الأسرة ودورها في التوجيه السلوكي للأبناء والبنات
إعداد
د. عبد العزيز بن حمود الشثري
أستاذ علم الاجتماع المشارك
كلية العلوم الاجتماعية
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
مقدمة:
الأسرة تعتبر من أهم المؤسسات الاجتماعية في حياة الإنسان قديماً وحديثاً. وتؤدي الأسرة دوراً بارزاً في حياة الأبناء والبنات على وجه الخصوص وذلك من خلال عدد من العمليات الاجتماعية. فهي علاوة على دورها في توفير الحماية والغذاء والمسكن للطفل، هي تساهم في صنع تفكيره وتحديد مساره في مستقبل الأيام وذلك من خلال تكوين شخصيته الاجتماعية وتنمية مواهبه وقدراته وتعديل غرائزه الحيوانية وكبح جماح الشرّ والعدوان لديه. فيتحول بذلك إلى إنسان أو كائن اجتماعي كما يسميه بعض العلماء. بعد أن كان كائنا بيولوجيا.
وسوف نقتصر في بحثنا هذا على دور الأسرة في توجيه سلوك الأبناء والبنات، من خلال عملتين اجتماعيتين هما: عملية التنشئة الاجتماعية، وعملية الضبط الاجتماعي. حيث أن نجاح الأسرة أو فشلها في هاتين العمليتين أو إحداهما ينعكس إيجاباً أو سلباً في حياة الابن أو البنت كما تفيد الدراسات الاجتماعية والنفسية، وخاصة في ميدان الجنوح لدى الأحداث، حيث ترجع كثير من تلك الدراسات ارتفاع نسبة الجنوح في مناطق معينة أو لدى جماعات معينة إلى تدني مستوى أداء الأسرة في هذين الحقلين الهامين: التنشئة والضبط الاجتماعي. ونناقش هنا باختصار شديد، بعض المفاهيم المتعلقة بهذا الموضوع ثم نوجز بعض خصائص مرحلة المراهقة والتي تتعلق بجانب التفاعل الأسري ومن ثم نعرض لدور الأسرة في حياة الأبناء، والعلاقات المتبادلة بين أفراد الأسرة وما لها من إنعاكاس على استقامة هؤلاء الأحداث أو جنوحهم.
وبعد ذلك نتحدث باختصار عن التفسير الإسلامي لدور الأسرة في توجيه سلوك الأبناء وأخيراً نختم ببيان أهم الوسائل والأساليب التي ينتقل بواسطتها أثر الآباء إلى الأبناء.
مشكلة البحث وأهميتها:
تتلخص مشكلة هذا البحث في محاولة الربط بين دور الأسرة في عملية التنشئة الاجتماعية ودورها في عملية الضبط الاجتماعي حيث أن كل ميدان من هذين الميدانين قد حفل بكثير من الأبحاث والدراسات فجاءت الدراسات التي تناقش عملية التنشئة الاجتماعية أقرب ما تكون إلى الدراسات التربوية المثالية. في حين التصقت الدراسات المتعلقة بدور الأسرة في عملية الضبط الاجتماعي بالدراسات الجنائية أو دراسات الجنوح والانحراف. مع أن الواقع يملي علينا النظر إلى الأسرة كوحدة اجتماعية متكاملة تؤثر وتتأثر بالمجتمع من خلال العديد من العمليات الاجتماعية والثقافية.
وعلى هذا تأتي معالجتنا المتواضعة هذه لما تتركه الأسرة في حياة الأبناء والبنات - خاصة في سن المراهقة والحداثة - من أثار سلبية أو إيجابية من خلال عمليات وأساليب سلبية أو إيجابية أيضاً في إطار عمليتي التنشئة والضبط الاجتماعيتين.
أولاً: المفاهيم الأساسية في البحث:
يعتبر تحديد المفهوم أو التعريف الدقيق للمصطلحات مطلباً هاماً وأساساً لأي دراسة عملية، وخاصة تلك المفاهيم التي تتعلق بعنوان البحث أو الدراسة ويزداد الأمر إلحاحاً إذا كانت تلك المصطلحات مما يشيع استخدامه في علوم مختلفة تتناول تلك المصطلحات من زوايا مختلفة حسب طبيعة تعرضها لها وبما يخدم هذا التخصص أو ذاك.
وفي دراستنا هذه فإن هناك بعض المصطلحات التي لا بد من الوقوف على بعض ما كتب فيها من تعريفات تعددت مصادرها واختلف تناولها بين علماء الفقه الإسلامي وعلماء النفس والتربية والاجتماع والقانون وذلك لعلاقـتها الشـديدة بتلك
الميادين محاولين الاختصار والإيجاز فيما يلي:
1- الأسرة (Family):
قد يبدوا تعريف الأسرة سهلاً من النظرة الأولى لتلك العبارة المألوفة لدى كل أحد ولكن الجدل حول تعريف الأسرة لم يتوقف بين العلماء حتى يومنا هذا ويمكن باختصار أن نحصر سبب هذا الجدل والاختلاف في أمرين هما:
أ- الاختلاف حول نطاق الأسرة وحدودها.
ب- الاختلاف حول محور القرابة في الأسرة.
