التّحديّات التي تواجه الأسرة العربية من واقع تأثير وسائل الإعلام على أفرادها
د/ أحمد محمّد أحمد آدم صافي الدّين(*)
مقدّمة:
تتناول هذه الورقة العلميّة التي تدور حول التّحديات التي تواجه الأسرة العربيّة، تأثير وسائل الاتّصال على أفراد الأسرة. وتركز بالدّرجة الأولى على الطّفل والمرأة باعتبارهما مرتكزاً يشكل نسيج الأسرة في المستقبل. فالأطّفال هم الذين يشكلون عماد أفراد المجتمع في المستقبل، وأمّا المرأة فهي التي تعمل من أجل صناعة هذا الطفل. وتنبني على فكرة عدم اجتماع الضدين في مضامين الرسائل الإعلامية التي تبثها الوسائل.
ففيما يتصل بالتحديات التي تواجه الأسرة المسلمة، ليس في الامكان في موضوع موجز كهذا تغطية تلك التحديات التي تواجه الأسرة المسلمة. وحسبنا في هذه المحاولة أن نشير إلى أهم التحديات دون أن نزعم لأنفسنا الإحاطة بها، أو تقديم الحلول لها كافة، ولكنها محاولة. والواقع أن التحديات التي تواجه الأسرة المسلمة هي تحديات تواجه الفرد المسلم، والمجتمع المسلم، والأمة الإسلامية.
وهنالك تحديات ناتجة عن تخلي المسلمين عن القيام بدورهم القيادي، وحمل الرسالة الخالدة و إتباع النبي الخاتم. إن هذا التخلي موغل في القدم سبق دخول الغزاة إلى البلاد الإسلامية بقرون. إنه بدأ يوم فقد الإسلام لدى المسلمين مفهومه الشامل، و إحاطته الكاملة بكل شؤون الحياة، و نتج عن هذا ما هو معلوم من قرون الجمود والانغلاق والتخلف. فهنالك تحديات داخلية، لا بد من وضعها في الحسبان، بينما هنالك تحديات خارجية.
إنّ واقع المجتمعات العربية والإسلامية اليوم لهو في اشد الحاجة إلى التغيير والتبديل. فهذه الضرورة إلى التغيير فرضتها وقائع الحياة الجارية والماضية قدماً على غير نهج رشيد. فأخلاقيات الناس اليوم في حال من الجذر المستمر، دون المد المتقطع بسبب الغرق في الماديات والشهوات التي ابتلي بها الناس.
ولئن كان التطور التقني في ظاهره نعمة، فان في باطنه العذاب. ومن هنا فان حياة الناس ظلت في تراجع وتقهقر مستمر. وكل يوم تشرق فيه الشمس تزداد فيه الأحوال سوء والنفوس اضطراباً.
أن الأفراد والمجتمعات تعيش هي الأخرى في صراع مستمر . فقد حصدت الحروب الكثير من البشر وما تزال تحصد صباح مساء. ولعل القضية تتصل بقيم الناس، وفساد فطرتهم ونظرتهم إلى من دونهم من غير اعتماد على قيم سماوية عليا تقوم المعوج وتهدي الحيران إلى الطريق السليم.
فالتقنيات التي توصلت إليها عبقرية الإنسان بدلا من أن تسهم في رفاهيته وسعادته شكلت هي الأخرى عامل هدم، وتزيد حياة الناس سوء على سوء. ويعتقد الإنسان أن الحصول على المادة بطريقة مشروعة أو غير مشروعة يحقق له السعادة، ولكن الحقيقة هي أن الحصول على المادة لا يغني عن البحث عن السعادة. وتلك نتيجة توصل إليها الباحثون في مختلف الحقب.
وقد شكلت وسائل الإعلام أدوات تتفاوت أدوارها ما بين الهدم والبناء. فتارة يستخدمها الأعداء في فتّ عضد الأمة، والأمة المسلمة ساهية لاهية لا تدري ما يدبر لها بليل بسبب شق الصف بين بنيها. ويظل الصراع بين تيارات المجتمع العربي والإسلامي من جهة، وبين غيره من التيارات المعادية تشتعل ناره ويزداد أواره يوماً بعد يوم.
