العرب وتحديات عصر العولمة في عصر العولمة تتجدد تساؤلات عصر النهضة
أ-د/إبراهيم أبراش
مقدمة
ما بين منتصف القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين، انشغل المفكرون العرب بالحداثة وكيف يتعاملون معها ،فما بين محبذ لها مشجع على الدخول فيها، ومتخوف منها محذرا من مخاطرها ،الأولون كانوا ينتمون إلى التيار الليبرالي غالبا كشكيب أرسلان (1869-1945) و سلامة موسى (1887-1958) وقاسم أمين (1863-1908) وشبلي شميل (1850-1917) وفرح أنطوان (1874-1922) وطه حسين (1889-1973) وبعض المتنورين من التيار الإسلامي (الجماعة السلفية الإصلاحية) كرفاعة الطهطاوي (1801-1872) والكواكبي (1854-1902) والأفغاني (1839-1897)،وكان لزياراتهم لأوروبا أو دراستهم بها أو معرفتهم للغات الأجنبية دور في تشكيل توجهاتهم الفكرية الحداثية، فيما المتخوفون والمعارضون كانوا من مشارب شتى فبعضهم عارضها من منطلق إسلامي متزمت وآخرون عارضوها من منطلق سياسي سلطوى أي خوفا من أن تؤثر الحداثة على امتيازا تهم السياسية والاقتصادية، والجهل بالحداثة كان وراء معارضة البعض لها.
كان الانفتاح على حداثة الغرب والذي دشن ما سمي بعصر النهضة العربية بمثابة الصدمة، نظرا لما كشفه من اتساع الهوة ما بين واقع العرب والمسلمين من جهة وما عليه أوروبا من حضارة وتقدم من جهة أخرى. وانشغل مفكرو تلك المرحلة بالسؤال (لماذا تقدم الغرب وتأخر العرب والمسلمون ؟) وكيف يمكن اللحاق بالركب ؟.وهو نفس السؤال الذي يشغل (المتعولمين) العرب والمسلمين ذوي النزعة الوطنية منذ العقد الأخير من القرن العشرين.
شكلت تلك المرحلة- نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين- إرهاصات منعطف فكري في العالمين العربي و الإسلامي ،وكانت تبشر ببداية نهضة تحرر شعوب المنطقة من حالة التخلف والركود التي تعيشها ،"في تلك الحقبة لم يعد التحديث يعني إطلاقا الأخذ عن الغرب للانتفاض على الشرق،بل يصبح يعني مواجهة الغرب بحداثة خاصة بالإسلام". إلا أن عوامل داخلية وخارجية لا داع للغوص فيها أعاقت مشروع النهضة العربية، بل أجهضت آنذاك بعض إنجازات الحداثة ، ونعتقد بأن أهم عوامل فشل مشروع فكر النهضة العربية هو فردانية دعوات الإصلاح والتحديث وتشتتهم بين مذاهب ومدارس فكرية متعددة ما بين عروبية وإسلامية ووطنية وبالتالي عدم وجود ناظم مشترك ،سواء على أساس إسلامي أو على أساس قومي،أيضا عدم القدرة على التمييز ما بين الحداثة Modernizationوالتغريب Westernization،فالحداثة لا تلغي الخصوصيات والهويات الوطنية بالضرورة، ولكن التغريب قد يؤدي لذلك،فاليابان اقتحمت عالم الحداثة بقوة دون أن تلغي خصوصياتها الثقافية .
واليوم وبعد قرن من الزمن وكأن التاريخ يعيد نفسه، فنفس القضايا التي شغلت مفكري ذلك العصر: المرأة، الحرية، الإصلاح السياسي، النهضة الاقتصادية، تجديد الخطاب الديني وتحديث التراث الخ، تتكرر اليوم ولكن في ظل فجوة معرفية وحضارية بيننا وبين الغرب أكثر اتساعا، وفي ظل أوضاع سياسية وثقافية أكثر تشرذما وإحباطا وفي ظل تعدد للمواقف الفكرية للمثقفين من العولمة. تساؤلات ما قبل قرن من الزمن كانت تدور حول الحداثة أهي التغريب المهدد لهويتنا وثقافتنا؟ وتساؤلات اليوم تدور حول العولمة أهي الأمركة المهددة لثقافتنا وحضارتنا؟. فهل سنتعلم من التاريخ ولا نكرر أخطاء الماضي؟ أو سنفكر بطريقة مختلفة مستمدة من منطق العولمة ذاته، مؤداها أنه لا مكان في عصر العولمة للكيانات الصغيرة ،وهذا يتطلب عولمة العالم العربي أولا ثم الدخول في عصر العولمة الكونية .
من هذا المنطلق يصعب مقاربة ظاهرة العولمة وانعكاساتها على العالم العربي دون ربط الموضوع بالثقافة، سواء بمفهومها الضيق الذي يتماهى مع مفهوم الهوية، أو بمفهومها الشامل الذي يتطابق مع مفهوم الحضارة – البعدين المادي والمعنوي للثقافة- والذي اخذ اليوم طابع الصراع الحضاري. و هذا الربط له مسوغاته نظرا لتزامن تدافع تنظيرات العولمة ومأسستها اقتصاديا وثقافيا وسياسيا وإعلاميا مع أزمة عميقة تشهدها مجتمعاتنا، أزمة شرعية مستعصية ،أزمة النظم السياسية و الاقتصادية والثقافة ،وأزمة التضامن العربي ولا نقول الوحدة العربية، وفي ظل مد أصولي لم تعرفه المنطقة سابقا. ومجتمع مأزوم بهذه الدرجة ينتابه خوف من كل ما هو جديد ووافد من الخارج، الخوف والحذر من كل ما هو وافد يؤدي للانغلاق على الذات والهوية والحنين للماضي قبل أي تفكير وتمحيص عقلاني لهذا الوافد الجديد، ولكنها لأسف ذات مأزومة وهوية مأزومة،وبالتالي ينطبق المثل القائل (كالهارب من الرمضاء إلى النار).
لا شك أن لهذا الخوف ما يبرره نظرا لتزامن الحديث عن العولمة مع عصر يشهد مؤشرات نهاية كثير من الأفكار والمنظومات السياسية والاقتصادية والفكرية التي شغلت العالم خلال القرن العشرين وما سبقه، بل يمكن القول إن العولمة هي تكثيف وتجميع وتسريع لنهايات وما بعديات، ما بعد الاشتراكية والشيوعية وما بعد الرأسمالية والليبرالية بمفاهيمهم التقليدية وما بعد السيادة الوطنية وما بعد الاستقلال وما بعد الشرعية الدولية وما بعد الثورة الصناعية وما بعد الثقافة المكتوبة وما بعد العلمانية،الخ. العولمة هي عصر "يلهث فيه قادمه يكاد يلحق بسابقه ،وتتهاوى فيه النظم والأفكار على مرأى من بدايتها،وتتقادم فيه الأشياء وهي في أوج جدتها،عصر تتآلف فيه الأشياء مع أضدادها" .هذه النهايات إن كانت لا تثير كثير قلق عند دول الشمال المتقدمة، فالأمر مغاير عند المجتمعات العربية والإسلامية حيث صوت الأموات فيها أقوى من صوت الأحياء، والحنين للماضي يطغى على التطلع للمستقبل، والأهم من ذلك يصعب الحديث عن نهايات فيما المجتمعات العربية لم تستكمل بناء الدولة ولم تنجز هدف الاستقلال، لا السياسي ولا الاقتصادي. ولكن ... الخوف ليس مبررا للهرب بل يجب أن يكون دافعا للتحدي والمواجهة.
