البيئة والصحة والمرض: مقاربة سوسيو- تاريخية"*"
د. حسني إبراهيم عبد العظيم
عضو هيئة التدريس - قسم علم الاجتماع - كلية الآداب - جامعة بني سويف - ج.م.ع
تتشكل الأرض من مجموعة من الأغلفة, وهي الغلاف الصخري, والغلاف المائي, والغلاف الغازي, ويقع بينهما الغلاف الحيوي حيث تنتشر الكائنات الحية من نبات وحيوان وإنسان على سطح الأرض, وتتراوح الكائنات الحية بين الأجسام بسيطة التركيب وواحدة الخلية إلى أجسام معقدة التكوين, وعلى أساس هذا التصور يمكن أن نعتبر أن الإنسان هو الجزء الواعي من الغلاف الحيوي, كما يمكن على أساس هذا التصور أيضاً أن ندرك أن وجود الإنسان على الأرض جاء متأخراً إذ لا يتعدى المليون سنة الأخيرة من عمر الأرض, إنه عمر قصير إذا ما تمت مقارنته بتاريخ ظهور الكائنات الحية حيث يقدر ظهورها بحوالي (4) بليون عام, أما عمر الأرض فيقدر بحوالي (10) بليون ســنة. (عبد علي الخفاف 2001 : 51).
لقد خلق الله تعالى الأرض بقدر موزون، يقول الله في التنزيل الحكيم: )وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ( سورة الحجر – الأية 19 فكل عناصر البيئة الحية وغير الحية تتفاعل في تناسق دقيق يتيح لها أداء أدوارها بصورة طبيعية لاستمرار الحياة على ظهر الأرض, فهذا التفاعل والتناسق يشكل ما يسميه العلماء «التوازن البيئي» Environmental equilibrium , ومعنى ذلك أن عناصر البيئة تحافظ على وجودها بنسب محددة كما أوجدها الله, حيث تتفاعل هذه العناصر وفق نظام معين يسمى النظام البيئي Eco-system الذي يتشكل من أربعة عناصر:
1- العناصر غير الحية وهي الماء والهواء والتربة والمعادن.
2- العناصر الحية المنتجة وهي الكائنات الحية النباتية التي تصنع غذائها بنفسها من عناصر المجموعة الأولى (غير الحية).
3- مجموعة العناصر الحية المستهلكة, وتتضمن الحيوانات آكلة اللحوم وآكلة العشب والإنسان.
4- مجموعة المحللات أو المفسخات Decomposers وهي العناصر التي تقوم بتحليل المواد العضوية إلى مواد يسهل امتصاصها وتتضمن البكتيريا أو الفطريات.
وإذا حدث أي خلل أو نقص في مكونات أي عنصر من هذه العناصر, فإن هذا يؤثر في درجة التفاعل داخل النظام, ويقال حينئذ إن النظام البيئي بدأ يختل ويضطرب, وهنا يحدث ما يسمى بالتدهور البيئي الذي يصاحبه ظهور المشكلات البيئية التي تهدد الإنسان. (زين الدين عبدالمقصود1981 : 15- 16).
وتنبثق هذه المشكلات من تلوث الهواء والمياه والتربة, انقراض بعض الأنواع النباتية والحيوانية, بالإضافة إلى الضوضاء والصخب, وانتشار المركبات الكيماوية مثل مركب «د.د.ت» «D.D.T» التي تؤثر على النسق البيئي بوجه عام, وكذلك السموم التي تؤثر في الإنسان والحيوان. (Gates 1994 : 588).
إن النظام البيئي إذاً قائم على التوازن الواضح بين مختلف مكوناته, وإذا حدث أي تغير في هذه المكونات, فإن النظام البيئي يختل, وقد أدت أنشطة الإنسان المتعددة – خاصة مع التقدم الصناعي الكبير- إلى حدوث خلل واضح في بنية النظام البيئي ومكوناته المختلفة.