ومن التعريفات الحديثة للأسرة: الأسرة رابطة اجتماعية تتألف من الزوج والزوجة وأطفالهما أو بدون أطفال كما قد تتكون الأسرة من زوج بمفرده مع أطفاله أو زوجة بمفردها مع أطفالها. وقد تتسع الأسرة بحيث تضم الأجداد والأحفاد وبعض الأقارب على أن يكونوا مشتركين في معيشة واحدة مع الزوج والزوجة والأطفال.(1)
ويرى آخرون بأن الأسرة تجمّع اجتماعي قانوني لأفراد اتحدوا بروابط الزواج والقرابة أو بروابط التبني وهم في الغالب يشاركون بعضهم بعضاً في منزل واحد ويتفاعلون تفاعلاً متبادلاً طبقاً لأدوار اجتماعية محددة تحديداً دقيقاً وتدعمها ثقافة عامة. (2)
ويرى آخرون بأن تعريف الأسرة من المنظور الإسلامي يختلف عن كثير من التعاريف التي وردت في الكتابات الغربية والأمريكية وخاصة التعريفات التي تعتبر التبني شكلاً من أشكال الأسرة. الآية. لا يقر العلاقة القرابية بالتبني
أدعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله.. الآية .(3)
إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم.. الآية .(4) كما أن المنظور الإسلامي لا يتفق مع التعاريف التي تأثرت الفوضى الأخلاقية والانحلال الجنسي في الغرب فأصبحت تنظر لعلاقة الشذوذ الجنسي (معيشة الرجل مع الرجل أو المرآة مع المرآة في بيت واحد) أو علاقة التعايش بين الرجل والمرآة بدون زواج على أنها أنماط حديثة للأسرة.
ويخلص هؤلاء إلى تعريف الأسرة من المنظور الإسلامي بأنها عبارة عن جماعة اجتماعية من رجل وامرأة على الأقل ارتبطا برابطة زوجية شرعية ويعيشان في مكان إقامة مشترك ويقومان بوظيفة تكاثرية و بينهما تعاون اقتصادي.(5)
2- التوجيه السلوكي (Behavioral Guidance):
كلمة توجيه Guidance بهذا اللفظ تعتبر من المصطلحات التربوية النفسية الجديدة وهي تتضمن المساعدة على خلق اتجاه جديد أو تبني اتجاه قائم كأحد الخيارات المتاحة حيال موضوع معين غالباً يتطلب اتخاذ قرار من قبل الفرد الذي يتم توجيهه أو محاولة التأثير في صنع قراره. وقد ورد في المعاجم والقواميس الاجتماعية والنفسية مصطلح التوجيه مقروناً بعبارات تحدد المجال الذي يتم فيه التوجيه مثل التوجيه المهني لطالبي العمل، التوجيه التربوي، للتلاميذ التوجيه النفسي للمرضى النفسانيين والتوجيه الاجتماعية للأحداث الجانحين وغيرهم من الفئات الاجتماعية. ولكن التوجيه السلوكي الذي نتحدث عنه في هذه الدراسة هو أعم من ذلك حيث نقصد به كل أثر مباشر أو غير مباشر تتركه الأسرة في شخصية الحدث يساعد على خلق توجه سلوكي أو يحمل أو يشجع على اتخاذ قرار في حياته سواء كان ذلك الأثر سلبياً أو إيجابا وسواء كان ذلك التصرف أو السلوك سلبياً أو إيجابياً.
3- التنشئة الاجتماعية (Socialization):
يولد الطفل كائن عضوي (بيولوجي) كما يقول البعض وعملية التنشئة الاجتماعية هي التي بمقتضاها يتم تحويل هذا الوليد أو الكائن العضوي إلى كائن اجتماعي. وقد وردت عدّة تعاريف للتنشئة الاجتماعية كلها تدور حول قضية التطبيع الاجتماعي ونقل الثقافة والتراث الاجتماعي من الآباء إلى الأبناء بواسطة أساليب عدة.
