شركاء فى التنمية
التعليم والحراك الاجتماعى فى مصر
أحمد زايد
أستاذ علم الاجتماع
2008
أولاً : التعليم والحراك الاجتماعى : حدود العلاقة
يعرف الحراك الاجتماعى بأنه العملية التى ينتقل بها الأفراد من موقع إلى آخر فى المجتمع، وغالبا ما تكون المواقع التى ينتقل إليها الأفراد متدرجة عبر قيم تدريجية محددة؛ ويكون الحراك الاجتماعى هو الحركة على هذا السلم المتدرج من موقع إلى آخر صعوداً أو هبوطاً (Lipset & Bendix, 1959 : 179). وتسير التعريفات الحديثة للحراك الاجتماعى على نفس الخطى، وإن كانت تدخل قضية الفرص المتاحة أمام الشخص فى تعريف الحراك الاجتماعى. فالحراك الاجتماعى ليس مجرد حركة للفرد، ولكنه يشير أيضا إلى الفرص المفتوحة أمام الفرد للدخول فى الحركة. فالحراك الاجتماعى هو "حركة الأفراد للطبقات المختلفة والجماعات المهنية المختلفة، أو الفرص المتاحة أمامهم للدخول فى هذه الحركة" (Aldridge, 2003 : 189)
ويفترض الحراك الاجتماعى فى نمطه المثالى مجتمعاً مفتوحاً، يخبر قدر من السيولة والحركة تتيح للأفراد أن يتحركوا بحرية عبر السلم الاجتماعى على قدر ما يتوافر لهم من قدرات وعلى قدر ما يبذلونه من جهد دون النظر إلى مكانهم الاجتماعى عند الولادة (Heath and Panne, 1999) ومن ثم فإن الحراك الاجتماعى إذا ما وجد فى هذه الصورة المثالية فإنه يعد مؤشراً على أن المجتمع قد تجاوز النظرة التقليدية المحدودة التى تقدر الفرد فى ضوء مكانته الموروثة، واتجه إلى تقدير الأفراد فى ضوء مكانتهم المكتسبة. فالمجتمع يتيح للفرد أن يرتقى طالما تملَّك القدرات والكفاءات التى يرتقى به، تاركاً أولئك المتعثرين عن تملك هذه القدرات فى مراحل متدنية على السلم الاجتماعى. كما أن الحراك الاجتماعى – فى هذه الصورة المثالية – يعد مؤشراً أيضاً على حالة من العدالة فى توزيع القيم وفى توزيع الفرص.
ولقد أكدنا هنا أن الحراك الاجتماعى بالمعنى الذى يشير إليه التعريف يتطلب مجتمعا مفتوحاً، ويقدم تصوراً مثالياً عن تجاوز الأحكام الشخصية والتقويمات المتحيزة إلى العدالة الناجزة. ولا نحسب أن هذه الصورة المثالية متحققة بهذا الشكل فى مجتمع من المجتمعات. فظروف الحياة الاجتماعية تفرض صوراً من الكبح والاستبعاد واللامساواة، التى تجعل هذا النموذج المثالى صعب المنال.
فمن ناحية، نجد أن الحراك ليس واحداً وإنما يتخذ صورا مختلفة، فهناك الحراك داخل الجيل، أى الذى يحققه الفرد عبر حياته، وهناك الحراك بين الأجيال، أى ذلك الذى يحققه الفرد مقارنا بالموقع الذى كان يحتله أبواه والحراك فى الحالتين ليس حراكاً مطلقا يترتب عليه تغير كلى فى بناء الطبقات فى المجتمع وإنما هو حراك نسبى يتيح للأفراد الحركة داخل بناء طبقى ثابت (A. Nunn, et al., 2007: 14-15).
وفى ضوء ذلك فإن الحراك الاجتماعى لا يمكن أن يكون حراكاً مطلقا، بل هو أيضا حراك نسبى. ومن هنا كانت التفرقة بين الحراك الاجتماعى المطلق absolute social mobility والحراك الاجتماعى النسبى relative social mobility، حيث يشير الحراك المطلق إلى انتقال جماعات من الأفراد من طبقة إلى أخرى أو من شريحة إلى أخرى، وهو يحدث فى حالات التغير الواسع النطاق الذى يحدث على أثر تغير البناء المهنى أو الصناعى للمجتمع الذى قد يؤدى إلى تحول أعداد كبيرة من السكان من الأعمال اليدوية إلى الأعمال الإدارية والخدمية. أما الحراك النسبى فهو الحراك الذى يحدث بين الطبقات عبر انتقال أفراد من طبقة إلى أخرى دون حدوث تغيرات جذرية فى بنية الحياة الاقتصادية أو الاجتماعية (Broye and Preston, 1995) ولا يرتبط الحراك الاجتماعى فى الكثير من الأحيان بصور تحقيق العدالة، فى مجتمع ديمقراطى مفتوح. ولكن ظروف الاقتصاد السياسى فى كل المجتمعات تضع قيودا على عمليات الحراك الاجتماعى إلى درجة أنها قد تغلق بشكل كامل فيصبح المجتمع جامداً لا حراك فيه. ومن هنا فإن الحراك الاجتماعى لا يدل على وجود العدالة والانفتاح، وإنما قد يكون وسيلة لتحقيقهما أو قل للتغلب على صور عدم العدالة والاستبعاد الاجتماعى القائم فى المجتمع. ومن ثم فإننى أميل هنا إلى فهم الحراك الاجتماعى فى ضوء جدلية الاندماج - الاستبعاد، فالنسق الاجتماعى قد يكون قادراً على أن يطور أساليب اندماج عبر ما تتيحه من حراك اجتماعى مفتوح، وقد يطور آليات استبعاد تجعله جامدا غير قادر على أن يدمج سكانه فى نطاقه، وبين هذين القطبين تتأرجح المجتمعات قربا أو بعداً.
وإذا ما حاولنا حصر العوامل التى تمكن المجتمع من الاقتراب من المجتمع المفتوح الساعى إلى العدالة، والساعى أيضاً إلى استيعاب سكانه ودمجهم فى إطار واحد، نجد أن التعليم هو أول وأهم الوسائل التى تتيح للأفراد حركة مستمرة إلى أعلى. فقد أكدت بحوث علم الاجتماع على أن التعليم هو حجر الزاوية فى الحراك الاجتماعى، واتجهت بحوث التعليم فى علاقته بالحراك الاجتماعى اتجاهات عديدة يمكن تلخيصها فيما يلى :
1- تأكيد الارتباط المباشر بين التعليم والحراك الاجتماعى، فقد أكدت بحوث بلادين وزملائه على وجود ارتباطات قوية بين التحصيل الدراسى وارتفاع الدخل (Blonden, et al., 2005) كما أكدت بحوث ديلورينزى وزملائه على أولوية الارتباط بين التعليم وبين الانتماء الطبقى(Delorenzi, et al., 2005) ويقوم افتراض العلاقة بين التعليم والحراك الاجتماعى على الاعتقاد بأن التعليم له قيمة فى حد ذاته وبصرف النظر عما يترتب عليه من نجاحات. فالتعليم له قيمة رمزية symbolic value ، وهى قيمة تختلف عن القيمة الوظيفية للتعليم المرتبطة بالمهن التى ينتجها أو صور الحراك التى يخلِّقها، فالتعليم – فى ضوء ذلك – يبقى وسيلة لا غنى عنها لأولئك الذين يسعون إلى مزيد من الصعود إلى أعلى، وبصرف النظر عن المهن (Haveman, & Smmeding, 2006; Harighurst, 1961).