والواقع أن علاقة الإنسان بالبيئة علاقة جدلية معقدة – تاريخياً وجغرافياً- تراوحت بين فترات كان الإنسان فيها ضعيفاً, لا يملك إلا القليل من القدرات الجسمية والعقلية, ومن ثم لم يستطع تطوير أدوات تمكنه من السيطرة على البيئة وإخضاعها لإرادته, وكان ذلك في العصور الموغلة في القدم- في العصر الحجري القديم الأدنى تحديداً- وثمة فترات أخرى شهدت تطور القدرات الإنسانية, وتمكن الإنسان من ابتكار آليات متنوعة للسيطرة على البيئة والتحكم فيها, وقد وصل الإنسان إلى أوج حضارته في العصر الحديث, وتمكن من السيطرة على معظم العناصر البيئية, وأتضح ذلك بجلاء منذ منتصف القرن الماضي, غير أن ذلك صاحبه العديد من المشكلات البيئية التي أثرت على حياة الإنسان على ظهر الأرض.
وتعد العلاقة بين العوامل الإيكولوجية والصحة والمرض إحدى تجليات علاقة الإنسان بالبيئة, ففي الوقت الذي يكون الإنسان فيه ضعيفاً وعاجزاً عن السيطرة على المخاطر البيئية المحيطة به, فإنه يكون عرضة للإصابة بالعديد من الأمراض, وعاجزاً في ذات الوقت عن مقاومتها, وعندما يكون قوياً في مواجهة الطبيعة يستطيع تجنب العديد من الأمراض والمشكلات الصحية. إن نظرة فاحصة على تاريخ المرض الإنساني تكشف عن أن هذا التاريخ هو انعكاس مباشر لطبيعة العلاقة بين الإنسان وبيئته في الفترات التاريخية المختلفة, حيث تؤكد المصادر التاريخية أن نمط الأمراض السائد في كل فترة من فترات التطور الإنساني هو مؤشر واضح على الوضع الحضاري للإنسان في هذه الفترة.
ففي بدايات الوجود الإنساني –في عصور ما قبل التاريخ الحجرية- كان الإنسان يعمل بالصيد والالتقاط, وكان دائم التنقل من مكان إلى آخر في زمر اجتماعية صغيرة, وكانت العلاقات الاجتماعية بين هذه الزمر ضعيفة؛ نظراً لانعدام الاستقرار, كان الإنسان آنذاك على وفاق مع الطبيعة والبيئة المحيطة به, فلم يقم بإفسادها وإخلال توازنها, وكانت الموارد الغذائية متوفرة؛ فلم يعرف الإنسان أمراض سوء التغذية, وكانت الأمراض المزمنة chronic نادرة الحدوث, وتنوعت معدلات الأمراض المعدية Infectious والطفيلية Parasites وفقاً لتعقد النظام البيئي الذي تعيش فيه الجماعة, وقد احتفظ الإنسان في هذه المرحلة بعلاقة وثيقة مع عناصر البيئة المحيطة به من أرض ونبات وحيوان, ولذلك عاش في ظروف صحية ملائمة في ظل التوازن البيئي, وإن كان هذا التوازن غير دائم طوال الوقت, فعندما كان الإنسان ينتهك هذا التوازن, تظهر بعض الأمراض الوبائية التي يصحبها معدلات عالية من الوفيات. (Pederson 1996 : 747).
وتؤكد بعض المصادر التاريخية أن الإنسان قد أصيب ببعض الأمراض المعدية في هذه المرحلة, وخاصة الأمراض «حيوانية المنشأ» Zoonoses الناتجة عن تعامل الإنسان مع الحيوانات البرية قبل استئناسها, وذلك مثل مرض السعار والحمى الصفراء, والبروسيلا, والجمرة الخبيثة, وغيرها, كما ساهمت بعض الكائنات الصغيرة كالناموس والقراد في نقل العديد من الأمراض كالملاريا والتيتانوس وغيرهما, كذلك فإن بعض الأمراض الطفيلية قد بدأت في الظهور مثل مرض النوم Sleeping Sickness الذي ينقل من خلال ذبابة «تسي- تسي» Tsi – Tsi. (Cohen 1989 : 33-34).