والتنشئة الاجتماعية - كما ورد في معجم العلوم الاجتماعية - هي: عملية إعداد الفرد منذ ولادته لأن يكون كائناً اجتماعيا وعضوا في مجتمع معين. والأسرة هي أول بيئة تتولى هذا الإعداد، فهي تستقبل المولود وتحيط به وتروضه على آداب السلوك الاجتماعي، وتعلمه لغة قومه وتراثهم الثقافي والحضاري من عادات وتقاليد وسنن اجتماعية وتاريخ قومي، وتأخذه بأسباب الحزم للقضاء على ما يبدو من مقاومة لهذه المواصفات والقيم، فترسخ قدسيتها في نفسه وينشأ عضوا صالحا من أعضاء المجتمع. وللأسرة في هذا شأن لا تعادلها فيه بيئة أخرى.وبجانب الأسرة توجد هيئات اجتماعية أخرى تشترك في هذه التنشئة وتعميق مضامينها في نفس الفرد، مثل حلقات اللعب والمدرسة والنوادي والجمعيات الثقافية، والمجتمع العام بما يضيفه من تجارب وما يضعه أمام الفرد من مواقف. فالتنشئة الاجتماعية عملية دينامية مستمرة، تبدأ منذ ولادة الفرد وتستمر حتى مماته. وفي كل مرحلة يتعلم ويكتسب ما لم يكن قد عرفه أو أدرك مراميه على نحو أفضل. ويضيف المجتمع باطراد إلى رأس مال الفرد الثقافي مكاسب جديدة وتجارب مستمرة.ولما كانت الأسرة هي أول هيئة تتولى التنشئة الاجتماعية، فان نجاحها يرجع إليها بقدر كبير. وتختلف الأسر في مبلغ أدائها لهذا المهمة، فمنها ما تنجح فيها نجاحا تماماً، ومنها ما يعز عليها أداؤها. ويرجع كثير من حالات الانحراف المبكرة إلى فشل الأسرة، أو عدم توفيقها في أداء وظيفتها التربوية الأساسية. (6)
4- الأحداث: (Juveniles)
الحدث في اللغة هو صغير السن ولذا يستخدم بعض الباحثين كلمة الصغار كمرادف لكلمة الأحداث ويكاد يكون هناك اتفاقا بين العلماء على أن الحدث هو ذلك الصغير الذي تجاوز مرحلة الطفولة المبكرة وبدأً يعي ما يحيط به، أي هو حديث العهد في ادارك الواقع فهو ليس طفلا وليس شابا ناضجا(7) ولكن رغم هذا الاتفاق والذي في الغالب يحدّد بداية هذا المرحلة بالسابعة من العمر هناك اختلاف واضح حول السّن التي تنتهي عندها هذه المرحلة حيث تتراوح في الغالب بين الخامسة عشر والثامنة عشر أو التاسعة عشر وذلك أخذا بالتحديد القانونيّ لفترة الحداثة التي خلالها يعامل صغير السّن معاملة خاصّة عند ارتكابه لما يستوجب مساءلته أو معاقبته وقد شاع استخدام هذا المصطلح في كتب القانون قبل أن يبدأ استخدامه كمفهوم اجتماعيّ وذلك في أواخر القرن التاسع عشر حيث أنشئت أول محكمة للأحداث في الولايات المتحدة الأمريكية. حيث تهدف التشريعات إلى تحديد فترة زمنية معينة يطبق بشأنها نظاما مخففا للمسؤولية الجنائية على الأحداث.ولكنّ علماء الاجتماع ينظرون إلى الأمر من ناحية تتعلق بفترة من حياة الإنسان لها طابعها وخواصّها ونوازعها، وتمتدّ فترة الحداثة من وجهة نظرهم حتى النضوج العقلي والاجتماعي لدى الأحداث فلا يتقيد المفهوم عندهم بحدّ أدنى أو حدّ أقصى للسّن حيث مناط التحديد عندهم ليس ركن التمييز الّذي تترتب عليه المسؤولية الجزائية بل تلك الفترة من حياة الإنسان منذُ ولادته وحتى يكتمل لديه النضج الاجتماعيّ الصحيح والرّشد الكامل(8)
وهذا هو المفهوم الذي تتبناه دراستنا هذه حيث أن التركيز هنا سوف لن يقتصر على النواحي السلبية في شخصية الحدث والتي قد ينتج عن بعضها مساءلة قانونية أو تعرّض لجزاءات معينة من قبل الجهات الرسمية.
ثانياً: طبيعة مرحلة المراهقة وخصائصها:
المراهقة اصطلاح نفسي يشير إلى تلك المرحلة من عمر الإنسان التي تصادف تقريباً مرحلة الحداثة بالتعبير القانوني، (9) الذي أخذ ينتشر في الكتابات الاجتماعية وخاصة تلك التي تبحث في الظاهرة الإجرامية عند الصغار أو (انحراف الأحداث). - كما سبق ذكره - ونشير هنا إلى أهم ما يميز تلك المرحلة من عمر الإنسان مع التركيز على تلك الخصائص المتعلقة بالتفاعل الأسري بين الآباء والأبناء وذلك في النقاط التالية:
1- تشهد هذه المرحلة نمواً سريعاً نحو النضج البدني والجنسي والتعليمي ويعد النمو البدني من أهم مظاهرها حيث يزداد الطول والوزن زيادة سريعة. وتنمو لدى المراهق بعض الصفات الجسمية والجنسية التي لم يألفها من قبل فيكون لديه الدافع لاكتشافها وتجربتها، ومن حيث اليقظة العقلية يرى بعض العلماء أن الذكاء يصل أقصاه في سن السادسة عشرة.
2- تعتبر بحق مرحلة التطبيع الاجتماعي وتوسيع الأفق الاجتماعي ويتضح لدى الشاب الاهتمام بالمظهر الشخصي والاستقلال الاجتماعي وتأكيد الذات والتطلع إلى تحمل المسؤولية الاجتماعية ويستطيع الشاب التفريق بين المرغوب وغير المرغوب وبين الواقعي والمثالي من معايير وأنماط السلوك الاجتماعي.
3- من الناحية النفسية تعتبر فترة قلق واضطراب حيث يشعر الشاب بنموه الجسمي والنفسي وبعده عن عالم الطفولة وفي الوقت نفسه يشعر بأن أفراد المجتمع لا ينظرون إليه على أنه ناضج وأن تعاملهم معه لا يتناسب مع ما وصل إليه من نضج فيحاول الابتعاد عن سلطاتهم وقد يثور عليها. وهنا نلاحظ أن نقص خبرته وحداثة نضجه قد تسبب له بعض المشكلات التي يعجز عن مواجهتها بمفرده. فغالباً ما يلجأ إلى جماعة الرفاق وأصحاب الفراغ واللعب (play group) والتي يغلب على قراراتها الحماس والاندفاع والتهور وحب إثبات الذات ومقاومة السلطات العائلية أو المدرسية أو غيرها. وهذه الجماعة أو الجماعات في الغالب تمارس ضغوطاً قوية على أعضائها وفي الوقت نفسه تجد استجابة من الأعضاء وتضحيات في سبيل بقائها وتماسكها.
