صناعة البيئة الثقافية للخوف
د. فؤاد ابراهيم
ما هي ثقافة الخوف، وكيف غدت موضوع بحث من لدن طيف واسع من علماء الانثروبولوجيا والسيسيولوجيا والسياسة؟ باختصار، إننا نقع في خضم ظاهرة ملتهبة ترتطم بمجمل حركتنا وانشغالاتنا الذهنية والنفسية. ولا يمكن أن نفسّر هذه الظاهرة مالم نعتقد جزماً بوجودها، ولكي نمتلك فكرة عامة عنها لابد من تعريف مكوّناتها. إن أول سؤال يدهمنا هو كيف يتحول الخوف الى ثقافة؟
الثقافة، بحسب تعريف ادوار برينت تيلور عام 1871 في كتابه (الثقافة البدائية)، هي (مجموعة معقّدة تشمل المفاهيم والمعارف والمعتقدات والفنون والقوانين والاخلاق والاعراف وجميع القدرات الاخرى والعادات التي يكتسبها الانسان بوصفه عضواً في المجتمع) . فالثقافة بحسب فرويد ذات طبيعة شمولية، وأنها تنصب في الانسان بكامله . وعليه فليس هناك ثقافة فردية يمكن إنتاجها خارج فضاء المجتمع، فالانسان هو "حيوان اجتماعي" بحسب ارسطو.
أما الخوف فهو أداة يستشعر الفرد عبرها بالمعاناة في القلب، ويستدمجها في نفسه، ويستوعبها. إنه قناة الطاقة التي تأخذ المعاناة عبرها طريقها الى القلب البشري. يبقى، أن تأثيرها لايشبه السهم ولكنها متراكمة في الخاصيّة، فهي لا تتم لمرة أو دفعة واحدة ولكنها تتكشف بصورة ثابتة، كما يذهب الى ذلك ثيودور أدورنو.
ثقافة الخوف، مصطلح مقترح في العديد من الطروحات السيسيولوجية التي تجادل بأن مشاعر الخوف والقلق تهيمن في الخطاب والعلاقات العامة المعاصرة، وتتغير بحسب علاقة أحدهما بالآخر كأفراد وكهيئات ديمقراطية. وبالرغم من أن كل هذه الطروحات قد تقدّم حسابات مختلتفة لمصادر وتداعيات الاتجاه الذي يرومون التوسل به لوصف هذه الحالة، فإن جميع هذه الطروحات تتقاسم المطلب الجوهري وهو أن ثقافة الخوف هي الى حد ما ظاهرة جديدة بدلالات شديدة الاهمية والخطورة.
لقد أصبج الخوف كحالة عاطفية وأونتولوجية غريزية رفيقاً حاضراً بسطوة في حياتنا اليومية. وكما يقول الشاعر نزار قباني:
ليس جديداً خوفنا
فالخوف كان دائماً صديقنا
من يوم كنا نطفة
فى داخل الأرحام
لقد باتت الكرة الارضية كوكب الخوف الملتهب بظواهر مثيرة للفزع، بعد أن أخذت أشكالاً إجتماعية وسياسية معقدة تتمظهر في مجتمع المخدرات ومجتمع المباحث والمخابرات ومجتمع لوردات الحرب وباعة أسلحة الدمار الشامل.
يحدد هيدغر السمة الخاصة للخوف في (تحديد ما يخاف أمامه وما يخاف من أجله)، الإنسان الخائف والقلق يجد نفسه (مكبّلاً) بما يشعر بنفسه فيه وفي مسماه لينقذ نفسه أمام هذا ـ أمام (هذا) الشيء المتعين، لا يشعر بالأمان أمام ماهو (آخر) أي إجمالاً يفقد صوابه .
هذا التصور للخوف، وهو موضوع دراسات علمية، نجده أحياناً مبهماً في منشأه وأصل وجوده، فليست مصادر الخوف واقعية أحياناً، وبحسب باري جلاسنر في (ثقافة الخوف) إننا نخاف من أشياء هي في الغالب غير ضارة، ولكن خطورة الخوف تكمن في ما ينجبه من تصورات متشائمة تمسك بخناق مواقفنا، بما تجعلنا في حالة عجز تام عن حل مشكلاتنا ..
خصائص ثقافة الخوف
1ـ أنها ذات صفة جماعية، لا يقصد بها فرد ولا جماعة دون غيرها، بل هي الثقافة المتفشية في كل قلب ينبض وكل ذي روح. فثقافة الخوف أخذت معنى جماعياً ولم تعد ذات طابع إفرادي كما كانت النظرة الى مفهوم الثقافة حتى نهاية القرن الثامن عشر.
لم يعد الخوف مجرد إحساس فردي مستقل يضطرم غريزياً لمواجهة أخطار مباشرة تتربص بالوجود البيولوجي للفرد، بل بات مندكاً في نسيج الوعي الجماعي للبشر، وتتجلى تمظهراته في أنماط العلاقة السائدة، ولغة التخاطب اليومية، ومنهجية التعامل بين مكوّنات المجتمع. فهنا تضمحل كينونة الفرد لتنصهر في الكيان المجتمعي الكبير الذي يقع تحت وطأة ماكينة ثقافة الخوف بطريقة جبروتية. يتعرض الافراد، خلال عمل الماكينة، لمسخ شامل للهوية، والتفكير، والمشاعر والقيم الانسانية، ليكون الخوف وحده قبطان السفينة، والموت حارساً عليها، والمجتمع مجرد كتلة بشرية مخطوفة على متنها.
فالفرد يعاد صياغته من خلال دمجه في المجتمع الخاضع تحت تأثير إشعاعات ثقافة الخوف، فلا يعود فرداً سوّياً مستقلاً بل هو جزء من مسخ جماعي، يكتسب خصائص المجتمع الممسوخ، يفكر كل فرد فيه كما يلبس وينطق ويهجس بطريقة واحدة، إنها أوركسترا الخوف التي تعزف لحناً موحداً لخدمة القائد الملهم.
في السياسة، يتولّد تواطىء عفوي بين المجتمع والسلطة السياسية على ممليات ثقافة الخوف، والتي تؤول مفضياتها الى تركين أسس الاستبداد بكافة أشكاله المفزعة. ثقافة تتفشى في البيت والشارع ورياض الاطفال والمدارس والجامعات والجوامع والمؤسسات التجارية والاعلامية والأندية وشبكات النخب الفكرية والصفوة الاجتماعية وصولاً الى القيادة السياسية. فمطلوب من الجميع أن يمتثل لعبادة الخوف على طريقته طالما أن العبادة ستكون خالصة لوجه السلطان، تحقيقاً لمقولة الناس على دين ملوكها.
وكما يقول نزار:
هذا له زاوية يومية..
هذا له عمود..
والفارق الوحيد فيما بينهم..
طريقة الركوع..
والسجود..
2ـ أنها طغيانية، يراد منها تحقيق درجة اكتساحية قصوى في التغلغل والتداول اللحظي بحيث تستحوذ بصورة دائمة ومتصلة على مجمل الانشغال الذهني والمشهد العام.
يرى جلاسنر بأن نجاح الخوف يعتمد ليس على القدرة في التعبير عنه فحسب، ولكن أيضاً على كيف يعبّر عن الهواجس الثقافية العميقة. ويسوق مثالاً على ذلك بأن الحرب في العالم كانت ناجحة لأنها مدمغة في مخاوف الشعب سابقاً من النازية والحرب العالمية الثانية، وراهنا من الارهاب وبخاصة عقب حوادث الحادي عشر من سبتمبر 2001.
