العولمة الثقافية
التاريخ: 4-3-1425 هـ
الموضوع: قضية للنقاش
بقلم: إبراهيم السوداني*
تعتبر العولمة القضية التي كثر الحديث عنها فجأة ليس فقط على المستوى الأكاديمي، وإنما أيضا على مستوى أجهزة الإعلام والرأي العام والتيارات الفكرية والسياسية المختلفة. ولا يمكن الجزم إذا قلنا أن هناك الآن سيلا أشبه بالطوفان في الأدبيات التي تتحدث عن هذا الموضوع. ولم يعد الأمر يقتصر على مساهمات الاقتصاديين وعلماء السياسة أو المهتمين بالشؤون العالمية، بل تعدى الأمر ليشمل مساهمات الاجتماعيين والفلاسفة وإعلاميين والفنانين وعلماء البيئة والطبيعة...الخ.
وباعتبار قضية العولمة لها من الجوانب والزوايا الكثيرة ما يثير اهتمام كل هؤلاء. ووسط هذا الكم الهائل من الكتابات عن العولمة (الموجودة حاليا بالسوق). ويكاد المرء يحتار في كيفية الإلمام بهذا الموضوع أو فهم حقيقته، خاصة وأن كل كاتب عادة ما يركز تحليله عل جانب معين من العولمة، مثل الجانب الاقتصادي أو الاجتماعي أو الإعلامي أو الثقافي ... ولهذا أصبح من الضروري أن نتخصص في الجانب الثقافي لتناول هذه القضية، فما هو إذن مفهوم العولمة؟ وما هي تجلياتها الثقافية؟
مصطلح العولمة
مصطلح العولمة مصطلح جديد ظهر في العالم الغربي في بداية التسعينيات. وقد سبقه حدثان ضخمان أثرا في حركة العلاقات الدولية واتجاهاتها وعى موازين القوى في العالم: الأول هو سقوط المعسكر الشرقي،الذي اتخذ من سقوط جدار برلين شعارا له عام 1989م، كذلك الذي أنهى فترة من الحرب الباردة بين المعسكرين (وارسوا/الأطلسي). تلك الحرب بدأت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وصاحبها حالات من الاستقطاب والمد والجزر في علاقات هذين المعسكرين؛ بحيث وصلت في الجزر إلى التهديد بحرب عالمية ثالثة، (مباشرة أثناء أزمة الصواريخ الكوبية)، وفي المد وصلت إلى الإنفاق على تقسيم مناطق نفوذ في بقاع العالم، وبين ذلك حصلت حروب بالوكالة كما حصل في فيتنام وأفغانستان. وقد أتاحت حالة الحرب الباردة والصراع والتنافس العالمي على مناطق النفوذ وجود هامش من الحرية لما سمي ب(دول عدم الانحياز) مكن ذلك كثيرا من الدول من الاستقلال عن الدولتين الكبيرتين أو إحداهما.
ثم جاء الحدث الآخر الكبير وهو حرب الخليج الثانية في عام1991م؛ وهي حرب شبه عالمية لكن من طرف واحد ودون تكافؤ في القوى. وانتهت هذه الحرب كما -هو معلوم- بانتصار أمريكي غربي أضيف إلى النصر التاريخي على المعسكر الشرقي. هذان الانتصاران أتاحا لأمريكا نوعا من السيادة العالمية.. مستغلة تقدمها التقني والاقتصادي وقوتها العسكرية في تكريس هذه السيادة.فبدأ في هذا الظرف التاريخي ظهور مصطلحات جديدة مثل (العالم الجديد) ومثل (العولمة) وهذا المصطلح الأخير اخذ حظه من الانتشار باعتبار أنه يمثل حركة الهيمنة والسيادة الغربية بأسلوبها الحضاري الجديد، وظهرت أعمال وكتابات كثيرة لدى الغربيين تؤدلج هذه الفكرة مثل فكرة (نهاية التاريخ)، وكذلك فكرة(صراع الحضارات)وإن كانت سابقة لفكرة نهاية التاريخ إلا أنها قد اشتهرت أخيرا.
بعض تعار يف المفكرين للعولمة
يقترح سمير أمين التعريف التالي لصيرورة العولمة بحيث يقول إن العولمة هي:
"الاختراق المتبادل في الاقتصاديات الرأسمالية المتطورة بدرجة أولى، ثم توسيع المبادلات التجارية بين الشمال والجنوب على اعتباره يمثل سوقا مهما".