4- من أهم ما يشغل بال الشابّ أو المراهق مجال العمل أو المهنة الذي سيطرقه قريباً فيسيطر على ذهنه وهو يضع في باله الاختيارات العديدة وقد يلجأ البعض إلى التجارب المختلفة في هذا المجال والتي قد يخفق في بعضها أو كلها فيؤدي به ذلك إلى اليأس والقنوط ويخلق له مشاكل عديدة نفسية واجتماعية مثل الفراغ غير المستغلّ أو الترويح غير الموجّه والتي بدورها تقود إلى مشاكل أكثر تعقيداً مثل الانحراف والجريمة والإدمان.
5- من أهم خصائص مرحلة الشباب أنها تعتبر مرحلة تكوين الاتجاهات واكتساب القيم فخلال تلك المرحلة يتحدد مستقبل الشاّب وتوجهه. حيث يكون قادراً على التمييز واختيار الأسلوب الذي يرتضيه لحياته. فهو على مفترق طرق عدّة من الممكن أن يكون لاعباً أو شاعراً أو مغنياً أو داعية أو مجاهداً أو.. أو.. الخ. وقد يكون من محبّي ومؤيدي هذا التوجّه من التفكير أو ذاك. وهنا تلعب وسائل الإعلام والأسرة والأصدقاء دوراً بارزاً في التأثير علي اختيارات الشاّب ويبرز دور القدوة في هذا الشأن.
ثالثاً: دور الأسرة في حياة الأحداث:
من خلال العرض السابق لبعض خصائص هذه المرحلة الحرجة من حياة الشاب أو الحدث يتبين لنا مدى أهمية الدور الذي يمكن أن تؤديه الأسرة في تكوين الاتجاه العام ورسم الطريق الذي يسير عليه الابن أو البنت في المستقبل وذلك من خلال محورين أساسين أو عمليتين هامتين من العمليات الاجتماعية هما:
1- التنشئة الاجتماعية (Socialization)
2- الضبط الاجتماعي (Social Control)
فمن خلال هاتين العمليتين وبواسطتهما يتم توجيه سلوك الأبناء والبنات في الأسرة والتأثير في قراراتهم وتحديد اختياراتهم من بين البدائل المتاحة من أنماط العمل والسلوك والتوجيهات المختلفة(10)
والواقع أن طبيعة بناء وظروف وثقافة الأسرة هي التي تحدد كيفية أدائها لتلك الوظيفة الهامة وتحدد أيضاً حسن أو سوء استخدامها لعمليتي التنشئة والضبط الاجتماعيتين. في بناء شخصية الحدث أو المراهق.
ففيما يتعلق ببناء الأسرة: فإن الدراسات الميدانية في هذا الشأن تشير إلى أن فقدان الوالدين أو أحدهما له أثر كبير في حياة الحدث وخاصة فقدان الأم في السنوات الأولى من حياة الطفل كما أن التفكك الأسري الناجم عن الطلاق أو الانفصال أشد أثراً من اليتم حسبما يذهب إليه بعض الباحثين في المجتمع السعودي حيث ترتفع نسبة الطلاق بين آباء الجانحين مقارنة بغير الجانحين(11)
كما تشير الدراسات المصرية إلى وجود نوع من العلاقة بين هجرة العمالة - وعلى الأخصّ غياب الأب فترات طويلة للعمل في الخارج - وبين جنوح الأبناء والبنات حيث تضعف الرقابة والسلطة الأسرية عليهم ويزداد الأمر سؤاً إذا تغيب الأب والأم وتُرك المراهقون بحجة الدراسة عند أحد الأقارب أو الأصدقاء لفترات طويلة(12)وفيما يتعلق بظروف الأسرة: فهناك مؤشرات إحصائية لا يمكن تجاهلها تدل على ارتفاع نسبة الجنوح والانحراف بين أبناء الطبقات الدنيا وفي الأحياء الأكثر فقراً - وإن كان هناك جدل حول مدى الاعتماد على الإحصاءات الرسمية فيما يتعلق بالجريمة والانحراف - إلا أن شيوع هذه الظاهرة وتكرار وجودها في المجتمعات المتقدمة اقتصاديا والمتخلفة على حدٍ سواء وكذلك في المجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية (13) يدعوا إلى أخذ هذه الظروف في الاعتبار عند محاولة التصدي لتفسير ظاهرة انحراف الأحداث في أي مجتمع. ويؤدي ذلك من الناحية النظرية أن الظروف السيئة من حيث الدخل ومستوى السكن والمعيشة وغيرها قد تسهم في فشل الأسرة في أداء رسالتها التربوية على الوجه الأكمل إضافة إلى إحساس الحدث بالحرمان من كثير من الأمور التي تتوق نفسه إليها ويتمتع بها غيره من أقرانه، مما قد يدفع به إلى محاولة الحصول على ما يريد بأقصر الطرق المتاحة ولو كانت غير مشروعة. إضافة إلى أن هذه الظروف قد تؤثر على أفراد الأسرة الأجرين. ممن كان يفترض أن يشكلوا القدوة الحسنة للحدث مثل الأب أو الأخ الأكبر وأحياناً الأم وهنا يكمن الخطر حيث تفقد القدوة الحسنة والمثل العليا بل قد يتعدى الأمر إلى أن يُنشّأ الحدث على اقتراف بعض المحرمات والممنوعات تلبية لبعض متطلبات الأسرة مثل التسول أو النشل أو ما شابه ذلك.
