فريق الادارة المدير العام
عدد المساهمات : 3110 نقاط : 8100 تاريخ التسجيل : 04/12/2009
| موضوع: الثورة والصراع بين القديم والجديد الخميس ديسمبر 29, 2011 1:24 pm | |
| الثورة والصراع بين القديم والجديد محمد فرج كاتب وسياسي مصري
تكشف الثورات السياسية والاجتماعية عما في باطن المجتمع من حقائق وأوهام, وهي في ذلك مثل الزلازل والبراكين لها توابعها, التي قد يكون بعضها أشد خطرا من ضرباتها الرئيسية. الزلازل تكشف الغطاء عما في باطن الأرض من تناقضات وتفاعلات طبيعية غير منظورة, والثورات تكشف الغطاء عما في باطن المجتمع من تناقضات وصراعات وأفكار وأوهام اجتماعية غير منظورة أو مختفية أو متخفية. الزلازل تكشف الغطاء عن غير المنظور وتدفعه للظهور علي السطح, والثورات تكشف الغطاء وتدفع التناقضات للظهور وتدفع الصراعات للانطلاق, وتدفع الأفكار والأيديولوجيات والاعتقادات للتعبير عن نفسها دون غطاء. وقد كشفت ثورة25 يناير الغطاء عما في باطن المجتمع المصري من تناقضات, ودفعت ببعضها إلي الظهور علي السطح, وساهمت المعضلات الأساسية لهذه الثورة في بروز عدة تحديات وتعقيدات وعثرات في طريقها, قد تهددها بالتوقف عن استكمال مهامها أو تحقيق أهدافها المعلنة, وتترك الباب مفتوحا أمام عدة سيناريوهات متناقضة.
وتنطوي كل ثورة علي عمليتين معا, هما عمليتا الهدم والبناء, لكن ما يتم في الظروف العادية في سنوات ببطء وبوتيرة عادية قد تصل حد الركود أو التطور غير المنظور لا يتم في أثناء الثورة بنفس الوتيرة, فقد يتم في أيام أو ساعات, فالثورات تقوم بعمليات تسريع للتحولات باعتبارها نقلات نوعية في التاريخ, لأن الثورات تنتمي لمفهوم التغير الكيفي, استكمالا لما تم في السابق من تراكم كمي, والتراكم الكمي إذ يكون بطيئا وغير منظور فإن التغير النوعي يكون سريعا ومنظورا ومتسما بالثورية. لكن ثورة25 يناير التي تميزت بشبابها, وطريقتها في عمليات الحشد والتعبئة ورفع الشعارات والتوحد حولها, والضغط عن طريق الانتفاضات السلمية المليونية, بقدرتها علي إزاحة رأس النظام, والقضاء علي شرعية النظام القديم( دون القضاء عليه), والمطالبة بنظام ديموقراطي جديد يستهدف إقامة دولة مدنية ديموقراطية, تميزت أيضا بما أنتج معضلاتها وتحدياتها. إن أهم معضلات هذه الثورة تتمثل في أنها حيث فتحت الباب لبناء نظام جديد, لم تكن تمتلك قيادة منظمة قادرة علي الانتقال من حالة الحشد والتعبئة والصمود في الميادين إلي حالة استلام السلطة والقيام بالتغيير الثوري للنظام, بل فتحته باتجاه إنجاز عملية التغيير والبناء عبر مرحلة انتقالية قلقة, تتسم قواها والعناصر المتنفذة فيها بالتداخل بين عناصر تنتمي لنظامين: النظام القديم والنظام الجديد. وهذه هي معضلة هذه الثورة وقدرها في أن تكون ثورة مستمرة, دائمة, كي تتمكن من إنجاز مهمتها الرئيسية, وهي بناء الديموقراطية بمعناها الشامل, ومواجهة التحديات الفكرية والسياسية والثقافية المرتبطة بعمليتي الهدم والبناء, ولكي يتمكن النظام الجديد المنشود من البزوغ والنمو والتوسع والتحقق علي حساب النظام القديم الذي قامت الثورة ضده. وبالإضافة إلي ما أنتجته هذه الثورة من تداخل ومعضلات في المرحلة الانتقالية وتحدياتها, فإننا ينبغي أن ندرك أن ثورة25 يناير قامت بتفجير مكونات الواقع المصري نفسه, فظهرت حقائقه التي كانت غائبة أو مغيبة أو مختفية أو متخفية, وكشفت