وتشير الدراسات الأركيولوجية (الآثارية) إلى أن العديد من الأمراض المعاصرة هي أمراض موغلة في القدم, حيث كشفت حفائر إنسان ما قبل التاريخ أن مرض الدرن Tuberculoses وهو من الأمراض المعدية كان منتشراً في هذه الحقبة, وتؤكد هذه الدراسات أن معظم الكائنات الناقلة للمرض والتي لم يتم اكتشافها إلا حديثاً هي كائنات قديمة جداً. (Damjanov 1994 : 171).
وقد كان اكتشاف النار نقلة عظيمة في تاريخ الإنسان, حيث فتحت أمامه مجالاً واسعاً وعالماً جديداً من المعرفة هو عالم التغير, وذلك لما تحدثه النار من تحولات سريعة في المادة, ويعود اكتشاف الإنسان للنار إلى بداية العصر الحجري القديم الأوسط, أي قبل حوالي مائة ألف عام, ويرى بعض الباحثين أن اكتشاف النار يمثل الثورة الصناعية الأولى في تاريخ الإنسان. (أسامة النور وأبو بكر شلابي, 1995).
والحق أن اكتشاف النار قد أثر بصورة إيجابية في صحة الإنسان, حيث تمكن الإنسان من طهي الطعام بدلاً من تناوله نيئاً, كما استخدم النار في التدفئة, وهو ما أدى إلى وقايته من عدد من الأمراض. كالأنفلونزا التي كانت في بعض الفترات التاريخية تمثل وباءً خطيراً يحصد ملايين الأرواح.
وتمثل معرفة الإنسان للزراعة وقدرته على استئناس الحيوان اللذان حدثاً خلال الألف الثامنة قبل الميلاد خطوة جبارة في التاريخ الإنساني, وقد وصف «جوردون تشايلد» G. Child الانتقال إلى الزراعة بأنها «ثورة العصر الحجري الحديث» في إشارة واضحة لأهمية تلك الخطوة وخطورتها, حيث كانت إيذاناً ببدء أسلوب جديد ومختلف لحياة الإنسان.. والواقع أن «تشايلد» لا يعني بالثورة revolution هنا وقوع تغير عنيف ومفاجئ في حياة الإنسان, فمن غير المتصور –كما يقول المؤرخ العظيم «وول ديورانت» في «قصة الحضارة», أن الإنسان قد قفز من الصيد إلى الزراعة في وثبة واحدة, إن ما كان يقصده «تشايلد» أنه ما إن بدأ الإنسان في ممارسة الزراعة, حتى وقع تغير جذري وانقلاب عميق في أسلوب حياة الإنسان, تغير أدى إلى بدء نشأة الحضارة وتقدمها. (أسامة النور وأبو بكر شلابي, 1995 : 632).
إن تغير نمط الحياة من الجمع والصيد إلى الزراعة أدى إلى حدوث تغير في النظام البيئي, فانتقل الإنسان من نمط الترحال والبداوة Nomadism إلى الاستقرار Sedentism وأدى ذلك إلى تغير في نمط الأمراض السائدة, فقد قلت الأمراض حيوانية المنشأ, وتغيرت الطفيليات الناقلة للمرض, كما ساعد الاستقرار على توفير رعاية أفضل للمرضى, وتقليل مخاطر الوفاة, إلا أن هذا الاستقرار أدى –من ناحية أخرى- إلى وقوع بعض المشكلات الصحية, مثل ظهور الأمراض المتوطنة Endemic نتيجة تكاثر الكائنات الناقلة للمرض في أماكن استقرار الإنسان, وهي البيوت التي شيدها الإنسان للإقامة فيها بصورة دائمة, وتمثلت هذه الكائنات في الحشرات والفئران والبعوض التي تتزايد في أماكن وجود المياه وخاصة الآبار الراكدة. (Cohen 1989 : 38-40).