نروم من بحثنا هذا تسليط الضوء على ظاهرة العولمة من حيث تعريفها مفاهيميا والتحديات التي تفرضها على مجتمعاتنا العربية، والفرضية التي سنحاول إثباتها أو البرهنة عليها هي أن العولمة ليست سيئة بالمطلق ولا جيدة بالمطلق، كما أنها ليست خيارا مطروحا على الدول والمجتمعات يمكنها الأخذ بها أو تجاهلها، بل هي نتاج لتحولات متدرجة عرفها العالم خلال عقود طويلة بل خلال قرون، تحولات هي في جانب منها بمثابة تطور طبيعي ومنطقي لترتيبات وأوضاع سابقة، وفي جانب أخر مخطط لها بحيث تأخذ مسارا يخدم قوى محددة ذات مصالح كبرى، ومن جانب ثالث تحولات مفروضة بفعل تفاعلات داخلية ودولية، وبالتالي نعتبر العولمة تحد يجب مواجهته للاستفادة من ايجابياتها أو التقليل من مخاطرها.كما نفترض بأن شرط النجاح في معركة تحدي العولمة يكمن في البدء بـ (عولمة العالم العربي) على أسس جديدة حتى لا تبتلعنا العولمة ولا يغيبنا الشرق الأوسط الكبير الذي هو آلية من آليات العولمة بالتوجه الأمريكي.أما المنهج الذي سنحاول الاسترشاد به فهو يجمع ما بين المنهج التحليلي المقارن والمنهج النسقي .
أولا: مقاربة مفاهيمية
هناك مقولة لفولتير(إن أردت أن تتحدث معي فحدد مصطلحاتك) وهذه مقولة يجب استحضارها وخصوصا في العلوم الإنسانية والسياسية على وجه الخصوص، ذلك أن عدم تعريف المصطلح والاتفاق على دلالاته هو جزء من مشكلة الممارسة المنتمية لحقل هذا المصطلح، فالمصطلحات الاجتماعية والسياسية حمالة أوجه. وعليه يمكن القول إن الجدل الدائر حول العولمة ما بين مؤيد ومعارض لها، ما بين من يعتبرها فرصة سانحة ومن يعتبرها خطرا مهددا، يعود لتباين تعريفات العولمة وتباين الخلفيات الإيديولوجية والثقافية لكل طرف، وحتى اليوم يوجد عشرات التعريفات للعولمة وجزء كبير منها هي تعريفات إيديولوجية، أي تنطلق من مواقف مسبقة للمصدر الحضاري المنتج للمصطلح ولمشتملاته السياسية والاقتصادية والثقافية– الولايات المتحدة الأمريكية-، مما دفع البعض إلى تسميتها بـ(الأمركة) Americanization .
كلمة ألعولمة باللغة العربية، والبعض سماها ب(الشوملة) هي ترجمة للكلمة الإنجليزيةGlobalization والكلمة الفرنسية Mondialisation فالكلمة تعني وضع الشيء على مستوى عالمي ،أو تعميم خاص وطني ليصبح عالميا ، أو هي مسعى لإزالة الحدود والموانع ما بين الدول للسماح بحرية الأفكار والثقافات والأموال والسلع دون قيود تفرضها السيادة الوطنية أو الخصوصيات القومية. ومن هنا تأتي التخوفات من العولمة، ففتح الحدود وإلغاء السيادة القومية يجعل العالم سوقا مفتوحة يحكمها مبدأ البقاء للأصلح والأقوى، الأقوى ثقافيا والأقوى اقتصاديا. وحيث أن المروج للعولمة والمدافع عنها هي الدول المتقدمة صناعيا وخصوصا الولايات المتحدة الأمريكية، فهذا معناه إنها المستفيدة من العولمة، لأن اقتصادها أصبح من القوة والتضخم بحيث لم تعد الحدود والسوق الوطنية وخصوصا بالنسبة للولايات المتحدة قادرة على الاستجابة لمتطلبات هذا الاقتصاد المتضخم ،ولأن اقتصادها وثقافتها ومجتمعاتها في منعة من التهديدات الخارجية التي قد تفرزها العولمة.
نظرا للتداخل الوثيق اليوم ما بين الاقتصاد والسياسة والثقافة، يجب الافتراض إن لم يكن التأكيد على أن من يتحكم بالاقتصاد العالمي سيكون معنيا بعولمة ثقافته وقوانينه وأنماط سلوكه لتسهيل انتشاره وتغلغله الاقتصادي، ومن هنا تصاحب الحديث عن العولمة الاقتصادية بالحديث عن العولمة الثقافية والعولمة السياسية (تعميم الديمقراطية) والعولمة القانونية (على مستوى القانون الدولي العام وتأسيس شرعية دولية جديدة وعلى مستوى القوانين الداخلية أي القانون الخاص :في الاقتصاد والتجارة وحتى التشريع في مجال مدونة الأحوال الشخصية ) .لا يعني هذا أن من يملك الاقتصاد الأقوى والأفضل يملك الثقافة الأفضل والقيم الأفضل ،فالأمر يرتبط بإمكانيات وليس أفضليات، فبالمال يمكن امتلاك وسائل الإعلام المتطورة وكل مشتملات الثورة المعلوماتية والتأثير على سياسات الدول الأقل قوة اقتصادية وشراء الأدمغة بل والمثقفين أحيانا وتوجيه كل ذلك لتعميم قيم ثقافية وسياسية تخدم فلسفة الأقوى اقتصاديا.
إن أية محاولة لتفكيك مفهوم العولمة من اجل مقاربته إجرائيا تتطلب من الباحث الغوص في حقول معرفية متعددة كعلم اللغة واللسانيات وعلم الاقتصاد وعلم السياسة، بالإضافة إلى علوم الفلسفة والإعلام والتاريخ.وإن كانت هذه المقاربة الشمولية ترمي إلى التعرف على حقيقة المصطلح/الظاهرة إلا أن الحقيقة في هذا المجال تبقى نسبية كما هي في مجمل العلوم الإنسانية، وبالتالي ففي اعتقادنا أن الجهد البحثي المعرفي في هذا المجال يجب أن ينصب على البحث عن قاسم مشترك لمجمل التأويلات والتعريفات يهيئ لغة تخاطب متفق عليها تمكننا من قراءة واقع العولمة ونحن على هدى مما نقوم بدراسته.