ففي خضم الأصوات المنادية بعمل المرأة وتحررها ، فإنّ هنالك أصوات غربية منصفة وعقلانية تشير إلى انه يجب أن تعاد للمرأة وظيفتها الطبيعية التي لا تشتمل على الحمل فقط بل أيضاً على رعاية صغارها (1). فتيار الحضارة قد جنح بالمرأة أينما جنوح. كما أنه يجب أن يكون العلم هدفه سعادة الإنسان المادية والرّوحية (2).
فبين الحين والآخر تنشر هذه الوسائل الغريب والمثير من الأخبار. وهي أحداث ربما كانت نتيجة طبيعية لتلك الجرعات التي جرى تلقيها من أفكار ومعلومات وقيم مكتسبة على المدى البعيد. فمن الأخبار الغربية هنالك فتاة تزوجت من كـلـبها، وهي قصة حقيقية ترفض صاحبتها الزواج من الرجال لتتزوج . كما نشرت وسائل الإعلام خبرا آخر حول كاهنان مثليا الجنس يعقدان قرانهما بأكبر كنسية في لندن. وهنالك جهات عملت وأخرى تعمل على سن تشريعات لزواج الشواذ، علاوة على تعيين الشواذ جنسياً كرهبان. والأمر يتطلب البحث عن الاستقامة، كما يتطلب أطلاق برنامج لمكافحة العري والإباحية التي تروج لها بعض الوسائل.
وتستخدم الورقة المنهج الوصفي في تناول القضية ، وهي ترتكز على سؤال جوهريّ هو: ما السّبل الكفيلة لتجاوز مخاطر وسلبيّات وسائل الاتصال على مجمل أفراد الأسرة العربيّة والمسلمة النّاجمة عن التّدفق الإعلاميّ في ظل العولمة الإعلاميّة؟
وتهدف هذه الورقة إلى تحقيق هدفين: الأول هو محاولة التشخيص لبعض المشكلات والظواهر التي تعاني منها الأسرة بسبب مضامين الرسائل الإعلامية . والثاني هو تقديم رؤية للحل تتسم بالموضوعية والواقعية لتجنيب الأسرة العربية تلك المشكلات التي تواجهها من جراء تعاملها أفرادها مع وسائل الاتصال منطلقة من رؤية محورية مستمدة من التراث الاسلاميّ.
وتناقش الورقة قضيّة اثر الانفتاح الإعلاميّ على نسيج الأسرة في محاولة لإيجاد السّبل الكفيلة لحمايتها من السلبيّات والمخاطر التي تتعرض لها. كما تتعرض لأثر الإعلام الدولي الذي يستهدف كلّ من المرأة والطفل بالدرجة الأولى للسيطرة على الأسرة وتوجيهها.
ولا يخفى على كلّ ذو فطنة، أنّ لوسائل الأعلام اليوم تأثير كبير على قيم الأسرة. والأسرة العربيّة -كما هو معلوم- تعيش في مهب ريح عاتية بسبب التّطورات في مختلف جوانب الحياة. فالانفتاح الإعلاميّ له تأثيره على نسيج العلاقات الأسريّة، والأسرة يتحتم عليها حماية أفرادها من سلبيّات ومخاطر الانفتاح الإعلاميّ، وللعولمة الإعلاميّة أثر كبيرة على أفراد هذه الأسرة: الرّجل والمرأة والطفل وغيرهم.
فمن التحديات التي تواجه الأسرة هي إنّ الإعلام يصور المرأة العربية على أنها مجرد أنثى أكثر من كونها إنساناً، وأنها تهتم ببدنها وبوسائل الإغراء. وتلك هي صورة سلبية تجاه المرأة العربيّة في الدّراما التّلفزيونية ، حيث تستغل المرأة كجاذب إعلانيّ.
والأسرة مطالبة ببذل أقصى الجهد في توجيه أبنائها التّوجيه السّليم في التّعامل مع التّدفق الإعلاميّ المتزايد الهادف إلى مسخ الهويّة، وخلق نوع من التّبعية العمياء للآخرين، في ظلّ صراع الحضارات والثّقافات. وهنالك تيارات متصارعة بعضها يسعى لجر المرأة نحو التّحرّر والانفلات من قيم السّماء، بينما الآخر يمسك بتلابيبها من أن تنطلق نحو آفاق أرحب لتظل في تحجر فكريّ وثقافيّ.