2- أن التعليم لا يؤثر بشكل متواز فى عملية الحراك الاجتماعى، فالذين يتلقون تعليمهم فى المدارس الثانوية المتميزة من أبناء الطبقات الدنيا والوسطى يحصلون على فرص أفضل من الذين يحصلون على التعليم الأساسى؛ فالتعليم الذى يؤثر تأثيراً أفضل فى الحراك الاجتماعى لابد أن يكون تعليما متميزاً. فقد أكدت الدراسات التى أجريت على الطبقات الدنيا، أن الطفل تفتح أمامه فرص الحراك الاجتماعى إذا ما حصل على تعليم متميز، وأن التعليم المتميز يضمن للأشخاص من الطبقات المستقرة عدم السقوط إلى أسفل فى سلم التدرج الطبقى (Banks, 1976). وقد فتحت هذه النتائج أفقا نحو بحث موضوع مهم وهو عدم المساواة فى التعليم unequal education للمجتمع قد لا يتيح فرصا تعليمية متساوية ، وقد يرتبط التعليم المتميز بالقدرة الاقتصادية، ومن ثم يتأثر بالخلفية الاجتماعية. وفى هذه الحالة فإن التعليم يعمق صور اللامساواة الاجتماعية ولا يقضى عليها.
3- يترتب على ذلك أن تكون المهنة هى أحد الوسائط الأساسية فى علاقة التعليم بالحراك الاجتماعى، فالمهنة التى يتيحها التعليم هى التى تحدد مصير الحركة الاجتماعية. وهى التى تعكس تعليمه، وقيمه، ومسيرة حياته، وارتباطاته بالآخرين فى الماضى. كما أنها تعكس نمط علاقاته الحاضرة، وتؤشر على دخله، وعلى نمط عمله، وعلى مدى الأمن والاستقرار الذى يتمتع به فى العمل، ومدى الفرص المفتوحة أمامه لتجميع الثروة، ونمط حياته الحالى والمستقبلي، ومدى ما يضفى عليه من شرف أو هيبة أو قوة . إن التعليم هو الذى أنتج المهنة، ولكن المهنة هى التى تحدد كل هذه الأبعاد الدالة على الحراك الاجتماعى للفرد (Hooper, 1971). ويدل ذلك على أن العلاقة بين التعليم والحراك الاجتماعى قد لا تنتج حراكاً، إلا إذا ارتبط التعليم بمهنة تنتج عملاً، وعلاقات، وأسلوب حياة، وصوراً من القوة والهيبة . أن المهنة هى التى تمنح الفرد امتيازه، ومن ثم فإن خريطة المهن هى التى تعكس خريطة المجتمع الطبقية، وأن رموز المهن وما يحط بها من ألقاب وامتيازات هى الدالة فى النهاية على الوضع الطبقى للفرد ، فالمجتمع فى النهاية هو "مجتمع ألقاب" credential Society (Collins,1979 )
4- وفى المقابل يشكك البعض (وإن كان عددهم أقل ونفوذهم أضعف) فى أهمية التعليم فى الحراك الاجتماعى . ويؤكد هؤلاء على أن التعليم ما هو إلا أحد العوامل المهمة فى الحراك الاجتماعى، وليس هو العامل الأكثر أهمية . وقد ذهب هذا المذهب أندرسون Anderson الذى قام بتحليل بيانات مقارنة من المملكة المتحدة، والولايات المتحدة، والسويد، وتوصل إلى نتيجة مفادها أنه بالرغم من أن التعليم يؤثر على فرص الفرد للصعود أو الهبوط عبر السلم الاجتماعي، فإن الحراك لا يرتبط بالتعليم إلا ارتباطاً جزئياً، وأن التعليم ما هو إلا عامل واحد من بين عوامل كثيرة (Anderson, 1961 : 164-179) وتتأسس هذه الفرضية على ما يلاحظ من أن ثمة فروق فعلية – فيما يتصل بالمستوى الاجتماعي الاقتصادي – بين أولئك الذين يتشابهون فى التعليم . فالخلفية الاجتماعية التى جاء منها الفرد تؤثر تأثيراً كبيراً على إمكانيات صعوده . فإذا تشابه اثنان في التعليم، فإن الفرد القادم من خلفية اجتماعية أكثر استقراراً وأكثر رفاهاً، سوف يكون متميزاً طبقياً عن نظيره الذى حصل على نفس التعليم . ومن ثم فإذا كان التعليم يؤدى إلى الصعود الاجتماعي، فإنه لا يلغى التميزات الطبقية، أو صور اللامساواة الاجتماعية التى ترتبط باعتبارات أخرى بعيدة عن التعليم (Boudon, 1974) .
5- وقد ترتب على كل هذه التوجهات البحثية أن التفت الباحثون إلى العوامل التى قد تساعد مع التعليم فى تحقيق الحراك الاجتماعي، أو التى قد تمنع – فى حالة عدم تحققها- التعليم من أن يؤتى ثماره فى عملية الحراك الاجتماعى. وتقوم وجهة النظر هذه على أن العلاقة بين التعليم والحراك الاجتماعى علاقة معقدة ولها وجوه عديدة. ومن ثم فإن بحث هذه العلاقة لابد وأن يتم على خلفية الوعى بأهمية العوامل الأخرى الفاعلة فى هذه العلاقة .
وتتخلص هذه العوامل، كما أوضحها نَن Nunn وزملاؤه سنة 2007 فيما يلى :
أ- رأس المال الاجتماعى : فإذا لم يكن للفرد دافع قوى نحو الاندماج، وتبنى النماذج الإيجابية وروح المخاطرة، والثقة فإنه من غير المتوقع أن يتأثر حراكه بالتعليم تأثرا كبيرا.
ب- رأس المال الثقافى : المتمثل فى مزيد من التعليم المستمر واكتساب المهارات.
ج- خبرات الطفولة : المرتبطة بنوعية حياة الأسرة، وبناء الأسرة، والرعاية قبل سن المدرسة، حيث تنتج كل هذه الأمور نمطا من النمو يستمر مع الشخص عبر فترات حياته المختلفة.