عن خارطة مختلفة لمميزاته ومكوناته, الأمر الذي أصاب كثيرين بالفزع, لأنهم لم يظنوا أن هذا هو الواقع, أو كانوا يرسمون صورا مختلفة في أذهانهم للواقع, أو يتصورونه واقعا أقل حدة, أو أقل تناقضا, أو أقل صراعا. وتتميز الصراعات التي ظهرت ــ أو تم كشف الغطاء عنها ــ حتي الآن بتنوعها الشديد, فقد كشفت ثورة25 يناير عن أنواع مختلفة من الصراعات الفكرية والسياسية والثقافية والاجتماعية, وبعض هذه الصراعات كان ظاهرا وطافيا علي السطح منذ ما قبل25 يناير, وبعضها كان موجودا بصورة غير ظاهرة أو بادية للناس, وبعضها كان مختفيا في الأعماق إلي الدرجة التي كان يمكن معها للبعض أن ينكر وجوده. لكن ثورة25 يناير كشفت الغطاء عن وجود هذه التناقضات والصراعات جميعا, ودفعتها للظهور علي السطح, فما هي أهم هذه التناقضات والصراعات ؟
خارطة للتناقضات:
تدور معظم التناقضات التي كشفت ثورة25 يناير الغطاء عن وجودها في باطن المجتمع المصري حول محور أساسي, هو الصراع بين القديم والجديد, القديم الذي تكون وترسخ واستقر عبر التراكم التاريخي الطويل, والجديد الذي يناضل ويسعي للتراكم ويصارع من أجل البزوغ والتوسع والانتشار, وهذا الصراع بين القديم والجديد له تعبيرات عديدة:
1 ـ فللصراع بين القديم والجديد تعبيراته السياسية:
تتمثل في الصراع بين النظام السياسي الجديد والنظام السياسي القديم, والنظام السياسي هو جملة من المؤسسات والأنظمة والنظم والتوجهات والأفكار والقيم, المكتوبة وغير المكتوبة, والتي تظهر في صورة مؤسسات تشريعية وتنفيذية وقضائية, وفي صورة سياسات اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية, وفي صورة عقود وعهود وقواعد وأساسات تمثلها الدساتير والقوانين واللوائح, وفي صورة أفراد لهم قدر من الهيمنة والتأثير, وقدرات في القيادة والتوجيه والتقرير. فبعد25 يناير ظهر الصراع بين النظام السياسي القديم والنظام السياسي الجديد في صورة صراع دام بين جهاز الشرطة كمؤسسة قمعية تمثل الذراع القمعية لسلطة النظام القديم وثوار التحرير في جمعة الغضب28 يناير, وبين فلول النظام وشباب التحرير في موقعة الجمل الأربعاء2 فبراير, وفي جمعة الرحيل11 فبراير, وفي تكوين وزارة أحمد شفيق التي جمعت في وزرائها بين أقلية تنتمي للجديد وأغلبية تنتمي للقديم, ثم في وزارة عصام شرف الأولي التي جمعت أيضا بين القديم والجديد. وعبر مفهوم فلول النظام القديم عن عدة معارك وصراعات بين القديم والجديد, وظهرت هذه المعارك في الحكم بحل الحزب الوطني الحاكم ومصادرة مقاره وأمواله, وعمليات تغيير ونقل المحافظين, ثم في الحكم بحل المجالس الشعبية المحلية(53 ألف عضو ينتمي أكثر من95% منهم للحزب الوطني المنحل). وظهر الصراع بين الجديد والقديم أحيانا بوضوح في تعبيرات الثورة والثورة المضادة, وأحيانا متخفيا في تعبيرات الدستور أولا أم الانتخابات أولا, وأحيانا مراوغا وساذجا في تعبيرات الثورة أولا أم العمل أولا, وفجا في تعبيرات التغيير أولا أم الاستقرار أولا, وعمليا في الصراع بين مظاهرات ميادين التحرير التي تنتمي للثورة ودعاة التغيير, ومظاهرات ميدان مصطفي محمود التي تنتمي للنظام السابق, ثم في مظاهرات ميادين التحرير ومظاهرات ميدان روكسي, مع نقل الصراعات والهتافات والشعارات عند متظاهري مصطفي محمود, ثم ميدان روكسي من نقد أو تأييد نظام مبارك إلي نقد أو تأييد المجلس العسكري.