ضبط مفهوم العولمة يتطلب أيضا تمييزه وفصله عن مفهومات أو مصطلحات قريبة منه أو متداخلة معه، كالحداثةModernization ، فبالرغم من أن العولمة نتاج الليبرالية الجديدة وهذه الأخيرة هي نتاج الحداثة و ما بعد الحداثة Post Modernity –وألما بعد لا يعني القطيعة بل تَمثُل الشيء وتجاوزه- ومع أن البعض تساءل عما إذا كانت "العولمة هي دين الحداثة أم نذير نهايتها" ،إلا أننا نعتقد أن صلة الحداثة بالعولمة هو أن كلاهما نعت لواقع مغاير عما سبقه، فعندما تم تداول تعبير الحديث modern أواخر القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين كان مرادفا لتعبير (الآن) ،والعولمة هي حداثة (الآن ) مع الأخذ بعين الاعتبار ما أضفي عليها من مستجدات. أيضا لا يمكن فصل العولمة عن ظاهرتين انبثقت عنهما وهما ظاهرة التدويل Internationalisation وظاهرة تعدد الجنسية Multinationalsation ، فالعولمة تجد جذورها في المساعي المتواصلة لوضع قواعد قانون دولي عام ومنظمات دولية تسمو على القوانين الوطنية وتعبر عما هو مشترك بين المجتمعات والدول ،وتعدد أو تعدي الجنسية تجلت في الشرطات متعددة الجنسية والرأي العام العالمي والحركات الاجتماعية والنقابية والأمميات –الاشتراكية والشيوعية- المفتوحة أمام أفراد وجماعات من جنسيات مختلفة. أيضا يجب التمييز بين العولمة المتوحشة كما ينعتها البعض وهي محل البحث هنا والعولمة كتطلع أنساني نحو التوحد وتوسيع مجالات المصالح المشتركة،أو ما بين العولمة والعولمة المضادة، عولمتهم وعولمتنا .
ربما أكثر حالات اللبس هو الذي يحدث ما بين العولمة والعالمية.فالفهم السائد لكلمة العالمية يعني الانتقال من العام المشترك إلى الخاص الوطني أو أسبقية العام على الخاص مع ترك الخيار للدول للدخول في العالمية أو أن تنأى بنفسها عنها،إلا أن المدقق في المجالات التي توصف بالعالمية سواء في القانون (القانون الدولي العام )أو بالاقتصاد (القانون الدولي الاقتصادي ثم اقتصاد السوق) أو في مجال حقوق الإنسان(الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومجمل التشريعات الدولية بهذا الشأن) أو نظريات التنمية الشمولية /الإنسانية التي تتبناها الأمم المتحدة وتسعى لها دول الجنوب،إذا تمعنا بكل ذلك لوجدنا أن صفة العالمية لا تخفي حقيقة أن المنتج لهذه النظم والقوانين والتوجهات هو الغرب وهي تعبر عن ثقافته وتخدم مصالحه بالدرجة الأولى، فالدول الأوروبية المسيحية والولايات المتحدة هم الذين وضعوا أسس القانون الدولي العام بكل تشعيباته ثم أضفي عليه صفة العالمية وهم الذين وضعوا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي أصبح له صفة العالمية، وهم الذين وضعوا أسس الديمقراطية والتنمية السياسية ثم أصبحت مطلبا عالميا وخصوصا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ،وقد أشار سيرج لاتوش (Serge Latouche) إلى أن مصطلح النظام الدولي الذي ساد في العقود السابقة كان يعبر عن عالمية مركزها الحضارة الغربية وخصوصا الولايات المتحدة (والتي لا تعني إلا فرض الأنساق القيمية في إطار ما هو متعارف عليه بأنه أنماط الحياة Way of life ولا يمكن أن تفهم عناصر حقوق الإنسان ،الديمقراطية إلا باعتبارها تعبيرات تحاول أن تحقق تنميطا حضاريا عالميا). وهذا ما دفع ريجيس دوبريه للقول إن العالمية كانت مجرد أكذوبة أو وهم أو ستارا خادعا "لأن الناس محليون أولا، وينبغي أن يقام سبيل للذهاب والإياب بين المحلي والعالمي... ينبغي أن نفكر عالميا ولكن أن ننشط محليا على الدوام" . إلا أن ما يميز العالمية عن العولمة هو أن الأولى لم تكن تلغي الخصوصيات وحرية الاختيار بالضرورة، فحرية الاختيار كانت متاحة أكثر مما هو الحال مع العولمة.
ضبط المفهوم يمكننا أيضا من الحسم في مسالة حداثة الظاهرة التي يحيل إليها المصطلح أو قدمها، فإذا كان من الممكن أن نتحدث عن وجود إرهاصات للعولمة الاقتصادية كاقتصاد السوق والمؤسسات المالية العالمية وسيولة تنقل رؤوس الأموال، فإن العولمة الثقافية والسياسية بمفاهيمها المتداولة اليوم هي حديثة العهد نسبيا وترتبط بشكل كبير بتفاعلات الثورة المعلوماتية، حتى ذهب البعض إلى القول بأنه في عصر العولمة لم يعد السؤال مَن يتحكم بالوسائل المادية -من أراض وموارد طبيعية وحتى رؤوس أموال- بل من يتحكم بالوسائل اللامادية – تكنولوجيا متطورة وإعلام وبحث علمي ومعلومات- فالغزاة الجدد صانعو العولمة كما يقول بيترلاR.PETRELLA هم أشخاص معنويون أو طبيعيون يستطيعون من خلال امتلاكهم لإمكانات مالية ضخمة التحكم في تخصيص وتوزيع الموارد العالمية،ويحددون القيم والرهانات والأولويات ويتحكمون في قواعد اللعبة.
ومن جهة أخرى لا بد من تبيان مفارقة يحتويها مصطلح العولمة، فإذا كان مفهوم العولمة هو تجاوز الحدود والخصوصيات، فأن مسيرة العولمة تزامنت مع تفجر حروب وصراعات دولية وأهلية، بل تصاحب مع مزيد من تشرذم العالم ثقافيا وأيديولوجيا. هذه المفارقة عكستها كتابات اثنين من المفكرين الاستراتيجيين الأمريكيين الذين تصدوا لتحليل المتغيرات الدولية ما بعد انهيار المعسكر الاشتراكي وهما، (فرانسيس فوكوياما) في كتابه نهاية التاريخ حيث أكد توجه النظام الدولي نحو نهاية الصراعات الإيديولوجية والثقافية وتوحد العالم اقتصاديا وسياسيا وثقافيا ضمن المنظومة الرأسمالية الغربية ،و(صمويل هنتنجتون) في مقالته صدام الحضارات حيث يختلف عن سابقه بالقول أنه مع إمكانية توحيد العولمة للدول في اقتصاد السوق إلا أن التوتر بل الصدام ما بين الدول سيستمر لأسباب ثقافية،فالنظم السياسية والاقتصادية قد تتغير وتتبدل ولكن لا يمكن للمجتمعات أن تتخلى عن ثقافتها وخصوصا المجتمعات ذات الثقافات العريقة –سنعود لهذا الموضوع لاحقا-.