كما لا يخفى أنّ الشّباب والصّغار اليوم على حد سواء، مولعون بالتّعامل مع الشّاشات والشّبكات والألعاب الالكترونيّة، وهي سلاح ذو حدين يتوجب على المجتمع الاستفادة من إيجابيّاتها وتلافي السلبيّات، من خلال ترشيد التّعامل مع هذه الوسائل، وإيجاد البديل. إنّ الألعاب الالكترونية التي تشمل ال(play station) والجي يو سي(guc) وال"بي سي بي وغيرها تغري الطفل أيما إغراء للاستغراق فيما يقدم فيها. وتعد هذه الألعاب الالكترونيّة سلاح ذو حدين، حيث تسهم في عزلة الطّفل عن محيطه الأسريّ والعائليّ ، وتقلّص علاقاته بمن حوله، وتنزع بالطّفل نحو العنف، كما أن لها مخاطر صحيّة على الأطفال تتصل بالجلوس الطّويل إمام الشّاشة، والتعرض للأشعة المنبعثة من الشّاشة وغير ذلك. ومن مخاطرها أيضاً إدمان الألعاب، والإسراف في التّعامل مع الرّمز الذي يشكل دوراً كبيراً في مضامينها.
وهنالك ضرورة لتفعيل ضوابط استخدام هذه الألعاب، وتقديم البديل للأطفال من خلال واقعهم، وبما يتماشى مع القيم السائدة. والأمر يحتاج إلى بعض الحلول التي ينبغي تبنيها منها: تعريب ألعاب الفيديو، وتقديم شخصيّات من البيئة، وتقصير فترة الجلوس أمام الشّاشة، والتّوعية بمضار الألعاب.
وعليه، فان التّحصين هو الحلّ الأمثل، باعتبار أن الرّقابة على الطّفل ربما لن تكون ذات جدوى كبيرة ، إن استطاعت الأسرة ووجدت السّبيل إليها، لمواجهة تيار الغزو الفكريّ ومقاومة موجة التّغريب عبر وسائل الاتصال، حتى لا تتعرض الأسرة لمسخ الهويّة، كخطوة لمسخ هوية الأمّة وتغريبها وضياعها.
إنّ الأطفال وغيرهم من الناس يتفاوتون من حيث قواهم العلميّة والعمليّة، وكلّ مرض يصيب الإنسان من غيره، ويناله من ظاهره قريب شفاؤه، ويسير إزالته، فإذا نبع الذل من النفس، وانبثق من القلب فهو الدّاء الدّوي، والموت الخفي. ومن هنا فان تنشئة الأطفال على القيم والمثل العليا أمر ضروري. فسلوك الإنسان وسيره نحو غاياته يتطلب همَّة تسيِّره وترقِّيه، وعلم يبصِّره ويهديه.
وفي سبيل مناقشة الرؤى التي تناولتها الورقة، فقد جرى تقسيمها الى ثلاثة مباحث أولها حول الأسرة ودورها الاجتماعيّ، والثاني يدور حول: وسائل الاتصال والإعلام وتحديّاتها، بينما يركز الثالث على تشخيص المشكلات وعلاجها، كما تتضمن خاتمة تضمنت ثلاثة مبادئ كرؤية في سبيل إيجاد حلول لتلك التحديات.
المبحث الأوّل-الأسرة ودورها الاجتماعيّ
الأسرة لغة: الدِّرع الحصين، وأهل والرّجل وعشيرته، والجماعة التي يربطها أمر مشترك. والجمع أسر (3). والأسرة اصطلاحاً هي: تلك الوحدة الناتجة من عقد يفيد ملك المتعة مقدراً ، أي يراد به استمتاع كلّ من الزّوجين بالآخر على الوجه المشروع، ويجعل لكلّ منهما حقوقاً وواجبات على الأخر(4).