وبالإضافة إلى ذلك, فقد أسهمت مجموعة من العوامل في تغير نمط الأمراض السائدة في المجتمعات القديمة, من هذه العوامل تطور نمط إنتاج الطعام, استئناس الحيوان, استغلال النباتات الموجودة في البيئة, تغير أسلوب الحياة بسبب الاستقرار, وقد أدى ذلك إلى حدوث تغير جذري في العلاقة بين الإنسان وبيئته, ومن ثم وجدت إيكولوجية جديدة للمرض new ecology of disease, بدت في ظهور العديد من الأمراض المعدية والأخطار البيئية. إن التغير في نمط التغذية, وتراكم الملوثات البشرية في الطعام والمياه قد أدى إلى انتشار العديد من أنواع الطفيليات والفيروسات والبكتريا. (Pederson 1996 : 748).
يتضح إذاً أن ثمة علاقة قوية بين البيئة والصحة والمرض في العصور القديمة, وقد تجلت هذه العلاقة في تباين الأمراض وتنوعها تبعاً لتباين البيئة الطبيعية والثقافية, ومع انقضاء العصور الحجرية, وتأسيس الحضارات الأولى في تاريخ الإنسان, زاد الوعي بأهمية العلاقة بين الإنسان والبيئة, وتمثل الحضارة المصرية القديمة نموذجاً لذلك.
كتب العالم «كاهون» Kahun عن الصحة والمرض في عصر الأهرامات يقول: «كان قدماء المصريين أول من مارس الطب على أسس منطقية ولا تزال آثارهم تدل عليهم, فقد انفردوا بالتحنيط وبرعوا فيه, وتخصصوا في فروع كثيرة من الطب واهتموا بالبيئة الطبيعية وأثرها على صحة الإنسان, توصلوا إلى إيجاد علاقة قوية بين المكان والمرض والمجتمع، وأشار «إدوين سميث» E .Smith إلى أن المصريين القدماء كانوا يعتمدون في تشخيص المرض على البيئة الطبيعية والاجتماعية للمريض (أي مكان إقامته وعلاقاته الاجتماعية), وذلك عن طريق طرح مجموعة من الأسئلة عن العمل, والمستوى الثقافي, والحالة الاقتصادية, ومدى اعتقاد المريض في السحر والخرافة والدين, ومن أهم الأمراض المرتبطة بالبيئة الطبيعية والاجتماعية والتي انتشرت في المجتمع المصري القديم, البلهارسيا (والتي تصيب الفلاحين عادة) والأنكلستوما والأنيميا والروماتيزم, بالإضافة إلى الملاريا والدوسنتاريا والإسهال وأمراض السل الرئوي. (محمد صادق الموسوي 1989 : 26-27).
وقد أوضحت الكتابة الهيروغليفية المصرية القديمة أن الكهنة المصريين كانوا يعرفون الكثير عن الأمراض, وكانت معرفتهم تفوق معرفة أطباء ما بين النهرين (العراق) وعلى الرغم من اعتقادهم في المؤثرات السحرية والروحية في المرض ولجوئهم إلى العناصر السحرية في العلاج, إلا أنهم كانوا يملكون معرفة جيدة عن الأمراض, وكان العديد من آلهة المصريين القدماء مهتمين بالعلاج. (Pederson 1996 : 748).
وثمة خطوة هامة نحو فهم المرض تزامنت مع بدايات المنهج العلمي في فهم الطبيعة, فالدراسة العلمية للعالم الطبيعي والإنساني قادها فلاسفة اليونان, والتي أصبحت فيما بعد الركيزة الأساسية للفكر الغربي, ولقد حاول هؤلاء الفلاسفة أن يوائموا مفهوم المرض مع نسق معتقداتهم الذي كان مرتكزاً على التأمل أكثر من ارتكازه على الأدلة الواقعية, وكان الطبيب «أبوقراط» Hypocrates قد اعتقد في أهمية الطب العلمي القائم على التجريب, وليس القائم على القوى فوق الطبيعية أو الخزعبلات. (Damjanov 1994 : 167).