تعدد التعريفات وتضاربها أحيانا يعود لحداثة معالجة ظاهرة العولمة مفاهيميا ولكون العولمة لم تستقر نهائيا كواقع مسلم به بقدر ما هي توجه أو إرادة لصيرورتها واقعا، فتنجح في مجالات وبلدان وتتعثر في مجالات وبلدان أخرى، أو على حد تعبير راينسمث "لقد وصلت العولمة إلى العالم، ولكنها لم تصل إلى معظم منظمات العالم" وهذا ما يجعل نعت العولمة بالشوملة يفتقر إلى الدقة ما دامت لم تشمل كل العالم. ومن هنا يرى البعض بأن العولمة قد حُدًدت حتى الآن بشكل غامض هذا إذا حددت على وجه العموم، أما لماذا يصعب تعريف وتحديد العولمة فهذا يعود كما يقول كل من Hirst,P.And Thompson, G."إلى غياب نموذج يشرح لنا كيف يمكن أن يكون عليه النموذج المعولم" . العولمة ضمن الواقع الدولي الراهن تتصاحب مع حالة من الشك وفقدان اليقين ليس فقط في الحاضر بل بالمستقبل أيضا، ومن هنا لا نستغرب حالة القلق التي تنتاب كثير من الشعوب ومن المفكرين من جنسيات مختلفة من هذا القادم الجديد ومن انفلات الأمور من يد البشر ومن التفكير العقلاني بشكل تدريجي، ليس فقط على مستوى تلوث البيئة – ثقب الأزون – أو انتشار أسلحة الدمار الشامل أو التلاعب بالجينات البشرية أو تزامن العولمة مع انتشار الإرهاب، بل أيضا على مستوى القيم والأفكار وآليات التنشئة الاجتماعية والسياسية "إذ نرى عالما يسوده الاغتراب والاضطراب واللا يقين (عالم منفلت). ولعل ما يثير الجزع المعرفي والفكري والأخلاقي أن تقدم المعارف البشرية والقدرة على (التحكم المحكوم ) في المجتمع والطبيعة –وهي أمور كان يظن أنها ستخلق قدرا أكبر واكبر من اليقين- إذا بها تشكل أساسا عميقا لحالة العجز عن التنبؤ بالمستقبل " . صعوبة التعريف وحالة القلق لفظان ملطفان يعبران في الحقيقة عن حالة من الرفض للعولمة التي تسعى لتعميم النموذج الغربي وخصوصا الأمريكي، فالسياسة الخارجية الأمريكية سواء في العراق وفلسطين وأفغانستان ومواقفها المتعنتة المتعارضة مع توجهات غالبية دول العالم حتى الأوروبية في قضايا البيئة وحقوق الإنسان والتبادل التجاري، بالإضافة إلى الأزمات العميقة التي يعيشها المجتمع الأمريكي ... كل ذلك يولد خوفا وقلقا من العولمة ،وقلقا أشد من قيادة الولايات المتحدة لقاطرة العولمة.
التأريخ للعولمة
مسألة التأريخ للعولمة أمر يستحق النقاش ،فالجدل الدائر اليوم حول العولمة وخصوصا وجهة النظر المنتقدة للعولمة ،إنما تعالج العولمة المعاصرة المرتبطة بالنظام الرأسمالي أو التي هي نتاج له ، ووجهة النظر هذه ترى بأن العولمة ظهرت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي أو هي نتاج نهاية القرن العشرين المتسمة بالهيمنة الأمريكية وبقيم الثقافة الغربية المسيحية، ومن هنا تبدو العولمة نتيجة مسببات راهنة،وتخدم الوضع الدولي القائم الآن. ولكن حتى ضمن هذه المقاربة فما نسميه اليوم بالعولمة هو نتاج لأفكار وترتيبات وأوضاع سابقة على العقد الأخير من القرن العشرين. لا شك بان هناك عوامل معاصرة سرعت من صيرورة العولمة وجعلتها أكثر حضورا و راهنية، إلا أن هذه العوامل كانت تفعل فعلها عبر الزمن داخل الدول وما بينها بتؤدة مع وجود ممانعات ولا شك،هذه الممانعات أخذت تتهاوى شيئا فشيئا.
يترتب على هذه المقاربة التي تحيل العولمة لمرجعية أوروبية أمريكية رأسمالية حديثة التشكل، أحكام قيمة سلبية مؤداها تغييب إسهامات الشعوب والحضارات الأخرى في الإبداعات الإنسانية الراهنة ، وإن كنا لا ننكر أن حضارة القرن العشرين والقرن الواحد والعشرين ذات معالم غربية في غالبيتها ،إلا أن شعوب أخرى ساهمت فيها بطريقة مباشرة، كالصين واليابان ودول شرق أسيا بشكل عام، وبطريقة غير مباشرة من خلال سياسة النهب والاستغلال التي مارستها الدول الغربية على دول العالم الثالث، ثم الاستعمار غير المباشر أو النهب غير المباشر بما في ذلك الثروة النفطية التي خدمت الدول المتقدمة أكثر مما خدمت الشعوب المنتجة لها.
في مقابل هذه المقاربة التاريخية الاختزالية، هناك وجهة نظر أخرى تذهب إلى القول بتاريخية العولمة، فالعولمة الراهنة ما هي إلا صورة منقحة ومتطورة لعولمة تعود إلى بداية التاريخ ،من القائلين بذلك بول كيركبرايد الذي وضع أربع مراحل للعولمة وهي:1) العولمة قبل الحداثة-ما بين بداية التاريخ وعصر النهضة-2) العولمة في ظل الحداثة الجديدة-1500إلى 1800- 3)العولمة الحديثة- 1850إلى 1954-4)العولمة المعاصرة-1954وحتى الآن-. هذا التوجه يرى بان العولمة موجودة في جذور النظام الرأسمالي بل هي المرحلة الراهنة من مراحل تطور النظام الرأسمالي،وحسب رأي جوناثان فريدمان(man J.Fried) ،فالبنى المعولمة ليست جديدة على النسق العالمي الراهن ،فالشركات التجارية الأوروبية التي انتشرت ما بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر، وما ارتبط بها من نظم تجارية في المحيط الهندي وجنوب شرق أسيا والإمبراطوريات الكبرى، (كلها كيانات معولمة قوية). ويدعم هذا الرأي رونالد روبرتسون الذي يضع خمس مراحل تاريخية للعولمة منطلقها بدايات القرن الخامس عشر ،وهذه المراحل هي: المرحلة الجنينية ،مرحلة النشوء ،مرحلة الانطلاق ،مرحلة الصراع من اجل الهيمنة ،وأخيرا مرحلة عدم اليقين.