د- فرص العمل المتاحة وخبرات سوق العمل : حيث يتأثر الحراك الاجتماعى بفترات البطالة التى يعانى منها الفرد، وبفرص العمل المتاحة فى السوق، ونظام الأجور السائد، والقيود التى يضعها السوق على توزيع الوظائف مثل تلك التى يضعها على دخول المرأة إلى بعض الوظائف.
هـ - الصحة والرفاه الاجتماعى : فسوء الأحوال الصحية، وتردى الظروف البيئية قد يكون عاملاً مثبطاً لمؤثرات التعليم على الحراك.
و- التأثيرات البيئية المباشرة : مثل انعزال البيئة وفقرها، ونقص الخدمات الاجتماعية فيها، والحرمان النسبى لسكانها، كل هذه عوامل تجعل من السكن فى بيئات معينة مشكلة تتصل بإمكانية الصعود إلى أعلى (Alex Nunn, et al., 2007).
ثانياً: مشكلة البحث :
على هذه الخلفية النظرية والبحثية تأسست مشكلة هذا البحث. ماذا عسى أن تكون حالة الحراك الاجتماعى فى مصر؟ وما دور التعليم فى إحداث هذا الحراك؟ وإلى أى مدى يسهم التعليم فى إحداث فروق جيلية بين الأفراد؟ وإلى أى مدى ينقلهم عبر المكان؟ وعبر السلم الاجتماعى إلى أعلى ؟ وهم إذ يتحركون ، هل يحرصون على أن يكوِّنوا رؤية إيجابية اندماجية، أم أنهم يهربون إلى تحقيق مصالحهم الذاتية فحسب ؟
تبدو هذه الأسئلة التى تشكل جوهر مشكلة هذه الدراسة مشروعه فى مجتمع قطع شوطاً كبيراً على طريق التعليم. فقد بدأ التعليم النظامى فى مصر منذ ما يزيد على مائتى سنة، كما أنه شهد توسعاً كبيراً فى فترات تاريخ مصر المعاصر، خاصة بعد ثورة 1952 التى فتحت الباب على مصراعيه للالتحاق بالتعليم المجانى الذى تكفله الدولة. ولقد شهدت مصر منذ أن حولت نظامها السياسى إلى اقتصاد السوق فى منتصف السبعينيات توسعاًَ كبيراً فى التعليم الخاص، بدأ بالمدارس الخاصة أولاً ثم انتشر إلى التعليم العالى الخاص.
على هذه الخلفية يصبح طرح قضية العلاقة بين الحراك الاجتماعى وبين التعليم طرحاً مشروعاً. ففى مثل هذا الظرف يتوقع أن يلعب التعليم دوراً كبيراً فى حراك الأفراد عبر السلم الاجتماعى، وعبر المكان فى المجتمع المصرى. وفى نفس الوقت يتوقع أن تتقلص أهمية التعليم مع انتشار نمط التعليم الخاص، واتجاه التعليم نحو الصعود بفئات من المتميزين أكثر من صعوده بفئات عريضة من المجتمع.
ثالثاً المنهج :
تقوم الدراسة على منهج تكاملى بينى يؤلف بين وجهات نظر عديدة من علم الاقتصاد وعلم الاجتماع وعلم النفس ودراسات الاتصال وذلك فى النظر إلى قضية العلاقة بين التعليم والحراك الاجتماعى، ولقد تطلب ذلك جمع بيانات تقدم ملفاً يغطى هذه الجوانب جميعاً.
لذا فقد اتجه البحث نحو منهج المسح بالعينة معتمداً على تصميم استبيان مكون من 86 سؤالا يغطى عناصر متعددة تخدم المناحى المختلفة التى تتعاون فى إنجاز الدراسة، واشتملت هذه العناصر على المحاور التالية :
- البيانات الديموجرافية لعينة البحث
- الخلفية الاجتماعية لأسرة المبحوث
- التعليم والعمل والحراك المكانى والمهنى
- التعليم ورأس المال الاجتماعى
- التعليم والمشاركة السياسية
واعتمدت الدراسة على عينة عشوائية متعددة المراحل، قوامها 2162 حيث تم تمثيل المحافظات الحضرية بمدينة القاهرة، ومحافظات الوجهين القبلى والبحرى بمحافظتى سوهاج والدقهلية، وروعى داخل كل محافظة تمثيل مختلف المستويات الاقتصادية – الاجتماعية. ويوضح الجدول رقم (1) توزيع العينة وفقاً لمتغير الريف / الحضر والمحافظات.
جدول رقم (1)
توزيع العينة وفقا لمتغيرى الريف / الحضر والمحافظات
القاهرة الدقهلية سوهاج الجملة
ع ٪ ع ٪ ع ٪ ع ٪
حضر 455 100٪ 296 30.2٪ 242 33.3٪ 993 45.9٪
ريف - - 685 69.8٪ 484 66.7٪ 1169 54.1٪
جملة 455 100٪ 981 100٪ 726 100 2161 100
تتبنى هذه الدراسة مدخلا نظريا يفترض أن للتعليم دورا فى أحداث الحراك الاجتماعى، ولكن هذا الدور يجب أن ينظر إليه فى ضوء المتغيرات الأخرى. فإذا لم يقم التعليم بدوره فى إحداث حراك اجتماعى ظاهر، فلابد من النظر فى المتغيرات الأخرى لكى نكتشف مدى التأثر بها. ومن هنا فإننا لم نكتف فقط فى دراستنا بالمؤشرات الكمية الموضوعية الدالة على الحراك الاجتماعى، ولكننا تطرقنا أيضاً إلى عوامل ذاتية تتصل بنظرة الفرد لنفسه ومدى إدراكه لتأثير التعليم عليه، وإلى العوامل المتصلة برأس المال الاجتماعى ومدى قدرة الفرد على الإندماج فى المجال العام.