2 ـ وللصراع بين القديم والجديد تعبيراته الفكرية:
تتمثل في الصراع حول طبيعة الدولة المصرية المرجوة, ويظهر هذا بوضوح في صراع الأفكار حول تعبير الدولة المدنية, وقد أخذ هذا الصراع شكل القبول والرفض, وأحيانا بين القبول والقبول المشروط والرفض, فظهر تعبير الدولة المدنية, وتعبير الدولة المدنية بمرجعية إسلامية, وتعبير الدولة الإسلامية, حيث ظهرت استراتيجية ثوار ميدان التحرير حول الدولة المصرية المستقبلية مجسدا في تعبير: الدولة المدنية الديموقراطية, ووجد هذا المفهوم دعما فكريا وسياسيا من العديد من القوي والأحزاب السياسية الليبرالية واليسارية والقومية; وظهرت الكتابات حول الدولة المدنية الديموقراطية لتؤكد سماتها باعتبارها دولة ديموقراطية غير عسكرية غير دينية, السلطة فيها للشعب, أي باعتبارها دولة ديموقراطية تحكم باسم الشعب والسيادة فيها للشعب, وباعتبارها دولة سياسية مدنية ذات أجهزة ومؤسسات مدنية منتخبة, يقودها ويدير أجهزتها السياسيون المدنيون المنتخبون من الشعب. وتم تقديم الدولة المدنية باعتبارها دولة دستورية قانونية, يحكمها دستور مدني يرتضيه الشعب وتتوافق عليه كل مكوناته وفئاته دون استبعاد أو إقصاء أو إرغام, وتلتزم كل أجهزتها بالقانون دون تمييز بين المواطنين فيها بسبب الجنس أو اللون أو الفكر أو الدين. وباعتبارها دولة ذات سلطات ثلاث: تنفيذية وتشريعية وقضائية, ينص دستورها علي ضرورة الفصل بين هذه السلطات الثلاث, فلا تجور السلطة التنفيذية أو تسيطر علي السلطة التشريعية أو السلطة القضائية, وينص علي أن تكون السلطة القضائية مستقلة, وأعضاء كل من السلطتين التشريعية والتنفيذية يتقلدون مواقعهم بالانتخاب الحر غير المزور. وباعتبارها دولة كل المواطنين بغض النظر عن الجنس أو اللون أو الدين أو العقيدة أو الرأي, أي دولة مواطنة شعارها الدين لله والوطن للجميع, تتحقق مدنيتها من خلال رعايتها لحرية الرأي والفكر والاعتقاد, ورعايتها لحرية ممارسة مواطنيها لشعائرهم الدينية دون تمييز, ورفضها لازدراء أصحاب دين معين لأصحاب دين آخر, أي باعتبارها دولة مساواة ترفض التمييز بين المواطنين بسبب انتماءاتهم الدينية أو الفكرية, وترفض التمييز بين الأديان. وتم تقديم الدولة المدنية ــ في كتابات ومناظرات القوي المدنية ــ باعتبارها الدولة التي ترفض الخلط بين الدين والسياسة أو الدين والاقتصاد أو الدين والعلم, فالدين معطي سماوي مطلق ومقدس, وهو تسليم بالإيمان, أما الدولة والسياسة والاقتصاد والعلم وغيرها من أمور الدنيا فهي أمور نسبية بشرية تخضع للرأي ولقواعد الصواب والخطأ والنقد والتغير والقبول والرفض, ولا يجوز أن نجعل من الدين رأيا أو سياسة وصراعا ومنافسة, ولا أن نجعل من الرأي البشري لفرد أو لجماعة بشرية دينا أو قداسة أو سلطة كهنوتية, بل لابد من حماية مدنية الدولة واحترام قدسية الأديان ورفض الاستثمار السياسي للدين, ولابد من رعاية الدولة للمجتمع بكل أفراده, بلا تمييز بينهم بسبب انتماءاتهم الدينية أو الفئوية أو الاجتماعية أو الفكرية. لكن مفهوم الدولة ظهر عند بعض التنظيمات والأحزاب الإسلامية السياسية والسلفية مختلفا: فهو عند هذه الأحزاب والتيارات يظهر في تعبير: دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية, لكنه يظهر عند البعض ــ جماعات أو أفراد ــ في صورة أكثر وضوحا في رفض تعبير الدولة المدنية تماما حيث يظهر في تعبير: إقامة الدولة الإسلامية والدستور الإسلامي والخلافة الإسلامية, لكن كل ذلك يصل إلي مداه ــ عند بعض غلاة التيار الإسلامي السلفي ــ في رفضهم لمجرد الحديث عن الدستور الوضعي أو القانون الوضعي, فالقرآن عند هذا البعض هو الدستور