هذه المقاربة التاريخية للعولمة بوجهتي النظر السابقتين لا تخلو من أنوية حضارية غربية حيث تقرن العولمة بالحضارة الغربية الحديثة التي بدأت مع عصر النهضة ،وهي ولا شك مقاربة صحيحة بمقدار ربط العولمة بالنظام الرأسمالي قيما وسلوكا ،إلا أن الوجه الأخر للعولمة ،إي العولمة كفكر وتطلع إنساني لتجاوز قيود الحدود السياسية والخصوصيات الثقافية الموهومة والتطلع نحو عالم يعترف بإنسانية الإنسان ككائن ينتمي إلى وطن عالمي وقانون عالمي ،تضرب بجذورها إلى ما قبل وجود الولايات المتحدة الأمريكية على الخريطة السياسية الدولية بل قبل وجود الرأسمالية كنظام اقتصادي والليبرالية كنظام سياسي. ويمكن القول أن الفلسفة الرواقية أول من بشر ودعا للعولمة دون أن تسميها عولمة وذلك من خلال مبدأين شكلا دعامة فكرها وهما :القانون الطبيعي ،قانون كل البشر الذي لا يفرق بين الناس على أساس الدين أو الموطن أو الخلفية الاجتماعية ،والمبدأ الثاني هو الدولة العالمية والمواطنة العالمية Cosmopolitanism أو( مدينة العالم( ،مبدأ هذه المدينة كما يقول زينون مؤسس هذه الفلسفة" يكمن في أن الناس يجب أن لا يتفرقوا في مدن وشعوب لكل منها قوانينها الخاصة،لأن كل الناس مواطنون،ولأن لهم حياة واحدة ونظاما واحدا للأشياء،كما هو حال القطيع الموحد في ظل قاعدة قانون مشترك". أيضا لا تخلو الديانة الإسلامية من شكل من العولمة ،فدعوة الإسلام للتوحيد وعدم تفريقه بين الناس على أساس العرق أو المكانة الاجتماعية ،وكونه رسالة لكل البشر في كل زمان ومكان ،وحيث انه عبادات ومعاملات تحدد للبشر المبادئ العامة لأسلوب حياتهم ،فهذا يعني أنه دعوة مبكرة للعولمة، وبالفعل تمكن الإسلام من ربط عديد من الشعوب ضمن نمط حياة وسلوك لفترة طويلة من الزمن. والعولمة متضمنة أيضا في الدعوات المبكرة في عصر التنوير في أوروبا لوضع قانون دولي عام أو قانون للأمم كما سماه جيرمي بنتام ،وفكرة تأسيس منظمات دولية لا تخلو من فكر معولم – كما سبقت الإشارة إلى ذلك-.
وعليه يمكن القول أنه بالرغم من حداثة تداول مصطلح العولمة ،حيث تكثف الحديث عنها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي بداية التسعينيات ،إلا أن مؤشرات وجود العولمة، بمعنى سهولة انتقال السلع والأفكار عبر الحدود الوطنية وتراجع سيادة الدولة القومية،أمر سابق لهذا التاريخ ،فالعولمة الاقتصادية كانت تتغلغل في نسيج حياتنا مع الشركات متعددة الجنسية والتبعية الاقتصادية والمالية لمراكز رأس المال الغربي ،والعولمة الثقافية كانت تفعل فعلها في ثقافتنا من خلال الإيديولوجيات المستوردة ومن خلال الإعلام وخصوصا الفضائيات ومن خلال الثورة المعلوماتية.غالبية الدول العربية دخلت العولمة دون أن تدري من خلال تبعيتها للغرب وإلتحاقها بالمركز الرأسمالي العالمي. وهذا يعني أنه وجدت العولمة أو إرهاصاتها بداية ثم تواتر الحديث عن ضرورة التسليم بها والتعامل معها كأمر واقع ،ومن هنا مأتى الحرج عند معارضي العولمة ،حيث لم يستفيقوا لمخاطرها أو تحدياتها إلا بعد أن أصبحت بعض تجلياتها أمرا واقعا بدرجة ما وخصوصا في مجال الاقتصاد (العولمة الاقتصادية ) .
أيضا على الرغم من أن الحديث عن العولمة تزامن مع الحديث عن نهاية الايدولوجيا،إلا أن العولمة كفكر يتمأسس بشكل متدرج ،لا تخلو من أيديولوجيا ولو خفية،سواء من طرف مؤيديها أو من طرف معارضيها ،لأن العولمة تعبير عن مصالح وخيارات وإرادات ،فمؤيدوها يخفون حقيقة نواياهم بخطاب العلم والحداثة ومنطق التطور التاريخي، ومعارضوها يخفون الأسباب الحقيقية لمعارضتهم لها بالحديث عن الهوية والخصوصية الوطنية والمصلحة الوطنية ورفض الهيمنة والغزو الخارجي، وكل لا يخلو من ترسانة إعلامية وثقافية ومفاهيمية لتبرير وجهة نظره. مصطلح العولمة إذن حمال أوجه "حيث تتعدد وتتباين معانيها مع تباين مقاصد المتحدثين عنها والداعين إليها أو إلى مناهضتها. فهي حينا زعم بأن الكوكب قرية واحدة تهاوت فيها الحدود القومية مع إعلان وفاة أو نهاية الدولة-الأمة. والعولمة أيضا تدويل للحياة الاقتصادية والسياسية سقطت معه الحواجز الحمائية،وهي الحدود المفتوحة للشركات المتعدية القومية لدخول استثماراتها المالية ومنتجاتها،وتكريس للاستسلام لآليات السوق الحرة المتحررة من الضوابط والقوانين الاجتماعية . ويرى البعض الآخر العولمة في ضوء التحولات العلمية التقانية وتجلياتها من حيث حالة التماس والاتصال المباشر بين الناس أفرادا وجماعات على صعيد الكوكب".
ومع ذلك يجب التأكيد بان العولمة التي يراد لها أن تسود هي نتاج حضارة الغرب والصيغة الأكثر حداثة وفجاجة لهذه الحضارة والتي تجسدها الولايات المتحدة الأمريكية،إنها تجسيد وتكثيف المابعديات :ما بعد الرأسمالية وما بعد الامبريالية وما بعد الحداثة وما بعد الايدولوجيا وما بعد سيادة الدولة القومية ،إنها تجاوز-دون قطيعة- بشكل ما لإرث أوروبا العجوز ،أوروبا التي أصبحت تتعجب بتخوف مما تفعله الولايات المتحدة بهذا الإرث. لا يعني هذا إنها المرادف لنهاية التاريخ التي بشر بها فرنسيس فوكوياما،ولكنها قد تكون تحديا للتاريخ .وقد ذهب انطوني جيدنز إلى اعتبار التحولات التي يعرفها العالم في السنوات الأخيرة بما في ذلك العولمة، نتيجة أزمة اليسار وأزمة اليمين على حد سواء ،فالعولمة نعت لواقع مضطرب وغير مفهوم وبالتالي يسود تعريفها عدم الوضوح ،ومع ذلك فهو يتلمس أبعادها العميقة والخطيرة محذرا من ربطها فقط بالاقتصاد،أو بالنظام العالمي " تتعلق العولمة في حقيقتها بالتحول في الزمان والمكان ،ويمكن تحديد معناها بأنها العمل أو التأثير عن بعد، ولشيوعها علاقة بالكثافة المتزايدة في السنوات الأخيرة لوسائل الاتصال الفوري وحركة الانتقال الجماعية الواسعة على نطاق الكوكب... وتأثير العولمة مس أيضا أساليب الحياة المحلية بل والشخصية ... بل يمكن الحديث عن نشوء نظام اجتماعي جديد –ما بعد تقليدي ".