واذا كنا فيما مضى نجهل الكثير عن الكوارث الطبيعية والبشرية بفعل ضعف التواصل، فإن الثراء الاتصالي الذي حققه الانترنت والتلفزيون الفضائي ينقل اليناً معلومات عن دفعات هائلة من الجرائم الفردية والمنظمة وعمليات السطو والكوارث بكافة أشكالها بصورة لحظية.
إن إنتاج الخوف ، عبر قنوات البث الاعلامي، يهيمن على مجمل فروع الصناعة، فقد أصبح الخوف مفتاحاً لتكنولوجيا السلطة. وفي الوقت نفسه، فإن سيرورة انتاج الخوف قد غيّرت مفهومنا للخطر وكذا طريقتنا في التعامل مع الخوف. إن آلة الخوف في حالة إزدهار، فالجيل المتواصل من مصادر ومضامين الخوف قد منحها وضع السيرورة التاريخية، المشفوعة بطلب متحوّل لوسيلة فهم، وسيطرة ومحو للاخطار الجديدة.
يعتقد باري جلانسنر بأن أي تحليل لثقافة الخوف يتجاهل الاعلام الخبري يعتبر ناقصاً. إن تأثير وسائل الاعلام (التلفزيون الفضائي بدرجة أساسية) كونه يجعلنا نشعر بأننا نعيش في عالم خطر للغاية، ويجب علينا حماية أنفسنا (بالسلاح، وتكثيف الرقابة البوليسية والاعتقالات، والتي هي من شأنها إشعار الناس بعدم الامن حين يرون كثافة تواجد رجال الامن والشرطة بزيهم العسكري في الشوارع العامة.
باري جلانسنر يوجّه أصابع الاتهام الى وسائل الاعلام الاميركية في تغذية ثقافة الخوف، والتي تسعى الى استقطاب جمهور المشاهدين والقراء من خلال تقديم أحداث تجمع بين الرعب والاثارة.
يعتقد جلانسنر وهو محق في ذلك بناء على مقولة للرئيس الاميركي ريتشارد نيكون بان البشر ينفعلون بالخوف أكثر من الود، ويعلق قائلاً بأن إثاره الخوف لدى أفراد المجتمع يضمن ولائهم بصورة أسهل بكثير من محاولة العمل على استقطاب تأييد المواطنين. مع اختلافنا في ربط الولاء بالخوف،
وفى بعض الاحيان فان تفشى مشاعر الهلع لدى المواطنين الامريكيين يمنع المؤسسات الحاكمة والمواطنين من قبول فكرة تصحيح اية اخطاء مرتبطة بالمخاوف التى قد لا تستند الى اى اساس، بل ان انتشار الخوف بين الامريكيين ادى الى اجهاض الجهود الرامية الى استصدار قوانين منع انتشار الاسلحة النارية.
وحتى على المستوى الاقتصادي، فإن صناعة الخوف او اختلاقه بات تجارة مربحة للغاية بالنسبة لبعض المؤسسات الاقتصادية أو السياسية، بل إن وجود بعضها مرتبط بإستمرار حالة الهلع، كما هو شأن عقد صفقات الاسلحة الضخمة، واعلان حالة الطوارىء والاحكام العرفية التي تشكل بحد ذاتها بيئة خصبة لثقافة الخوف.
بالنسبة لبعض الجماعات الدينية فإن تفشي ثقافة الخوف يعيد إحياء الافكار المسيائية السكاتولوجية التي تبشر بظهور المهدي المنتظر والمسيح عيسى بن مريم، حيث أن العقيدة الشيعية التقليدية تقوم على أن ظهور المهدي تهدف الى (ملء الارض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً)، كمقدمة لانقشاع ثقافة الخوف، وتبدد سحب الكآبة. في مقابلها هناك جماعات دينية تروّج لثقافة الخوف من خلال الاستعانة ببعض الروايات الدينية المتطرفة التي تقول بأن تفشي الانحراف والظلم والخراب كعلامات لظهور المصلح المهدي عند المسلمين والمسيح عن النصارى، وبعضها قد يميل الى حث الجماعات على الاسهام في المزيد من الاقترافات وارتكاب الرذائل والجريمة من اجل تسريع عملية ظهور المصلح، وتوفير الشروط الاجتماعية لظهوره.
يعتقد جلانسنر بأن ثمة دوراً مشبوهاً تزاول عن عمد وسائل الاعلام الاميركية لاقناع المواطنين بأن الموت يحيق بهم من جميع الاتجاهات بدءاً من ركوب السيارة وحتى تناول الطعام. ولحظ بأن الغرض من تضخيم هذه الحوادث لاستغلالها بطريقة خاطئة، حيث يقع المواطن الاميركي ضحية نظرية المؤامرة.
فقد اظهرت استطلاعات الرأى ان حوالى %75 من الامريكيين يشعرون بمخاوف غامضة لا يعرفون مصدرها، اذ ان كل شئ تقريبا اضحى يمثل لهم باعثا على القلق والارتياب، ويؤكد الامريكيون انهم يعيشون فى ظروف استثنائية عصيبة، بالرغم من الاراء التى تزعم سيطرة الولايات المتحدة على مقدرات العالم، ولكنها مع ذلك تعجز عن توفير الامان لشعبها فى الداخل،
بل ان النخبة الحاكمة تتآمر على الشعب الامريكى فى سبيل تعظيم مصالحها الضيقة، وذلك من خلال العمل على الترويج لثقافة الرعب وقد تجسِّد ذلك فى الاقبال على الروايات التى تتحدث عن عالم الرعب بكل ما ينطوى عليه من مفارقات وغرائب ولذا لم يعد امرا مثيرا للدهشة ان تحقق رواية هارى بوتر باجزائها المتعددة.. اعلى نسبة مبيعات فى الولايات المتحدة بالرغم من انتماء المؤلفة الى بريطانيا، ايضا تشهد الولايات المتحدة اقبالا غير مسبوق على انتاج الافلام التى تجسد مشاهد الرعب والمعارك الهائلة من نوعية افلام يوم الاستقلال وعلى النار وغيرهما من الاعمال التى حصدت ارباحا تقدر بمئات الملايين من الدولارات.
وفيما يبدو كمحاولة هروبية من الواقع بات المجتمع الامريكى يدمن الاحساس بالخوف كتراث عزيز لا يسهل التفريط فيه، لدرجة ان ايا من المصنفات الفنية او العلمية التى لا تتصل بهذه الظاهرة لا يكتب لها الرواج فى الولايات المتحدة، مهما كانت درجة الاتقان والرصانة التى تتميز بها هذه الاعمال.
فالمرء الغني عندنا يجني المال ولا يصرفه وهو متذرع بأن القرش الأبيض هو لليوم الأسود لأن الحياة ليست مستقرة في بلادنا الشرقية كلها فالغني يمكن أن يصبح فقيراً بين ليلة وضحاها
(إن الشيء الوحيد الذي علينا الخوف منه هو ذلك الخوف مما يصنعه الخوف) حسب مقولة منقولة عن الرئيس روزفلت عام 1933. ويشير كيرتشوف وكيرت باك الى أن (الاعتقاد بتهديد ظاهر يجعل من المحتمل شرح وتبرير احساس شخص ما بعدم الارتياح). فالخوف من الخوف يثير فزعاً أشد من الخوف ذاته.
