سياقات انتشار الفيسبوك في العالم العربي

سياقات انتشار الفيسبوك في العالم العربي



د. يوسف النعيمي

إن ظهور أي شبكة اجتماعية وبروزها في مجتمع ما مرتبط ارتباطاً وثيقاً بسياقات الانتشار وبيئتها، وإذا كان البعض يشير إلى مفهوم (التبيئة) وأهميته في اكتناف الظاهرة وتطورها فإن عوامل التبيئة ما هي إلا محايثة لواقع المجتمع، وإذا كانت نظرية انتشار المبتكرات قد أشارت إلى التصاق مفهوم الانتشار بالحاجة والتقبل، فإن عالمنا العربي لجأ للشبكات الاجتماعية ومنها الفيسبوك لحاجة في نفسه يود قضاءها، وإذا كانت نظرية الإشاعات والاستخدامات ركزت على الحاجة كمحور أساسي فإن هذه الحاجة قد تكون ضرورية أو مكتسبة.

إننا نحاول الغوص في مكنون مجتمعنا العربي لاستخراج لبّ جوهره لفهم دوافع وسياقات انتشار الفيسبوك بهذه السرعة، فبالرغم من مكابح المعارضين له والمتشائمين منه إلا أنه ماضٍ في سيره تعترضه أحياناً عتبات سرعان ما يجتازها مُكملاً طريقه حاملاً على جنباته المنتمين إلى التكنولوجيا والثقافة والسياسة والاجتماع والاقتصاد والدين والإعلام.
إن التغيير الاجتماعي ليس وليد الصدفة وإنما هو عملية بنيوية، أي فعل بنائي خاضع لتيارات متشابكة ومتداخلة تسعى لإعادة التوازن في محيطها المجتمعي وتؤسس للتكامل والتراكم، سواء كان هذا التوازن فكراً أو تفسيراً وتحليلاً أو تجارةً وربحاً أو رأياً ونظراً أو إصلاحاً أو إعلاماً، لذا فالظواهر الاجتماعية دائمة التغيير لأن حاجات الأفراد السسيولوجية تدفعهم للتغيير باختلاف أشكال تعبيره تساوقاً مع التطور الطبوغرافي والفيزيائي المحيط.
وبالاقتراب من مسألة إعادة التوازن نجدها تنبع من الرغبات والقرارات الواعية للمستخدمين، فثمة رغبة كامنة في نفس المستخدم لفعل ما، فمثلاً يسعى السياسيون من استخدام الفيسبوك للإصلاح السياسي أو الإفساد السياسي، ويسعى رجال الدين عن طريق الفيسبوك لمعالجة آفات المجتمع وتبيان الصواب من الخطأ والحق من الباطل.
إن المتأمل في الواقع العربي يرى نسبية ثقافية تختلف باختلاف الأفراد وإيديولوجياتهم، فما يراه البعض خيراً يراه الآخرون شراً، وحسب نظرية الحتمية القيمية فإن أفعال الإنسان وتصرفاته تنبع من قيمهِ المرجعية وخلجات نفسه سجينة القيم، فهو يتصرف وفقها، فمهما كانت الظاهرة فإنها لن تتجاوز حدود القيم، فالقيم ترسم حدوداً لأنواع وأنماط وكيفية الاستخدام للفيسبوك.
ويمكننا القول إن الفيسبوك انتشر في الوطن العربي لأسباب عديدة، فمن ناحية سياقات الانتشار التكنولوجية نرى وجود بنية تحتية للاتصالات السلكية واللاسكية، ووجود الأدوات والوسائل اللازمة، مثل أجهزة الكمبيوتر وخطوط الهاتف والإنترنت، واستفادة الدول العربية من التكنولوجيات في عالم الاتصال، خاصةً دول الخليج العربي.
