدة، ثم تطمسه فكرة الحق الإلهي في كتابات فلاسفة اللاهوت النصراني في العصور الوسطى. ثم مهد لظهوره انبعاث الفكر السياسي عن الدولة والمجتمع ابتداءً مع الفرنسي جان بودان Jean Bodin ومروراً بهوبس وسبينوزا ومنتسيكو ولوك... فهم يرون أن الدولة حافظة لأمن المجتمع المدني.. الذي هو غير الدولة. ويكاد أن يجمعون علي هذا المنظور الفكري على الرغم من تباين منطلقاتهم واختلاف تحليلاتهم.. ولكن توماس بين Thomas Paine من بينهم تفرد بالنظرة إلى مجتمع مدني مضاد للدولة، ويحتاج للدفاع عنه ضد تدخلها.. فهكذا مهد فلاسفة عصر التنوير لظهور منظمات المجتمع المدني الأوروبية السياسية المستقلة عن الدولة في القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين.
نشأة منظمات المجتمع المدني الأوربية وتطورها
إن منظمات المجتمع المدني السياسية ثمرة من ثمرات الفكر الأوروبي الحديث، وإفراز من إفرازاته ونتيجة لتجارب أهله، وهي التي شكلت مفاهيم منظماته ووظائفها في البلاد العربية.. ولهذا من الضروري استبصار إيجابية ذلك الفكر وإنجازاته، وأوجه القصور فيه، وإلتباس المفاهيم فيه حتى يتضح مدى قصور الدراسة العربية الحديثة فيه، مما ييسر الطريق لإعادة تشكيل الصورة، وبناء منظمات أكثر تنوعاً، وأشمل مجالات، وأكثر نفعاً.
ويستطيع الدارس لمنظمات المجتمع المدني الغربية أن يستبصر أربع مراحل مرت بها التجربة الأوروبية وهي مراحل مختلفة ومتمايزة ولكنها متداخلة:
المرحلة الأولى:
مهد الفكر في هذه المرحلة في القرن الثامن عشر الميلادي للثورات البرجوازية (الطبقة الوسطى)، وأثمر قيام الثورة الفرنسية، وإسقاط نظام الاقطاع والاستبداد الكنسي، وقاد إلى قيام منظمات مجتمع مدني تجسد فيها هذا الفكر الداعي للحرية والإخاء والمساواة.. ورواد هذا الفكر هم هوبس وديدرو وروسو ونظرائهم.
المرحلة الثانية:
تبلور فكر هذه المرحلة في القرن التاسع عشر الميلادي، فظهرت مفاهيم سياسية جديدة، مثل الوطن والدولة والمجتمع المدني الذي نشأ مفهومه خلال الصراع السياسي الاجتماعي، وظهرت فيه مدرستان:
الأولى لبرالية، تدعو إلى الحرية بكل أنواعها السياسية والاقتصادية، مفضية لظهور الرأسمالية. وأشهر دعاة هذه المدرسة جماعة تبدأ بآدم سمث وتنتهي بريمون آرون.
أما المدرسة الثانية فهي ماركسية وتدعو إلى اتخاذ منظمات المجتمع المدني وسيلة للتغيير السياسي من الرأسمالية إلى الاشتراكية وتسريع حركة التغيير. وقد بدأت هذه المدرسة خافتة مع هيغل ثم تبلورت مع كارل ماركس وأضرابه إلى أن انتهت عند الإيطالي قرامشي في العصر الحديث.
المرحلة الثالثة:
انغلقت أوروبا في بداية القرن العشرين الميلادي على نفسها، وانفتحت على الخارج. وهنا مكمن التناقض في تطبيق قيمها، فهي متحررة داخلياً ومستبدة خارجياً، إذ وصل المد الاستعماري مداه الأقصى. ولكن الملاحظ أن أوربا نفسها عانت من كبت الحرية في النصف الأول من القرن العشرين يوم غيبت النظم الفاشية والنازية دور منظمات المجتمع المدني التي ظهرت في الفترة السابقة.