ثانيا:العرب وتحدي العولمة
إذا اتفقنا على هذه المقاربة المفاهيمية للعولمة ،فأين موقعنا كعرب ومسلمين منها ؟وما هي تداعياتها على مجتمعاتنا ونظمنا الاقتصادية والثقافية والاجتماعية ؟ وهل هي فرصة علينا اهتبالها ؟أم خطر علينا اتقاء شره؟ أم هي تحد يمكننا إن أحسنا التصرف حيالها أن نتقي شرها ونستفيد من إيجابياتها؟. ولكن وقبل الإجابة على هذه التساؤلات ،لا بد من الإشارة إلى أن مجتمعات أخرى طُرحت عليها هذه التساؤلات ،إلا أن المنعة الاقتصادية والثقافية لهذه المجتمعات جعل وقّع العولمة عليها أقل حدة ،بل جنت من ايجابيات العولمة أكثر مما عانت من سلبياتها ،هذا هو حال ما يسمى بالتنينات الأسيوية ودول المعسكر الاشتراكي سابقا ،بل إن فرنسا الدولة الغربية الرأسمالية كان لديها في البداية تخوفات من البعد الثقافي للعولمة ،حيث خشيت على لغتها وثقافتها من اللغة الانجليزية والثقافة الأمريكية ،وعليه طالبت فرنسا على لسان رئيسها جاك شيراك بضرورة تقنين العولمة.
لا غرو بأن العولمة مثل الديمقراطية والليبرالية والرأسمالية واقتصاد السوق والاشتراكية و المجتمع المدني الخ، من المصطلحات التي أصبحت تتردد كل يوم في خطابنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي وتشكل حيزا كبيرا من هذا الخطاب ،ولكن دون أن تكون متأصلة لا في ثقافتنا ولا في وعينا السياسي ،مصطلحات أقحمت إقحاما وجاءت مستوردة مثلها مثل ما استوردنا من أيديولوجيات وأفكار وسلع وعلوم وتكنولوجيا، وتزايد مثل هذه المصطلحات في خطابنا السياسي والاقتصادي ،وما يستتبع ذلك من محاولة مأسسة لهذه المصطلحات ،إنما يعكس أزمة عميقة ،وهي أزمة الإبداع في مختلف المجالات ،العجز عن الإبداع والإسهام في حضارة العصر هو الذي يجعل مجتمعاتنا غير محصنة في مواجهة كل ما هو جديد، وهو عجز يساعد على إيجاد المبررات الأخلاقية والعملية لثقافة التقليد والتبعية.
العيب ليس بالضرورة في العولمة وغيرها من المصطلحات وما تحيل إليه من دلالات وما تنتمي إليه من منظومات فكرية أو نظم سياسية واقتصادية ،بل العيب في من يستوردها ويتعامل معها، إما كمسلمات يتم التعامل معها وتطبيقها دون محاولة لإعمال العقل لتبيئتها لتصبح مناسبة للخصوصيات التاريخية والموضوعية بما فيها الثقافية للمجتمع المستورِد لها، أو كخطر و تهديد يجب مقاومته والوقوف منه موقف المعارض والمحارب دون تفكير لا لشيء إلا لكونها مستوردة من الآخر ، والأخر في نظر هذا التوجه عدو لا يجوز الأخذ منه أو التشبه به !.
ونعتقد أن التعامل العقلاني والموضوعي مع موضوع العولمة وغيرها من النظم الفكرية والاقتصادية المستورة يتطلب عقلية متفتحة وموضوعية بمعنى الكلمة ، ونقطة المنطلق في التعامل مع الموضوع هو الإقرار بأننا كمجتمعات عربية وإسلامية توقفنا عن المساهمة الحضارية منذ القرن الخامس عشر( سواء كانت الأسباب داخلية كخضوعنا لنظم استبدادية متسلطة أو خارجية كالاستعمار )،وان غالبية مشتملات الحضارة الحديثة هي نتاج الآخر ،العالم الغربي والمسيحي ،والقول بأننا كنا أصحاب حضارة أو ساهمنا في وضع أسس الحضارة الإنسانية لا يفيد في شيء ،ما دمنا اليوم نعتمد في معيشتنا على منتجات الآخر الثقافية والاقتصادية والعلمية ،وهذا القول لا يعني التقليل من شان السلف الصالح ، فهو سلف أولا وكان صالحا آنذاك ثانيا . المهم ما هي مساهمتنا في حضارة اليوم ؟.فإذا اعترفنا أن مساهمتنا المباشرة معدومة أو محدودة ، وإذا اعترفنا بأننا لا نستطيع أن نستغني عن معارف وعلوم ونتاج الآخر قائد قاطرة العولمة،لان كل حياتنا تقريبا معتمدة على منتجات الحضارة الغربية ،بل نعيش عالة عليها، لغياب مساهمتنا فيها أو لخلل أنظمتنا السياسية والثقافية أو للسببين معا ، إذن التقوقع على الذات والوقوف موقف الرافض لكل ما هو مستورد وجديد هو موقف ليس فقط غير عقلاني بل موقف غير أخلاقي.
لا يعني ما سبق بأن علينا التسليم باستحقاقات وشروط العولمة وكل ما هو وافد دون تمحيص، من منطلق الزعم بعالمية الفكر وعالمية القيم والنظم السياسية والاقتصادية وخصوصا بعد انهيار المعسكر الاشتراكي وتأزم نظمنا السياسية وتبلد نظمنا الفكرية والثقافية ، بل المطلوب التوفيق بين ما هو وافد من جانب وواقع مجتمعاتنا من جانب أخر دون إضفاء القدسية على أي من الطرفين .فالعولمة كمنظومات اقتصادية (اقتصاد السوق) وكمنظومة ثقافية (قيم وأنماط سلوك ولغة تخاطب) وكمنظومة سياسية (خطاب الديمقراطية وحقوق الإنسان) ، تحتاج إلى تبيئة لأنه من حيث المبدأ ومما هو علمي أن أية نظرية أو منظومة سياسية أو اقتصادية ،لا تأخذ مصداقيتها وصلاحيتها إلا لأنها وليد بيئة اجتماعية وثقافية محددة و معبرة عنها ،و نتاج لشروط تاريخية وموضوعية ،وتغير هذه الشروط يُفقد الفكر وما يرتبط به من ممارسة علميته وبالتالي عالميته ،لأنه يتحول إلى فكر منفصل عن الواقع . ولكن بالمقابل هل نظمنا المعاشة التي لم تسعفنا على أن نكون خير امة أخرجت للناس ،ولا أن تضمن لشعوبنا حياة كريمة ،قادرة على الاستجابة لتحديات العصر وعلى رأسها العولمة؟.