الإلهي الرباني الذي يغنينا عن أي دستور وضعي, والشريعة الإسلامية وحدودها تغنينا عن أي قانون وضعي. لكن الصراع الفكري حول الدولة المدنية لم يقف عند الصراع بين مفهوم الدولة المدنية والمدنية بمرجعية إسلامية ومفهوم الدولة الإسلامية, بل تخطاه إلي الصراع حول جدوي الحديث عن دولة مدنية, إذا كان مثل هذا الحديث يؤدي إلي هدف خفي عند كل من دعاة الدولة المدنية ودعاة الدولة الدينية هو طمس وإخفاء المفهوم الأصلي للدولة الوطنية الحديثة التي لا يمكنها أن تكون إلا دولة علمانية. ووفقا لهذا الطرح الذي لا يخفي رؤيته العلمانية ومنهجه العلماني فإن الصراع الفكري الحقيقي/ الجذري هو صراع بين الأصولية ودولتها الدينية والعلمانية ودولتها العلمانية. والسؤال هنا هو: هل نحن في الصراع الفكري بين القديم والجديد بصدد صراع ثنائي بين قوي مدنية تنادي بالدولة المدنية الديموقراطية كبناء فوقي للمجتمع الديموقراطي المدني, وقوي إسلامية سلفية تنادي بالدولة الدينية كبناء فوقي للمجتمع الإسلامي السلفي ؟ أم أننا بصدد صراع فكري تعددي رباعي التوجه يعبر عن انقسام المجتمع والنخبة بين أربعة تيارات, يعبر أحدها عن نفسه عن طريق المناداة بإقامة الدولة المدنية الديموقراطية, ويعبر الثاني عن نفسه عن طريق المناداة بإقامة الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية, ويعبر الثالث عن نفسه عن طريق المناداة بإقامة الدولة السلفية الوهابية الإسلامية, ويعبر الرابع عن نفسه عن طريق المناداة بإقامة الدولة العلمانية ؟ أم أن هذا الصراع الفكري الرباعي سوف يؤدي في نهاية المطاف إلي انقسام حاد بين دعاة الدولة المدنية الديموقراطية في صورة قوي مدنية ديموقراطية حديثة ودعاة الدولة الدينية الإسلامية والخلافة الإسلامية في صورة تحالف القوي الإسلامية السلفية والجهادية والسياسية الأصولية؟
3 ـ وللصراع بين القديم والجديد تعبيراته القيمية والثقافية:
تتمثل في الصراع بين التيارات السياسية والثقافية المصرية التي ظهرت بعد ثورة25 يناير حول جملة من المفاهيم والأفكار والقيم والتوجهات الثقافية, فقد كشفت ثورة25 يناير الغطاء عن وجود عدة تيارات سياسية وثقافية, ذات أوزان مختلفة في قدرتها علي التأثير, وذات قدرات مختلفة في التعبير عن نفسها, وعن توجهاتها الثقافية, ولعل أبرز هذه التيارات التي ظهرت بوضوح بعد25 يناير هي التيار الليبرالي, والتيار اليساري الاشتراكي, والتيار القومي الناصري والتيار السياسي الإسلامي, وهذه التيارات السياسية الأربعة كانت موجودة قبل ثورة25 يناير, لكن النظام السلطوي الاستبدادي بأدواته السياسية والإعلامية كان قادرا علي خنقها وحبسها في مقراتها وصحفها, وقادرا علي تشويه توجهاتها وأفكارها السياسية والثقافية, وقادرا بأدواته القمعية والأيديولوجية أن يحدد أو يشوه حقيقة أوزانها النسبية في المجتمع ومؤسساته المختلفة. لكن ثورة25 يناير أعادت تقديم هذه التيارات سياسيا وثقافيا في مشهدين صارخين, مشهد ميدان التحرير قبل التمكن من إزاحة رأس النظام في يناير وفبراير والاحتفال بجمعة الرحيل, ومشهد ما بعد رحيل رأس النظام بعد11 فبراير والاستفتاء علي التعديلات الدستورية في19 مارس والانقسام السياسي والثقافي الكاشف للحقائق التي كانت مختفية تحت السطح ومتخفية في قاع المجتمعين: السياسي والمدني. منذ25 يناير وحتي11 فبراير وربما بعده بقليل ظهرت إبداعات الشباب المصري الثائر في الميادين, وظهر صمود الشعب المصري وفئاته الشعبية موحدة ثائرة أمام جبروت نظام سلطوي لا يريد الرحيل, ويضغط بكل آلاته القمعية وألاعيبه السياسية وأبواقه الإعلامية ليحدث ثغرة في الجدار الصلب للشعب الثائر الذي احتشد في كل