رابعاً : الحراك والتعليم.. الحراك بين الأجيال
نحاول هنا أن نتعرف على الحراك بين الأجيال من خلال المقارنة بين جيل الآباء والأمهات وجيل الأبناء على عدد من المتغيرات من أهمها التعليم، والحالة المهنية والدخل. ولقد أشارت النتائج إلى عدد من المؤشرات الدالة على حالة حراك اجتماعي بين الجيلين على النحو الذي يوضحه الجدول التالي :
جدول رقم (2)
بعض مؤشرات الحراك الاجتماعي عبر الجيلين
الأجيال
المؤشرات المبحوثون الآباء الأمهات
مؤشر التعليم نسبة الأمية 29.7٪ 73.9٪ 90.7٪
نسبة الحاصلين على شهادات متوسطة
نسبة الحاصلين على شهادات فوق المتوسطة
نسبة الحاصلين على شهادات جامعية 20.8٪
3.9٪
14.1٪ 4.2٪
0.8٪
1.7٪ 1.9٪
0.1٪
0.4٪
مجموع مؤشر التعليم 38.8٪ 6.7٪ 2.4٪
مؤشر انتظام العمل نسبة العاملون بأجر منتظم
نسبة العاملين بالزراعة
نسبة العاملين بالأعمال الحرة
نسبة العاملين بقطاع الحكومة 34.3٪
17.3٪
22.1٪
31.5٪ 16.7٪
40.9٪
17.3٪
16.5٪ 0.6٪
0.1٪
0.2٪
0.5٪
مؤشر الدخل نسبة الحاصلين على دخل أقل من 300 جنية
نسبة الحاصلين على دخل أقل من 500-1000 جنية 34.6٪
20.6٪ 59.2٪
4.7٪ 0.8٪
0.6٪
(مجموع الحاصلين على دخل من 500 إلى أكثر من 3000 جنية) 26.4٪ 5.8٪ 0.6٪
وتكشف بيانات الجدول عن أن هناك حراكاً ظاهراً بشكل جلى عبر الجيلين : جيل الآباء وجيل الأبناء، وأن هذا الحراك يتخذ وجهات أربع نوضحها فيما يلى :
1- زيادة عدد الحاصلين على شهادات تعليمية
تبين مما سبق التناقص الشديد فى نسبة الأمية لدى جيل الأبناء مقارنة بجيل الآباء (حيث كانت نسبة الأمية لدى أمهات المبحوثين 90.7٪، ولدى آبائهم 73.9٪، فى حين كانت لدى الأبناء 29.7٪)، وفى مقابل ذلك تبين تزايد نسبة المبحوثين (الأبناء) الحاصلين على شهادات تعليمية؛ حيث جاءت الشهادات المتوسطة في المقدمة وارتفعت من 4.2٪ بين الآباء، و1.9٪ بين الأمهات إلى 20.8٪ بين المبحوثين، وارتفعت الشهادات الجامعية (ارتفعت من 1.7٪ بين الآباء، و0.4٪ بين الأمهات إلى 14.1٪ بين المبحوثين، وارتفعت الشهادات فوق المتوسطة من أقل من 0.9٪ بين الآباء والأمهات إلى 3.9٪ بين المبحوثين .
ومن ثم يتضح أن هناك تغيراً وحركة صعود واضحة بين جيل الأبناء وجيل الآباء بالنسبة للحراك الاجتماعي على سلم التعليم حيث يوضح مؤشر التعليم (الحاصلين على شهادات متوسطة وفوق متوسطة وجامعية) أن ثمة تزايداً ملحوظاً عبر الجيلين ففي حين انخفض هذا المؤشر لدى الآباء والأمهات (بنسبة 8.1٪) وصل لدى جيل الأبناء إلى نسبة 38.8٪ .
2- زيادة نسب العاملين بأجر منتظم :
كشفت المقارنات الجيلية عن زيادة واضحة في أعداد ونسب العاملين بأجر منتظم، في مقابل تناقص أعداد ونسب العاملين بأجر غير منتظم . فقد زادت نسبة العاملين بأجر منتظم من نسبة 16.7٪ بين الآباء، و0.6٪ بين الأمهات، إلى نسبة 34.3٪ بين المبحوثين . وتناقصت نسبة العاملين بأجر غير منتظما من نسبة 29.6٪ بين الآباء إلى 25.6٪ بين المبحوثين . وثمة ملاحظتان جديرتان بالإشارة هنا :
الأولى : أن زيادة العاملين بأجر تعد زيادة جوهرية حيث تضاعفت النسبة تقريباً من الآباء إلى الأبناء، ولا يخفى أن التعليم كان له الدور الأعظم في هذا التحول، حيث أن التعليم هو الذي يمنح الفرصة للعمل المنتظم .
الثانية : أن النقص في العاملين بأجور غير منتظمة لم يكن حاسماً، فلم يزد هذا النقص عن 4٪ (من 29.6٪ إلى 25.6٪)، الأمر الذي قد يدل على أن التعليم لم يقض بعد على عشوائية العمل.
3- الحراك عبر قطاعات العمل :
يمثل الانتقال من الزراعة إلى قطاع العمل الحكومي وقطاع الأعمال الحرة مؤشراً على مدى ما يقوم به التعليم من تحريك للبشر عبر نقلهم من قطاع الزراعة إلى القطاعات الأخرى . فقد كانت نسبة الآباء العاملين بالزراعة 40.9٪، وأصبحت هذه النسبة بين المبحوثين 17.3٪ . وهكذا تناقصت نسبة الاشتغال بالأعمال الزراعية تناقصاً جذرياً زاد عن النصف، وفى مقابل ذلك تزايدت نسبة المشتغلين من جيل الأبناء في قطاع الحكومة والأعمال، حيث تزايدت من 16.5٪ بين الآباء إلى 31.5٪ بين المبحوثين . وتنسحب الزيادة أيضاً على قطاع الأعمال الحرة، وإن كانت بنسبة أقل؛ حيث كانت بين الآباء 17.3٪، وأصبحت بين المبحوثين 22.1٪ ، مما يؤشر مرة أخرى على الدور الذي يقوم به التعليم في حصول الأفراد على فرص من العمل الثابت المنتظم الذي يوفر لهم شكلاً جديداً من أشكال المكانة داخل المجتمع .
4- تزايد فئات الدخل الوسطى :
ومن المؤشرات الدالة على حركة الصعود والهبوط على السلم الاجتماعي، التناقص الواضح في فئات الدخل المنخفض، في مقابل التزايد الواضح في فئات الدخل الوسطى وذلك لدى الأبناء مقارنة بآبائهم . فقد كانت نسبة الآباء في فئة الدخل المنخفض (أقل من 300 جنية) حوالي 59٪، وانخفضت بين المبحوثين إلى 34.6٪ . وفى المقابل حدث تحرك مضاد في فئة الدخل الوسطى (من 500- 1000 جنية) ، فقد جاءت هذه النسبة متواضعة بين الآباء (4.7٪) بينما وصلت إلى 20.6٪ بين المبحوثين . وتدل الاتجاهات في تغير نسب الدخل المنخفض والمتوسط بين الآباء والأبناء، على أن ثمة اتجاه لحراك اجتماعي صاعد ينتهي في النهاية إلى تمدد كمي في حجم الطبقة الوسطى؛ حيث يشير مؤشر الدخل (الحاصلين على دخول تبدأ من 500 جنيه إلى أكثر من 3000 جنيه) إلى أن ثمة تفاوتاً كبيراً بين المبحوثين وآبائهم حيث تضاعف المؤشر لدى جيل الأبناء (بنسبة 26.4) بالمقارنة بجيل الآباء (بنسبة 5.8٪).