إن التغطية الاعلامية تزيد في عدد الناس المصابين بأعراض تغذي التغطية الاعلامية.. فالخوف يخلق شيئاً ما نخاف منه. الخوف، بحسب باري جلاسنر، يدمّر تفاؤلنا ويجعلنا نعتقد بأننا غير قادرين على حل مشكلاتنا .
وينقل باري جلاسنر عن البروفسور Esther Madriz في كلية هنتر الاميركية بانه أجرى مقابلة مع نساء في مدينة نيويورك حول مخاوفهن من الجريمة فكانوا يرددون عبارة (شاهدت ذلك في الاخبار). ويعلق هنتر على ذلك بأن الاعلام الاخباري لديه مصدر لخوفهم وسبب يجعلهم يعتقدون بأن تلك المخاوف واقعية. وفي سؤال استطلاعي على المستوى الوطني حول السبب الذي يجعل الافراد المشاركين في الاستطلاع بأن البلاد لديها مشكلة جريمة خطيرة، نقل 76 بالمئة منهم قصصاً شاهدوها في وسائل الاعلام، و22 بالمئة فقط رووا تجاربهم الشخصية.
قام البروفسوران Robert Blendon و John Young من جامعة هارفارد بتحليل سبعة وأربعين مسحاً حول استعمال المخدرات أجريت مابين عامي 1978 و1997، اكتشفا بأن اخبار الصحافة أكثر من التجربة الشخصية تزوّد الاميركيين بالمخاوف المسيطرة عليهم. فهناك 8 من أصل عشرة يقولون بأن مشكلة المخدرات لم تسبب مشاكل في عوائلهم، وأن الغالبية العظمى تروي تجربة مباشرة قليلة حول مشاكل ذات علاقة بمشكلة المخدرات. إن القلق المنتشر على نطاق واسع حول مشاكل المخدرات تنبعث حسب الباحثين من المخاوف في الاعلام الخبري وبخاصة التلفزيون. إن البرامج الخبرية المتلفزة تعيش على المخاوف.
أكثر من خمس مائة قصة نشرت في الصحف حول العنف في مواقع العمل خلال 1994 و1995، وكثير منها يتضمن إحصائيات مفزعة للغاية: 2.2 مليون شخص تعرضوا للاعتداء في العمل كل عام، وأن القتل هو السبب الرئيسي للموت في العمل بالنسبة للنساء وهو السبب الثالث بالنسبة للرجال.
نشر احصائيات حول الأمراض وعدد المصابين بها تثير دون ريب حالة هلع وتدخل ضمن صناعة بيئة ثقافية للخوف. في عام 1996 قام كاتب أميركي يدعى بوب جارفيلد باستعراض مقالات حول الامراض الخطيرة المنشورة خلال عام واحد في صحيفة الواشنطن بوست ونيويورك تايمز ويو اس أيه توداي. وتوصل الى أنه بالاضافة الى 59 مليون أميركي مصاباً بأمراض في القلب، هناك 53 مليون مصاب بالصداع النصفي، و25 مليون مصاباً بهشاشة أو ترقق العظام osteoporosis، الى جانب 16 مليون مصاباً بداء السمنة او زيادة الوزن obesity، و3 ملايين مصاباً بالسرطان، وفوق ذلك فإن كثيراً من الاميركيين يعانون من أكثر من مرض معيق المرتبط بالمفاصل (10 ملايين مصاباً) وإصابات في المخ (2 مليون مصاب). حين تجمع تلك التخمينات، يقرر جارفيلد بأن 543 مليون أميركي هم مرضى خطرين، وهو رقم صادم لأمة يبلغ تعداد سكانها 266 مليون. ويعلق على ذلك (إما أن نكون كمجتمع متشائمين أو أن هناك شخصاً ما يرسم صورة مضخمة).
إن القلق إزاء الاخطار الحقيقية، حين يتجاوز حدوده المعقولة يسبب ضرراً فادحاً، كما هو شأن الخوف من بعض الامراض مثل (السرطان، وانفلونزا الطيور، والايدز..). فحين يصدر تقرير طبي يفيد بأن نسبة الاصابة بمرض سرطان الثدي بين النساء في سن الاربعينات تتراوح مابين 1ـ 10 فإن ذلك من شأنه صناعة بيئة هلع من الموت الوشيك لدى النساء في هذا السن وصاعداً.
فنطاق المخاوف الصحية لا حدود له، وأن أرقاماً كهذه بلا شك ترسم صورة سوداوية وتبعث على الهلع. لقد بات الخوف مكوّناً جوهرياً في ثقافة الاستهلاك، فالاخبار المثيرة للفزع تدفع الناس لمشاهدة التلفاز وشراء الصحف، ونلحظ ذلك أيضاً في الاقبال الواسع على أفلام الرعب.. إن الاسواق تستقبل الخائفين من انعدام بعض السلع للتبضع، وتتفشى عدوى الخوف في أوقات الحروب.
في القرن الماضي، كانت الحرب الباردة خاضعة تحت تأثير الخوف من قيامة نووية. فالخوف هو وارث خوف آخر، فالخوف من الحرب النووية المتخّيلة تستعيد وتطوّر وتحتل الخوف من الآثار المدمرة للحرب العالمية الثانية وتحديداً مشهد القاء القنبلتين الذريتين على هيروشيما وناجازاكي في اليابان. والآن يعاد انتاج الخوف في صيغة أشد خطورة وإنتشاراً من خلال الحديث عن تسونامي إرهاب أصولي يشنّه أناس مدججون بأشد الاسلحة فتكاً ويستعلمونها بطريقة سادية وجنونية.
3ـ أنها واحدية المصدر والتوجيه، حيث لا فسحة للتعدد أو التنوع، فوحدها ثقافة الخوف المراد ترسيمها ليكون تداولها مشروعاً، فيما يغدو غيرها إلحاداً وكفراً، وجريمة يعاقب عليها القانون، فهي بهذا المعنى إقتلاعية وإقصائية.
يتقمص أورويل دور صنّاع ثقافة الخوف ليخاطب قراءه بلغتهم (كل شيء في داخلك سيموت، لن تعود قادراً على الحب، والصداقة أو التمتع بالحياة أو الضحك أو التعجب أو الشجاعة أو الاستقامة، إنك ستكون كصَدفة فارغة، سنعصرك حتى تصبح كالجيفة الخالية من كل شيء ثم نملأك بأنفسنا) .
4ـ تعطيلية، بمعنى الارتهان الجماعي لصنّاع ثقافة الخوف ومصادرها، والاستقالة أمام الواقع، والانغماس في الراهن مع تخصيب أفق المجهول وعنصر المفاجأة ومداهمة اللامتوقع.
لقد نبّه جورج أورويل على مكمن خطورة ثقافة الخوف في سياق فحصه لمكوّناتها وأغراضها، حيث حددها بصورة مكثّفة في التفكير المزدوج الذي يفرز ثنائيات متضادة: المعرفة والجهل، الصدق والكذب، الايمان وعدم الايمان، المنطق وضد المنطق، الديمقراطية والاستبداد، الذاكرة والنسيان. هو هذا التفكير المزدوج المطلوب إستعماله بحسب كل حالة، وهو يلخًّص عقيدة الحاكم المستبد في مواطنه: (ان عليك ان تهزم نفسك قبل ان يصبح بامكانك ان تكون سليم العقل) .