كما تعرف على أنها المجموعة الصغيرة والمكونة من الزوجين والأبناء، أساس هذه الأسرة الزوجان المكونان من رجل وامرأة، وهما اللذان يقومان بالدور الأساس والفعال في التكوين والتنظيم والرقابة من البداية إلى النهاية(5).
وهي أصغر وحدة في النّظام الاجتماعيّ، ويختلف حجمها باختلاف النّظم الاقتصاديّة. وهي الخليّة الأولى في المجتمع، وأساس تكوينها هو الزّواج الذي هو ضرورة اجتماعيّة.
والأسرة في العرف الإسلاميّ على خلاف تلك المفاهيم السائدة في المجتمعات الغربية التي تبيح زواج المثلين، رجل ورجل، أو امرأة بامرأة، فتلك قضية تأباها الفطرة السليمة، دعك عن القيم الأخلاقية التي تعارف عليها الناس ذات المصدر السماوي. فان الفطر التي تنجست وشاهت بفعل الإنسان هي وراء هذا الزيغ وذلك الفسوق الذي يصيب الإنسان اليوم، ويقوده إلى حياة الضنك والمشقة والمشكلات بلا حصر.
والأسرة في عرف علم الاجتماع هي رابطة اجتماعيّة تتكون من زوج وزوجة وأطفالهما، وتشمل الجدود والأحفاد، وبعض الأقارب على أن يكونوا مشتركين في معيشة واحدة.
وتؤدي الأسرة العديد من الوظائف من ذلك: إنتاج الأطفال وتوفير البيئة الصّالحة لتنشئتهم. وإعداد الأطفال للمشاركة في حياة المجتمع والتّعرف على قيمه وعاداته. ومدهم بالوسائل التي ينتهي لهم بتكوين ذواتهم داخل المجتمع. وتوفير الأمن والاستقرار، والتّربية الخلقيّة والوجدانيّة والدّينيّة في جميع مراحل الطّفولة.
وللرجل وقوامته في الأسرة تأثير كبير على الاستقامة وتحقيق الأسرة كخلية لأهدافها. ولكن واقع اليوم يشير إلى أنّ الرّجل جار يلهث ليل نهار من أجل توفير لقمة العيش لأفراد أسرته، وبالتالي تخلى عن دوره السابق. الرّجولة وصف اتفق العقلاء على مدحه والثناء عليه، ويكفي أن تصف إنسانا بالرجولة، أو أن تنفيها عنه لتبلغ الغاية في الذمّ. ومع أنك ترى العجب من أخلاق الناس وطباعهم، وترى مالا يخطر لك على بال، لكنك لا ترى أبداً من يرضى بأن تنفى عنه الرجولة. ورغم اتفاق جميع الخلق على مكانة الرجولة إلا أن المسافة بين واقع الناس وبين الرجولة ليست مسافة قريبة، فالبون بين الواقع والدعوى شاسع، وواقع الناس يكذب ادعاءهم. وفي عصر الحضارة والمدنية المعاصرة، عصر غزو الفضاء وحرب النجوم، عصر التقنية والاتصال، ارتقى الناس في عالم المادة، لكنهم انحطوا في عالم الأخلاق والقيم، صعدوا إلى الفضاء وأقدامهم في الوحل والحضيض، تطلعوا إلى الإنجاز المادي وهممهم حول شهواتهم وأهوائهم .
وللأسرة مقاصد عديدة رمى الإسلام إلى تحقيقها من خلال البناء الأسري. ومن بين هذه المقاصد:
أ. تنظيم الطاقة الجنسية وتهذيب الميول والغرائز.
ب. التناسل وتحقيق نعمة الذرية.كما في قوله تعالى:"وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء" (6).
ت. حفظ الأنساب، وهو الأساس في التناسل الأسريّ.
ث. سلامة المجتمع من الانحلال الخلقي.
ج. سيادة مكارم الأخلاق.
ح. التدريب على تحمل المسئولية.
خ. تجسيد معاني التكافل الاجتماعي وروح التعاون.
د. تربية الأجيال الجديدة (7).