خامساً : التعليم والحراك الرأسى
يقصد بالحراك الرأسى الارتفاع أو الاتضاع على السلم الاجتماعى. ويتجه هذا القسم من الدراسة إلى فحص بيانات تجيب عن سؤالين : هل ثمة ميل عام نحو الحراك إلى أعلى بالنسبة لأفراد العينة فى مجموعهم؟ وهل هناك علاقة بين التعليم وبين مؤشرات الحراك الرأسى؟
ويوضح الجدول رقم (3) بعض المؤشرات الدالة على الحراك الرأسى فى علاقته بالتعليم
جدول رقم (3)
مؤشرات الحراك الرأسى فى علاقته بالتعليم
المؤشرات التعلـيــــم أمى شهادة متوسطة شهادة جامعية
مؤشر الدخل نسبة الدخول أقل من 300 جنيه
نسبة الدخول من 300-1000 جنيه
نسبة الدخول أكثر من 1000 جنيه 51.2 ٪
43.2 ٪
5.6 ٪ 16.4 ٪
71.1 ٪
12.4 ٪ 6.9 ٪
69.7 ٪
23.4 ٪
مؤشر المهنة نسبة العاملين بأجر فى عمل منتظم
نسبة العاملين بأجر فى عمل غير منتظم 12.3 ٪
38.5 ٪ 48 ٪
20 ٪ 74 ٪
5.9 ٪
مؤشر التزاحم المكانى غرفة لكل فرد فى الأسرة
غرفة لكل فردين
غرفة لكل ثلاثة أفراد 21.2٪
46٪
32٪ 27.3٪
56.2٪
16.4٪ 42.4٪
50.3٪
7.2٪
مؤشر الملكية المنقولة امتلاك سيارة ملاكى
امتلاك كمبيوتر
امتلاك تكييف
امتلاك لاب توب 1.6٪
3.1٪
0.5٪
صفر 4.5٪
19.2٪
3.3٪
صفر 19.3٪
47.8٪
15.3٪
3.3٪
تشير بيانات الدخل إلى أن نسبة 33.7٪ من أفراد العينة، يعيشون على دخل يتراوح بين 300-500 جنيه؛ وأن 25٪ منهم يعيشون على دخل أقل من 300 جنيه. يعنى ذلك أن حوالى ثلثى العينة (62.6٪) يعيشون عند مستوى الدخل أقل من 500 جنيه؛وإذا أضفنا إلى هؤلاء من يعيشون على دخل أقل من 1000 جنيه (وهو دخل بسيط فى ضوء متغيرات التضخم المعاصرة) لوصلت النسبة إلى 89.1٪، يعنى ذلك أن حوالى 11٪ من أفراد العينة هم الذين يزيد دخلهم عن 1000 جنيه شهريا. والنتيجة التى تستخلص من بيانات الدخل تتجه نحو تأكيد حقيقة مهمة وهى أن معظم أفراد العينة يعيشون عند حالة معينة من الحرمان. وقد نشتق من هذه النتيجة فرضية سريعة مفادها أن الحراك الاجتماعى حتى وإن حدث فإنه قد لا يؤدى إلى تغيرات جوهرية فى نوعية الحياة.
ولكن هل حدث حراك إلى أعلى فى ضوء متغير التعليم؟ حاولنا أن نجيب على هذا السؤال بالكشف عن توزيعات أفراد العينة على مؤشرات أربعة فى ضوء متغير التعليم، وهى الدخل والمهنة ومعدل التزاحم السكنى والممتلكات المنزلية، وجميع هذه المؤشرات يمكن أن تشير إلى الوضع الطبقى، أو إلى أسلوب الحياة داخل الأسرة.
1- التعليم والدخل
تدل بيانات الدخل الشهرى لأسر العينة على وجود اتساق واضح بين التعليم والحصول على دخول أكبر. فالأميون يتركزون فى أقل فئة دخل (أقل من 300 جنيه) بنسبة 51٪ تقريبا، أما حملة الشهادات العليا فيحصلون على نسبة ضئيلة من هذه الفئة (6.9٪). ونجد العكس فى فئة الدخول العليا (أكثر من 1000 جنيه) حيث تنخفض نسبة الأميين فى هذه الفئة (5.6٪)، وترتفع نسبة حملة الشهادات العليا (23.4٪) . وينسحب ذلك على فئة الدخل المتوسط حيث ترتفع النسبة ارتفاعا متسقا مع ارتفاع التعليم. ومن الملاحظات الجديرة بالنظر فى بيانات الدخل: النسبة المرتفعة لحملة الشهادات المتوسطة فى فئة الدخل المتوسط، وتقارب هذه النسبة مع نسبة حملة الشهادات العليا؛ فقد بلغت نسبة حملة الشهادات المتوسطة فى فئة الدخل المتوسط (من 300-1000) حوالى نسبة 71٪، فى مقابل نسبة 69.7٪ لحملة الشهادات الجامعية.
2- التعليم والاستقرار المهنى
إن التعليم – وكما أكدت معظم دراسات الحراك الاجتماعى المهنى – هو الأداة نحو تحقيق الكفاءة المهنية، وأن المهنة هى التى ترفع أصحابها وليس مجرد الحصول على التعليم. هذه نتيجة مستقرة فى تراث دراسات الحراك الاجتماعى. ولقد أكدت دراستنا على نفس النتيجة، ولكنها تؤكد عليها من زاوية الاستقرار المهنى. لقد ارتبط التعليم فى مصر لفترات طويلة بضمان الدولة تقديم وظائف دائمة للخريجين، وقد أدى ذلك إلى أن يصبح التعليم وسيلة لضمان أجر ثابت ودائم. وقد انعكس هذا الوضع فى نتائج الدراسة التى أكدت وجود علاقة واضحة بين التعليم وبين العمل فى أعمال دائمة ومستقرة. فالعلاقة طردية بين التعليم والاستقرار فى الأعمال المنتظمة، فقد بلغت نسبة العاملين فى أعمال منتظمة بأجر بين الأميين 12.3٪ ، وارتفعت إلى نسبة 48٪ بين حملة الشهادات المتوسطة وإلى نسبة 74٪ بين حملة الشهادات الجامعية. والعكس بالعكس بالنسبة للعلاقة بين التعليم وعدم الاستقرار فى العمل؛ فقد وصلت نسبة الأميين 38.5٪ فى الأعمال غير المنتظمة، وتناقصت إلى 20٪ بين حملة الشهادات المتوسطة، وإلى نسبة 5.9٪ بين حملة الشهادات العليا.