المرحلة الرابعة:
أعيد الاعتبار في هذه المرحلة لمنظمات المجتمع المدني السياسية عندما تكشفت مآسي الدولة الفاشية والنازية والستالينية، وافتضحت مساوئ هذه النظم. فتنادى الناس إلى دور أقل للدولة، ودور أكثر للمجتمع المدني.. ولكن بعد الثمانينيات تجلت خطورة ظاهرة الإرهاب وحركات التطرف والحروب العرقية والطائفية، فشغل الناس هاجس الأمن، فتنادوا إلى دولة قوية ومنظمات مجتمع مدني أقل.
ويتبين للناظر في هذه المراحل ملحوظتان مهمتان تسعفان في فهم المصطلح وتغير مفاهيمه باختلاف المراحل:
أولاً: واضح أن هذه المدارس اختلفت حول دور الدولة، فهناك من يرى منظمات المجتمع المدني مقابلاً لها، وهناك من يراها متلازماً معها، ولكنها جميعها تسلم بدور الدولة في تقدم تلك المنظمات أو تدهورها.
ثانياً: إن مفهوم منظمات المجتمع المدني السياسية ودورها لا يمكن أن يقرأ قراءة محايدة، لأن القراءة لا تنفصل عن ظروف المفهوم التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولا شخصية القارئ نفسه. وهذا ما يتجلى في عدة مواقف أيدولوجية متناقضة:
o لقد جعل فلاسفة التنوير هذا المفهوم مقابلاً للدولة، فوجدوا فيه سنداً لمقاومة الحكم الاستبدادي بتركيزه على الحرية.
o اقترن تطور المفهوم مع انتصار الطبقات الأوروبية المتوسطة وتطور الرأسمالية، فأفرز ذلك التأكيد على الحقوق السياسية والاقتصادية فتبلورت المدرسة الليبرالية، وأدى ذلك إلى ظهور عالم الإنتاج وعالم السياسية أو الفصل بين الحياة العامة والحياة الخاصة أو بعبارة أدق الفصل بين مؤسسات السياسية وعالم الشغل والإنتاج.
o أضفى ماركس في مرحلة الصراع بين التيارين الليبرالي والماركسي على المفهوم طابعاً ثورياً، لا مجرد مفهوم فلسفي، لأن فكره مادي، فالمفهوم لمنظمات المجتمع المدني عنده أنه أداة في الصراع الطبقي، مستثمراً النقابات والأحزاب والصحافة والأدب والفن والرأي العام غير الرسمي لصالح الثورة على الرأسمالية. وتطور هذا المفهوم السياسي الاستغلالي مع قرامشي للتعبئة ضد الفاشية والنازية لتكون الدولة خادمة لا خاضعة للشعب، متناسياً في هذا الشمولية السوفيتية وهي أشد استبداداً، وما ذلك إلا لأنه ماركسي.
فكيف أثر هذا التطور على مفهوم المجتمع المدني؟.
تأثير هذا التطور على المفهوم
• اقترن المفهوم في التجربة الأوربية بأمرين:
o الوضع الاقتصادي والاجتماعي، وهو متغير، ولهذا فإن المفهوم متغير من فترة إلى أخرى، ومن مكان إلى آخر.
o يلاحظ التباين في علاقات منظمات المجتمع المدني بالدولة أو السلطة، فهي أحياناً مقابل لها، وأحياناً متعايش معها، أو أحياناً أخرى مناقض لها... وهذا أيضاً متغير غير ثابت.
• المشكلة عند الأوروبيين غدت كيف يعاد التوازن بين الدولة ومنظمات المجتمع المدني، وزادت حدة المشكلة مع العولمة والثورة الصناعية الثالثة، أي الثورة المعلوماتية.