ومن ناحية سياقات الانتشار الثقافية نلحظ التحول في ثقافة الأفراد بأهمية المشاركة وإبداء الرأي، والوعي بثقافة المسؤولية الجماعية في المناقشة والإصلاح والتغيير، والإحساس بأن الفيسبوك يجعل الفرد قريباً من الواقع والأحداث، أما من جهة سياقات الانتشار السياسية نجد الضغوط الخارجية التي تواجهها الدول العربية من الدول المتقدمة والمنظمات الدولية، باعتبار أن الاستفادة من التكنولوجيات حق من حقوق الإنسان وحريته وديمقراطيته، والتوجه السياسي لقادة الرأي وإبراز أهمية التكنولوجيا وتطبيقاتها، وتغير فكر القادة العرب بأهمية الإصلاح والتطور على كافة المستويات، ومنها مستوى التكنولوجيا، ودور الأحزاب السياسية والجماعات الإصلاحية في سنّ القرارات والتشريعات ومحاولة تغيير الأنظمة السياسية (مثال: ما يحدث في مصر)، وردة فعل الأفراد نتيجة للإحباط السياسي إثر إفرازاته السياسية، وحب التمرد على الواقع السياسي، فبالرغم من الاستقرار السياسي في بعض الدول العربية إلا أننا نفاجأ بمجموعات تمردية هدفها الإفساد والتضليل.
ولا تخفى علينا سياقات الانتشار الاجتماعية مثل إدمان الأفراد استخدام الإنترنت، وحب معرفة الآخر وفضول التعارف، والتباهي باستخدام الفيسبوك كأنه رمز اجتماعي ورأسمال اجتماعي، وحب الانتماء إلى المجموعات والارتباط بها حباً فيها ودفاعاً عنها وولاءً لها، وحب التملك وظهور مفهوم الملك الفرد، بمعنى أن المستخدم يشعر بأنه صاحب مملكة يلعب فيها دور الملك في القبول والرفض والإضافة والحذف، تعزيزاً لمبدأ (الفردنة) كما أن الفيسبوك يحقق المعادل الوظيفي للتفاعل الاجتماعي الذي يفتقده الأفراد في الحياة الاجتماعية، بمعنى أنه يعوض حرمانه المجتمعي بإشباعه الشبكي، ناهيك عن الشغف في تغيير سوء الواقع الاجتماعي مما جعل الأفراد يتطلعون إلى التغيير عبر بوابة الفيسبوك.
ولسياقات الانتشار الاقتصادية دورٌ أيضاً مثل إمكانية الوصول إلى أكبر عدد من الأفراد، والتكلفة المنخفضة للمعلنين مقارنة بالربح الوفير، وتداخل مصالح المعلنين مع بعضها بعضاً، فالكل يعلن عن الآخر دون موافقة مسبقة من المعلن الأساسي، بينما نجد أن سياقات الانتشار الدينية تنقسم إلى قسمين، أولها: لا توجد فتوى شرعية أو حكم شرعي يُحرم استخدام الفيسبوك، وثانيها فرصة للدعاة باختلاف انتماءاتهم العقائدية والمذهبية للوصول إلى شريحة كبيرة من الناس في الداخل والخارج لنشر أقوالهم وأفكارهم، ويبقى لتمظهرات الانتشار سياقاته الإعلامية كالاحتفاء الإعلامي العربي بالشبكات الاجتماعية ومنها الفيسبوك، مما زج بالكثيرين لاستخدامه، وكنوع من التعارض نجد أن المعارضة الإعلامية للفيسبوك أيضاً دفعت البعض لمعرفة ما هو الفيسبوك، أي وجود مفارقة، فبالرغم من الاعتراض على استخداماته وتشكل الأفراد وأدوارهم تأثراً به إلا أن المعارضين أنفسهم يستخدمونه!