وقد شهد العصر الحاضر تخلي الأسرة عن دورها جزئيّاً وكلّيّاً في أداء وظائفها، في حين أن أعضاء الأسرة كانوا يقومون بهذا الدّور التّربويّ. فدخول المرأة إلى سوق العمل، ألقى بتبعة وظيفتها على المربيّات والخدم ووسائل الاتّصال والمدرسة والمؤسسات الأخرى كبديل. ومهما يكن من أمر، فإنّ الدّور الأصيل الذي تقوم به الأسرة لا يمكن أن يقوم به هذا البديل(8).
وفي واقع الأمر، فان هنالك الكثير من المهددات التي تواجه الأسرة كلبنة في سبيل بناء المجتمع، في ظل عالم اليوم. والإسلام قد وضع من الضوابط ما هو كفيل بالحفاظ على النسيج الاجتماعي من خلال الأسرة كنواة، ومن بين هذه المهددات:
أ. مجموعة مهددات العلاقة الزّوجية.
ب. مجموعة مهددات الأمومة النسل.
ت. المهددات العالمية للأسرة من خلال المؤتمرات الدولية التي تواجه المرأة المسلمة من منطلقات متباينة منها المنطلق الاجتماعي، المنطلق الاقتصادي، والمنطلق السياسي، ومنطلق إضعاف الدور الحضاري الإسلامي العالمي للمرأة (9).
والأسرة هي الأخرى تواجه العديد من المشكلات في دورها التربوي تتصل هذه المهددات بتربية الطفل جسمياً وعقلياً خلقياً، كما تتصل بالتربية النفسية والاجتماعية، والتربية الجنسية في مرحلة المراهقة . وعليه، فان المنظمات العربية مطالبة بالوعي بأهميّة ايلاء الأسرة لدورها عناية فائقة من اجل تحقيق المقاصد السّامية في هذا المجال وتفويت الفرصة على الأعداء الذين يتربصون الدوائر.
إنّ الحديث عن علاقة الطّفل بوسائل الاتّصال، يتصل بقضيّة تربوية من الدّرجة الأولى. وتستطيع الأسرة الميسورة الحال أن تجلب لأطفالها أفضل المربيّات، ولكنّها تظل عاجزة عن توفير قلب أم رؤوم، ذلك القلب الذي يحتوي على جرعة ضرورية من الحنان. ومن هنا ندرك أن الاعتماد على تربية الطّفل من غير طرفي الاسرة(الأب والأم) له تأثير سالب على تنشئة الطّفل تنشئة سوية، وعلى علاقته بوالديه. فالمربية هي مجرد خادم تعمل نظير أجر تناله، بخلاف الأم التي حباها الله بمزايا.
كما تحتاج الأسرة العربيّة والمسلمة إلى تأطير علاقتها بما حولها، وتشمل ذلك علاقتها بالمجتمع كله، وبالأسر الأخرى، وبالحياة الدنيا بما تنطوي عليه من مشكلات وتحديات تنعكس من خلال وسائل الاعلام والاتصال. والأسرة تحتاج بصورة ماسة إلى استخدام العقل والحكمة والتّوازن في التّعامل الكيس مع الآخر.فالشّر كلّ الشّر في التّضييق والإطلاق.
وممّا يشار إليه فيما يختص بتأثير واقع بعض المجتمعات على أخلاقيات الأسرة، ففي مملكة البحرين أظهرت بعض الإحصائيّات ان70% من القوى العاملة في الوزارات ومؤسسات الدّولة من النّساء، بينما يتعرض الرّجال للبطالة والتي دفعت بهم إلى اللّجوء للخمر والمخدرات (10).
فالسنن تشير إلى إنّ الشّعوب والأمم تمر عبر مسيرتها بمراحل ترتقي فيها نحو العافية وتتدهور وتمرض، بل قد تصل لمرحلة الموت. فالمرحلة الأولى هي الدّوران في فلك الأفكار. والثّانية الّدوران في فلك الأشخاص، والثّالثة هي الدّوران في فلك الأشياء.