إن العقل السليم هنا هو ما يسهب الروائي السوري سعد الله ونوس في تعريته في مسرحية (يوم من زماننا)، حين ينتج العقل مضاداته عبر سلسلة ثنائيات متضادة، حيث يبدو هذا العقل مركزاً للتفكير في الشيء ونقيضه، فهو مع الحرية وضدها، ومع المنطق ونقيضه، فهو عقل مصمم كي يكون مأجوراً دائماً لخدمة أغراض السلطة، وفي الوقت نفسه قادر على تكييف نفسه بصورة تلقائية مع متغيرات الواقع، كي يستعير من محفوظاته المنصوبة من خارجه ما يناسب كل مستجد. بل هو عقل أيضاً قادر بصورة مذهلة على أن يمنطق تحوّلاته من موقف الى نقيضه، بل وأن يسبغ على القيم الفاسدة وشاحاً قدسياً حين يبتكر لكل مفردة قبيحة مقابلها الجميل، فحتى الفساد يصبح مبرراً حين يستبدل عنوانه الى الربح، تماماً كما اسدلت سواتر على قيم عديدة في ثقافتنا اليومية على الاستبداد والحكم الفردي والقمع ومصادرة الحريات وانعدام التعددية الحزبية بإسم الوحدة الوطنية ومقاومة الاستعمار ووحدة القيادة ضد مؤامرات الخارج والعملاء في الداخل. هذا العقل هو الذي أوصل فاروق، أستاذ الرياضيات في رواية (في يوم من زماننا) الى إعلان التمرد على عقله المفصوم والفرار من عذاب تلك الثنائية المعيقة التي تجعل من الولاء للسلطان القيمة النهائية والوحيدة، فقد حسم فاروق قراره لابطال مغنطة ثقافة الخوف واختار الموت بديلاً عن (التعريص مع دولة هذه الايام) . لقد قرر فاروق أن يتحرر من النفاق الخلاّق ونزع قناع الزيف المتعدد بحسب تعدد المواقف.
إن الهزّت الارتدادية العنيفة لثقافة الخوف تتجاوز بالتأكيد حافات المجتمع الواقع ضمن مجال تأثير تلك الثقافة، وتستوعب الدولة بكاملها، فالخوف يسري في أحشاء رجل السلطة بنفس القدر الذي يطال رجل الشارع، فالكل في الخوف سواء، وإن كان الخوف مخلوقاً سلطوياً بإمتياز. ثقافة الخوف هذه ترهن أفراد السلطة والمجتمع الى نوع من العلاقة المهجوسة بكل ما تنذر به من مفاجئات أو ما يختمر في أذهان ضحاياها على كونها كذلك، فالانحباس في اللامرئي والغائب والمستور يهيمن بسطوة على شبكة العلاقات الداخلية بين فئات المجتمع وبينها وبين السلطة. هذه بيئة الخوف التي تفرض أعرافها في مقابل القانون الناظم لكل علاقات سويّة، ومستقرة. وفي مثل هذه البيئة يصبح التراكم الرهابي بالغ الثراء وغزير الانتاجية، حيث الخوف يولد من رحم خوف آخر، لينضاف الى أشكال أخرى من الخوف لتتظافر سوية في صناعة بيئة خصبة لثقافة الخوف، فالخوف في البيت يلتقي بالخوف في الشارع والمدرسة والسوق والمؤسسة والجامع والجامعة وصولاً الى تلبيد الفضاء العام بكل محتوياته بخوف مطبق، لتلتقي في مصب واحد هو تصنيم السلطة المهيمنة صانعة الخوف الأكبر.
فالقابضون على مصادر السلطة سواء كانت إجتماعية أو فكرية أو دينية أو سياسية مفتونون بخنوع الاتباع حد الأسر، فالتلذذ بالسيطرة يغري أولئك بإبقاء سحرهم المطعّم بالفزع على أولئك الذين وقعوا في الأسر، ولا يمكن لغير ثقافة الخوف أن تحول دون بقاء الأسرى في أقفاصهم. إن هذه الثقافة يراد منها أن تكون ميراثاً ينتقل من جيل لآخر، فلا تنعقد رابطة بين إثنين الا كان الخوف ثالثهما. ولذلك، فإن الحرية تصبح هنا ممقوتة لأنها تمزق قيود الاسر، من كل أشكال العبودية. وحسب قول إريك فروم:
فالشخص الذي تغلب على الجشع ولم يعد يتشبث بأي معبود ولا بأي موضوع وبالتالي لا يملك شيئا يجب أن يفقده: إنه غني لأنه مجرد وهو قوي لأنه لم يعد عبداً لرغباته. يستطيع أن يطرح الأصنام والرغبات اللامعقولة والهلوسات لأنه على تلاؤم تام مع الواقع، في داخل نفسه وخارجها. فلو أن شخصاً كهذا الشخص قد بلغ "صحواً" كاملا فلن يعرف بعدها الخوف. ولن تكون بسالته تامة إذا هو اتجه نحو هذا الهدف دون بلوغه. وكل شخص، مع ذلك، يميل نحو هذه الحالة التي يكون فيها هو ذاته على وجه تام، يعلم أن شعوراً من القوة والفرح، في كل خطوة جديدة تُسلك إليها، يستيقظ ولا يدع مجالا لأي شك. ويحسّ بأن مرحلة جديدة من حياته قد بدأت. ويستطيع الشعور بحقيقة أقوال غوته: "لقد بنيت بيتي على لا شيء لذلك فإن العالم بأكمله هو ملكي" .
الحرية هي دون شك مبيد ثقافة الخوف، لأنها تبطل مفعول منظومة الفيروسات المندسة في هذه الثقافة، من قبيل العبودية، والخنوع، والسكون، والانكفاء على الذات، واليأس، ليستعيد الفرد بالحرية إنسانيته بكل قيمها النبيلة وليرسم خطاً جديداً لحياة تقوم على الشعور بالكرامة، والأمل، والحركة، والسباق نحو التقدم على مستوى الفرد والمجتمع، والتنافس بكافة أشكاله، وتمزيق شهادة العبودية التي كتبت في لحظة ميلاده ليعيد كتابة حريته بخط يده. يعلن الفرد تمرده بعد أن أنصت بإهتمام الى رسالة الضمير المدوّية التي أطلقها جورج أورويل: (أيها الإنسان احذر هذا الاستبداد وقاومه بكل ما لديك من قوة قبل فوات الأوان، وإلاّ سيقضي على شخصيتك وإرادتك ويحوّلك إلى أداة غير قادرة علي التفكير) .
ـ العامل الاجتماعي: التنشئة الاجتماعية
نحن نولد بقائمة من النواهر والزواجر
قليلة هي دفعة الحوافز والتشجيع على المغامرة والسباق نحو الرقي
اختلال عميق بين الحوافز والكوابح
تسجّل الباحثة النفسانية سوزان جيفرز في كتابها (Feel The Fear And Do It Anyway) خلاصة تجاربها بأنها لم تصادف في حياتها أن سمعت أمّاً تطلب من طفلها حين يذهب الى المدرسة قائلة له (قم يا حبيبي بالكثير من المغامرات اليوم)، ولكن من المحتمل جداً أن تنقل لطفلها عبارات من قبيل (إنتبه لنفسك حبيبي). وتعلق الباحثة (إن عبارة انتبه لنفسك تحمل في طياتها رسالة مزدوجة: فالعالم هناك خطر للغاية..و..ليس بإمكانك التعامل معه) أو مقاومته. وكما يظهر من هذا المشهد فإن الام تنقل عدم ثقتها في قدرتها على التعامل مع مايصدفها في طريقها الى ابنها.