ميادين مصر, في هذا المشهد الثوري ظهرت أفضل وأجمل وأعظم سمات الشعب المصري الثائر وقيمه الثقافية/الاجتماعية: ظهرت روحه الجماعية التواقة للحرية, ظهرت صلابته وقدرته علي التضحية والصمود في سبيل هدف جماعي نبيل, ظهرت إبداعاته وقدرته علي التفكير العلمي والإبداعي والتخطيط لمعارك الحشد والتعبئة والكر والفر, والتنسيق, وتقسيم العمل, وتوفير الإعاشة والسقاية, وتكوين فرق العمل. ظهرت روح التسامح الفكري والسياسي والثقافي والديني وقيمها وتراجعت نزعات الكراهية والفردية والتعصب والطائفية, وأمام هذه الروح الشعبية الثورية السامية ذابت النخب السياسية والثقافية في دفء الحشود الجماهيرية, وتوحدت معها في الشعارات والنداءات والأهداف والتوجهات والحركة, توحدت معها في الروح, فهتفت: الشعب يريد إسقاط النظام, وهتفت: تغيير, حرية, عدالة اجتماعية, وهتفت للخبز والكرامة الإنسانية, وأبدعت مع الشعب الثائر والصامد في الميادين نداءات: إرحل, وارحل يعني إمشي, يمكن ما بيفهمشي, وغيرها من النداءات التي تعكس روح الصمود وروح الإصرار وروح الفكاهة الشعبية المصرية, وحيث تصاعدت روح الصمود والتعاون والجماعية تسامت أحاسيس ومشاعر العزة والكرامة, فهتفت الجموع الثائرة في عزة وفخر: ارفع رأسك فوق, إنت مصري, وظهر معني جديد لكلمة مصر وكلمة مصري, وأعاد الشعب المحتشد في الميادين والنخبة المحتشدة في الميادين اكتشاف معني مصر, ومعني أن تكون مصريا, ومعني أن تتحدث مصر عن نفسها, ومعني أن يفرح المصريون فرحا جماعيا وتملأ الابتسامات وجوههم, وأن ينتصروا انتصارا جماعيا, وأن يغنوا معا للحرية وللعدالة الاجتماعية, كان هذا هو المشهد الأول.
بعد11 فبراير, وخاصة قبيل اقتراب الاستفتاء علي التعديلات الدستورية في19 مارس2011 كان هناك مشهد آخر يتشكل, وبعيدا عن التفاصيل الكثيرة, تلك التي تسكنها الشياطين, كانت توابع الثورة وعملية كشف الغطاء عن المختفي والكامن تظهر في صورة إعادة إنتاج العادات والتقاليد والأفكار القديمة السابقة علي الثورة, السابقة علي روح التوحد والتعاون والتسامح والجماعية وإنكار الذات التي نشأت في ميادين التحرير. عادت الطائفية تطل برأسها, فقطعت أذن مواطن قبطي في قنا, وتم الاعتداء علي كنيسة صول التابعة لمركز أطفيح بجنوب محافظة الجيزة( حلوان سابقا), وظهرت جماعات من السلفيين في مشاهد ومظاهرات أمام الكنائس تطالب بالإفراج عن كاميليا ووفاء قسطنطين, ثم ظهرت قضية عبير التي أنتجت حشودا من السلفيين والمسيحيين أمام كنيسة مار مينا بامبابة بشمال محافظة الجيزة, بحثا عن عبير بنت الصعيد التي أسلمت وتركت زوجها المسيحي وأولادها وتزوجت من مسلم هرب بها إلي محافظة القليوبية, الأمر الذي قاد إلي سقوط القتلي من الجانبين وإحراق الكنيسة الأولي في شارع الأقصر بامبابة, وكنيسة العذراء في شارع الوحدة بنفس منطقة إمبابة. فأي روح شريرة, تلك التي فجرت هذه الروح الطائفية المقيتة بعد أقل من شهر من انتصار الشعب المصري علي نظام مبارك ودفعه للتنحي في11 فبراير؟ أي روح شريرة تلك التي خرجت كالحية تسعي, والتي أخرجت من جوفها نارا تحرق الأخضر واليابس وتحرق شجرة الثورة التي أطلقها الشباب في25 يناير؟ وللأسف لم تكن هذه الروح الطائفية بعيدة عن البعض في التحضير وأثناء إجراء استفتاء19 مارس علي عدد من التعديلات الدستورية من دستور1971 الذي تم إيقافه ثم إلغاؤه بعد ذلك, فقد تحول التصويت بنعم عند البعض في دعايته إلي فريضة شرعية, وتحول دعاة التصويت بلا عند البعض من دعاة المؤيدين لنعم إلي نصاري وعلمانيين وملاحدة وأعداء للإسلام يرغبون في إلغاء المادة الثانية من الدستور غير المطروحة أصلا في التعديلات. وبعد الاستفتاء توالت الانقسامات والصراعات, وأخرج المجتمع من باطنه قيم التشدد والكراهية والطائفية, تلك التي ظهرت في أحاديث السلفيين وبياناتهم, وبعض الاتجاهات السياسية الإسلامية حول رفض ولاية القبطي, ورفض ولاية المرأة, ووصلت هذه الأحاديث القديمة إلي ذروتها في دعاوي عدم مشاركة الأقباط في أعيادهم, أو تناول طعامهم, وظهرت فتاوي تحريم تناول البصل أو الفسيخ في شم النسيم, بل تحريم الاحتفال بهذا العيد المصري القديم أصلا, وتحريم الخروج للتنزه في الحدائق أو في الرحلات النيلية في هذا اليوم المكروه أو المحرم سلفيا, باعتبار أن أعياد النصاري وأعياد المصريين القدماء عندهم أعياد شركية, والاحتفال بها مشاركة لأهل الشرك في أعيادهم. وذهبت هذه الروح الوهابية السلفية حد الصدام مع الطرق الصوفية, باعتبارهم يحتفلون بالموالد ويتقربون من آل البيت ويصلون في المساجد التي تحتوي علي مقابر وأضرحة, وظهرت دعاوي هدم الأضرحة, ودبجت المقالات والبيانات في الصحف السلفية الصادرة عن الجمعية الشرعية وجماعة أنصار السنة المحمدية, ضد أعياد النصاري, وضد احتفالات الطرق الصوفية ومع ضرورة هدم الأضرحة. وعكست هذه الروح السلفية نفسها علي الصراعات والاختلافات الفكرية والسياسية والثقافية, وخاصة علي ذلك الخلاف الذي نشأ بعد الاستفتاء علي التعديلات الدستورية, وصدور الإعلان الدستوري الثاني الذي أعلنه المجلس الأعلي للقوات المسلحة, وبصفة خاصة الخلاف الذي اتخذ صورة الدستور أولا أم الانتخابات أولا, فقد وصف سلفي كبير الفوز بنعم في استفتاء19 مارس بغزوة الصناديق, وقال آخر إن القائلين بالدستور أولا هم العلمانيون والنصاري وأعداء الإسلام, وقال ثالث إن القول بالدستور أولا بدعة, ومن السائد أن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار, وأضاف أن القائلين بالدستور أولا هم شياطين الإنس. ووصل الصراع إلي ذروته مجسدا في جمعتين وفي مليونيتين: هما جمعة8 يوليو وجمعة29 يوليو, فبينما انتمت الجمعة الأولي8 يوليو, والتي حملت شعار الثورة أولا, أي تحقيق مطالب الثورة أولا, إلي قيم وروح جماهير الثورة المصرية التي ظهر فيها الشعب موحدا ثائرا متعاونا متسامحا في ميادين وشوارع مصر منذ25 يناير حتي تخلي مبارك عن السلطة في11 فبراير2011 انتمت الجمعة الثانية, جمعة29 يوليو والتي حملت شعار جمعة الهوية والشريعة الإسلامية إلي روح وقيم الانقسام والصراع في المجتمع بين القوي المدنية والقوي الإسلامية والسلفية, الذي ظهر منذ استفتاء19 مارس حول التعديلات الدستورية, حيث ظهر في الجمعة الأولي طابع التعاون والتعدد وطرح ما هو متفق عليه والحفاظ علي التعهدات والاتفاقات, بينما ظهرت في الجمعة الثانية قيم الانفراد والإقصاء والاستبعاد عن طريق طرح المختلف عليه وفرضه بالقوة, وعن طريق حشد الأنصار من تيار واحد بهدف استعراض القوة والعضلات, وعن طريق رفع شعارات الدولة الإسلامية وأعلام الدولة السعودية, وعن طريق اتهام القوي المدنية في هويتهم, وفي عقائدهم, وعن طريق التهديد والوعيد. فهل يفتح هذا الصراع الذي ظهر في مسار الثورة المصرية وتجسد في استفتاء19 مارس, ثم في جمعتي8 يوليو و29 يوليو الباب أم تطور ثورة25 يناير نحو إنجاز مهام التحول الديموقراطي الآمن ؟ أم يفتح الباب أمام مقدمات انتكاس الثورة وعودة القديم نظاما سياسيا أو قيما ثقافية أو اجتماعية مهما اختلفت الصور والرتوش والألوان والمسميات ؟
وللصراع وجوه أخري:
1 ـ للصراع بين القديم والجديد كما رأينا وجوه سياسية وفكرية وثقافية, تنتمي لما كشفت عنه الثورة من صراعات قديمة/ جديدة كانت ظاهرة أو خافية أو متخفية في باطن المجتمع المصري وأوضحنا بعضها في الفقرات السابقة.