ومن بين التحديات التي تواجه الأسرة والتي تستعصي على الحصر بسبب تأثير وسائل الإعلام مشكلة العنوسة بين الشباب من الجنسين. إذ أن وسائل الاعلام تؤدي دوراً سالباً في تناول بعض المشكلات من خلال الدراما والمسلسلات والتمثيليات التي تنقل صورة ذهنية سالبة عن الرجل المقهور، والمرأة المتسلطة، الفتاة التي تترفع عن الزواج اعتماداً على مكانتها ووظيفتها. وعلى الرغم من ذلك فان وسائل الإعلام والاتصال يمكن ان تلعب دوراً كبيراً وايجابياً في التخفيف من وطأة هذه المشكلات التي تواجه المجتمعات، فيما يتم عرضه من مضامين ورسائل.
فمما لا شك فيه، هو إنّ حق المرأة في الأمومة والأنوثة هو حق فطري وأصيل لا نزاع حوله، ولكن هذا الحق تارة يجئ الإفراط فيه وتارة أخرى يتعرض للتفريط. وهو ليس ذلك الحق إلي يدخلها في الرجولة المدعاة، ولاحق السباق إلى ميادين الصراع بينها وبين الرّجل.
إنّ المعنيّين بقضية العنوسة هم الشّباب الذكور والفتيات والأسرة والمجتمع. فللعنوسة آثار بالغة الخطورة في عالم اليوم على الفرد والأسرة والمجتمع. ومن ثمارها المرّة الانحراف وقضاء الشهوة بطرق غير شرعية، الأمر الذي ينتج عنه مضار أخلاقية وصحيّة واجتماعيّة، وحسبنا أن نشير إلى الأعداد الكبيرة من مجهولي الأبوين في الكثير من البلاد العربيّة والإسلاميّة. فحصانة المجتمع والمحافظة على قيمه وأخلاقياته، لا بد من الاستناد إلى قيم وأخلاقيات ومثل عليا تدعمها القيم السماوية.
وقد شكلت العنوسة ظاهرة في البلاد العربيّة حتى وصفت بعض البلاد العربية بانها بلد التسع ملايين عانس منذ سنوات عدة، ولهذه القضية أسباب ودوافع ساهمت في تفاقمها، فظلت أرقام العوانس تزداد عاماً بعد عام. وتلعب المفاهيم المستوردة التي تقف وراءها بعض وسائل الإعلام دوراً كبيراً في هذا الأمر. فالطلب على التعليم العالي على الرغم من كونه مشروعاً، إلا انه احد ابرز أسباب تفاقم الظاهرة وسط الفتيات المتعلمات.
إن وسائل الاتصال والإعلام مطالبة بالوقوف الجاد تجاه هذه الظاهرة في محاولة منها لنشر الوعي بين أفراد المجتمع لا سيما الأمهات والفتيات للحد من هذه الظاهرة. فالقبول بتبسيط الزواج وعدم المغالاة في المهور يضعف من نصيب الفتيات في حق طبيعي ضروري ملح هو الأمومة. ويجب على المجتمع الوفاء بهذا الحق تجاه الفتيات. ومن أهم الحلول: بذر وازع الخير في النفوس وإعلاء القيم الرّوحيّة، تخفيف المهور وعدم المغالاة فيها، تفعيل العمل بالمعايير الشرعية في اختيار الزّوجة والزوج، تعدد الزوجات، عدم تأخر سن الزواج(11).
كما تحرض بعض الوسائل الشباب وتغريهم على أن قضية الزواج قضية ثانوية، لا ضرورية، وتلك خدعة كبرى تتعارض مع فطرة الإنسان السوي، كما تعرض معتنقيها للانحراف في المستقبل. فالغرض من هذه الأفكار الهدامة هو جر الأسرة العربية الى تلك المستنقعات التي وحلت فيها المجتمعات الغربية.
وعلى الرغم من دور وسائل الإعلام في انتشار المفاهيم التي تقود بالفتيات إلى تأخر سن الزواج وبالتالي تعرضهن للعنوسة كمشكلة في الأسرة، فان الوسائل لها إسهامات في إيجاد بعض الحلول من خلال ما يسمى ب"وسيط الخير".