وبحسب ليفي شتراوس في كتابه (بلدان المدار الحزينة) فإن الانسان هو النتاج الاساس للمجتمع الذي يعيش فيه. وتمثل وجهة النظر هذه تطويراً لنظرية أرسطو الذي كان يرى في الانسان حيواناً إجتماعياً خلق ليعيش في المجتمع . فالضغوط التي يمارسها المجتمع على أفراده هي من نوع سيكولوجي أولاً ثم تتخذ شكلاً ثقافياً، حيث تصبح ثقافة الخوف مشروعة على وقع رهاب المصلحة العليا للمجتمع والصالح العام، أو الاحساس المتفجر بالخطر إزاء شيء ما، قد يبدو أحياناً مجهولاً حتى لصاحبه، ولذلك فإن كافة إمكانات النمو الثقافي والذهني والعاطفي لدى الافراد تتعطل أو تختطف بصورة شبه كاملة لمجرد إخصاب بيئة ثقافية تقوم على افتعال الشعور الجماعي بالتهديد والخطر. فالوراثة الاجماعية، إي إعادة الانسان الى وسطه الاجتماعي وربطه أكثر بما أو بمن يحيط به فرضت نمطاً صارماً من إندكاك الافراد داخل البيئة الثقافية السائدة، أي بيئة الوسط الناجمة عن الولادة، حيث تكون رؤية الاشياء ذات طابع اجتماعي وليس فردياً، بحسب بيير إمانوييل في كتابه (من أجل سياسة ثقافية) .
الخوف يستنسخ خوفاً في عملية تكاثر مفرطة في انتشارها، فقد أريد لنمط التربية في المجتمع أن يكون موحداً لتنشأ أجيال الخوف الخانعة، وهنا تكون التربية بحسب تعريف ماكس فيبر (وسيلة من وسائل الهيمنة الاجتماعية)، فالمجتمع يتكفل بإنتاج الخوف والترويج له عبر نمط تربية موحد وقهري، وهنا تتشوّه عملية التكامل الاجتماعي أو التوافق الاجتماعي كما يلفت اليها دوركهايم، فتصبح الشمائل المطلوب تنشئة الاطفال عليها لادماجهم في المجتمع عادات مروَّضة تحول دون انفصالهم عن النظام الصارم للمجتمع أو الارتطام به.
واذا ما أخذنا تعريف هيرسكوفيتس M.J.Herskovits في التربية بوصفها عملية تطبيع ثقافي أو دمج ثقافي enculturation ، أي تبني الانماط السلوكية في الثقافة المحيطة، بكلمات أخرى تنشد تربية وتطبيع الاطفال على المعايير السائدة في ثقافتهم. وبحسب تعريف ميستشا تيتييف Mischa Titiev فإن الدمج الثقافي يعني (التطبيق الواعي أو غير الواعي الحاصل خلال السيرورة التعليمية حيث يحصل الانسان، طفلاً وراشداً، على كفايته من ثقافته) . أما الصائغ الأول لمصطلح (enculturation) هيرسكوفيتس عام 1948 فيرى بأن الناس الذي يولدون بآليات بيولوجية موروثة يجب عليهم إما التحوّل أو السيطرة في توافق مع طريقة مجتمعهم في الحياة، أو التحول الى أشكال إجتماعية مقبولة للسلوك الثقافي) .
فالتطبيع الثقافي يعني في المنظور الاجتماعي عملية تربوية يتم عبرها نقل القيم والعادات الى جيل بعد جيل، وصولاً الى تحقيق حالة من الانسجام الثقافي المرغوبة لاستقرار النظام والتعايش الخلاّق للمجتمع . وبينما تخلق هذه العملية ـ في تطبيقها الصحيح ـ هوية خاصة بالأبناء تغدو موضع فخرهم وكرامتهم وتمايزهم الحضاري، فإن في مجتمع الخوف تصبح عملية التطبيع الثقافي ذات أغراض مضادة تماماً.
التطبيع الثقافي حين يسري عبر الحقل التعليمي يمظهر نفسه في محتويات وتدابير علم التدريس. فمن خلال المحتوى التعليمي يصبح الفرد أكثر إطلاعاً والماماً بالقيم وعادات مجتمعه، وعبر التدابير يكتشف بأن تقدّمه يقاس من خلال إنجازه في مجال المهارات والنظرات التي تطوّر مظهر وتطلعات مجتمعه. هذا كله يعني، أن قيم مجتمعه هي المقياس لمنجزه وتقدمه وتقديره.
فعدوى الخوف تسري بوتيرة سريعة في كل زوايا المجتمع وتمتد لكي تشمل كافة الفئات، في رد فعل تلقائي غريزي وجودي، تشبه الى حد كبير الحركة المضطربة التي تنتقل الى الحيوانات عندما تتجمع في هيئة جمهور. وبحسب غوستاف لوبون (فصهال حصان في إسطبل ما سرعان ما يعقبه صهال الأحصنة الاخرى في نفس الاسطبل. وأي خوف أو حركة مضطربة ما تصيب الخراف سرعان ما تنتقل الى بقية القطيع) . فالانسان يشبه الحيوان حين يكون في هيئة جمعية، بحيث يميل أفراد المجتمع الى تقمّص الزعماء الذين يمارسون عليه تأثيراً أخّاذاً، حيث لا مجال للمقاومة.
إن ثقافة الخوف تتمظهر في لغة التخاطب اليومية والتي يعبر عنها في الاجابات السالبة (لا أستطيع، غير ممكن، صعبة، بعيد، مستحيل..). هذه الثقافة تستعير من ميراث المجتمع الثقافي والتاريخي الذي إنداثت في وعيه اللاهوتي أفكار قدرية، فسوّغت له الرضوخ والقبول بالهزيمة والانصياع تارة تحت عنوان (القضاء والقدر) وتارة (الجبر) وثالثة (طاعة ولي الأمر) ورابعة (وحدة الجماعة واتقاء الفتنة)، والتي جرى توظيفها لترسيخ الاستبداد والتماهي في المجتمع العضوي الذي يلغي فردانية الفرد، وتغييب العقل لحساب تلقائية القطيع. فمن جبروت النزعة الابوية داخل الاسرة الى المجتمع الأبوي الذي يمارس دوراً سلطوياً طغيانياً على أفراده مكرهاً إياهم على إعتناق ما جبل عليه من أساطير وخرافات وهلوسات تشكّل مجتمعة مكوّنات لثقافة الخوف، التي يتعاطاها الأفراد بملء إختيار وإرادة المجتمع عبر مدمني تلك الثقافة وممثلين عنها كل من موقعه، في عملية تقاسم للأدوار فالأب في أسرته، والمعلّم في مدرسته، والشيخ في جامعه، والمدير في شركته، وصولاً الى (ظل الله في الارض) أي الحاكم في سلطته، لتنداح تلك الابوية في كل أوجه الحياة تقريباً، وحيثما وجدت رابطة مصلحية أو إجتماعية من نوع أو آخر. فإذا ما قلبنا الهرم الأبوي من فوق ـ السلطة الى تحت ـ المجتمع، فستكون النتيجة مفجعة، حيث تنتقل ثقافة الخوف بكميات الهلع والقمع المحشوّة بداخلها الى كل مكوّنات المجتمع وتشكيلاته، لتعود تلك الثقافة تنتج نفسها تلقائياً في عملية ميكانيكية بحيث تكون لغة الخوف بكل متوالياتها لغة التخاطب اليومية والعنصر الحاكم في علاقات فئات المجتمع ببعضها البعض.