• جاء اهتمام الدارسين الأوروبيين للمجتمع المدني السياسي متركزاً على الأحزاب السياسية دون غيرها من المنظمات المجتمعية. وقد اختلفت الأحزاب باختلاف المفاهيم وفقاً للتطور الفكري الذي شهده المجتمع الأوروبي في مراحله المتعددة. ويمكن استبصار ثلاث مدارس في هذه المسألة:
o المفهوم في المدرسة الكلاسيكية:
تنظر هذه المدرسة إلى أن المسألة مسألة دولة ونظام. والفكرة الأساسية أن الدولة تقوم على الحق الطبيعي (الإنسان له حق حكم نفسه). وقاد ذلك إلى إسقاط نظام الحكم الذي يقوم على الحق الإلهي وقداسة الحاكم الذي كان سائداً في عصر النهضة. ومن أبرز مفكري هذه المدرسة روسو وهوبس وانبثقت عن هذه المدرسة فكرة "العقد الاجتماعي"، أي عقد بين الحاكم والمحكوم.
o المفهوم في المدرسة الليبرالية:
ترى هذه المدرسة أن هناك دولة وهناك مجتمع، وتختلف الرؤى حول العلاقة بينهما، فتشكلت الأحزاب لتوجيه الدولة، وضبط شئونها بالانتخابات.
o المدرسة الماركسية:
ترى أن الدولة إفراز للمجتمع، وأن الحزب المسيطر هو الطبقة المسيطرة ومنظمات المجتمع المدني خادمة له.
• ثم عاد مفهوم المجتمع المدني السياسي في الثمانينيات للظهور كأداة تحليلية معيارية لفهم حركة التضامن البولندية واتخاذها نموذجاً لفهم حالات أخرى في أوربا أو "العالم الثالث".
• بعد سياسة غورباتشوف الانفتاحية ظهر مفكرون يساريون جدد آملين في بناء منظمات مجتمع مدني سياسية وأخرى اقتصادية واجتماعية لتكون وسائل ضغط على الأنظمة المستبدة. وقد راج هذا المفهوم في بلدان أمريكا اللاتينية، ولم يكن العالم العربي بدعاً في ذلك، بخاصة بعد انكشاف عيوب الأنظمة العسكرية بعد حرب حزيران 1967م. بيد أن تلك الأنظمة كثيراً ما جندت تلك المنظمات، واستغلتها لإحكام هيمنتها على المجتمع.
• لقد تعاظمت مشكلة المفهوم عند الأوروبيين بسبب عاملين اثنين.
أولاً؛ كيف يعيدون التوازن بين الدولة ومنظمات المجتمع المدني التي تتنامى وتتزايد تأثيرهاتها في مجتمعهم وفي المجتمعات التي يرومون السيطرة عليها.
ثانياً؛ إن العولمة والثورة الصناعية الثالثة وما أحدثته إفرازات هذه الظواهر العالمية من تأثيرات اقتصادية سالبة، بخاصة استخدام مفاهيمها الديمقراطية وحقوق الإنسان وسائل ضغط من قبل الدول المهيمنة اقتصادياً وثقافياً وسياسياً لإحكام سيطرتها مشكلة ما يجوز تسميته بالاستعمار الجديد في ظل أحادية القطب الواحد الممثل لغلبة الليبرالية الغربية مع تهاوي النظم الإشتراكية أو ضعفها.
وهكذا بدأ مفهوم منظمات المجتمع المدني الغربية يتخذ أبعاداً جديدة، ولكنها خادمة للسياسة، ليس داخل الأقطار المتقدمة فحسب، بل في الأقطار التي يراد السيطرة عليها. فظهرت منظمات مجتمع مدني ظاهرها غير سياسي، وباطنها غير ذلك. من هذا منظمات حقوق الإنسان والمرأة والطفل والأقليات (أي ما يسمى بالعناصر الضعيفة في المجتمع) أو أخرى تقدم خدمات إنسانية في أوقات الكوارث الطبيعية والأزمات البشرية أو أخرى تقدم خدمات صحية أو تعالج قضايا اجتماعية مثل الفقر والبطالة.
