إن المتتبع للثقافة السياسية في العالم العربي، سرعان ما يلاحظ شيوع صورة نمطية عن السياسة في وعي المواطن العربي تقوم على: الخشية والخوف، أو الحيطة والحذر، أو اللامبالاة وعدم الاهتمام. فهناك فئات واسعة في المجتمع العربي، تعتبر السياسة
لا طائل منها، وأن التعمق فيها أشبه بالسفسطة التي لا تقدم ولا تؤخر، ناهيك عن الأخطار التي يتعرض لها الفرقاء السياسيون.
وكرد فعل منطقي وواقعي، يبتعد الناس عن السياسة، لأنه لا يأتي منها سوى وجع الرأس، وخير للإنسان أن يتفرغ لشؤونه الشخصية وتربية أطفاله وتأمين قوتهم اليومي، لأنه إذا بطشت به الصراعات السياسية فمن الذي سيؤمن مستقبل عائلته، ومن الذي سيدري به أصلاً.
إن هذه الصورة النمطية السلبية للسياسة ليست هي الصورة المنتشرة لدى كل الشعوب، بل تكاد تقتصر على الشعوب التي تعاني من غياب الحريات وسيطرة أنظمة الحكم المطلقة. فهذه الأنظمة تريد الاستئثار بالساحة السياسية، والسيطرة على الوعي السياسي للناس، سواء عن طريق العنف العلني (الاعتقال، الفصل من العمل)، أو عن طريق العنف المقنع (وسائل الإعلام، تأمين الوظائف ومنحها للموالاة، التبني الشكلي لبعض المطالب الإيديولوجية للناس). بحيث يجد الناس المتعاطون بالشأن السياسي أنفسهم مضطرين للتماشي مع هذا النظام، أو ذاك، والابتعاد عن السياسة لما تجلبه لهم من مخاطر.
كما أن المتتبع للطرق التي تلجأ إليها الأنظمة العربية لاستبعاد الناس عن السياسة وتخويفهم منها، يجد أن هناك ثلاث إستراتيجيات كبرى تكاد تشترك بها غالبية تلك الأنظمة. وهذه الإستراتيجيات هي:
أولاً: تأميم التعليم، بغية تحويله إلى تعليم تلقيني يجمد الذهن ويحوله إلى أداة سهلة القيادة والطاعة، لأنها لم تتعلم غيرها.
ثانياً: إفقار المجتمع، لأن الفقير يتكون لديه إحساس داخلي بالاستبعاد الاجتماعي، بحيث يفقد الناس الثقة بأنفسهم، ويخشون على مستقبلهم. ويميلون إلى الأعمال التي تضمن مستقبلهم الشخصي، بحيث لا يعودون يهتمون بالشأن العام، ولاسميا بالشأن السياسي. وهذا يؤدي للنظر إلى قيم الشجاعة والمسؤولية، على أنها قيم أكل الدهر عليها وشرب. وهذا ما يفسر سخرية بعض الفئات من هذه القيم والتندر بنتائجها. يضاف إلى ذلك أن إفقار المجتمع، وانتشار هاجس الفقر، يؤدي بالأغنياء أيضاً إلى العزوف عن الشأن العام والاهتمام بأحوالهم الخاصة، لأن هذه الأموال وليس غيرها، هي التي تحقق لهم المكانة الاجتماعية وتضمن لهم مستقبلهم.
ثالثاً: تخوين كل من يتبنى آراء ومواقف سياسية معارضة للنظام السائد.. الأمر الذي ينفّر الناس من السياسة، لخوفهم من المصير الذي ينتظرهم حيال تلك التهمة. وهذا يعني في النهاية، تخفيض مستوى المشاركة السياسية للناس إلى أدنى درجة ممكنة.
من كل ما تم تحليله يمكن التوصل إلى النتائج التالية:
أولاً: عزوف الناس عن السياسة وخشيتهم منها عموماً، ليست مسألة خاصة بالعالم العربي، كما يحاول البعض أن يقدمها، بل هي ظاهرة سياسية مقصودة، تتم عملية إنتاجها بدقة متناهية. فالنفور من السياسة، ليس مسألة تتعلق بالقدرات العقلية للفرد، ولا بصفاته النفسانية، بل تتعلق ببنية المجتمع العامة ونظامه السياسي.
ثانياً: إن الاستبعاد السياسي وعزوف الناس عن السياسة، يؤدي إلى لجوئهم إلى مؤسسات المجتمع التقليدية (العشيرة، الطائفة، الزوايا الدينية) للاحتماء بها من نائبات الدهر من جهة، وللبحث عن الوجاهة الاجتماعية من جهة ثانية. وهذا ما يؤكد أن الاستبعاد السياسي للناس هو السبب الأول في انتشار الإيديولوجيات الغيبية.
ثالثاً: إن سيكولوجية الإنسان المستبعد سياسياً، سيكولوجية محتقنة متسلطة، قليلة الانتماء، متوترة، تميل إلى التنفيس عن ذلك التوتر والاحتقان، في كل من يحيط بها: (العائلة، الزوجة، الابن، زملاء العمل). وهذا يعني إن الاستبعاد السياسي، هو أكبر سبب للمشكلات الاجتماعية الكبرى، وأنه أزمة متعددة الأبعاد، متشابكة النتائج، لها تأثيرات قريبة وبعيدة، الأمر الذي يستدعي التنبه لها، لأنها أشبه بالماء الذي يجري من تحتنا ونحن لا ندري به.
كاتب من سورية