التنشئة الاجتماعية وتحوّلاتها الجديدة. التحديات التي تواجه الآباء في عصر الإعلام
د / محمود طربية
إن أية مقاربة لدور الاعلام في ابراز أهمية العملية التربوية للاباء، لا بد ان تلحظ مجموعة من هذه العوامل المتداخلة مع هذا الدور ولاسيما الأسرة، المدرسة والمجتمع. من المعروف أن الاسرة هي الجماعة المرجعية الاولى التي تقوم بعملية التنشئة الاجتماعية، وهذا التغيير الذي يطرأ على الاسرة (حجماً وكيفاً) يؤثر على تربية وتنشئة الاطفال وتوافقهم النفسي
والاجتماعي والعقلي. ولقد طرأ على الاسرة العربية عدد من المتغيرات تمثل بتحول الاسرة من الاسرة الممتدة الى الاسرة النووية (نواة) المتميزة حجمها وكذلك طرأت متغيرات تمثلت في ارتفاع المستوى التعليمي والاقتصادي للأسرة ومشاركة الام في الاعباء الاقتصادية ومشاركتها (الام) أيضاً في عملية إتخاذ القرارات وتربية الابناء. ومن المتغيرات أيضاً ظهور مؤسسات اخرى تشارك في عملية التنشئة الاجتماعية كالمدرسة والحضانة ووسائل الاعلام ومؤسسات الرياضة من نوادي وفرق رياضية وكشفية ودور المؤسسات الدينية وتنامي دور الخدم والمربيات، وتقلص دور الاقارب في التنشئة الاجتماعية (آل مشرف، 2000).وسط هذه المتغيرات تبرز الى العلن وفي دول كثيرة مشكلات يعاني منها الابناء والبنات على حد سواء. ففي مسح أجرته إحدى المؤسسات البريطانية حول أهم المشكلات التي تؤرق الاهل ويعاني منها المراهقون من الجنسين تبين أن هذه المشكلات تبدأ بتعاطي المخدرات والعلاقة مع العائلة والاصدقاء مروراً بظاهرة "الفتوة في المدرسة" الى مشاكل الاكل ومضار السمنة وصولاً الى آفة التدخين. ماذا عن مجتمعاتنا؟ للأسف تبدو الامور متشابهة مع التجارب العالمية وإن بتفاوت أقل. فالعولمة الاقتصادية والثقافية التي أوجدت أنماطاً من التفكير والاستهلاك في العالم. وتعززت تلك الانماط مع انتشار وسائل الاعلام من قنوات فضائية عربية وعالمية تبث برامج لا تراعى العادات والقيم والتقاليد في المجتمعات ودخول شبكة الانترنت مع خدماتها التي جعلت الحدود تتلاشى مع ظهور العالم الرقمي وإنتشار وسائل الاتصالات الحديثة وتطبيقاتها التي جعلت من المراهقين في الدول العربية وغيرها من دول العالم متشابهين في التصرفات والسلوك والعادات. ولعل مرد ذلك التشابه أيضاً الى ان الطفل في شرق آسيا مثلاً يتلقى نفس المادة الاعلامية التي يتلقاها الطفل في البلدان العربية أو افريقيا أو في أميركا اللاتينية. فالاعلانات إن كانت عن المشروبات الغازية، أم المأكولات السريعة، أم الثياب أو مستحضرات التجميل، هي نفسها مع فارق بسيط أنها تبث بلغة البلد أو في معظم الاحيان باللغة الانكليزية.ساهمت الاعلانات والعديد من البرامج الاعلامية الاخرى في إدخال مفاهيم ومصطلحات جديدة الى قاموس التنشئة الاجتماعية في معظم الدول. أما الاعلانات فقد دفعت المجتمعات لكي تصبح بجدارة مجتمعات استهلاكية تسعى – في بعض الاحيان – الى شراء ما ترغب إقتناؤه لا الى ما تحتاج إليه. وأدت هذه الظاهرة الى متغيرات في نمط حياة الاسرة العربية وأنعكس بشكل مباشر وأساسي على دور الاهل في العملية التربوية للابناء. إزاء ذلك، وجد الاهل أن العملية التربوية لم تعد مجرد دورس إرشاد أو تأنيب فقط بل باتت أكثر تعقيداً وتستوجب من الاهل إعادة النظر بكثير من الاساليب التربوية للتعامل مع الجيل المعولم. التنشئة الاجتماعية
التنشئة الاجتماعية هي مجموع العمليات التي تنمو خلالها شخصية الطفل ويكتسب في النهاية الصفة الاجتماعية الانسانية ويصبح بموجبها راشداً يسهم في نشاط المجتمع الذي ينتمي اليه ويعمل بالتالي على تطويره. ويمكن تعريفها أيضاً على انها الاداة أو العملية التي تقوم بنقل التراث الديني والثقافي والاجتماعي للاجيال الجديدة فهي عملية تعلم تعتمد على التفاعل الاجتماعي وتهدف لتشكيل شخصية الطفل بما تتضمنه من معتقدات وقيم وسلوكيات حيث تكسب الطفل ثقافة المجتمع الذي ينتمي إليه و تجعل الطفل واعياً بالقيم والمهارات الاجتماعية من حوله.