وقد ذكر «أبوقراط» و«فيلولوس» Philolaus أن من أهم الأمور التي يجب مراعاتها للوقاية من تدهور صحة الإنسان والمجتمع هي معرفة البيئة ودراستها, فإذا كانت غير صالحة فيجب تعديلها, واهتما أيضاً بمعرفة كيفية تعامل الإنسان مع بيئته, وما يكسبه هذا التعامل من خبرات معينة تؤدي في النهاية إلى المرض. (محمد صادق الموسوي 1989 : 27).
والواقع أنه على الرغم من أن البيئة الإغريقية القديمة كانت من أفضل البيئات الطبيعية والبشرية إلا أنها لم تكن تخلو من الأمراض والأوبئة الخاصة بها, وأكثر تلك الأوبئة قسوة على المجتمع الإغريقي هو ذلك الوباء العظيم (مرض الجدري) الذي عم معظم أقاليم اليونان بما في ذلك أثينا, وكان الوباء شديداً وواسعاً, لم يكن له نظير من قبل في أي مكان, حيث عجز الأطباء عن مقاومته, وتعددت وفيات الناس من كل الطبقات, وخاصة الطبقات الفقيرة وساكني الأكواخ, وأحدث الوباء فوضى صحية شاملة في اليونان. (محمد صادق الموسوي 1989 : 28).
وإذا انتقلنا إلى البيئة العربية الصحراوية قبل ظهور الإسلام وبعد ظهوره, نلاحظ أن هذه البيئة قد ساعدت على تأسيس نسق من الطب قائم على الأعشاب والنباتات واستخدامها في علاج بعض أمراض البيئة الصحراوية التي كان يعاني منها السكان كالجدري والحصبة والطاعون والصداع, وكلها أمراض مرتبطة بطبيعة بيئتهم الصـحراوية القاسية. (علي المكاوي 1990 : 75-76).
ومن السمات الواضحة للطب الإسلامي تحرره من مفاهيم السحر وتأثير الجان, وسيادة الجانب الروحي على ممارساته واحتوائه على جوانب شعبية وأخرى علمية. ويذخر العصر الإسلامي بالعديد من العلماء الذين نبغوا في الطب مثل ابن سينا, والكندي, والرازي, والزهراوي, وغيرهم, وقد اهتموا بقضايا اجتماعية وبيئية مثل الظروف الاجتماعية للمريض, وتأثير الموسيقى في العلاج ودور النباتات والأعشاب في الوقاية والعلاج. (نجلاء خليل 2006 : 269).
وفي نهاية العصور الوسطى, ومع حركة الكشوف الجغرافية, واتساع شبكة المواصلات والتجارة, تغيرت أنماط المرض, وظهرت أمراض جديدة, حيث ارتبط انتشار المرض بهجرات الإنسان من مكان لآخر, فعلى سبيل المثل ارتبطت الهجرة الموسمية من أجل العمل في مناجم جنوب إفريقيا بانتشار مجموعة من الأمراض كالدرن والزهري والملاريا والانفلونزا .. كما أن اكتشاف أمريكا في نهاية القرن الخامس عشر قد ساهم في انتشار مجموعة من الأمراض بين الهنود الحمر –سكان أمريكا الأصليين- مثل الحصبة والجدري والنكاف, كذلك فقد انتشر في نفس الفترة مرض الطاعون الأسود. (Cohen 1989 : 51-52).