وتوسع المفهوم ليشمل دور منظمات المجتمع المدني في قضايا التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، حتى أصبحت تلك المنظمات ضلعاً ثالثاً يمثل القطاع الأهلي مكملاً للضلعين الآخرين، وهما القطاع العام (الدولة) والقطاع الخاص.
o إن هذا التوسع في المفهوم رد الاعتبار لمنظمات مجتمع مدني موجودة في الغرب الأوربي منذ أمد بعيد، ولكن وغطى عليها المفهوم السياسي أو أغفلها أو لم يعترف بدورها. من هذا المؤسسات الطوعية؛ كنسية خيرية أو علمانية (الصليب الأحمر في حرب القرم بداية،الملاجئ للعجزة ورعاية المسنين، رعاية الحيوانات، دور الوقف المسيحي، علاوة على الجمعيات النصرانية مع اختلاف أغراضها، وكلها في المرحلة الجديدة استغلت سياسياً أو تبشيراً أو الأمرين معاً.
كما أن التوسع في المفهوم أفرز توسعاً في تعريف منظمة المجتمع المدني بشروط واجبة... فهي أهلية تطوعية وخيرية غير ربحية وغير خاضعة للسلطة من حيث إدارتها وإن تلاقت معها في سياستها، فهي تتميز باستقلاليتها. فأصبح المفهوم ذا أبعاد وصفية ومعيارية وسياسية. فتعددت الأغراض ولكن توحدت الغايات في التعامل مع الآخر غير الأوربي الغربي.
إلا أن المنطلق السياسي للمفهوم لم يحظ بالقبول التام. لقد وجد قبولاً عند علماء السياسة، مثل جان كوهين (Jean L. Cohen) وأندرو آراتو ( Andrew Arato ) لاقتناعهم بنفعيته النظرية والعملية، وتحفظ عليه آخرون تحفظاً قوياً، من هؤلاء آدم سيليجمان ( Adam Seligman ) قائلاً بأنه لا يضيف شيئاً لمفهوم المواطنة الليبرالية أو الديمقراطية، ولا الدراسة الاجتماعية.
فما تأثير هذا المفهوم في أسسه وتطوره على التجربة العربية؟
قضية المفهوم وتأخر نمو منظمات المجتمع المدني العربية
إن مفهوم المجتمع المدني مفهوم السياسي دخيل على تراث الفكر السياسي العربي الإسلامي، ولم يبرز في الخطاب السياسي العربي إلا في العقود الأخيرة... أما وظائفه وتنظيماته في المجالات الاجتماعية والإنسانية فهي مكينة أصيلة في المجتمع العربي الإسلامي وثقافته. وتأخر نمو منظمات تماثل التجربة الأوربية السياسية لعدة عوامل، منها:
أولاً: عندما تأثر رواد الفكر الإصلاحي العربي الإسلامي في القرن التاسع عشر الميلادي بمفاهيم سياسية غربية جديدة مثل الوطن، الدستور، الانتخابات، الحرية، لم يكن بينها مفهوم المجتمع المدني، رغم أنه شغل النخب الأوروبية في النصف الثاني من ذلك القرن، ومع أن بعضهم زار أوروبا وشاهد مظاهر ذلك المجتمع في فكر فلاسفة التنوير في السياسة والاقتصاد والاجتماع. (انظر في هذا كشف المخبأ في فنون أوربا، وتخليص الإبريز في تلخيص باريز للطهطاوي ، إتحاف أهل الزمان لأحمد بن أبي الضياف ، أقوم المسالك لخير الدين التونسي ، صفوة الاعتبار لبيرم الخامس، الاستطلاعات الباريسية لمحمد السنوسي).
ثانياً: لم تعط حركات التحرر الوطني العربية من الاستعمار عناية لموضوع منظمات المجتمع المدني، إذ أن جهودها تمحورت حول المطالبة بالاستقلال ونشدان الحرية والمدافعة عن الهوية.