يمكن ان تحقق وسائل الاعلام في مجال التنشئة الاجتماعية عدداً من الوظائف التي تتلخص بالاتي:
1- الوظيفة الاعلامية: الاحاطة بموضوعات ومعلومات متنوعة.
2- الوظيفة التثقيفية: جذب الانتباه لموضوعات وسلوكيات مرغوب فيها.
3- الوظيفة الترفيهية: إتاحة الفرصة للترويح والترفيه وقضاء وقت الفراغ.
من خلال نظرة فاحصة لوسائل إعلامنا، نلاحظ ان الوظيفة الترفيهية تطغى على ما عداها من الوظائف الاخرى. فالوظائف التثقيفية والاعلامية التي من المفترض أن تكون هي الاساس في العملية الاعلامية قد تراجعت وتقلصت على حساب التركيز على الترفيه. فنرى مثلاً أن الوظيفة التثقيفية لا تلقى الاهتمام الكافي من وسائل الاعلام وفي بعض الحالات تبدو انماط السلوك (التصرف السليم في الشارع أو المدرسة أو البيت) عبر الاعلام على أنها من المثاليات. أما فيما يتعلق بالوظيفة الاعلامية من حيث تقديم المعلومات فوسائل الاعلام ولا سيما التلفزيون تقدم المعلومات بطريقة سريعة تبعاً لطبيعة الوسيلة. وإذا ما عرفنا أن المشاهد (وخاصة المراهق) يعتبر وسائل الاعلام والانترنت المصدر الاساس للمعلومات والثقافة وبالتالي فقد بدأ ينظر الى التلفزيون مثلاً على أنه المصدر الاوحد للمعرفة هنا تكمن الخطورة لأن بعض المعلومات السريعة تفتقر الى التدقيق والدقة والمصداقية.
ورغم تقدم الوظيفة الترفيهية فإننا نرى ان الامر لم يتوقف عند ترفيه "راقٍ" بل أخذ مستواه ينحدر يوماً بعد يوم حتى بتنا نشاهد ونقرأ ونسمع من المحتوى الاعلامي الذي يثير الاستغراب والاستهجان إن لم نقل أكثر. من يتحمل المسؤولية في هذا الاعلام الذي يتوجه الينا والى الاجيال الجديدة على وجه الخصوص؟ أهي مسؤولية القيمين على المحطات والمؤسسات؟ أهي العقلية التجارية التي باتت تسيطر على معظم المؤسسات الاعلامية؟ أم هي مقولة " الجمهور عاوز كده"؟ وبالتالي فإن الاعلام هو مرأة تعكس ما في المجتمع من تغيير وتبدل وتنقل ذلك
التحديات التي تواجه الآباء
يواجه الاهل وخاصة الاباء في عصر الاعلام تحديات شتى إثناء التعامل مع الابناء بحيث وجد الاباء أنفسهم بين فكي كماشة أو ما يعرف بـ Catch 22 Situation. ويستوجب التعاطي مع هذه التحديات التمعن بمظاهرها والعمل على كيفية مواجهتها. أما أبرز التحديات فهي: 1- أدت التحولات العالمية في ملكية وسائل الاعلام وعولمة وسائل الاعلام والاعلان الى تغيير جذري في حياة الاطفال في العالم وفي المنطقة العربية. فالشخصيات التلفزيونية وأبطال مسلسلات الكرتون التي تظهر على مختلف القنوات باتت القدوة والمثال للجيل الطالع. أما الاعلان فقد حول الاطفال الى مستهلكين مبرمجين لا يدركون ما يستهلكون. فما يتلقاه الطفل من مواد اعلامية واعلانية أصبحت معولمة دونما أي إعتبار للهوية الوطنية لأي بلد.2- تقلص دور الجماعة، كما اشرنا في البداية الى