الاستخدام الاجتماعي للفيسبوك:
إن المتأمل في البُعد الاجتماعي للفيسبوك يرسم خطاً عريضاً للرغبة الإبستيمولوجية (المعرفية) في البحث عن تكوين صداقات، ففي هذه الحالة لا يهم من هو الصديق؟ بقدر ما يهم كيف أجد صديقاً؟ فإذا كان الفيسبوك قد وفر للمستخدم إمكانية إقامة علاقات افتراضية virtual relations في مجتمع افتراضي virtual society فإنه أدى إلى بُعد اجتماعي أثر في مستخدميه، ويتجلى ذلك في الإدمان على تكوين صداقة افتراضية كبديل للصداقة الفعلية في الحياة الواقعية، ويأتي الوقت المخصص لتكوين علاقات الصداقة والتعارف والتواصل على حساب وقت الفرد مع أسرته ومجتمعه، وبهذا المعنى يصبح الفيسبوك ملاذاً للهروب من الحياة الاجتماعية ومشكلاتها وقلقها، فالبقاء لساعات طوال في سبيل التواصل عبر الفيسبوك شبيه بحالة من الإدمان السيكولوجي.
تسمح الشبكات الاجتماعية (الفيسبوك) لمستخدميها بالشعور بسهولة بناء علاقات شخصية، وبسهولة التعبير عن الذات، وبالثقة لإفضاء الأسرار، وبالشعور بالقرب من الآخرين، وبالراحة عند التواصل، وبسهولة التعبير عن المشاعر والأحاسيس، وبسهولة التواصل مع الآخر، وبالتقبل عند الآخرين، وبتشكيل الذات، وبالشعور بالمودة والألفة مع المستخدمين الآخرين.
وقد أشار عبدالهادي، إلى التأثيرات الأخلاقية لمستخدمي غرف الدردشة، ووصف الفيسبوك بالجمهورية، وبَيـَّن تأثيراته في التواصل الاجتماعي وتطور العلاقات الاجتماعية. وعلى الضفة الأخرى من التأثيرات الأخلاقية أصبح الفيسبوك معول هدم للمسلسلات التلفزيونية المتطاولة على الأخلاقيات نفسها، فتحت عنوان (نجاح حملة المطالبة بإيقاف عرض أيام السراب وعسيري يعترض) أفردت جريدة الاتحاد نصف صفحة للخبر، وقد جاء فيه قررت مجموعة MBC إيقاف عرض مسلسل أيام السراب عند الحلقة الخامسة والسبعين، يبدو أنه يأتي استجابة لمطالب شعبية رأت في المسلسل ما يخدش الحياء ولا يليق بالذوق العام ويشذ عن المنطق، وكانت الاتحاد قد انفردت في منتصف فبراير الماضي بنشر خبر عن حملة مقاطعة على الفيسبوك للمسلسل تحت شعار: معاً للمطالبة بإيقاف عرض أيام السراب.
ونضرب مثالاً بالمجموعات الاجتماعية (حملة رفع بنطلونات الشباب ، فقد جاءت هذه الحملة تعاوناً وتضامناً مع (حملة توسيع بنطلونات البنات)، وترفع شعار (عشان متبقاش ماشي في مرة وتلاقي حد يقولك حوش اللي وقع منك)، وفي التعريف بنفسها بينت الحملة أن هذه العادة كانت منتشرة عند قوم لوط، وهي لصيقة بالشواذ، ثم ذكرت أن السلطات الأمريكية قد عانت من نفس الأمر في سجونها، فبعد أن كانت السلطات الأمريكية توزع بنطلونات وأحزمة على المساجين امتنعت عن توزيعها عليهم مخافة استخدامها في الشجار والعراك بينهم، وما إن يخرج السجين من سجنه إلا وقد تعود على السير ببنطلون ساقط تحت خصره، فتناقل الشباب هذه الموضة ثم انتشرت في بقاع المعمورة إلى أن وصلتنا، فأصبحنا نحن العرب شعب copy-paste حسب تعبير مؤسسي الحملة الذين يتحسرون على الإقبال الشديد من الشباب إلى أن استفحل الأمر وبدأت الفتيات تسير على خطى الشباب في التقليد، فغدت الخصور مكشوفة اعتقاداً من فاعليها أن الموضة تتطلب هذا ولا مناص من مواكبة التطور!
ومن ضمن المشاركات والتعليقات نجد مشاركة (محمد خالد) فيقول (ايدي في ايديكوا يا شعب نرفع البنطلون بجد)، ويصرخ (أسامة) متوسلاً (نرجو يا جماعة إلى كل من عنده ذرة شهامة الدخول والاشتراك في هذا الجروب لمحاربة السلوك القذر الذي يغزو مجتمعاتنا ألا وهو الشذوذ)، وفي خضم النداءات والمطالبات برفع البنطلونات يعترض أحد الشاذين ويدعى (أحمد حمدي) سائلاً (أنا عاوز سالب)، أما المعارض البارز للحملة (سيد رضا) فقد ضرب بالفكرة عرض الحائط وهتف متعالياً (أيوه احنا كلنا بنسقط البناطيل، احنا حرين، إن شاء الله نقلعه خالص، المكسوف ما يبصش)، فالمتابع لهذه المجموعات يجدها حلبة صراع إيديولوجي يتراشق أعضاؤها الآراء.