ويعرض عمرو حمزاوي العولمة على أنها: "تكثيف للتبادل التجاري والثقافي والمعلوماتي بين أقاليم العالم المختلفة، وتصاعدا لمعدلات التأثير المتبادل بين السياقات المحلية". أما فتح الله ولعلو فيقدم تعريفا تقنيا واقتصاديا معتبرا أن العولمة كنظرية تعني: "توسيع الكتلة المالية والكتلة التواصلية، مما يؤدي على إزالة الحواجز بين السواق المالية ... تتجاوز البنيات الدولية والوطنية، وظهور أشكال تنظيمية جديدة في ميدان الإنتاج وأساليب التسويق". ويقدم محمد الأطرش تعريفا مركزا للظاهرة يقول فيه بأن:"العولمة هي اندماج أسواق العالم في حقول التجارة والاستثمارات المباشرة، وانتقال الأموال والقوى العاملة والثقافات والثقاة ضمن إطار رأسمالية السواق الحرة". من جهة أخرى يرى د.عزمي بشارة أنها: "طغيان قوانين التبادل العالمي المفروضة من قبل المراكز الصناعية الكبرى على قوانين وحاجات الاقتصاد المحلي".
2. هل هي نهاية عهد السيادة الثقافية؟
تنتمي السيادة الثقافية إلى كيان الدولة الوطنية وسيادته. وظلت الثقافة الوطنية تستمد سيادتها من ذاتها في سائر الظروف من: تربية الأجيال وتكوين الأطر معبرا عنها في الممارسة من خلال مؤسستي الأسرة والمدرسة.
* الأسرة: هي أول وأهم المصانع الاجتماعية التي تنتج الوجدان الثقافي الوطني بوساطة شبكة القيم التي يبنيها الدين والأخلاق العامة. ويتلقى الطفل في هذه المؤسسة التكوينية لغته ومبادئ عقيدته، والقوالب الأخلاقية الضرورية لسلوكه. وكذلك يتلقى بعض مبادئ الأنا الجمعي.
* المدرسة: وهي مؤسسة الإنتاج الاجتماعي الثانية التي تستأنف عمل الأولى، وتنتقل أهدافها إلى مدى أبعد من حيث البرمجة و التوجيه .
عدم قيام هذه المؤسستين في الوقت الحاضر بالأدوار المنوطة بها و التي تتمثل في إنتاج وعادة إنتاج منظومات القيم الاجتماعية و رصيد الوعي المدني، اللذين يؤسسان البنى التحتية للثقافة الوطنية و للسيادة الثقافية .
إن انهيار السيادة الثقافية ناتج عن تعرض النسيج الثقافي الوطني لتمزيق تضافرت لصنعه الضغوطات الثقافية و القيمة من الخارج، و الإخفاقات الذاتية المتعاقبة التي منيت بها من الداخل- سواء في مؤسسات إنتاج الرموز والقيم، بسبب تكلس بناها و عجزها عن التكيف الايجابي مع التحولات الثقافية الكونية وفي سبيل واقعية هذا الأمر، فقد انهار هذا النظام الثقافي الوطني التقليدي دون أن يكون في وسع المجتمع العربي أن ينتج بديلا منه من داخل البنى الذاتية القائمة.
ثقافة العولمة وأدواتها
العولمة الثقافية تجري وتتوسع، في مناخ من التراجع الحاد للثقافة المكتوبة على صعيد الإنتاج والتداول بالصورة . أوهي الثقافة ما بعد المكتوب، الثقافة التي يؤرخ ميلادها لاحتضار ثقافة الكتاب .
النظام الثقافي الجديد) تقنيات الإنتاج والتوزيع)الصورة هي المادة الثقافية الأساس في ذلك.وتلعب دور الكلمة وهي خطاب مكتمل يستكفي بذاتها .والصورة تستغني عن الحاجة إلى غيرها. وأصبح النظام الثقافي المسيطر هو النظام السمعي البصري في حقبة العولمة الثقافية. وهذا النظام الثقافي الجديد ليس مجرد وسيلة، بل هو طريقة معينة لإدراك العالم والتعبير عنه.
2. في مضمون النظام الثقافي للعولمة
أصبح المصدر الجديد لإنتاج وصناعة القيم والرموز وتشكيل الوعي والوجدان والذوق، تبدو الثقافة على مستوى من الوعي والهزل والفقر والسطحية يثار معه التساؤل المشروع عن مستقبلها الإنساني، بحيث تشبه سائر مواد الاستهلاك.
ومن جانب آخر تبدو الثقافة خارج حدود تعريفها وماهيتها الطبيعيين، ثقافة هجينة لا ترتكز على مبادئ ولا تحمل أي نفع للإنسان، وهي ثقافة لا تقوم صلة بينها وبين النظام الاجتماعي الذي ينتمي إليه الإنسان.