لا تتضمن الشهوة في القوة الكامنة للسيطرة في اقتدار المستبد إنما في الضعف النفسي الذي يتمتع به، وهذا العجز يقود إلى ما يطلق عليه ظاهرة "المازوكية" وهي شعور ينتاب المستبد بهم من أفراد المجتمع ويقودهم إلى اللاجدوى والتلذذ بالألم. يرى إريك فروم أن الفرد يكف عن أن يصبح نفسه، إزاء استسلامه لقيم المجتمع السائدة
إنه يصبح كما يريد له الآخرون وكما يتوقعون منه .
وهي ميول بصفتها العامة مرضية، وتعد هذه العلاقة المتبادلة ضرورة لكلا الطرفين، فالمتعة السادية للحاكم تقابله خضوع الأفراد لقوى تحررهم من الخوف، ومن هذا المنطلق تتشكل "ثقافة الخوف" في الأوساط المجتمعية في البلدان المذكورة.
لاشك، أن بيئة كهذه لا فسحة فيها للابداع، لأن الابداع ينمو في فضاء الحرية، أما الخائفون فمشغولون بالتفكير في توفير طرق آمنة لضمان بقائهم على قيد الحياة، وللفرار من الموت، وإن مجتمعاً يكون أفراده على هذا النحو، تموت فيه الكفاءة وتخبو فيه العبقرية، وتنحسر فيه المنافسة نحو التقدم، فيكون مجتمعاً يدمن الخضوع، والقبول بالمقسوم، والاكتفاء بما في اليد، ونبذ التجديد والتغيير لأن كل جديد، من وجهة نظره، ينطوي على خوف من الاسوأ، في تعبير عن اليأس واستحواذ اللحظة على المستقبل.
الروابط الداخلية في مجتمع الخوف تنشأ على قواعد مختلفة بل وغير ثابتة، فليس هناك ما يمكن أن يشكل مرجعية معيارية، بل هي روابط واجفة مرتجفة رهينة وتيرة الخوف المتأرجحة، وللخوف قواعده كالمجاملة المفرطة، والكذب الملبّس زي الحقيقة، أو ما يصطلح عليه هشام شرابي التمويه وإن كان الكذب والتمويه يلتقيان في هدف واحد وهو حجب الحقيقة، مع اختلاف في الاسلوب، ففي الكذب، حسب شرابي، تُنفى الحقيقة وتُستبدل بكذبة، أما في التمويه فالحقيقة لا تنفى، ولا تظهر بشكل كذبة، بل تظهر في زي حقيقة أخرى تدعي أنها الحقيقة الصحيحة، يضاف اليها قواعد أخرى من قبيل إزدواجية الشخصية التي تتمظهر في التضّرع للقوي والتنمّر على الضعيف.
يفتح المولود في مجتمع الخوف عينيه على قوالب تربوية وثقافية جاهزة تغرس في روعه، منذ أيامه الأولى، مفهوم الطاعة والخضوع المطلق لينشأ عليها قبل أن تتفتح زهرة الحرية بداخله، فلا يولد الناس في مجتمع الخوف أحراراً كما ولدتهم أمهاتهم، بل يولدون عبيداً، لا يشعرون بالمساواة مع غيرهم، ولا بالاستقلالية في تفكيرهم، فالأنا الاعلى، أي سلطة المجتمع تنشأ داخل الفرد لتكون السلطة المطلقة التي توجه سلوكه وتفكيره.
إن ثقافة الخوف تنتج يأساً ليس على مستوى الفرد بل وعلى مستوى المجتمع، فيولد الافراد في مجتمع يائس تعطبه مشاعر الضعة والكآبة والضجر وفقدان الأمل. فتيئيس المجتمع يراد منه توفير بيئة لكل المتناسلين منه كي ينشأوا على اليأس السائد، وإمتصاص قيمه، فلا يحيد عن خط اليأس الذي يعيشه المجتمع بالغ ما بلغت قدرته. وبحسب ملاحظة إريك فروم:
ولسوف نلاحظ بأن تنمية الأمل أو اليأس عند الفرد تكون محددة، على مدى واسع، بحضور الأمل أو اليأس في مجتمعه أو في طبقته. وأياً ما كانت الزعزعة التي يتعرض لها أمل الفرد في طفولته، إلا أنه لو عاش في حقبة من الأمل ومن الإيمان لبُعث رجاؤه. وفضلاً عن ذلك فإن الشخص الذي تقوده تجربته إلى الأمل، غالباً ما يكون لديه ميل إلى الاكتئاب وإلى اليأس إذا لم يبق للمجتمع أو للطبقة اللذين ينتمي لأحدهما من أمل .
ثقافة الخوف هي المسؤولة عن توسّل ضحاياها بما يصفه الدكتور مصطفى حجازي بالاساليب الدفاعية التي تعزل الانسان عن محيطه عبر الانكفاء على الذات والفرار أمام التحديات الراهنة والمستقبلية، والنكوص أي الارتداد الى سلوكيات تعود خصائصها الى مراحل عمرية سابقة، أي التصرف ليس على أساس العمر والنضج بل على أساس الموقف والوضع النفسي، هذا النكوص الذي يأخذ أشكالاً عدة مثل: التمسك بالتقاليد، والعودة الى الماضي والامتثال للعرف للسائد كقاعدة للسلوك والمعيار للنظر، والاحتماء بالأمجاد والمآثر الماضية، حيث يتم إعادة بناء صورة الماضي كيما تكون مصدر إلهاء وسلوة في مقابل العجز عن العيش في الحاضر فضلاً عن تغييره، والميل الشديد الى تحميل الآخرين الفشل، أي التنصّل من المسؤولية. ويلفت د. مصطفى حجازي الى العوامل النفسية والذهنية التي تنتاب الإنسان المقهور حيث تسوقه عقده وانفعالاته الى البحث "عن مخطئ يحمله وزر العدوانية المتراكمة داخلياً، ويغدو الاعتداء مشروعاً، لا يشكل عدواناً على قيمة إنسانية، بل على مصدر الشر" . وأخيراً التماهي الذي يأخذ أشكالاً عدة: التماهي بأحكام المتسلط، أي توجيه عدوان المتسلط الى نفسه وليس للمتسلط في عملية جلد للذات والحط من شأنها والاستسلام لشعور الهزيمة في الداخل، والتماهي بعداون المتسلط، حيث تتقمص الضحية دور الجلاد، فتفرغ ما وقع عليها من مظالم على من هم أضعف منها، والأخطر من ذلك هو التماهي بقيم المتسلط وأسلوبه الحياتي، حيث يتم إمتصاص قيم الظالم والرغبة عند الانسان المقهور للعيش في عالم المتسلط واقتفاء سيرته في الحياة والسلوك و التفكير .