ومن الملفت للنظر أن المرض قد أحدث تأثيرات حاسمة على المجتمع الإنساني وتنظيماته الاجتماعية خلال القرون الأخيرة, إن نظرة على أعداد الوفيات الناتجة عن الأوبئة الكبرى التي شهدها التاريخ الإنساني يتضح أنها فاقت أعداد الضحايا الذين سقطوا في ميادين القتال, فلقد مات في أوربا في منتصف القرن الرابع عشر (1348-1350) حوالي 25 مليون شخص نتيجة وباء الطاعون وحده, حيث قضى على نصف سكان لندن والبندقية وفلورنسا, ويرى بعض المؤرخين أن إيطاليا قد فقدت في حينها نصف سكانها تقريباً, وفقدت إنجلترا وفرنسا حوالي ثلث سكانها, ويشكل عام تشير المصادر التاريخية إلى أن أوربا قد فقدت حوالي ربع سكانها في ذلك الوقت, وفي عام 1520 توفي حوالي ثلاثة ملايين ونصف المليون من شعب «الأزتيك» Aztecs المكسيكي نتيجة وباء الجدري, وحصد وباء التيفود مليونين ونصف المليون شخص في روسيا في الفترة من 1918-1921, كما توفي حوالي عشرين مليون شخص في مختلف أنحاء العالم نتيجة وباء الإنفلونزا الذي اجتاح الكرة الأرضية في عام 1919, وقدرت ضحايا الوباء في الهند وحدها بحوالي ثمانية ملايين شخص, ونتيجة للأوبئة التي حدثت في أوربا وأمريكا الشمالية خلال القرون الثلاثة الأخيرة, انخفض معدل العمر المتوقع للإنسان حيث تراوح بين 25-30 عاماً في حين أن هذا المعدل قد تراوح بين 70-75 عاماً خلال عام 1970. (عبد علي الخفاف 2001 : 111 وأيضاً Anderson and May 1991 : 1-3).
وأما في العصر الحديث, وبالتحديد منذ بداية القرن العشرين, فقد وقع ما يسمى بالانهيار البيئي العظيم Ecological degradation حيث حدث العديد من الانتهاكات للنظام البيئي, ودمر الإنسان عناصر كثيرة من ذلك النظام.
ففي هذا القرن, ساهمت أنشطة الإنسان –في الدول الصناعية المتقدمة والدول النامية أيضاً- في تدمير النظم البيئية, فملايين الأنواع والمجموعات الحيوية المتميزة مهددة بالضياع, كما اضطرب التنوع والتكامل في الأنساق الطبيعية نتيجة الأشكال المختلفة من التلوث, وتشهد الكرة الأرضية تغيرات سريعة تؤثر في تركيب الأنواع النباتية والحيوانية, حيث تقطع الأشجار بصورة مأساوية, ففي عام 1975 كان 30% من سطح الأرض مغطى بالغابات, تراجعت هذه النسبة إلى 12% عام 1985, وتقدر نسبة تدمير الأشجار بعشرة آلاف شجرة في الدقيقة, كما أن نسبة فقد الكائنات الحية تتراوح بين نوع واحد إلى خمسين نوعاً في اليوم؛ أي نسبة تتراوح بين 365-18250 نوعاً في العام, ويوجد الآن حوالي مائتان وخمسون ألف نوع نباتي, يتوقع أن ينقرض منها حوالي 25% خلال عام 2050. (Anyinam 1995 : 323).
إن ما حدث هو مذبحة بيئية بالغة البشاعة – إن صح هذا التعبير- وعملية إبادة قاسية لعناصر النظام البيئي, ومع الأسف فإن ذلك الأمر ما يزال مستمراً, بل ومتزايداً, وسيترك ذلك – دون شك - تأثيرات خطيرة على الإنسان من كافة النواحي.