3- التعليم والتزاحم السكنى
يعكس حجم الأسرة فى مقابل سعة السكن أحد المؤشرات الدالة على أسلوب الحياة، ومن ثم على التمايز الطبقى. ولقد قمنا بحساب نسب التزاحم لأسر العينة من خلال مقارنة حجم الأسرة بعدد الغرف التى يحتويها المسكن. وقد كشفت البيانات عن أن هذا العامل لا يرتبط بالتعليم ارتباطاً كبيراً، ففى الوقت الذى أشارت البيانات إلى تزايد نسبة الجامعيين من ذوى المستوى الأول من التزاحم (غرفة لكل فرد) - حيث بلغت النسبة بين الجامعيين 42.4٪ - بلغت نسبة التزاحم بين الأميين 21.2٪، وبين حملة الشهادات المتوسطة 27.3٪، وتتواكب هذه النتيجة مع النتيجة الخاصة بمعدل التزاحم فى المستوى الثالث (ثلاثة أفراد للغرفة)، حيث زادت النسبة بين الأميين بشكل واضح عن المتعلمين (32٪، 16.4٪، 7.2٪، على التوالى). وتختل هذه القاعدة قليلاً فى المستوى الثانى من التزاحم (غرفة لكل فردين) حيث تتراوح النسبة بين 46٪ للأميين و50٪ للجامعيين، و56.5٪ للشهادات المتوسطة. ولكن رغم اختلاف النتيجة هنا (فى المستوى الثانى من التزاحم الذى يبدو وأنه السكن الأكثر انتشاراً) إلا أنها تتسق مع الاتجاه العام فى التأكيد على علاقة التعليم بالسكن الأفضل الذى يقل فيه معدل التزاحم داخل الغرفة الواحدة.
4- التعليم والملكية المنقولة
وهذا هو المؤشر الرابع الذى نكشف من خلاله عن الحراك الرأسى فى علاقته بالتعليم، وهو الممتلكات المنقولة التى تملكها الأسرة. وقد سألنا المبحوثين عن 11 نوعاً من الممتلكات تتراوح بين العقارات ، والسيارات (الملاكى والنقل) والأدوات الكهربائية، وأدوات الاتصال الحديثة. وقد اخترنا من بين هذه الأنماط من الملكية المنقولة أربعة أنواع هى السيارة، والحاسب الآلى، والتكييف، واللاب توب. ولقد اتضح أن هذه الأنواع الأربعة من الملكية المنقولة فارقة بشكل واضح بين المستويات التعليمية المختلفة. فالمتعلمون تعليما عالياً هم الأكثر استخداماً لهذه السيارات (19.3٪) ولأجهزة الحاسبات (47.8٪) والتكييف (15.3٪) واللاب توب (3.3٪) ولا نستطيع أن نقارن هذه النسب بنسب الأميين، فذلك ظلم لهم، ولكننا يمكن أن نقارنها بنسب حملة الشهادات المتوسطة، فقد جاءت النسب السابقة عند أصحاب الشهادات المتوسطة على النحو التالى على التوالى (4.5٪، 19.2٪، 3.3٪، صفر ٪). ويدل ذلك على أن التعليم الأعلى يتيح أمام أصحابه فرصاً أفضل للانفتاح على عوالم أكثر اتساعاً، كما أنه قد يتيح لهم حياة أكثر راحة وسهولة.
سادساً : التعليم والحراك المكانى والنفسى
إلى أى مدى يسهم التعليم فى نقل الأفراد عبر المكان، سواء كان داخل الوطن أم خارجه؟ وإلى أى مدى يجعلهم يشعرون أنهم أحسن حالاً، وأكثر اختلافاً؟ وللإجابة عن السؤال الأول نكون بصدد حراك مكانى، وللإجابة عن السؤال الثانى نكون بصدد حراك نفسى. ولقد آثرت هنا أن أتحدث عن الموضوعين فى فقرة واحدة لارتباط الحركة عبر المكان بالتفتح النفسى، أو الانفتاح على الخبرات المتعددة، أو قل الانفتاح على العالم. ولقد أكد علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا أن رؤية العالم world view تتسع كلما انتقل الفرد عبر المكان. ولا نزعم هنا أننا نقيس رؤية العالم ولكننا فقط نؤكد على هذه الرابطة بين الحركة المكانية والحركة النفسية، وأن الحركة عبر المكان قد تسهم فى تغيير معتقدات الشخص وأفكاره وعاداته وصورته عن نفسه وعن الآخرين.
وفى ضوء ذلك نتجه الآن نحو فحص المادة التى كشفت عنها الدراسة الميدانية لنرى إلى أى مدى ينجح التعليم فى مصر فى تحقيق حراك مكانى، وإلى أى مدى يرتبط هذا الحراك بالحراك النفسى أو الاتساع فى رؤية العالم. ويتضح من الجدول التالي بعض مؤشرات الحراك الاجتماعي والنفسي .
1- التعليم والحراك المكانى
ثمة مؤشرات كشفت لنا عن الحراك المكانى داخل الوطن أو خارجه فى علاقته بالتعليم منها : الانتقال من المنطقة التى ولد فيها الشخص إلى السكن خارجها، والعمل خارج البلاد، وما إذا كان الأفراد يعتقدون أن للتعليم دوراً فى هذا الانتقال ؟ فمن خلال النظر إلى الجدول رقم (4) يتضح لنا ما يلى :
جدول رقم (4)
بعض مؤشرات الحراك المكانى والنفسى
أمى ابتدائى شهادة متوسطة شهادة جامعية
1- السكن فى نفس منطقة الميلاد 80.8 - 80.4 75.7
2- العمل كسبب للإقامة بعيدا عن الأسرة 39.8 - 28.4 29.2
3- الزواج كسبب للإقامة بعيدا عن الأسرة 51.2 - 52.3 54.1
4- العمل بالخارج 27.4 - 34 29.6
5- التعليم كميسر للحصول على عمل فى الخارج - 7.9 22.9 61.1
6- ارتباط العمل بالخارج بالتخصص - - 13.1 51.1
7- الشعور بأنه أحسن حالا من أسرة النشأة 49.5 - 51.3 57.9
8- الشعور بالاستفادة من التعليم فى الحياة - 52.8 81.1 95.1
9- الشعور بأن التعليم يجعل الفرد مختلفا - 57.4 83.8 95.7
فيما يتصل بالانتقال من منطقة السكن التى ولد فيها الشخص إلى منطقة أخرى، كشفت البيانات عن أن النخبة الأكبر تقيم فى نفس المنطقة. فلم تقل نسبة من أكدوا أنهم يعيشون فى نفس المنطقة التى ولدوا فيها عن 71.8٪، ويدل ذلك بشكل عام على أن الحراك المكانى داخل الوطن هو حراك ضعيف لا يتجاوز الثلث. ولكن النظر فى استجابات المبحوثين فى علاقتها بالتعليم كشف عن أن للتعليم دور – وإن يكن طفيفاً – فى الحركة المكانية. فنجد أن نسبة من أكدوا على إقامتهم فى نفس المنطقة من الأميين تبلغ 80.8٪ ، وهذه النسبة تتناقص بالتدريج إلى أن تصل إلى 75.9٪ فى التعليم العالى، وتتناقص بشكل حاد لتصل إلى 45.8٪ فى التعليم ما بعد الجامعى. إن الفرق يظهر واضحاً فى التعليم الجامعى وفوق الجامعى، الأمر الذى يدل على أن التعليم الجامعى قد يكون عاملا مهماً فى الحراك المكانى.