ومن بين تلك التحديات، شواغل الحياة الكثيرة لمختلف أفراد الأسرة.إن هذه الشواغل الحياتية المعاصرة قد أثرت على غياب الأم والأب وبقية أفراد الأسرة، الأمر الذي يؤثر على تربية الأبناء من جهة، ومن جهة أخرى فان وسائل الإعلام والاتصال أضحت البديل الذي يلجأ إليه الأطفال في ظل الرّعاية الضعيفة والاعتماد على دور الحضانات ودور الرّياض. فالمؤسسات البديل التي يعتمد عليها في تنشئة الأطفال لن تؤدي تلك الوظائف التي تؤديها الأسرة، فلا يقوم بديل مقام أصيل.
ففي دراسة عن اثر نوبات العمل الطويلة على العلاقات الأسرية وعلى استقرارها بولاية الخرطوم(12)، توصلت النتائج إلى انه بعد خروج الزوجة ومن قبلها الزوج للعمل للمشاركة في ميزانية الأسرة، أصبحت للام كلمة مسموعة واستقلت نسبياً في الوقت الذي كانت فيه تعتمد على زوجها. وبذلك قد ضعفت القوامة للرجل على المرأة الأمر الذي أحدث موازين قوى جديدة في الأسرة. وإن كان ذلك في واقع الحياة فا ن الوسائل قد صورت الأمر على نحو فيه الكثير من المبالغة لتدفع المرأة التي سلوك غير مرغوب فيه.
وكانت الدراسة قد بنيت على مقاييس هي: السّعادة الزوجيّة، التّفاعل بين الزوجين، عدم التّوافق بين الزّوجين،المشكلات العامة، المشكلات الجنسيّة، مشكلات الأطفال، والطلاق.
وكانت من نتائج الدراسية: أن المستوى الأخلاقي عند الذكور والإناث ينمو بشكل طيب عند وجود الأب المستمر بالمنزل، ويتدهور عند غياب الأب الذي يعد ذو سلطة مؤثرة في رعاية الأبناء.
كما بينت الدراسة أن سلوك الأطفال المنحرفين يتحسن كثيراً في حضرة الآباء ووجودهم في المنزل. وأن العمل في المصانع قد اضعف تماسك الأسرة على خلاف العمل الزراعي. وأن نوبات العمل الطويلة لها آثار سالبة على حياة الأسرة فيما يختص بالمشاكل التي يواجهها الأطفال بنسب 64% لأطفال المدنيين، و67% لأطفال العسكريين (13).
ومن بين تلك التحديات تواجهها الأسرة بسبب تأثير وسائل والإعلام وغيرها انحطاط الهمم وفتورها، وإهدار الوقت الثمين، بسبب الجرعة الترفيهية الزائدة التي تتوفر في بعض وسائل الاتصال لا سيما التلفزيون وشبكة الانترنت.
كما المناهج التّربويّة والتّعليميّة التي توجه للناشئة تواجه ببرامج ومضامين هدامة من قبل وسائل الاتصال والإعلام. وفوق هذا وذاك فان الوسائل قد ساهمت في رفع سقف الطموحات للنسبة لكافة أفراد المجتمع، دون توفر أدنى مقومات لتحقيق تلك الطموحات.
المبحث الثّاني- وسائل الاتصال والإعلام وتحديّاتها
إنّ السّؤال الرّئيس هو، هل تسهم التّقنيّات عامة وتلك التي تستخدمها وسائل الاتصال والإعلام في حلول مشكلات المجتمعات اليوم أم تزيدها تعقيداً؟
من الواضح، أن الأفراد والأسر ينساقون وراء التعرض لبعض برامج وسائل الاتّصال، رغم أضرارها بقيم وأخلاق الأسرة. ليس هذا فحسب، بل يستخدم الإنسان الكثير من التّقنيّات التي تضر بصحته البدنيّة والنّفسيّة، على الرغم من علمه بأنّها تتسبب في كثير من الأمراض الخطرة مثل السّرطان وغيره.