وفيما يتعلق بثقافة الأسرة: فإن العلاقة وثيقة بين الثقافة والتنشئة من جهة وبين الثقافة والجريمة والانحراف من جهة أخرى. ويؤيد ذلك العديد من الدراسات النظرية والميدانية حيث أن تركّز الجريمة في أحياء معينة أو جماعات عرقية معينة قد فُسّر تفسيراً ثقافياً بمعنى أن الجريمة والانحراف قد تغلغلت في النسق الثقافي للأسر أو جيل الآباء ومن ثم انعكس ذلك في علاقة الآباء بالأبناء وتنشئتهم تنشئة مشوبة بالكثير من الانحرافات من المنظور الاجتماعي العام.
ويرى كوهين (Cohen. A. 1966) أن نشأة الثقافة الفرعية الجانحة مردّه في الغالب إلى الطرق المتبعة في تنشئة الأطفال في الطبقة الاجتماعية، ويركز في تفسيره هذا على إبراز مجموعة من العناصر الأساسية لدى ثقافة الطبقة الدنيا - حسب تعبيره - والتي يرى أنها تشجع وتغذي السلوك المنحرف لدى أبناء هذه الطبقة في حين يختلف الأمر لدى الطبقة الوسطى التي تربي أبناءها بوحي من الثقافة السائدة لديها على احترام الأجرين وملكياتهم وبالتالي تقف حائلاً ورادعاً عن اقتراف الجرائم وارتكاب المخالفات. (14)
وفي الغالب فإن إدراك أهمية بعض أنماط السلوك والاعتقاد بخطورة أنماط أخرى يرجع إلى ما يتلقاه الفرد منذ نعومة أظفاره في المؤسسة التربوية الأولى وهي الأسرة. وأن الاعتقاد بأن هذا خطأ وهذا صواب وهذا مقبول وهذا مرفوض، مردّ ذلك كله إلى الثقافة الأسرية في الغالب وخاصة الأبوان. وإن كان هذا يجرنا إلى الحديث عن نسبية الجريمة والنظريات المتعلقة بها وهو ما لا يتسع له مجال هذا البحث المختصر. ومن المفيد هنا الإشارة إلى أن الدراسات الميدانية في مجال انحراف الأحداث تؤكد على تدني مستوى التعليم لدى أباء وأمهات الجانحين مقارنة بغير الجانحين من الأحداث. (15)
وليد العبدالرزاق
20-05-2008, 07:42 PM
أما ما يتعلق بدور الأسرة في عملية الضبط الاجتماعي فإنه بلا شك مرتبط ارتباطا وثيقاً بظروفها وسلامة بنيانها كما أنه مرتبط بثقافتها. حيث أن الضبط الاجتماعي الذي تمارسه الأسرة أو أية جماعة على أعضائها يهدف في المقام الأول إلى حملهم على الامتثال لقواعد وأنماط السلوك المتفق عليها أو المقبولة لدى تلك الجماعة فالأسرة أما أن تكون جانحة. كما تشير إلى ذلك نظريات الثقافة الفرعية - فتحمل الأبناء على تقبّل أنماطٍ من السلوك قد لا تكون مرضية بميزان الثقافة العامة للمجتمع، وأما أن تكون غير جانحة فهنا تكون مطالبة بأداء دورها في عملية الضبط الاجتماعي مساهمة مع غيرها من المؤسسات الاجتماعية الأخرى. وفشلها في أداء هذا الدور لأي سبب أو ظرف سوف ينتج عنه خلل سلوكي في حياة الأبناء قد يؤدي بهم إلى الانخراط في جماعات أو عصابات جانحة تتولى تدريبهم وتعويدهم على الأفعال الانحرافية والجريمة.
رابعاً: العلاقات المتبادلة بين أفراد الأسرة:
ونعنى بها جميع أشكال التفاعل والاتصال بين الحدث وأفراد أسرته وكذلك علاقة أفراد الأسرة بعضهم ببعض مثل علاقة الأب بالأم، وهي من أهم أنواع العلاقات تأثيراً وانعاكاساً على حياة الحدث داخل وخارج الأسرة. وكذا علاقة الإخوة والأخوات ومن يقيمون معهم في نفس المنزل من أقارب أو غيرهم.
وتزخر الأبحاث العلمية النظرية والميدانية بالكثير حول هذا الجانب الهام من حياة الأحداث وهو مدى تأثرهم في أفكارهم وسلوكهم بطبيعة التفاعل ودرجة الترابط الأسري وسلامة وسائله، و ما يرتبط بذلك كله من النماذج السلوكية لأعضاء الأسرة.