المتغيرات التي طالت الاسرة العربية من حيث تحولها الى أسرة نووية وانتفاء أي دور للجماعة إن كانت العائلة الممتدة أم المؤسسات الاخرى في المجتمع. لقد قامت وسائل الاعلام بملء هذا الفراغ الناتج عن تقلص دور الجماعة في حياة الاسرة. فالتفاعل الاحتماعي آخذ في الانحسار على حساب وسائل الاعلام التي تملأ هذا الفراغ. (بدلاً من الجدة التي كانت تروي القصص لاحفادها باتت المسلسلات وابطالها هي التي تروي القصص).3- قدرة الاعلان والتسويق الموجه للطفل على اختراق شخصيته مع هدف التقليل من سلطة الاباء ومسؤولياتهم. يتلقى الاطفال عشرات الرسائل الاعلامية والاعلانية التي باتت تهدد دور الاباء التربوي. فالاب يجد نفسه في نقاش أو جدال مع طفل مندهش بسحر سلعة معينة لأن الاعلان التلفزيون عرضها بطريقة متقنة. الاب يحاول إقناع الطفل بسلعة أخرى ذات جودة بينما الطفل مصرٌ على ما شاهده على التلفزيون. فالقيمون على تسويق السلع التي تتوجه للاطفال نجحوا في استمالة الطفل للتمرد على السلطة الابوية عندما تصل الامور الى الشراء. أثبتت الدراسات والابحاث على أنه بمقدار يساعد الاباء الاطفال على إتخاذ القرارات الحكيمة إثناء عملية الشراء، بقدر ما تساعدهم على ان يكونوا راشدين متميزين. 4- سعي القيمين على وسائل الاعلام الى توجيه تفكير الاهل باتجاه معين. هذا ما يطلق عليه "عادة الحذف المقصود" Intentional Omission Habitالتي تعني الاكتفاء بما تقدمه وسائل الاعلام وتناسي ما يعرفه الاهل من أفكار مسبقة. على سبيل المثال، كم من الوقت يجب ان يشاهد الاطفال التلفزيون؟ البعض منا قد يقول ساعة أو ساعتين أو أكثر لكن الدراسات تشير الى مشاهدة ترتبط بعمر الطفل.
5- وجود ثقافة ذات توجه صناعي تحيل الانتباه الجماهيري الى موضوع عاطفي وغرائزي وتقلل من قيمة أي محتوى عالٍ المستوى. لقد لعبت برامج التلفزيون وألعاب الكمبيوتر دوراً في إنتباه الطفل من التركيز الى التشتت الذهني. فقد أمست عقول الاطفال أقل تنظيماً وتسعى للأجابات البسيطة بدلاً من المجهود الفكري. فالمسلسلات الكوميدية والدرامية واغاني الفيديو كليب أدخلت مفردات ومصطلحات تخدش الحياء. لقد إنحدر المستوى الترفيهي بشكل كبير خلال السنوات العشر الاخيرة. فما كان يعتبر من التابوهات لسنوات خلت بات اليوم مقبولاً وإن على مضض. في هذا الاطار، تبدو ظاهرة قناة الـ MTV المختصة بالموسيقى وكيف تم استنساخها في العالم والبلاد العربية.
6- ثقافة تدفع الى نظرة للعالم"تشبه الالة" الناس كأدوات quick-fix تتفادى أن لدى البشر من الحاجات الانسانية التي يجب ان تلبى. وتتبنى هذه الثقافة السائدة في بعض المجتمعات أن المشاكل تجد حلولاً بسرعة: فالشخصيات في البرامج الكوميدية تحل المشاكل في نصف ساعة والاعلانات تقدم الحل السريع من خلال وصفة طبية أو مستحضرات تجميل.