مجتمع الفيسبوك:
فرد وجماعة افتراضية:
يعتبر مستخدم «الفيسبوك» فرداً يتفاعل مع جماعة افتراضية، وقد يُـمثل الفرد مُؤسسها أو أحد أعضائها، ولقد أشار (الصادق الحمامي) إلى المنظومة الفردية – الجمعية، فهي عبارة عن أفراد ينتجون مضامين متنوعة خاصة وعامة، حميمية وذاتية، سياسية وفكرية، أدبية وثقافية، وتمتاز هذه المنظومة بقواعد متعارف عليها من قبل المستخدمين، لذا فصفحة الفيسبوك مرهونة بالقواعد الاتفاقية بين أعضائها(1).
وبنظرة أعمق إلى مسألة الفرد والجماعة الافتراضية يبين (علي رحومة) أن الفرد / الجماعة هو العنصر الذي يبلور التفاعل الافتراضي الإلكتروني، فالفرد ينقل خبرته المعنوية التجريدية والتصورية والمعرفية من مرحلة الافتراضية المطلقة في عقله الخاص على مرحلة الافتراضية المقيدة في عقل الشبكة، كما أن الفرد في البيئة الافتراضية يتمثل كيفما يشاء وكيفما وفرت له التكنولوجيا من إمكانيات التمثل، ولأن الفرد في المجتمع الافتراضي يغيب جانبه الجسماني والاتصال الفردي الوجاهي مع الآخرين فإنه لا يتأثر كثيراً بدوره الاجتماعي الطبيعي ومكانته الاجتماعية ونفوذه وسلطته الوظيفية، لذا لا تكون حقائق الفرد أحياناً صحيحة مثل السن والحالة الاجتماعية والجنس، وكل ذلك جعل الفرد أكثر تحللاً وتحرراً من قيود السياسة والدين والأخلاق والقيم(2).
إن هوية الفرد في المجتمعات الافتراضية متعددة الهويات، وغالباً ما تحاول اتخاذ ذوات تحصل على الموافقة والقبول والتشجيع، فالذات (الأنا) تتشكل ترابطياً من خلال استعارة الذوات الأخرى، فنحن نتعرف إلى الذوات الحقيقية من خلال تقمصها لذوات الآخرين، فالذات الإنترنتية غير محددة المعالم نهائياً، لذا فهي تعيش في وضعية اللا يقين، فمثلاً حسب (جورج ميد) الفرد لم يعد ينطلق من الذوات التي تؤسسه اجتماعياً للوصول إلى أناه الفردية، لكنه ينطلق من خيبة أمل في علاقته بأناه الشخصية، وهو ما يدفعه إلى الهرب من وإلى الذوات الافتراضية(3).
إن الشبكات الاجتماعية تقوم أساساً على المشاركة والتفاعل، ويمثل المتلقي محور العملية التفاعلية، فالنصوص والصور والفيديو والرسوم تتسم بانفتاح البنية ومستمرة المصدر، فهي مرتبطة بوصلات تكميلية تعتمد على إسهامات المستخدمين، فالشبكات الاجتماعية منظومة اتصالية تتعاظم هجانتها بشكل مستمر، ويظهر في الشبكات الاجتماعية النشر والتدوين والقراءة والمشاهدة والاستماع والبحث والطباعة والكتابة والدردشة، وتتيح التواصل وبناء العلاقات والتعبير عن الآراء والأفكار، وهو ما أدى إلى التأثير في المواقع الإعلامية كمواقع الصحف والتلفزيونات، إذ قامت المواقع الإعلامية بدمج المضامين الفردية ــ الجمعية كتطبيق تحريري يستهدف تحويل المستخدمين لغرف الدردشة والحوار، فضلاً عن إدراج برامج وتطبيقات نشر الفيديو الشخصي(4).
وبالرغم من ذلك فإن الخطاب الإعلامي العربي حول الشبكات الاجتماعية ينشطر إلى شطرين كبيت من القصيد إلا أنه غير متساوٍ في المعنى والوزن، فالخطاب الأول احتفائي طوباوي يتجسد في الانبهار بالفيسبوك وخدماته التواصلية وإمكاناته في بناء العلاقات والوصول إلى الآخرين والتعرف إلى الأخبار والهروب من الواقع المجتمعي إلى المجتمع الافتراضي الممتلئ بالسعادة والسرور حسب معظميه، بينما الخطاب الاعتراضي ينظر إليه كقوة مدمرة لأواصر علاقات الأفراد، ويدفعهم إلى الكذب وانتحال الشخصيات وتضييع الأوقات والانشغال بالتفاهات والحث على الإفساد واختلاق المشكلات، لأنه مرتبط أصلاً بعوامل سياسية وثقافية واجتماعية تتحكم في مصيره.



الهوامش:
(1) الصادق الحمامي، (العدد الخامس- نوفمبر 2009)، «تجديد الإعلام (مناقشة حول هوية الصحافة الإلكترونية)»، السعودية: المجلة العربية للإعلام والاتصال (الجمعية السعودية للإعلام والاتصال).
(2) علي رحومة، (2005)، «الإنترنت والمنظومة التكنواجتماعية (بحث في الآلية التقنية للإنترنت ونمذجة منظومتها الاجتماعية)»، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.
(3) الصادق رابح، (إبريل/ يونيو 2007)، «المجلة المصرية لبحوث الرأي العام»، القاهرة: مركز بحوث الرأي العام بكلية الإعلام بجامعة القاهرة.
(4) الحمامي، مرجع سابق.