هيثم لنجاوي
ثقافة الفقر.. هل من بديل؟
ليس الفقير فقير المال ولا يحدد فقره فقط قلة مصادر دخله، بل الفقر ثقافة تعكس نظاماً قيمياً مجتمعياً معيناً. هكذا يخط عالم الأنثروبولوجي الشهير أوسكار لويس في دراسته لحالة المكسيك وبورتوريكو أسسه حول نظرية ثقافة الفقر «Culture of Poverty» عام 1959م. لقد ساعدت هذه النظرية علماء الدراسات التنموية الدولية في التركيز على ثقافة دول العالم الثالث لمعرفة بعض من أسباب عدم لحاقه بالعالم الأول هذا بالرغم من تطبيقه نفس أسس نظرية الحداثة (Modernization) التي طبقها العالم الأول فحققت له المكانة الاقتصادية المعتبرة في العالم. ويبدو أن النظرة التشاؤمية التنموية التي سادت بين مثقفي أمريكا اللاتنية في منتصف الخمسينيات وإلى أوائل السبيعنيات من القرن الماضي لتصل إلى مثقفي دول إفريقيا فيما بعد في تفسير فشل دولها في تحقيق التنمية الاقتصادية، تجسدت بشكل أساسي في نظرية الاعتماد (The Dependency Theory). وهي النظرية التي يعتقد أنها أسست بعضاً من أسسها على نظرية ثقافة الفقر لأنها قد أتت متزامنة معها وكلاهما قد تأثر بسيطرة أنموذج (Paradigm) فكري علمي واحد. ولا يهدف هذا المقال بشرح أبعاد نظرية الاعتماد التنموية، بقدر إيضاح التأثير السلبي لثقافة الفقر على المجتمع وكيفية الخلاص منها. فالنظام القيمي المجتمعي لثقافة الفقر، يعني أن أجزاء المجتمع بأطيافه المختلفة قد أصيبت بأنفلونزا معدية وفيروسها قد تشكل من قيم تتناغم وتنسجم وتترابط مع بعضها بعضاً بشكل سريع لتكون ثقافة دافعة نحو فقره.
بيد أن هذه الأنفلونزا، قد حددت معالم المجتمع منذ مرحلة طفولة أبنائه لتنمو وتنتشر للأجيال القادمة وفي جميع أرجائه. حيث ينمو الطفل في ظله فلا يرى سوى قيمة الفقر تسيطر على مأكله ومشربه وملبسه وعمله وفكره فتصبح محركاً لسلوكياته. وإن وضعاً بهذه القيم، يصعب أن يحقق المجتمع معه تنمية اقتصادية. ولهذا، فإن لويس يحدد عدداً من الصفات العاكسة لقيم ثقافة الفقر. نذكر منها: التهميش والغربة واللامبالاة واللا أمل والاعتماد والاستسلام للواقع دون محاولة تغييرية (Wikipedia).
إن الصفات المذكورة أعلاه، لا شك أنها تشير إلى أن جماعة معينة ومحددة لا تشعر أصلاً بانتمائها للمجتمع وتفضل أن تحمل تلك الصفات لتنزوي بها بين جنباته إنها بكل وضوح الأقلية المجتمعية مثل الأقلية الأمريكية ذات الأصول الإفريقية. ولكن، خطورة ثقافة الفقر ليست مقصورة على أقلية مجتمعية معينة لتنتهي تلك الثقافة عندها، بل تكمن في الصفات التي تحتضنها فتنتشر بسرعة بين أرجاء المجتمع فيصبح مجتمعاً فقيراً في أسلوب حياته. وتظهر ثقافة الفقر في المجتمع المصاب به، أكثر ما تظهر في قيمة الإحباط. فإذا شعرت يوماً أن المجتمع محبط فاعرف أنه مجتمع يحمل ثقافة الفقر وإن كان لديه موارد مالية جيدة ومستقرة.
فالإحباط له وجوه عديدة وتأثيره قوي وسريع. ويكفي أن ترى إنساناً محبطاً يتحدث إليك ليدخل تلك الطاقة السلبية على نفسيتك فتسيطر على مجريات يومك دافعة نحو التراخي واللامبالاة بل والاستسلام أيضا وكأن فيروس ثقافة الفقر قد بدأ عمله فوراً. وأنت بدورك تنقل ذلك الإحباط حينما تروي قصة صاحبنا المحبط لشخص آخر وهكذا تنتقل حالة الإحباط من الدوائرة الصغيرة المحيطة بنا إلى دوائر المجتمع ككل فتتشكل قيمة من ثقافة الفقر من حيث لا ندري ودواليك تنتشر باقي قيم الثقافة لتجعل المجتمع فقيراً. ولهذا فإن المجتمعات التي تريد أن تنجز تنمية حقيقية عليها الابتعاد عن ثقافة الفقر بكل ما تحمله من قيم وبناء ثقافة الغنى أي أن يصبح المجتمع غنياً بقيمه المعنوية والمادية الدافعة نحو الإنجاز وعدم الاستسلام للواقع والتقدم إلى الأمام. ولكن، يا ترى كيف نتغلب على قيم ثقافة الفقر؟
تتطلب الإجابة منا معرفة أن أصل المشكلة يقع في مفهوم الثقافة نفسه الذي يعني أنه تاريخ متراصٍ من القيم التي بنيت عبر أجيال وأجيال وأن تغييره يتطلب الوقت والصبر والمثابرة والتعليم والتثقيف وبناء أجيال تستطيع أن تزيح أنموذج ثقافة الفقر إلى أنموذج ثقافة الغنى. وشاهدنا هنا، قصة وتجربة وكفاح الأفارقة الأمريكان لإزاحة تلك الثقافة واستبدالها بثقافة الغنى. فلن أنسى منظر تلك الدموع التي انهالت من عيني القس جيسي جاكسون وهو يحتفل بخبر فوز الرئيس الأمريكي الحالي باراك حسين أوباما في الفترة الرئاسية الأولى وكأنها تروي قصة نهاية آخر فصل من ثقافة الفقر التي عاشتها تلك الأقلية في أمريكا ولتجسد حلم مارتن لوثر كينج بأن يري يوماً أبناء البيض والسود يجلسون على طاولة واحدة بل تعدت تلك الدموع وضع الجلوس على الطاولة للجلوس على كرسي رئاسة أقوى دولة في العالم.