فمن الناحية النظرية يرى أنصار النظريات الاجتماعية المجهرية (Micro Socio Theory) - على سبيل المثال - أن التفاعل الدقيق داخل الأسرة يلعب دوراً هاماً في ظاهرة الجنوح لدى الأحداث. والمقصود بالتفاعل الدقيق هنا، هو التعامل اليومي البسيط بين أفراد الأسرة مثل المخاطبة والمداعبة والحوار والمشاركة. وما إلى ذلك، وتشير الأبحاث التي أجراها باترسون وزملاؤه (Patterson et al 1979) أن التفاعلات والأحداث اليومية البسيطة في الأسرة تحدد سلوك الأفراد. والجنوح في نظر أصحاب هذه النظرية يعدّ نتيجة لافتقار التفاعل الأسري إلى عناصر المفاهمة والمشاركة بين الكبار والصغار داخل الأسرة. (16)
ومن جهة أخرى تؤكد الدراسات الميدانية الحديثة، ومن بينها الدراسات السعودية أن الخلافات الأسرية وسؤ العلاقات داخل الأسرة واضحة لدى أسر المجرمين والمنحرفين وعلى سبيل المثال أكدت دراسة (السيف 1414هـ) أن 69.3% من المجرمين كانت لهم خلافات أسرية مع الأشقاء وأن 67.3% كانوا يتمردون على سلطة والديهم ولا يراعون أوامرهم ونواهيهم، كما أوضحت الدراسة أيضاً أن نسبة 81.7% من المجرمين كانوا يتصرفون بحرية تامة ولا يتقيدون بضوابط أسرية أو قرابية.(17)
وفي الواقع فإن العلاقات الأسرية أمر يرتبط إلى حدٍ كبير بالثقافة السائدة وظروف المجتمع. ولذلك تؤكد الدراسات الاجتماعية على حدوث تغير في نمط العلاقات السائدة في المجتمع العربي وعلى الأخص المجتمع الخليجي والمجتمع السعودي كواحد من المجتمعات التي خضعت لفترة تغير اقتصادي واجتماعي سريع خلال العقدين الماضيين وهو ما أصطلح على تسميته بفترة الطفرة الاقتصادية. وقد صاحب هذه التغيرات الاجتماعية والاقتصادية ونتج عنها تغيرات ثقافية شملت معظم نواحي الحياة ومنها نمط التفاعل الأسري وعلى الأخص ما يتعلق بسلطة الأب داخل الأسرة مما أدى إلى نوع من الخلاف لدى بعض الأسر فيما يتعلق باتخاذ القرار في كثير من الأمور الشخصية للأبناء وتمسك الآباء بالنمط السائد في الحقبة الماضية الذي يتطلب من الابن الطاعة والتسليم وعدم المناقشة حيث تعتبر مناقشة الأب من مظاهر سؤ الأدب مع محاولة الأبناء الاستقلال في آرائهم وقراراتهم وخاصة ما يتعلق بحياتهم الشخصية مثل اختيار العمل أو نوع التعليم أو اختيار الزوج أو الزوجة. وسوف نرى في الفقرة التالية كيف عالج الإسلام مثل هذه الأمور ولم يدعها لأهواء الناس أو ظروف الزمان والمكان دون ضابط.
خامساً: التفسير الإسلامي لدور الأسرة في توجيه الأبناء:
يقرر الإسلام بادىء ذي بدء سلامة الفطرة وقابلية الطفل للتوجيه والتنشئة مبرزاً دور الوالدين في هذا الشأن حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه و يمجسانه)(18)
ومفهوم الحديث أن الأبوين إذا كانا سليميّ الفطرة والعقيدة فإنها ينميان فيه الفطرة السليمة والتوجه إلى ا لخير.
ويختلف المنظور الإسلامي لدور الأسرة في عملية التنشئة والضبط الاجتماعي عن النظريات القديمة والحديثة وسبب ذلك الاختلاف يرجع إلى أن الإسلام ينظر للمجتمع بصورة مختلفة عن النظريات اليمينية أو اليسارية. فهو يدعو إلى قيام مجتمع يحّكم دين الله في جميع مناشطه وقطاعاته، مجتمع يقوم على مبادىء الحرية في العقيدة و الرأي والتفكير والعدالة في الواجبات والحقوق والمساواة بين جميع الأفراد والتكافل في سبيل تحقيق المصلحة ا لعامة وحيث أن نواة هذا المجتمع هي الأسرة، قد جاءت الأحكام التشريعية الإسلامية لتحدد معالم البناء الأسري ودعائمه وترسم الإطار العام الذي ترتبط على ضوئه العلاقات الأسرية وتوضح بجلاء مسئولية كل فرد في الأسرة تحقيقاً لفعالية الأسرة في المجتمع (19).
ولذا فإن الأسرة من هذا المنظور تقوم بالدور الفاعل والكبير الذي يحقق أهداف التنشئة الاجتماعية السليمة والضبط الاجتماعي الأمثل لأفرادها.
هذا وقد لخّص د. محمد الحامد مقومات الأسرة من المنظور الإسلامي في عدد من النقاط الهامة منها:
1- إن العلاقة الزوجية التي هي أساس تكوين الأسرة قائمة على المودة والاحترام والحب والتماسك و التقييد برباط الزوجية والالتزام بواجباتها. قال تعالى: " ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة " (20).