انطلاقا من حقيقة الأوضاع العربية المتردية ومحدودية القدرة أو الإرادة – لأن القدرة مرتبطة بالإرادة، ولا قيمة لقدرة دون إرادة- على أن نكون فاعلين أو مؤثرين في التحولات الدولية المعاصرة ،فان خياراتنا في مواجهة العولمة تبقى محدودة، والأسلوب الأمثل في رأينا في التعامل مع العولمة ليس النظر إليها كخطر أو شر داهم ولا كفرصة سانحة علينا الارتماء بأحضانها دون تفكير، بل كتحد، تحد اقتصادي وتحد ثقافي وتحد سياسي، والتحدي يستوجب المواجهة لا الهروب ،استنهاض الهمم لا التواكل، وهذا يتطلب وضع الاستراتيجيات المناسبة لمواجهة هذا التحدي، والسؤال المركزي الذي تطرحه العولمة في هذا السياق كما يقول برهان غليون "ما هي الاستراتيجية المناسبة من وجهة نظر مجتمع صناعي أو متأخر أو مهمش للاستفادة من الثورة التقنية ودرء مخاطر العولمة الناتجة عنها؟" . تحدي العولمة يحتم وضع استراتيجية لن تكون ذا قيمة إلا إذا وضعت على أساس قومي عربي ،إي خلق )عولمة عربية) منها ننطلق لمواجهة العولمة الكونية . ويمكن التركيز هنا على أهم المجالات التي تشكل العولمة تحديا حقيقا علينا التعامل معه بعقلانية :-
(أولا):التحدي الاقتصادي
سيطرة منطق السوق على العولمة الاقتصادية يثير مخاوف الدول الفقيرة لأن اقتصاد السوق يعني تطبيق شريعة الغاب حيث البقاء للأقوى باقتصاده ، وبالرغم من توقيع اتفاقية (الجات)ثم المنظمة العالمية للتجارة الحرة لمحاولة تخفيف المخاوف المترتبة على العولمة إلا أن سلبيات العولمة الاقتصادية مست عديد من دول العالم بما فيها دول عربية .وقد أكد كوفي عنان الأمين العام للأمم المتحدة في افتتاح الدورة الثالثة والخمسين (1998 ) للجمعية العامة للأمم المتحدة " إن الملايين يعيشون العولمة لا كفرصة مواتية لكن كقوة تدمير وتعطيل وكاعتداء على مستويات معيشتهم ).
وعلى هذا الأساس يعد الاقتصاد أهم التحديات ذات الصلة بالعولمة التي تواجهها مجتمعاتنا ،ليس فقط لأن العامل الاقتصادي هو أساس العولمة والمحرك الرئيس لها ،بل لأن اقتصادياتنا على درجة من التأزم بحيث لم تنفع كل نظريات التنمية والتحديث التي طبقت خلال النصف قرن الماضي في إعادة العافية إلى هذه الاقتصاديات ،بل تزداد المديونية يوما بعد يوم ويزداد الفقر وتبدو آفاق المستقبل أكثر سوداوية، "تتراوح البطالة في الدول العربية بين 14 و20 مليون عاطل عن العمل، وتسهم البطالة المرتفعة وانخفاض الأجور في زيادة حدة الفقر، ويواجه الاقتصاد العربي تحديات خطيرة بسبب العولمة والاندماج في منظومة التجارة العالمية "،كما أن التقارير الصادرة عن المنظمات الدولية أو تقارير التنمية البشرية العربية تكشف الهوة الكبيرة بين الواقع الاقتصادي العربي من جهة واقتصاديات الدول المتقدمة بل دول من عالم ثالث من جهة أخرى ،ولم ينج من هذه الرداءة حتى الدول النفطية .فهل العولمة الاقتصادية هي طوق النجاة لاقتصادياتنا ؟.
من المعروف أن العولمة الاقتصادية تقوم على اقتصاد السوق و الليبرالية الاقتصادية حيث المبدأ المحرك هو المبادرة الحرة وإسناد تدبير الشأن العام للنخبة الليبرالية الجديدة أو السادة الجدد للعالم الذين يجمعهم منتدى دافوس متجاوزا القومية والدين ،بحيث باتت هذه النخبة بمثابة (طبقة عالمية جديدة) .كما يُقر أنصار العولمة ومناوئها معا أن الاقتصاد هو العمود الفقري للعولمة وما الأشكال الأخرى لها- العولمة الثقافية والعولمة السياسية الخ- إلا لواحق أو عوامل مساعدة للعولمة الاقتصادية ،ومن هنا عرف البعض العولمة بأنها التعامل مع العالم كسوق واحدة يشتغل فيها تجار ينتمون إلى ثقافات مختلفة . وفي واقع الأمر فقد انساقت غالبية الاقتصاديات العربية إلى العولمة الاقتصادية قبل أن يتم تداول مفهوم العولمة وذلك من خلال تبعيتهم وإلحاقهم بالاقتصاد الرأسمالي الغربي وربط اقتصادهم بشكل شبه كلي بالمراكز الرأسمالية الغربية ،حتى ما ادخروه من ثروات تستثمر اليوم في الدول الرأسمالية بحيث بتت السيطرة العربية على هذه الأموال شكلية- تقدر هذه الاستثمارات بـ 700 مليار دولار حسب إحصائيات 1997-كما أن 12 دولة عربية أعضاء في منظمة التجارة العالمية،وهناك الشرق أوسطية والشراكة الأوروبية المتوسطية،هذا بالإضافة إلى المديونية الرهيبة على الدول العربية- بلغت المديونية أكثر من ألف مليار دولار نهاية القرن الماضي-.
تحدي العولمة الاقتصادية لا يكون بأدوات اقتصادية فقط بل يتطلب الأمر الاشتغال على ثلاثة أبعاد مترابطة : -
1-البعد الاقتصادي الخالص المرتبط بعلاقات الإنتاج والاستثمار وتطوير البنى الاقتصادية التي هي في مجتمعاتنا متخلفة ، وهذا يتطلب الاقتراب المحسوب من نمط اقتصاد السوق ،الأمر الذي يحتم توسيع السوق العربية إما بإحياء السوق العربية المشتركة أو تأسيس منطقة تجارة حرة عربية أو إعادة النظر في الشركاء الاقتصاديين التقليديين بالانفتاح على أسواق جديدة كدول جنوب شرق أسيا والصين واليابان .