وبجانب تلك المذبحة, فإن القوة الضخمة للتكنولوجيا الحديثة قد مارست ضغوطاً قوية على البيئة الطبيعية, حيث حطمت الروابط الأساسية في نسيج العمليات الحيوية التي تحافظ على النسق الإيكولوجي الذي يعيش الإنسان في كنفه, ومع مرور الوقت, أفرز التطبيق العشوائي وغير الواعي لهذه التكنولوجيا عمليات جديدة أثرت بقوة في العالم الطبيعي, إن هذه القدرة على التحكم في البيئة قد سمحت للإنسان بتنمية المحاصيل الزراعية, وتوليد كميات ضخمة من الطاقة الكهربائية, والتوسع في صناعة السيارات والآلات, بين أن ذلك أدى إلى إفراز وتراكم مشكلات بيولوجية خطيرة, حيث تم تدمير رأس المال البيولوجي Biological capital كالماء والهواء والتربة, وبقية عناصر النسق الإيكولوجي التي لا يستطيع الإنسان العيش بدونها. (Bagon 1994 : 480).
فقد أدى التقدم التكنولوجي إلى حدوث تلوث ضخم في الأرض, بحيث أضحت ظاهرة التلوث Pollution من أبرز المشكلات البيئية في النصف الثاني من القرن العشرين, صحيح أن التلوث موجود منذ وجود الإنسان على الأرض, إلا أنه ظل محدوداً ولم يصل إلى حد المشكلة إلا عندما تقدمت الصناعة, وارتقى المستوى التكنولوجي للإنسان, ومن ثم أصبح التلوث مشكلة العصر الملحة والمقلقة. (زين الدين عبدالمقصود 1981 : 99).
لكن التقدم العلمي والتكنولوجي قد حقق من جانب آخر فوائد ضخمة للبشرية فيما يتعلق بمعرفة المرض وكشف أسبابه, فالتقدم في علم الفيزياء واكتشافاته المتعددة أدى إلى تطوير أدوات جديدة للتشخيص, كما أن الفحص الكيميائي لافرازات الجسم وأنسجته وخلاياه وإدراك الدور للذي تلعبه الميكروبات في حدوث المرض أدى إلى وجود معرفة متنامية عنه, وأدى التطور الذي طرأ على بقية العلوم الطبيعية منذ بداية القرن العشرين إلى حدوث تغيرات جذرية في فهم المرض, وحدوث تأثيرات حاسمة في ممارسة الطب, ففي النصف الثاني من القرن العشرين, بدأت الألغاز الأساسية للحياة تتكشف من خلال اكتشاف العناصر الوراثية بما فيها الأحماض النووية Nucleic acids وكان ذلك يعني أنه لأول مرة في التاريخ يمكن تفسير المرض من خلال مفاهيم القوى الكيميائية والفيزيائية التي تحدد كل صور الحياة, وأصبح من المؤكد أن الأمراض –شانها شأن العمليات البيولوجية الأخرى- تتبع القوانين والمبادئ العامة للحياة. (Damjanov 1994 : 168).
يتبين من خلال الإطلالة التاريخية السابقة أن علاقة الإنسان بالبيئة كانت علاقة تبادلية على درجة عالية من الثراء والديناميكية, وأن هذه العلاقة قد اتسمت بالتوتر خلال القرن العشرين, حيث حطم الإنسان العديد من عناصر النسق البيئي من حوله, ولعبت التكنولوجيا دوراً مزدوجاً, فقد أحدثت نقلة هائلة في التشخيص والعلاج من ناحية, كما أنها أسهمت في حدوث التلوث الذي أدى بدوره إلى ظهور العديد من الأمراض من ناحية أخرى, وبالإضافة إلى ذلك فقد شهد القرن العشرون حدوث أمراض عديدة ارتبطت بصورة أو بأخرى بالعوامل الإيكولوجية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"*" هذا المقال جزء من دراسة سابقة للباحث في المصدر التالي:
د.حسني إبراهيم عبد العظيم، الأبعاد الإيكولوجية للمرض:تحليل سوسيولوجي لجدلية العلاقة بين الإنسان والبيئة، مجلة علوم إنسانية، العدد 42، يوليو 2009.