2- تحديد مسئولية الوالدين في تربية الأبناء على ضوابط إسلامية، والمحافظة على توجيههم التوجيه السليم وتهيئتهم للتكيف مع المجتمع الخارجي وإعدادهم لتحمل مسئولية الحياة. قال صلى الله عليه وسلم " كلكم راع وكلكم مسئولية عن رعيته " (21) وقال أيضاً " إن الله سائل كل راع عمّا استرعاه،حفظ أم ضيع " (22).
3- إشباع الحاجات النفسية والعاطفية والحركية والجسمية والمعرفية لأفراد الأسرة مع توجيه الغرائز البشرية الطبيعية لتحقيق أهداف ايجابية تحمي الفرد من الوقوع في الانحراف و الرذيلة والفساد.
4- تأكيد الإسلام على أهمية التنشئة الاجتماعية في الأسرة وإثرها القوى في ضبط اعتقاد وسلوك الأفراد. قال صلى الله عليه وسلم " كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه " (23).
5- تهيئة أفراد الأسرة الصغار للضبط الاجتماعي خارج نطاق الأسرة بتعليمهم قيم المجتمع وعاداته ومعاييره وما يتضمنه ذلك من رعاية وحفظ حقوق الأجرين وتحمل المسؤولية الاجتماعية في وقت مبكر.
6- التركيز على التربية الأخلاقية ودعائمها الفاضلة المتمثلة في الصدق والوفاء والاحترام والتضحية والمشاركة والكرم والشجاعة مما من شأنه أن يقوى تفاعل الفرد مع مجتمعه على دعامة من السلوك السوي الذي يجنب صاحبه التأثر بدوافع الانحراف.
7- التأكيد على أن يكون الوالدان قدوة لأبنائهما في الالتزام بالأخلاق الحميدة والتعاليم الدينية مما يؤدي إلى تشرب الأبناء وقناعتهم التامة بضرورة الالتزام والتقيد بها وهذا ما تهدف إليه عملية الضبط الاجتماعي في المجتمع الإسلامي.
8- الدعوة إلى حل الخلافات الأسرية ومتابعة سلوك الأفراد بطريقة عادلة وحكيمة لا تتيح لأي فرد أن يعتدي على الأفراد الآخرين داخل الأسرة أو خارجها مما ينتج عنه ضبط السلوك الاجتماعي لدى الأفراد.
9- إقرار تعدد الأدوار الأسرية وتحديد دور كل من الأب، والأم، والزوج، والزوجة، والابن، والبنت، والأخ، والأخت وغيرهم على أساس يرتبط بالمسئولية الفردية والأسرية والاجتماعية لكل منهم. (24)
سادساً: وسائل الأسرة في التأثير على الأبناء.
هناك الكثير من الوسائل المباشرة وغير المباشرة التي بواسطتها تستطيع الأسرة توجيه سلوك أعضائها وخاصة الأبناء والبنات. وينعكس ذلك التوجيه والتأثير في حياتهم سلباً أو إيجاباً عن طريقها. ومنها على سبيل المثال لا الحصر وباختصار شديد ما يلي:
1- التلقين والتعليم المباشر.
ويبدوا أثره في مراحل الطفولة الأولى حيث يكثر استخدامه من قبل الوالدين وأفراد الأسرة الأجرين ثم يقلّ الاعتماد عليه مع تقدم العمر حيث تنشط وسائل أخرى تكون أكثر فاعلية من التلقين المباشر.
2- التشجيع:
وبه تستطيع الأسرة تنمية كثير من الاتجاهات التي ترضاها في سلوك الطفل أو الحدث ويتدرج التشجيع من الرضا والاستحسان إلى المدح الصريح وحتى إعطاء مكافئات نقدية أو عينية للحدث. ويرى كثير من المربين وعلماء النفس أن التشجيع كثيراً ما ينجح مع الأحداث ويفوق وسائل أخرى
3- الترغيب والترهيب:
وهو أسلوب يستخدمه الوالدان عادة لدفع الولد إلى عمل شيء أو زجره عن شيء أخر وذلك في محاولة منهما لتفادي أخطار العقاب البدني الذي قد يضطران إليه في حال فشل هذا الأسلوب. والترغيب عادة يتضمن الوعظ و المناصحة وبيان محاسن هذا السلوك ومضارّ غيره، وهو من الأساليب التي جاءت بها التربية الإسلامية استنادا إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية
4- المحاسبة والمعاقبة:
وهو من الأساليب الشائعة لدى كثير من الأسر على اختلاف المجتمعات قديماً وحديثاً وإن كان المربون ينصحون بعدم اللجوء إليه إلاّ في حالة فشل معظم الأساليب الأخرى حيث أن الإفراط في محاسبة الطفل ومعاقبته، كثيراً ما يدفعه إلى الكذب وينفّره من المنزل ويغلق أبواب التفاهم والاتصال مع الأبوين مما قد يكون له مردود سيء جداً في حياة الشاب مستقبلاً ونزوعه إلى التمرّد على سلطان الأسرة ومحاولة الاستقلال عنها في قيمة واتجاهاته وسلوكه وتصرفاته فيفقد بذلك الكثير مما كان يمكن أن يستلهمه من خبرة الوالدين و توجيههما نحو الاستقامة والخير.