ثالثاً: لم تعش نظم دول الاستقلال طويلاً، فقد بليت بسوس الانقلابات العسكرية، والعقلية العشائرية، والطائفية السياسية. فاستغلت الأولى ما بدأ من منظمات للمجتمع المدني لمصلحتها، ولم تسمح الثانية والثالثة لها بأن تنبت في بيئة غريبة على مفاهيمها.
رابعاً: معضلة الفكر السياسي الإسلامي، وليس الإسلام، أن المسلمين لم يفرزوا تجربة تراكمية في مسألة الشورى والحكم كالذي أفرزوه في مجالات الدراسات الإسلامية واللغوية، فتكونت فيها مدارس.
اكتشف الناس في العقود الأخيرة من القرن العشرين، وفي بداية القرن الحادي والعشرين، ضرورة وجود دور لمنظمات المجتمع المدني في بناء المجتمع أو تغييره. ورأى كثيرون أنه لا بد من كثير من الدولة، وكثير من المجتمع المدني، لأن المجتمع المدني نقيض الحكم الشمولي، ونقيض المجتمع القبلي و الطائفي. وقد تجسد كل ذلك في التجربة العربية السياسية المعاصرة.
التجربة العربية:
مرت التجربة في البلاد العربية بأنواع مختلفة وفي مراحل متباينة:
أولاً: مرحلة الاستعمار: فالمناطق التي لم يدخلها الاستعمار لم تتكون فيها أحزاب. وظهرت الأحزاب في البلاد التي استعمرت، وهي تهدف للدفاع عن الهوية وعن اللغة العربية. وكان السبب في ذلك هو ردة فعل لحركتي التغريب والتتريك، فقامت أعداد من الجمعيات العربية في ظل الحكم العثماني الذي هيمنت عليه حركة تركيا الفتاة. ثم ظهرت الأحزاب في مصر 1919م وفي سوريا عام 1920م وفي العراق 1925م وكانت الأحزاب وطنية مناهضة للاستعمار.
ثانياً: مرحلة التعددية السياسية. عندما استقلت الأقطار العربية من النظم الاستعمارية قامت فيها ديمقراطية شبيهة باللبرالية الغربية أو مقلد لها، لكن ظروفها تختلف إذ أن مرحلة بعد الاستقلال تستوجب البناء لا التناحر السياسي الذي مهد للقضاء على التجربة.
ثالثاً: مرحلة الانقلابات العسكرية: لقد كانت فترة الاستقلال قصيرة، ولم تستطع الأحزاب تحقيق أحلام الشعوب في الرفاهية، ومن هنا ظهرت الانقلابات العسكرية، وسيطرت فيها الأحزاب الشمولية كما هو الحال في مصر وسوريا والعراق ثم السودان وليبيا، ذلك لأن الأحزاب الوطنية أنجزت مهمة الاستقلال، ولم تفلح في مرحلة البناء.. كما أن الأحزاب الشمولية سمحت بقيام أحزاب ديكورية كثيرة في كل بلد عربي سمح بها، ولكن الحزب الحاكم دائما يكتسح الانتخابات لأنه مسيطر على كل مفاصل الدولة الشمولية.
ويستطيع المرء أن يستبصر خمس نماذج من التجارب في البلاد العربية:
o ديمقراطية هشة وديكورية، تسقط في أول منعطف سواء أكانت أنظمة تعددية أو شمولية.
o ديمقراطية فيها ملكية تسيطر على الوزارات السيادية مثل الأردن والمغرب. وهنا تتهاوى الحكومات وتتعدد الانتخابات في فترة وجيزة، فيهتز النظام، ولكن النظام الملكي يظل صمام أمان يحفظ الدولة من الانهيار.
o ديمقراطية تعطلها القبلية والمذهبية مثل الكويت.
o ديمقراطية تحدها الطائفية مثل لبنان.
o أنظمة تتبع المشاركة الشعبية بصورة متدرجة متوازنة حتى لا تفسدها القبلية ولا الجهوية، وربما تتميز بسياسة الباب المفتوح، وخير مثل السعودية والإمارات.