3. العولمة الثقافية في ركاب التجارة الحرة
الثقافة بوصفها منتوجا اجتماعيا، دخلت الآن ميدان العملية الجديدة التجارة الحرة- وباتت قابلة للتداول على أوسع نطاق في العالم. حيث أصبحت الثقافة سلعة، والدول القوية هي التي تسوقها، باعتبارها تملك قدرة ثقافية أكبر مما يفرض القول أن "التبادل" الثقافي العالمي غير متكافئ. ونجد الدول الغنية تروج الاديولوجيات الفكرية الخاصة بها، والسعي إلى فرضها في الواقع من خلال الضغوطات السياسية والإعلامية والاقتصادية والعسكرية، ذلك في مجالات عدة كحقوق الإنسان، والديمقراطية، وحقوق الأقليات، وحرية الرأي.وتستخدم في ذلك آليات ووسائل منها:
- إصدار الصكوك والاتفاقيات الدولية المصاغة بوجهة نظر غربية والضغط من اجل التوقيع عليها مثل (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، مكافحة التمييز ضد المرأة ...الخ) وهذه الاتفاقيات وان كان فيها بعض الحق إلا أن فيها الباطل أيضا، ويكفي أنها مصاغة بوجهة نظر غربية إمبريالية.
4. جدل العدوان والمقاومة الثقافيين
العولمة الثقافية لا تعني الانتقال من الثقافة الوطنية والقومية إلى الثقافة العالمية أو الكونية وإنما هي فعل اغتصاب ثقافي وعدوان رمزي على سائر الثقافات، إنها رديف الاختراق الذي يجري بالعنف المسلح وبالتكنولوجيا.
إضافة على وجوب وعي الفارق بين التثاقف وبين العنف الثقافي؛ يعني الأول: الإصغاء المتبادل من سائر الثقافات إلى بعضها كما يعني الاعتراف بحق الاختلاف، فيما لا ينطوي الثاني: سوى على الإنكار والإقصاء لثقافة الغير، كما على الاستعلاء والمركزية الذاتية.
ليست العولمة إذن سوى السيطرة الثقافية الغربية على سائر الثقافات بواسطة استثمار مكتسبات العلوم والثقافة في ميدان الاتصال. أمام هذه السيطرة فهي التي يمكننا التعبير عنها بعبارة الأمركة، والعولمة هي الاسم المرادف لها.
5. موقف المجتمع الاسلامي من الثقافات غير الاسلامية
تأثر المجتمع الاسلامي بالثقافة الغربية قياسا بغيرها من الثقافات الوطنية والإقليمية الكبرى واعتبار المسلم أن الثقافة الغربية هي ثقافة الآخر. والمجتمع الاسلامي ينقسم إلى قسمين هما: مجتمع أهلي ومجتمع النخبة.
أ. استهلاك المجتمع الاسلامي الأهلي للثقافة الغربية خصوصا ثقافة الصورة بدل المكتوب من تلك الثقافة.
ب. استقبال الوعي الاسلامي الأهلي المادة الثقافية الغربية المعروضة عليه، في شكل أصوات وصور، وهو مجرد ملتقط أو يكاد بدون خلفية نقدية تسمح له بإخضاع تلك المادة إلى المسائلة وهذا ناتج عن عجز الآلة الثقافية الوطنية عن إشباع حالة الجمهور.
* مجتمع النخبة ينقسم إلى قسمين: هناك تيار انبهاري بالمجتمع الغربي متماه معه وتيار رفض ويستنفر ضده:
- يؤسس التيار الانبهاري شرعية خطابه عل فرضية تقول بكونية المعرفة، ومقولات العقل، ومنظومة المفاهيم التي تنهض عليها فكرة الحداثة.
- يقوم فكر التيار الرافض على موضوعة إيديولوجية بالغة الادعاء والنرجسية ويشدد هذا التيار على الخصوصية ووصفها التعبيري العادل عن كل ثقافة كما يمارس الممانعة الثقافية ضد الزحف الظاهر للثقافة الغربية.
الواقع أن ما قلناه هو غيض من فيض، وقليل من كثير. لكننا مع هذا نأمل من متن الموضوع أن يكون قد ساهم في تسليط الضوء على العولمة وإزاحة النقاب عن حقيقتها التي تريد الولايات المتحدة الأمريكية فرضها على شعوب العالم أجمع.
بعض مراجع المادة
1. العولمة والممانعة: عبد الإله بلقزيز-سلسلة الزمان (2001).
2. مجلة البيان عدد167 أكتوبر 2001.
3. فخ العولمة: سلسلة عالم المعرفة عدد 295 غشت 2003.
ــــــــــــــــــــــــ
* كلية الآداب أكادير