وعند السؤال عن السبب فى الانتقال للسكن بعيداً عن الأسرة بالنسبة للذين تحركوا بالفعل، اتضح أن التعليم لا يسهم بنسبة كبيرة فى هذا الانتقال، وجاءت أسباب أخرى فى مرتبة أعلى منه مثل الزواج والعمل. فقد احتل الزواج المرتبة الأولى بنسب تزيد قليلا عن النصف فى كل الفئات التعليمية، وجاء البحث عن العمل فى المرتبة الثانية بنسب تتراوح ما بين 40٪ و 20٪، وجاء التعليم فى المرتبة الثالثة بنسب ضئيلة جداً.
وإذا ما انتقلنا إلى الحركة إلى الخارج، فسوف نجد أن ثمة تقاربا بين المستويات التعليمية المختلفة فيما يتصل بالانتقال للعمل بالخارج. فقد تراوحت نسبة من انتقلوا إلى العمل بالخارج بين 41.7٪ إلى 18.8٪ من إجمالى العينة فى المستويات التعليمية المختلفة. وتقارب الأميون مع حملة الشهادات الجامعية فى هذه النسبة (27.4٪ فى مقابل 29.6٪ على التوالى). وجاءت أعلى النسب بين من يقرأون ويكتبون، يليهم مباشرة حملة الشهادات الابتدائية، فالإعدادية، فالثانوية المتوسطة. وتدل هذه النسب على غياب العلاقة بين التعليم وبين الانتقال للخارج، حيث استوعبت عملية انتقال العمالة إلى الخارج فئات أعرض من بين غير المتعلمين؛ وإذا كان أفراد العينة قد تساووا تقريبا فى فرص السفر إلى الخارج، فإن المتعلمين يدركون أن تعليمهم هو الذى منحهم هذه الفرصة (التى هى بالضرورة فرصة أفضل من فرصة غير المتعلمين)، فقد عبَّر 61.1٪ من أفراد العينة من حملة الشهادات العليا عن أن التعليم ساعدهم فى الحصول على عمل فى الخارج، كما عبر 51.1٪ منهم عن أن عمله بالخارج كان مرتبطاً بالتخصص الدراسى الذى حصل عليه أثناء تعليمه. ويدل ذلك على أنه رغم توافر فرص حراك جغرافى لغير المتعلمين، فإن المتعلمين على وعى بأن تعليمهم كان سبباً فى فرص السفر التى حصلوا عليها.
2- الحراك النفسى :
إذا كان التعليم لا يقلقل الإنسان من المكان كثيراً، فالحراك المكانى مفتوح للمتعلمين وغير المتعلمين؛ وإذا كان الأمر كذلك فهل يغير التعليم صورة المرء عن نفسه، ومدى إحساسه بالتميز والاختلاف؟ يمكن أن نبدأ هذا التحليل بالتعرف على مدى الشعور بالتميز عن أسرة النشأة، فقد سألنا جميع أفراد العينة عما إذا كانوا يشعرون بشكل عام بأنهم أحسن حالاً من أسرة النشأة، وقد جاءت الاستجابات مبشرة بإحساس قوى بأفضلية الحياة الآن عن أسرة النشأة. فقد أكدت نسبة وصلت إلى النصف تقريباً (49.7٪ من مجموع أفراد العينة)، وهى نسبة ترتفع إلى أكثر من 60٪ إذا أضفنا عليها نسبة من يؤكدون أنهم يشعرون بتحسن إلى حد ما. وفى مقابل هذا الشعور العام بتحسن الأحوال عن أسرة النشأة، تظهر النتائج أن المتعلمين يشعرون بهذا التحسن أكثر من غيرهم، حيث أكدت نسبة أكبر من خريجى الجامعات (57.9٪) على وجود التحسن فى مقابل نسبة أقل للأميين (49.5٪).
وللتعمق فى اكتشاف هذا الاتجاه نحو العلاقة بين التعليم والحراك النفسى، سألنا المتعلمين (بدءاً من الحاصلين على شهادة ابتدائية)، بشكل مباشر عما إذا كان التعليم قد أفادهم فى حياتهم. وجاءت النتائج لتؤكد إجماعاً يصل إلى حوالى 80٪ على أن التعليم قد أفاد الناس فى حياتهم، ويقوى هذا الإحساس ويتعاظم مع التدرج على سلم التعليم فقد ظهرت أدنى نسبة بين حملة الشهادة الابتدائية (52.8٪)، وزادت هذه النسبة إلى 81.1٪ بين حملة الشهادات المتوسطة، وزادت إلى 95.1٪ بين حملة الشهادات العليا. وقد اكتملت الصورة عندما أكد المتعلمون على اختلاف مستوياتهم أن التعليم قد جعلهم مختلفين أو متميزين عن نظرائهم من غير المتعلمين. فقد تدرجت النسب هنا حسب المستوى التعليمى، فحملة الشهادات الابتدائية هم أقل شعوراً بالتميز والاختلاف (بنسبة 57.4٪)، ارتفعت بين حملة الشهادات المتوسطة إلى نسبة 83.8٪، وبين حملة الشهادات العليا إلى 95.7٪ وهذا يدل على أن الحراك النفسى المتمثل فى الشعور بالاختلاف يظهر على نحو أعمق بين المتعلمين. ولكن نحن ما نزال بحاجة إلى بيانات أكثر تفصيلاً – ربما تكون بيانات كيفية – لكى نتأكد من أن هذا التميز وذلك الاختلاف الذى يحدثه التعليم هو تميز حقيقى واختلاف جوهرى. والسؤال المطروح على بساط البحث هنا: هل هذا الحراك النفسى مجرد شعور أو إحساس، أم أنه تغير نوعى فى البنية العقلية والنفسية للمتعلمين. هذا سؤال ربما يجيب عليه بحث آخر.
سابعاً : التعليم ورأس المال الاجتماعى
إلى أى مدى يندمج الأفراد فى مجتمعهم، وإلى أى مدى يستطيع الأفراد أن ينخرطوا فى تنظيمات وعلاقات إيجابية ترتبط بالجمعية والثقة والاندماج الاجتماعى – أن مفهوم رأس المال الاجتماعى يشير إلى أرصدة الفرد من العلاقات ، أو الموارد التى يمكن أن تستخدم فى أفعال مقصودة. وهذه الموارد أما أنها علاقات وشبكات اجتماعية تحقق أهدافا واضحة، وأما قيم تدفع إلى مزيد من الاندماج والإيجابية (أحمد زايد وآخرون، 2006 : 8-9). ولقد أكدت بحوث الحراك الاجتماعى أن أرصدة الأفراد من رأس المال الاجتماعى تعتبر عاملاً مساعدا بجانب التعليم لتحقيق الحراك الاجتماعى. فماذا عسى أن يكون الحال فى المجتمع المصرى؛ الذى أكدت الدراسات أن أرصدة المتعلمين فيه من رأس المال الاجتماعى تتناقص باستمرار، أو أنها تُهدر على خلفية الاهتمام بالمصالح الفردية الضيقة والانكفاء على الذات فى مقابل المجتمع (المرجع السابق، 170-205)
حاولنا فى هذا البحث أن نبحث فى بعض مؤشرات رأس المال الاجتماعى، وأن نتلمس علاقتها بالمستوى التعليمى. جاءت هذه المحاولة على مستويين : الأول التعرف على مدى حرص المتعلمين على إقامة علاقات مع زملاء الدراسة، والثانى التعرف على مدى حرص المتعلمين على الانضمام إلى المنظمات التطوعية كالنقابات والأحزاب والجهات الأهلية ، كمؤشرات للاندماج الطبقى.