منظمات المجتمع المدني العربية الغير سياسية:
أما وقد تأخر نمو منظمات المجتمع المدني السياسية في البلاد العربية أو تعثر، فإن المفهوم الغير سياسي كان أوسع، وتنوعت مجالاته وتعددت، وتباينت الغايات واختلفت، وشملت كافة ضروب الحياة، في المجالات الاجتماعية والإنسانية والدعوية والاقتصادية . وقد أثرت في المجتمع تأثيرات كبيرة ولكنها متفاوتة من بيئة إلى أخرى، ولكنها منتشرة في البلاد العربية كلها انتشاراً واسعاً، وتعد بالألوف، ويتفاوت عددها من قطر إلى آخر، وكذلك نوعها وأهدافها، وتبلورت لها خصائص على مفهومها دالة. من هذا:
• الرضا والاختيار من قبل الأفراد الداخلين فيها.
• التميز عن الدولة، بتقديم خدمات ومساعدات تتميز فيها عن الدولة أو مكملة لها، مع المحافظة على استقلاليتها بنسب مختلفة من قطر إلى آخر، ومن نوع إلى آخر.
• المساواة والحوار والحرية من أهم وسائلها.
• التطوع في الانتماء إليها، ونشر ثقافته في النشئ والشباب.
• عدم السعي للوصول إلى السلطة.
من هنا فإن دراسة منظمات المجتمع المدني من مفهوم يختلف عن المفهوم السياسي الغالب على الفكر الأوروبي، وعلى الذين تأثروا به في المجتمعات العربية، تكشف عن أدوار عديدة لتلك المنظمات، ونافعة للمجتمعات النامية. فهل يسعف المنظور الإسلامي في تنمية هذه المغايرة؟.
المنظور الإسلامي لمنظمات المجتمع المدني
إن وضع إستراتيجية لمنظمات المجتمع المدني تستدعي وضع استخلاص رؤية إسلامية محركة، لنقد ما هو كائن، واستبصار ما يمكن أن يكون من فكر وإن خمد، ومن تجارب وإن انقطعت أو اندثرت أو أصابها غبش، ذلك لأن الذين تناولوا دراسة منظمات المجتمع المدني في البلاد العربية درسوها من منظور السياسي العلماني، فذهبوا إلى القول بأن المجتمع المسلم لم يعرف منظمات المجتمع المدني، لأن مبدأ فصل الدين عن الدولة لا وجود له في الإسلام. كما أن التحزب الذي يؤدي إلى انقسام الأمة التي يحث الدين على وحدتها لم تعرفه العصور الإسلامية. لهذا لم ييسر هذا كله قيام أحزاب سياسية في البلاد العربية كالذي حدث في الغرب إلا حديثاً بتأثير الحضارة الغربية. لهذا أغفلوا المنظمات الاجتماعية والإنسانية الكبرى، فلم يدخل في مفهومهم الذي ضيقت السياسة مواعينه، في الغرب نفسه أو في المجتمعات الغير غربية، بخاصة الإسلامية والعربية.
والناظر في الموروث الإسلامي، فكراً وعملاً، يجد الكثير مما يساعد في تأسيس منظمات المجتمع المدني العربية لتخدم الأهداف السياسية والاجتماعية الإنسانية والاقتصادية. فالركائز الفكرية والمعيارية والوظيفية التي يمكن توظيفها في ذلك التأسيس أو تصحيح ما هو قائم ، هي كثيرة. منها، الحرية والشورى والتكافل الاجتماعي والتطوع في العمل الخيري.
ورب قائل ان الحرية والشورى لم تأخذ الأشكال التي اتخذتها في أوربا.. والسؤال الذي ينبغي إثارته، وبإلحاح، هو: هل بالضرورة أن يكون غير الأوربي نسخة من أوربا في التطبيق وإن اتفقوا في المبادئ الموجهة!؟. أليس من الممكن، بل من المفيد، أن تكون هناك طرق متعددة لتحقيق الهدف الإنساني المجمع عليه.