إن قضية تأثير وسائل الإعلام ترتبط دون أدنى ريب بعناصر العلمية وأركانها. كما أنها وثيقة الصلة بما ينطوي عليه المجتمع من قيم ومثل .إن التكوين العلميّ والمهنيّ للقائم بالاتصال لهو أمر يحتاج إلى نظر. فالحقيقة تبدو واضحة وضوح الشّمس في رابعة النّهار، عند النّظر إلى التّأهيل الأكاديميّ في كلّيّات الإعلام التي تقدم للمجتمع نُخبة من الخريجين يقوم على جهودهم العمل الإعلاميّ في المؤسسات. فالتّأهيل في كلّيّات الإعلام يعتمد على نظريّة مستمدة من التّراث الغربيّ. وتعتمد مناهج الإعلام في الجامعات السّودانيّة وغيرها على الفّكر الغربيّ (14). وإزاء هذا الواقع فهنالك ضرورة لإعادة النّظر في المنطلقات الفلسفيّة التي تحكم أداء وسائل الاتّصال والإعلام. فهذه الوسائل في حاجة إلى مراجعة المرجعيّة الفّكريّة، والمسئوليّة الاجتماعيّة (15). ومن اجل إصلاح الحال لا بد من العودة إلى الجذور والتّراث كمنطلق فلسفيّ.
وأمّا الأداء الإعلاميّ المهنيّ فهو الآخر يشكل عقبة كؤود في سبيل تحقيق الأسرة لوظائفها المشار من خلال الانفلات الإعلاميّ النّاتج عن التّيارات المتصارعة في مختلف المجتمعات العربيّة والمسلمة.
وإن كان ذلك كذلك، فان هنالك ضرب من ضروب التّضليل الذي يمارس في الأداء الإعلاميّ، ويحتاج الأمر إلى منهج لتقويم هذا الاعوجاج في أداء وسائل الاتصال. فالتّضليل الإعلاميّ في مفهومه هو عرض جزء من الحقيقة أو البناء الخاطئ على حقائق واضحة وثابتة وموثقة وذلك للوصول إلى تحقيق الهدف.
ومن جهة أخرى فان هنالك سطوة ونفوذ للتّقنيّات الإعلاميّة على أفراد الأسرة. فهنالك العديد من ضروب الهيمنة التي تمارسها وسائل الإعلام على أفراد الأسرة من خلال الإعلان والتَّرويج للسلع، والمتاجرة بالعروض، وتهميش كرامة المرأة . كما أن هنالك تأثيرات سّالبة لوسائل الإعلام المعتمدة على التّقنية العالية على كينونة الأنوثة. (16)
ولعل هذه السيطرة قد افرزت مفاهيم ضارة . فمفهوم البطولة النّاشئ عن تعامل الطّفل مع برامج وسائل الإعلام المختلفة في مجال الرّياضة، يسهم في تحقيق نوع من الخداع في المثل الأعلى لهؤلاء الصغار. فالرّسوم المتحركة في الفضائيّات –على سبيل المثال- سرقت وقت الطفل، وتسهم في تشويه القدوة الحسنة. ان طفلتي التي لما تتجاوز العامين والنّصف بعد تطالبني بان اشتري لها حذاء مثل حذاء (فُلّة) او حذاء (قنبلة)، متأثرة في ذلك ببرامج (spacetoon). كما أن أطفال الشّوارع يرددون من غير وعي أغاني الأفلام الهنديّة. ومع ذلك فان هنالك ادوار إيجابيّة لهذه الوسائل ، تتمثل في النّطق الصّحيح، وتركيب الجملة العربيّة لدى الأطفال، صغار السن.
ومن جهة اخرى، يشير تقرير مؤسسة الفّكر العربيّ إلى أن القنوات الفضائيّة العربيّة غير المشفرة بلغ عددها483 قناة . وإنّ إجمالي الكتب في العالم العربيّ عام 2007م بلغت 27,809 كتاباً. وأنّ الصّحف اليومية في الدّول العربيّة عام 2006م بلغت 267 والاسبوعية 507 صحيفة. وارتفع عدد مشتركي الانترنت من 700 ألف عام 1998 إلى مليون ونصف عام 1999م بزيادة 104%. إن كل هذه الوسائل ترسل مضامين إعلامية، ولكن على الرّغم من ذلك، فان الدّراسات تشير إلى وجود فجوة رقميّة قياساً إلى دون العالم. وان هذا الكم من الوسائل عاجز عن رفع الوعي الأسريّ والاجتماعيّ، والارتقاء بمستوى الثّقافة عند أفراد الأسرة بالقدر الذي يمكن المجتمع من الرّقي نحو واقع أفضل.