ويوضح الجدول رقم (5) مؤشرات رأس المال الاجتماعى متمثلة فى : العلاقة بزملاء الدراسة، وعضوية النقابة، وعضوية الأحزاب السياسية، وعضوية النوادى، وعضوية المنظمات الأهلية.
جدول رقم (5)
مؤشرات رأس المال الاجتماعى
المؤشر البنود أمى متوسط جامعى
مؤشر العلاقات الاجتماعية الحرص على إقامة علاقات مع زملاء الدراسة - 54.9٪ 77٪
مؤشر الانخراط فى المنظمات الطوعية عضوية النقابة
عضوية الأحزاب السياسة
عضوية النوادى
عضوية المنظمات الأهلية 1.6٪
1.2٪
3٪
8٪ 27.1٪
10.0٪
8.0٪
3.8٪ 75.0٪
15.8٪
17.8٪
7.9٪
1- إقامة علاقات مع زملاء الدراسة
كشفت النتائج عن أن المتعلمين حريصون على إقامة علاقات مع زملاء الدراسة، وأن هذا الحرص يتزايد مع زيادة التعليم. فقد وصلت نسبة من أكدوا حرصهم على إقامة مثل هذه العلاقات من حملة الشهادات المتوسطة 54.9٪، تزايدت إلى 77٪ بين حملة الشهادات الجامعية، ووصلت إلى 100٪ بين حملة الشهادات فوق الجامعية. وربما يكون هذا الاتجاه نابعاً من الحرص على تأكيد وتدعيم العلاقات الشخصية التى يمكن أن تكون مفيدة إذا ما احتاجها الشخص فى المستقبل.
2- الانخراط فى المنظمات الطوعية
يكشف الجدول رقم (5) عن توزيع عينة الدراسة حسب الانخراط فى أربع منظمات طوعية فى ضوء المستويات التعليمية الثلاثة التى نبنى عليها تحليلنا فى هذه الورقة. وقد كشفت النتائج عن علاقة إيجابية بين التعليم وبين عضوية النقابة، حيث وصلت نسبة أعضاء النقابات من الشهادات المتوسطة 27.1٪ ، فى حين بلغت هذه النسبة 75٪ بين حملة الشهادات العليا؛ ويبدو أن ارتفاع النسبة هنا لايرتبط بميل نحو الاندماج والتطوع بقدر ما يرتبط بالعضوية الإجبارية فى النقابة. ويتضح ذلك بشكل جلى إذا ما قارنا بين هذه النتيجة والنتائج المتصلة بعضوية بقية المنظمات حيث جاءت النسب منخفضة وغير دالة على وضع متميز للمتعلمين؛ هذا بالرغم من وجود فروق بين المتعلمين والأميين. فبالنسبة للأحزاب السياسية جاءت نسب من أكدوا عضويتهم فى أحزاب على النحو التالى 1.2٪ للأميين، 10 ٪ للتعليم المتوسط، 15.8٪ للتعليم الجامعى. وعلى نفس المنوال فيما يتعلق بعضوية النوادى حيث جاءت النسب على النحو التالى : 3٪ للأميين، 8 ٪ للتعليم المتوسط، 17.8٪ للتعليم الجامعى. وتنخفض عضوية الجمعيات الأهلية بشكل أكبر فتأتى النسب على النحو التالى : 8 ٪ للأميين، 3.8٪ للتعليم المتوسط، 7.9٪ للتعليم الجامعى.
ثمة عزوف واضح هنا عن الاندماج فى عضوية المنظمات الجمعية؛ وهو عزوف يمكن أن نقارنه بالرغبة التى أكدها المبحوثون بأهمية إقامة علاقات مع زملاء الدراسة؛ فالعلاقات الشخصية أهم هنا من العلاقات المؤسسية، والاندماج الشخصى يأخذ أولوية على الاندماج الاجتماعى.
المراجع
- أحمد زايد وآخرون(2006) رأس المال الاجتماعى لدى الشرائح المهنية من الطبقة الوسطى، القاهرة : مطبوعات مركز البحوث والدراسات الاجتماعية – كلية الآداب – جامعة القاهرة.
- Aldridge, S. (2003) "The Facts about Social Mobility : a Survey of Recent Evidence on Social Mobility and its Cause", New Economy, 10 : 4, pp. 189-193.
- Anderson, A. C. 'A Skeptical Note on Education and Mobility', in : Habey and Others (ed.); (1961) Education. Economy and Society, The Fess Press of Glencoe & Inc. pp. 164-79.
- Banks, O; (1976) The Sociology of Education. London : B.T. Batsford.
- Blanden, J., Gregg, P. and Machin, S. (2005) Intergenerational mobility in Europe and North America, London : London School of Economics, Centre for Economic Performance.
- Boudon : R. (1974) Education, Opportunity and Social Inequality : Changing Prospect in Western Society, New York : John Wiley, pp. 13-15.
- Braye, S. and Preston – Schoot, M. (1995) Empowering practice in social care, Buckingham : Open University Press.
- Collins, R.; (1979) The Credential Society :An Historical Sociology of Educational and Stratification. New York : Academic Press.
- Delorenzi, S. Reed, J. and Robinson , P. (eds.) (2005) Maintaining Momentum : Promoting Social Mobility and Life Chances from Early Years to Adulthood, London : Institute for Public Policy Research.
- Haridgurst, R. J. (1961) 'Education and Social Mobility in Habey', Floud and Anderson (eds.) : Education Economy and Society : A Reader in Sociology of Education. N.Y : The Fee Press.
- Haveman, R. and Smeeding, T. (2006) ' The Role of Higher Education in Social Mobility', Future of children, 16:2, pp. 125-150.
- Heath, A. and Payne, C. (1999) Twentieth Century Trends in Social Mobility in Britain, Centre for Research into Elections and Social Trends, Working Paper 70, June.
www.crest.oc.ac.uk.- Hooper, E. (1971) "Notes on Stratification. Education and Mobility in Industrial Societies, In E. Hopper (ed.); Readings in the Theory of Educational Systems. Longon : Hutchinson, pp.13-37.
- Lipest, S.M. and Bendix R; (1959) Social Mobility in Industrial Society, (Berkeley : University of California Press.
- Nunn, A. Johnson, S. Monro, S. Bickerstaffe, T. & Kelsey, S. (2007) Factors Influencing Social Mobility, published by Corporate Document services.