أما إذا نظر المرء في التكافل الاجتماعي فإنه يجد له مؤسسات قبل أن يعرفها الغرب بقرون تزيد عن ثمانية قرون؛ من رعاية للضعفاء والمرضى الزمني ورعاية الحيوان، وكفالة طلبة العلم والقائمين على المساجد. وحسبك ما صوره آدم متز في كتابه عن الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري ففيه غناء.
وأخيراً إن توظيف الباعث الديني ضرورة إلى إدراك تحقيق تلك الغايات. لأن كل عمل يقوم به الفرد المسلم يقدمه تديناً وحسبة، وأجره عند الله مضاعف. كما أن الحث على الانفاق سمة بارزة في كثير من آيات الكتاب المبين وأحاديث السنة المطهرة، وما الزكاة إلا مثال يحتذى مع أنها أقل ما يجب في المال.. وهناك وجوه إنفاق مأجورة ربانياً كثيرة.
وخلاصة القول إن توظيف الدين في تحقيق الأهداف الإنسانية وتنمية المجتمع، فكرياً واقتصادياً واجتماعياً وتربوياً يعبد الطريق إلى وضع إستراتيجية لمنظمات المجتمع المدني منسجمة مع المجتمع ويعطيها قوة روحيه دافعة للإنجاز في ميادين كثيرة لا تنحصر في المجال السياسي وحده.
المراجع العربية
1. إبراهيم ، سعد الدين ( مشرف عام ) ؛ دور وسائل الإعلام العربية في
دعم ثقافة المجتمع المدني , سلسلة حلقات نقاشية , القاهرة ,
مركز ابن خلدون , دار الأمين , 1997 م .
2. إهـرنبرغ , جـون ؛ المجتمع المدني التاريخ النقدي للفكرة , ترجمة
علي حاكم صالح و حسن ناظم , بيروت , مركز دراسات
الوحدة العربية , 2008 م .
3. بشارة , عزمي ؛ المجتمع المدني دراسة نقدية , بيروت ـ مركز
دراسات الوحدة العربية , ط2 , 2000 م .
4. الجنحاني , الحبيب و إسماعيل , سيف الدين عبد الفتاح ؛ المجتمع المدني
وأبعاده الفكرية , دمشق , دار الفكر , 2003 م .
5. الخطيب , محمد كامل ؛ المجتمع المدني والعلمنة , الدار البيضاء ,
منشورات تانسيفت , ط2 , 1994 م .
6. سين , كاستوري ؛ المجتمع المدني والحرب على الإرهاب , بيروت ,
مركـز دراسـات الوحـدة العربية , 2010 م .
7. الصبيحي , أحمد شكر ؛ مستقبل المجتمع المدني في الوطن العربي
بيروت , مركز دراسات الوحدة العربية , ط2 , 2008 م .
8. علي , حيدر إبراهيم ؛ المجتمع المدني والتحول الديمقراطي في السودان
, القاهرة , مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية , دار الأمين ,
1996 م .
9. مركز دراسات الوحدة العربية ؛ نظام الوقف والمجتمع المدني في الوطن
العربي : بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية والأمانة العامة للأوقاف بدولة الكويت , بيروت , مركز دراسات الوحدة العربية , 2003 م .
10 . منتدى الفكر العربي ؛ دور المنظمات غير الحكومية في تطوير المجتمع الأهلي : أوروبا والأقطار العربية , الأردن , عمّان , 2000 م .
المراجع الإنجليزية
1- Arab Thought Forum & Bruno Kreisky Forum : The Role of NGOs in the Development of civil Society : Europe and the Arab Countrie : Proceedings of a seminar held by Arab Thought Forum & Bruno Kreisky Forum , Jordan , Amman , 1997 .