لا تسمح ثقافة الخوف بنشوء علاقات سويّة بين أفراد المجتمع، فكل شيء يتعرض للتشوية بل لليبوسة والجفاف والموت، وأن منظومة القيم الانسانية تتمزق على نحو متسلسل، فلا حوار، ولا حب، ولا إبداع، ولا عاطفة، فثقافة الخوف تسوق الجميع نحو الأسر الجماعي لمركز القوة المتحكّمة لتملي عليهم طريقة في التفكير وقيماً للتبني، وصولاً الى الحلول في جوف المستبد ـ المركز، الذي يستنسخ خلاياه السرطانية في بنية المجتمع ليخلقه على صورته.
التباينات الثقافية ذات تأثير خطير على الاقليات التي تشعر بالتهديد والخوف من الضياع وهنا ينشأ خوف العزل والانطواء.
زيادة درجة الخوف يعكس زيادة الاحساس بالخطر، سواء كان هذا الاحساس حقيقياً أم متخيلاً، وتتجلى هنا مشكلة الاقليات، والتي تعاني نوعاً مختلفاً من الخوف، هو الخوف من العزلة (fear of isolation) والذي يعرّف عن طريقين: الاول إجتماعي نفسي حيث تعرّف العزلة بوصفها تجارب جماعية سلبية وغير مرغوبة وتشمل الوحدة، وإنعدام الجماعة، والوحدة، الانحباس، أو الحجر . فالخوف من العزلة هو رد فعل عاطفي على العزلة الموصوفة والتي تشمل هدفاً أو حاجة قوية لتفادي تلك الخبرات السلبية. الثانية، نظريات الاتصالات تعرّف الخوف من العزلة بوصفها قوة طاردة، أي ضغط من المجتمع لتسريع لولب الصمت.
لولب الصمت كطريقة يقترحها Noelle-Neumann تسلِّط الضوء على الاقليات وخوفها من التعبير عن آرائها بصورة علنية، وبالتالي فإنها تميل الى إخفاء نظراتها حين يعتقد أفرادها بأنهم أقلية. والضغط الناشيء هنا على صلة وثيقة بمخاوفهم من كونهم قد يُقَيّموا بصورة سلبية من قبل الآخرين . وهذه النظرية ترى بأن الاعلام الجماهيري يعمل بصورة عفوية مع رأي عام الاغلبية. وبالتالي فإن الافراد الذين يخشون من العزلة إجتماعياً يميلون الى التوافق مع ما يعتقده بأنه رأي الاغلبية. باختصار، فإن الخوف من العزلة يبدو كونه العامل العاطفي الذي قد يوجّه تصرفات الناس باتجاه الحالات المرغوبة في العالم عن طريق تحريك وجهات نظر ومصالح الناس إزاء المؤسسات الاجتماعية وآخرين حولهم من داخلهم.
في عرضه لنظريتي الوعي الزائف (false consciousness) يلفت جيمس سكوت الى لجوء الطبقة الحاكمة الى إقناع الجماعة المقموعة للاعتقاد بصورة فاعلة بالقيم التي تفسّر وتبرر خضوع أفردها. في المقابل، فإن الخوف من العقوبات يملي على الطبقة المقهورة اللجوء الى وسائل في المقاومة خارج الفضاء العام في سبيل إخفاء نواياها الحقيقية درءا لانتقام الظلمة .
تصبح ثقافة الخوف عرضة للزوال حين تبدأ أنوية التمرد بالتكاثر والالتحام مع بعضها لتشكّل تدريجياً بيئة مضادة، كيما تخلق وسيطاً نموذجياً لنشوء المجتمع المضاد الذي ينزع الى الانقلاب على ذاته وواقعه، وليرسي نظاماً جديداً يقوم على إحترام حرية وكرامة الفرد وحقوق المجتمع في بناء مؤسساته المدنية المستقلة.
ـ العامل الديني:
وفق المنطق الديني الشائع (دع الناس يخافون وسيعبدون الله)، فصناعة الخوف جزء جوهري من الثقافة الدينية، ينبىء عنها رواج الكتب ذات الطابع الترويعي والعقابي التي تدور حول الموت وألوان العذاب بدءاً من القبر وانتهاءً بالجحيم. فقد بات جلب الناس للالتزام الديني يتم عبر إغراق الارض والفضاء بكتلة ضخمة من النصوص الدينية المحمّلة بجرعات هلع واسعة الانتشار.
تتأوّل طبقة من الفقهاء والوعّاظ النصوص الدينية والمحرّضة على السمع والطاعة للحاكم، والتخويف من الخروج عليه لاقتران طاعة الحاكم بطاعة الله والرسول وأن الخروج عليه خروج عليهما. تأوي هذه الطبقة سلطة الحاكم عن طريق تسخير وتطويع النص الديني لبسط السيطرة وزرع الهيبة في المحكومين، بما يجعل الدعوة الى إصلاح السلطة انتهاكاً لحكم ديني ومنازعة لأمر الله سبحانه. ندرك ماذا تحمل كلمات (الفتنة) و(الاجماع) و(المفسدة) من شحنة دلالات تكفي لسحق أي دعوة للاصلاح، فالصمت خوفاً من الحاكم الظالم يندرج في الخوف الحميد، أي الخوف من الفتنة، والخوف من الشقاق، والخوف من خرق الاجماع، والخوف من المفاسد. هكذا تصبح السلطة في مأمن لأن هالة الدين تحفّها من كل أطرافها.. تهمة (إثارة الفتنة) تكفي لعزلك إجتماعياً وتهمة (الافساد في الارض) تكفي لتهيئة الغطاء الكهنوتي لتصفيتك جسدياً.
ثقافة الخوف تأخذ شكلاً فارطاً في إنبثاثها وتغلغلها الى حد باتت تشبه الخوف الجذامي الذي يولّد خوفاً آخر، وجاءت النصوص المقدّسة في الكتب القديمة لتسبغ عليه مشروعية، وبهذا يكتسب الخوف مشروعية (ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة). لا ريب أن بعض التفسيرات للنصوص الدينية مسؤولة عن الحظ المفزع الثقيل الملقى على عواتق الخائفين في المجتمع الديني، حيث أن انتشار وهيمنة تلك التفسيرات ساهما في صناعة ثقافة الخوف بطابع ديني.
هذا الخوف ينبغي أن يلفت الى ظاهرة الاسلاموفوبيا ـ الخوف من الاسلام، بعد تصاعد المد الاصولي في نزوعه الارهابي الدموي، وإن ثمة دعوات تسكينية بدأت تنطلق من زعماء دينيين ودعاة من أجل تهدئة تلك المخاوف عبر الدعوة الى (تكاتف مسيحي إسلامي لوقف تيار الخوف من الإسلام) .