2 ـ وللصراع بين القديم والجديد بعد ثورة25 يناير وجوه أخري نقابية وحزبية تنظيمية وجيلية, تأخذ صورة الصراع بين فلول اتحاد عمال مصر والنقابات المستقلة الجديدة, والصراع بين المؤسسات والقيادات الجامعية والإعلامية القديمة والجديدة, وتأخذ صورة الصراع المكشوف أو الخفي الناتج عن جود عدد كبير من ائتلافات شباب الثورة, وظهور عدد كبير من الأحزاب أو مشاريع الأحزاب السياسية الجديدة الليبرالية واليسارية ذات المرجعيات المدنية والأحزاب ومشاريع الأحزاب السلفية والجهادية والصوفية ذات المرجعيات الدينية الإسلامية, وتنتج جملة كبيرة من التفاصيل يمتد القديم منها إلي قيم وعلاقات ومناهج تفكير ثلاثين عاما من حكم مبارك لمصر, وربما أبعد من ذلك في الفكر والجغرافيا والتاريخ, ويستمد الجديد منها روحه من قصص الصمود والنضال والمقاومة التي تراكمت قبل25 يناير, وظهرت في إبداعات الشباب الذي دعا لمظاهرات يوم25 يناير, وإبداعات ثورة25 يناير وطموحاتها المستقبلية.
3 ـ وللصراع بين القديم والجديد بعد ثورة25 يناير وجوه أخري تنتمي لتحديات الهدم والبناء, وتنتمي لمعضلات ثورة بلا قيادة( بلا هيئة أركان تمثل القيادة الثورية المنظمة التي تتحول بعد نجاح الثورة إلي مجلس لقيادة الثورة) فسلمت قيادها للمجلس الأعلي للقوات المسلحة ودخلت بهذا المجلس أو دخل بها هو إلي المرحلة الانتقالية بكل إشكاليتها, التي تظهر في تعبيرات وصراعات وحوارات ومليونيات واعتصامات متوافقة أو متعارضة.
4 ـ وللصراع بين القديم والجديد وجوه أخري اقتصادية واجتماعية تدور حول النظام الاقتصادي, وحول قضايا العدالة الاجتماعية, وقضايا الأجور والأسعار, والبطالة وما يرتبط بها, وتعبر عن نفسها في صور فكرية وحركية لعل أبرزها التصدي لأي تحركات مطلبية بالاتهام الجاهز بأنها مطالب وتحركات فئوية, وتظهر فكريا وسياسيا في صورة الدفاع الخفي عن نظام السوق الحرة, والاقتصاد الحر, ورفض تدخل الدولة من داخل مجلس الوزراء وكبار رجال الأعمال, وفي صورة رفض لأي تعديلات ذات شأن في هذه التوجهات الاقتصادية التي أنتجت الفساد والاستبداد والفقر والبطالة, وربما يكون هذا الصراع هو المرشح للتصاعد والظهور علي السطح بعد الانتهاء من الصراعات حول الدستور والانتخابات البرلمانية والرئاسية.
وللثورة وجوه أخري:
فنحن بصدد ثورة ديموقراطية أطلقها الشباب وصنعها الشعب بفئاته المتنوعة, وأعلن الجيش حمايتها وتبني مطالبها, وهي ثورة شاملة: سياسية واجتماعية وثقافية, استهدفت وما تزال:
1 ـ تغيير النظام السياسي القديم.