2-البعد السياسي للاقتصاد،حيث يتأكد تلاحم الاقتصاد مع السياسة يوما بعد يوما، فالقول بوجود نخبة ليبرالية كشرط لنجاح اقتصاد السوق يحيل للشأن السياسي أي لشرط الليبرالية السياسية ، حيث أكدت تجارب التاريخ أن التنمية الاقتصادية كانت مترادفة مع التنمية السياسية ،فنادرا ما نجحت نظم استبدادية في تحقيق تنمية اقتصادية حقيقية .وحيث أن غالبية نظمنا السياسية ليس فقط مستبدة سياسيا بل مستبدة بخيرات البلاد و متحكمة في الثروة الوطنية،حيث يوجد توازي ما بين توزيع الثروة وتوزيع السلطة ،فان التحدي الاقتصادي يستتبع إعادة النظر في بنية النظم السياسية القائمة وذلك بوضع آليات لتداول السلطة،وضرورة الفصل بين الثروة والسلطة أو بين النخبة الاقتصادية والنخبة السياسية ،فالجمع بين الطرفين جعل السلطة أكثر استبدادا والثروة أقل وطنية.
3-البعد الثقافي ،منذ قرن من الزمن كتب ماكس فبر Max Weber كتبا بعنوان الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية أكد فيه وجود علاقة ما بين التطور الاقتصادي ونوع الثقافة السائدة في المجتمع ،من خلال دراسة مقارنة ما بين أثنى عشر نسقا ثقافيا مسيحيا وغير مسيحي ،وبالرغم من قدم هذه الدراسة والتحولات التي عرفتها الأنساق الثقافية عبر العالم ،إلا أن البعد الثقافي للاقتصاد أو وجود ثقافة اقتصادية أمر مسلم به ،كثقافة الادخار والاستثمار وتقديس العمل واحترام الوقت وروح العمل الجماعي وتقدير الإبداع وتشجيع المبدعين واحترام الملكية الفكرية،ونبذ السلبية والاتكالية وتحمل المسؤولية الخ .
البدء بالعولمة العربية – نسبة إلى العالم العربي- هو شرط كسب معركة التحدي الاقتصادي ،فإذا عولمنا علاقاتنا الاقتصادية أصبح اقتصادنا قوة إن لم تستطع التفوق على الاقتصاديات الكبرى في العالم فعلى الأقل سيحسب لها حساب بحيث تقلل من مخاطر العولمة الاقتصادية الكونية فيما لو تعاملت هذه الأخيرة مع اقتصادياتنا بشكل منفرد،ما أضعف الدول العربية في مواجهتا للعولمة الاقتصادية أنها "تعاملت بصف انفرادية مع تحديات فترة ما بعد الحرب الباردة وعصر العولمة" والواقع الدولي اليوم يؤكد توجه الدول نحو خلق تكتلات اقتصادية كبيرة لمواجهة تحديات العولمة ،الاتحاد الأوروبي تكتل اقتصادي ،ودول آسيان شكلت تكتل اقتصادي وحتى أمريكا الشمالية شكلت تكتلها الاقتصادي (النافتا)،والصين بحد ذاتها قوة اقتصادية يحسب لها حساب .
قد يعن للبعض الزعم بأن تجميع اقتصاديات دول صغيرة ومتخلفة كالدول العربية لا يمكنه خلق تكتل قوي – فحاصل جمع عدة أصفار هو صفر- الرد على هذه المزاعم المحبطة والمبررة للاندماج بالعولمة الاقتصادية دون ضوابط أو إعداد ، هو الاستشهاد بتجربة دول جنوب شرق أسيا ،فحال هذه الدول في السبعينيات كان أشد قتامة مما نحن عليه اليوم وكانت تعادل حالنا في تلك المرحلة إن لم يكن اقل ،وقد استطاعت بالإرادة وبالعمل وبالديمقراطية وبالتنسيق فيما بينها أن تشكل اليوم قوة اقتصادية يحسب لها حساب ،ومن جهة أخرى الدول العربية ليست فاقدة لكل مكونات القوة الاقتصادية ،فهناك البترول والقوة البشرية والأرض الزراعية والموقع الاستراتيجي والعقول والأدمغة التي تترك بلدانها لتهاجر إلى الولايات المتحدة وأوروبا واستراليا وكندا ،المشكلة تكمن في رأينا في غياب الوعي والإرادة وفي فساد وفشل النخبة السياسية.
وحتى لا نخدع أنفسنا فأن كسب رهان تحدي العولمة الاقتصادية لا يعني دخول معركة اقتصادية نحقق فيها نصرا ،ولا يعني أن يتساوى أو يتساوق الاقتصاد العربي بين ليلة وضحاها مع اقتصاد الدول الكبرى ، مواجهة العولمة بعقلية ثورية انقلابية لن يمكننا من كسب الرهان ،مواجهة العولمة الاقتصادية تحتاج إلى استراتيجية إصلاح وطني مكثفة وسريعة، ذات بعد قومي تحدد أهدافا ملحة قابلة للتحقيق،فما الذي يمنع مثلا أن نضع هدف تحقيق الأمن الغذائي من خلال تحقيق الاكتفاء الذاتي غذائيا وتشجيع الاستثمار العربي داخل المنطقة العربية.
(ثانيا): التحدي الثقافي
تملك البعض وهم بأن العولمة تعني إزالة كل الحدود وأشكال التمايز بين الشعوب وهذا ما تم استنتاجه مبكرا في مقال لفرانسيس فوكوياما (F.FUKUYAMA) تحت عنوان "نهاية التاريخ" 1989 ، حيث خلص في بحثه إلى أن الليبرالية السياسية والاقتصادية التي انتصرت على كل منافسيها عبر التاريخ هي المؤهلة لسيادة العالم دون منازع. إلا أنه أربعة سنوات بعد ذلك، وفي صيف 1993، صدر مقال أثار ضجة كبيرة تحت عنوان: "صراع الحضارات" لصامويل هنتنغتون (S.HINTINGTON) منطلقا من الفرضية الآتية: "المصدر الأساسي للصراعات في العالم الجديد، لن يكون بالدرجة الأولى إيديولوجيا ولا اقتصاديا، إن الانقسام الكبير بين البشر والمصدر الأساسي للخلاف سوف يكون ثقافي"، وإن الدول سوف تظل القوى المؤثرة في الشؤون الدولية، ولكن الخلافات الرئيسية بين دول العالم سوف تقع بين جماعات حضارية مختلفة، إن صراع الحضارات سيكون المرحلة الأخيرة في تطور الخلافات في العالم. وأهم الصدامات في نظره، سوف تحدث عند خطوط التماس الفاصلة بين الحضارات التالية: الحضارة الغربية، الكونفوشية، اليابانية، الإسلامية، الهندوكية، السلافية، الارتوذوكسية، أمريكا اللاتينية، وضمن هذه الحضارات يبرز التحالف الكونفوشي الإسلامي المحتمل باعتباره تهديدا للحضارة الغربية،وطالب هنتنغتون بضرورة مواجهته منذ الآن عبر شبكة من الاستراتيجيات و التحالفات الدولية.