إن زيادة جرعة الخوف من التنظيمات الارهابية كونها تمثل وجودات غير متعيّنة، تسهّل لصانعي ثقافة الخوف أن يطلقوا عنان المخيال الشعبي الى أقصى حدوده من أجل إشاعة الفزع الجمعي وتثميره في وضع تشريعات الهيمنة.. في المقابل هناك من يقع ضحية خوف من نوع آخر، وهو الخوف من نقد الاسس الفكرية والايديولوجية للتنظيمات الارهابية، خشية إندراجهم ضمن قائمة التصفيات الجسدية، أو الخوف من الخسارة المعنوية، متمثلة في القاعدة الشعبية العريضة المتعاطفة في بعض الساحات مع الجماعات الارهابية. يشير الكاتب السلفي المتنور محمد علي المحمود الى أن هناك (خوف من مواجهة خطاب الخوف.. هو ـ هنا ـ الإرهاب، أو الوجه الآخر للإرهاب المباشر.. ومن هنا تأتي خطورة المقاربة، وهي خطورة قد لا تكون مادية بقدر ما تكون معنوية، لكنها ـ وإن كانت معنوية ـ أشد عنفاً وشراسة!..) .
صانعو ثقافة الخوف بطابعها الديني يستميتون في خلق مجتمع يتعايش أفراده مع الثقافة السائدة، ويسلكون معاييرهم، ويكررون مقولاتهم ومبادئهم، أي يعيدون إنتاجها يوماً بعد آخر وجيلاً بعد آخر.. ينفر هؤلاء من الخارجين عليهم، كونهم يفسدون عليهم سلطة ونعيماً مقيماً .. يفرض هؤلاء منسوباً محدداً ومتدنياً للوعي، يتطابق مع مقاييس السلطة الدينية وشروطها، فأية تبدلات في المنسوب يعني بداية انحلال للسلطة. فالمثقف يبدو منبوذاً كونه كائناً مختلفاً، لا يتماهى مع مجتمع الخوف، فقد رسم مسافة احترازية منه، وإن كان منتمياً له، ومشتغلاً في ذات الفضاء الثقافي ولكنه ناقدٌ لكل محتوياته، وبخاصة تلك المسؤولة عن (تخويف) المجتمع وخنوعه.
السلطة الدينية تتوسل بالمنشور الثقافي وأدوات النشر والتبليغ لنشر ثقافة الخوف، فإستثمار النص الديني في مناوئة الآخر وتشجيع مبدأ العنف ضده، والانقطاع عن الواقع بزيادة جرعة المحرم (التابو) الهادفة الى ضرب حصار على المجتمع وشل حركته وإبقائه مرهوناً بتعاليم رجل الدين الذي يملي عليه قيم الطاعة والخوف.
إن إتساع فضاء المقدّس هو ما يثري المتخيّل الجمعي ويفرض حظراً فكرياً يحول دون الانشغال الذهني بمكوّنات الفضاء، حيث يكون الخوف حارساً على دائرة المقدّس فتصبح النصوص والتفسيرات والرموز الاجتماعية المرتبطة بالنصوص مركّبات مقدّسة يستحيل التفكير فيها، كونها أدمجت في الفضاء المقدّس المحفوف بإشعاعات الهلع والتي ينذر الاقتراب منها بسوء العاقبة وبئس المصير. إن الخوف المتعاظم بإتساع فضاء المقدس، هو ما يجعل النص صهراً للاجتهاد وكلاهما مجسّدان في الناطق لهما: الفقيه أو عالم الدين. فكل الذين تجاسروا على تخطي العتبات الاولى لمجال المقدّس احترقوا، وكل الذي مزّقوا غلاف التقديس المتمدد نبذوا قصياً. إن الشعور بالخوف هو ما يمنع كثيرين من المساس بالارث المقدس أو الغوص في ثناياه للبحث عن إجابات لمسائل إشكالية غير قابلة للترحيل، أو لم يعد السكوت عنها خياراً مقبولاً، لأن ذلك يعطي زمناً إضافياً لتمدد غلاف المقدّس المحظور الاقتراب منه فضلاً عن التصادم معه .
يتساوى لدى السلطة الدينية مبدئي النقد والنقض، إذ لا فرق بين إستعمال النقد كأدة لتقويم وتحليل النص وبين هدم النص ذاته. والسبب في ذلك إن عملية تحريك النص بأي إتجاه يعني تحريك مواقع السلطة. النقد يلغي احتكارية الحقيقة المطلقة من قبل فئة أو طبقة، وهذا من شأنه أن يلغي امتيازها السلطوي، ولذلك فالنقد يكسر حاجز الخوف الذي صنعته السلطة الدينية.. ثمة عزف متواصل على وتر الثوابت والمقدّسات التي أصبحت موصولة بأسلاك ضغط كهربي عال التوتر، تصعق كل من يغامر بلمسها، عبر ممارسة النقد لتلك الثوابت المزعومة. يفضي تكريس المألوف والسائد والجامد الى تعزيز سلطة السدنة، ولذلك تبدو هناك خصومة تكوينية بين هؤلاء وبين مبدئي التعددية والاجتهاد، اللذين وإن جرى تمجيدهما في العلن فإنهما يمثّلان آليتي هدم والغاء للسلطة الدينية ولدعوى (الحقيقة المطلقة) التي يزعمون الامساك بناصيتها. إذن، هناك خوف من النقد يحول دون تسوّر القلعة الحصينة للسطة الدينية، وصولاً الى تبديد الهالة المقدّسة المحيطة بسدنتها.
ثقافة الخوف المبثوثة في ألياف الوعي المجتمعي أصبحت جارفة على إيقاع الاحكام النهائية المفزعة المطرّزة بألفاظ دينية وأخلاقية كالحرام واللايجوز والارتداد والشرك والضلال، حتى باتت هذه القائمة مشاعة وقابلة للاستعمال المفتوح من كل الطبقات والمستويات العمرية، وتدريجياً يولد مجتمع يمارس الرقابة على فكره والحراسة على موروثه العقدي ووصاية على أعرافه، حيث يتقاسم الجميع مهمة ترعيب مضادة على الخارجين عن خط الموروث والاجماع، والا أصابته نبال الاحكام التحريمية: المروق عن الدين، والشرك بالله، والضلال البعيد، والارتداد عن سنة سيد المرسلين. فالذين يخوضون مبارزة مع منظوماتهم العقدية إما يلجأون الى المنبّه الذاتي أو آليات الدفاع المستورة في داخل المجتمع من أجل مزاولة عملية التطهير الذاتي والاستنابة، أو يتعرضون للنبذ المجتمعي النهائي.
من طرد نصر حامد أبو زيد كان الديني أولاً وثانياً وثالثاً ثم السياسي، وقد وجد في هولندا فضاءً للحرية يسمح له بالافصاح عن مكبوتاته الفكرية، فقد ضاقت أرض الكنانة عليه ورَحُبَت خارجها. وقد تحوّل هذا النبذ الى مواجهة مع الذات، وهو ما دفع به لتصنيف كتابه (دوائر الخوف). فقد سئل عن مدى التداخل بين الهم الذاتي بالهم الجماعي، وكيف تركت محاولة فصله عن زوجته أثرها على مساره الفكري منعكساً في مقاربته لقضية المرأة في (داوائر الخوف). فأجاب ما نصه:(الهم الذاتي كان دائماً موجوداً في ابحاثي، لكنه في هذا الكتاب اصبح مفصحاً عنه في شكل أوضح، وخصوصاً أنه كتاب عن المرأة. الازمة التي تعرضنا لها، زوجتي وأنا، لا تزال تسمّى قضية نصر حامد أبو زيد. حتى القوى الثقافية والوطنية التي تعتبر نفسها تقدمية في مصر، تناولت القضية على أنها قضية رجل تعرض للاضطهاد، مع أ