5- المناقشة والإقناع:
وهو من أجدى الوسائل في تربية الشباب حيث لا يحسّ الشاب بشيء من والقسوة والفرض عليه من قبل الأجرين فيسهل تقبّله لما يوجه إليه بهذه الطريقة ويلتزم به، حيث يشعر أن له دوراً في الاتفاق على هذا النمط من السلوك أو ذاك وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يمارس هذا الأسلوب مع الشباب كما في قصة الذي طلب الإذن له بالزنا فقال: يا رسول الله أتأذن لي بالزنا وزجره الصحابة رضي الله عنهم فطلب منه النبي صلى الله عليه وسلم أن يدنوا منه وقال له أتحبه لأمك قال لا والله جعلني الله فداءك قال ولا الناس يحبونه لأمهاتهم … الحديث. (25) وانصرف الشاب من عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو مقتنع بخطورة الزنا وضرره على المجتمع المسلم.
6- التسامح والترك والإهمال:
وهنا يرى الابن أو البنت أن تسامح الأسرة والوالدين خصوصاً تجاه بعض الأفعال علامة على عدم خطورتها أو ضررها وحتى قبولها. والواقع أن هذا من الأساليب السلبية التي لا يبذل فيها الوالدان أي جهد نحو توجيه الأبناء وكلما اتسعت دائرة التسامح كلما اقترب الخطر حيث يخشى أن يطول ذلك التسامح أموراً على درجة كبيرة من الأهمية والخطورة. فبرغم ما للتسامح من ميزة كخلق نبيل إلا أنه إذا وصل إلى حدّ الإهمال والترك للطفل والشاب في كثير من المواقف التي لا غني فيها عن التوجيه والإرشاد فسوف ينقلب إلى أسلوب دفع إلى الانحراف بقصد أو بدون قصد من قبل الأبوين.
7- القدوة:
وهي من أبلغ وسائل التأثير في حياة الأبناء والبنات. ونعني بالقدوة تقليد الأبناء والبنات للآباء الأمهات وغيرهم داخل الأسرة فغريزة التقليد مما فطر عليه البشر ويميل الأطفال عادة إلى محاكاة الكبار في حديثهم وتصرفهم وطريقة حياتهم. ويتجلى ذلك من خلال ملاحظة ألعابهم حيث تميل البنت إلى تقليد أمها ويميل الابن إلى تقليد أبيه والأطفال يلاحظون بكل دقّة ما يفعله الأبوان فإذا خالف قول الوالد فعله فإن الولد لن يكون مقتنعاً بما يوجهه إليه ذلك الوالد وأحياناً يقولها صراحة مثل ((الدخان ليس حراماً أنظر هذا والدي يدخن وهو مسلم)) فبماذا تردّ عليه ؟ هل تقول اسمع نصيحة والدك أو تقول أفعل مثل والدك ؟ فسماع نصيحته ذلك الوالد يتطلب من الوالد نفسه تطبيقها.
وأخيرا: فإن الأخذ بأي من هذه الأساليب السابقة يتوقف على عدة عوامل منها ما يتعلق بالثقافة العامة وطبيعة المجتمع ودرجة تحضره. ومنها ما يتعلق بالأسرة وظروفها الاقتصادية والتعليمية والثقافية ومستوى التدين لدى أفرادها. ومنها ما يتعلق بشخصية كل من الأم والأب ودرجة التزامها بالقيم السائدة في المجتمع و تمسكهما بالفضائل، إلى غير ذلك ومنها ما يتعلق بشخصية الطفل أو الشاب ودرجة ذكائه وقدراته العقلية والنفسية وغيرها. ويصعب مناقشة كل ذلك في هذا البحث المختصر ولكن نضرب مثالاً لأسلوب واحد وهو أسلوب التسامح. فنجد أنه يتأثر بكثير من هذه المتغيرات حيث يشيع في المجتمعات الغربية الحديثة التسامح مع الأولاد فيما يتعلق بالنواحي الأخلاقية والقيم الدينية - على سبيل المثال - في حين تشتد المحاسبة في النواحي الصحية والمادية وما إليها وذلك مردّه إلى الثقافة السائدة في المجتمع بشكل عام حيث تتميز بأنها ثقافة مادية دنيوية. بينما في المجتمع الإسلامي فإن المحاسبة على النواحي الأخلاقية تكون أشّد من قبل الوالدين لأبنائهما من المحاسبة على غيرها مثل السلوك غير الصحي أو التبذير والإسراف أو حتى إتلاف بعض الممتلكات. وهذا قد ينسحب على الأسر المتدينة والأقل تديناً في المجتمع الواحد فيلاحظ أن الأسر المتدينة والتي تلتزم تعاليم الشرع في كل أمورها تقدم في أولوياتها التربوية الواجبات الدينية على غيرها في حين نجد الأسر الأقل تديناً يكون التسامح لديها في المخالفات الشرعية للأبناء أكبر من التسامح في ما يتعلق بالتحصيل الدراسي على سبيل المثال. وهذا هو ارتباط الأسلوب التربوي بالقيم السائدة لدى الأسرة حيث أن القيم هي التي تحدد الأولويات في التعامل والسلوك لدى الأبوين ويشمل ذلك أسلوبهما في تربية أبنائهما وبناتهما.