2 ـ تغيير نظام القيم القديم.
3 ـ تغيير نظام التفكير القديم.
وهي ثورة مستمرة لبناء الديموقراطية في مصر عبر مرحلة انتقالية ذات سمات خاصة من الحوار والصراع والتفاعل بين عناصر من القديم الذي لم ينته والجديد الذي ينمو, وهي بذلك ثورة سياسية ذات تداعيات فكرية وثقافية, وتواجهها تحديات_ ومخاطر_ تنبع وتنطلق من الدخول في عملية انتقالية معقدة. وتنطوي هذه العملية الانتقالية علي أحلام كبري فجرتها الثورة ولا يجب أن تتبدد, هي أحلام ومطالب الحرية والعدل الاجتماعي, الدولة المدنية الديموقراطية, الجمهورية البرلمانية الديموقراطية, الدستور الديموقراطي والتشريعات الداعمة للعدل والحرية والتعددية والمواطنة والحوار, وأحلام ومطالب التفكير الحر, والعقل الحر, وسيادة مناهج التفكير العلمي والتفكير الإبداعي علي حساب مناهج التفكير التقليدي, والتفكير الخرافي والتفكير العشوائي, والتعصبي, والطائفي, ومطالب وأحلام الشفافية والنزاهة, والقضاء علي البطالة, والفساد والظلم الاجتماعي والاستبداد وشبكاته وقيمه. لكن هذه الأحلام لا ينبغي لها أن تظل مجرد أحلام ومطالب, بل عليها أن تتحول إلي عملية ثورية منظمة, إلي مواد جديدة في دستور جديد وتشريعات وقوانين جديدة, إلي تعددية سياسية حزبية ونقابية حقيقية, إلي حوار مجتمعي حقيقي, إلي برامج اقتصادية واجتماعية وثقافية جديدة, إلي توجهات إعلامية وثقافية جديدة, إلي مناهج تربوية وتعليمية وبحثية وبرامج إعلامية جديدة, تكون قادرة علي استكمال هدم النظام القديم وأفكاره وقيمه ومناهجه التقليدية, وبناء نظام ديموقراطي جديد بأفكار جديدة وقيم جديدة, تحول الأحلام التي أطلقتها ثورة25 يناير إلي حقائق جديدة في واقع جديد ومجتمع ثوري جديد.
نحو المستقبل:
وفي كل الأحوال فإن البحث في مستقبل ثورة25 يناير لا يمكنه أن يقفز علي معضلات وتناقضات هذه الثورة, وبصفة خاصة العناصر المتنوعة للصراع بين القديم والجديد فيها وحولها ومهام المرحلة الانتقالية التي دخلت فيها, والتي تحمل مخاطر حقيقية حول إمكانية استكمال مهام هذه الثورة; بل مخاطر انتكاسها أو توقف قوة الدفع التي تمكنها من السير نحو أهدافها الرئيسية في التغيير الثوري.
تلك الأهداف تتمثل في ضرورة استكمال النضال من أجل:
1 ـ الانتقال من نظام الاستبداد السياسي وبقاياه إلي نظام جديد يؤسس للحرية والديموقراطية السياسية والمشاركة الشعبية.
2 ـ الانتقال من النظام الذي يؤسس لسياسات القهر الاجتماعي والفقر والبطالة والتفاوت الطبقي والفساد إلي نظام جديد يؤسس لسياسات التنمية والشفافية والعدالة الاجتماعية.
3 ـ الانتقال من النظام الذي يؤسس لثقافات التمييز الاجتماعي والديني والتعصب والطائفية, ويعلي من شأن النقل والعشوائية والخرافة, إلي نظام جديد يؤسس للمساواة والمواطنة والوحدة الوطنية وحرية الرأي والفكر والاعتقاد, ويعلي من شأن العقل والتفكير العلمي والثقافة العقلانية الديموقراطية والحرية والإبداع..
إن النجاح في تحقيق هذه الأهداف التي نراها مهاما أساسية للمرحلة الانتقالية تعادل نجاح الثورة في الانتقال نحو المستقبل, وتعادل نجاح الثورة في تحقيق شعاراتها الرئيسية, وبصفة خاصة شعار: الشعب يريد تغيير النظام, وشعار: تغيير- حرية- عدالة اجتماعية.
| |
|