مــقدمة:-
الأدب والنقد ثنائية كثنائية الرجل والمرأة, لابد لكل طرف من الأخر يعضده ويتفاعل معه ,ولا يستمر بدونه, ويكمله في نظره في حين أنهما لا يبلغان الكمال ولن يبلغاه , وعندما نقوم بعملية ربط أو مزاوجة بين هاتين الثنائيتين ,فإننا سنحصل على أدب الرجل وبالمقابل أدب المرأة ,كما أننا سنحصل على نقد الرجل وبالمقابل نقد المرأة ,وطرفا هذه المعادلة موزونان لا ترجيح لإحدى كفتية على الأخرى إلا بقدر ما تبدعه قريحتها,وانطلاقا من هذه الحقيقة ,.فإن محاولة الانتقاص من الآخر أو تجاهله يعد خطيئة لا تغفرها الحقيقة والموضوعية .
ولا شك في أن المرأة قد أسهمت في شتى مجالات الحياة ,ولاسيما مجال النقد الأدبي ,ويهدف هذا المبحث إلى تأكيد حضور المرأة العربية كناقدة رافقت مسيرة النقد الأدبي العربي ,ومحاولة الكشف عن خصائص الأسلوب اللغوي النقدي والمضمون ,ومدى اهتمام الناقدة بقضايا المرأة وصورتها في الشعر العربي,وموقفها من طبيعة ذلك التصور , ودورها في إحداث تغيير في وعي الشعراء عن المرأة .
ولأن مصطلح النسوية مصطلح غربي, وله خصوصيته وخلفيته المعرفية التي تختلف كثيرا عن خصوصيتنا وخلفيتنا المعرفية,. فإننا في هذا المبحث سنستفيد من دعوة الحركة النسوية العالمية إلى إبراز التراث الإبداعي للمرأة وخصوصيته وبيان إسهاماتها في التراث الفكري الجمعي , ودورها الايجابي في بناء الحضارات ,في سبيل تعزيز دورها ومكانتها في الحاضر والمستقبل,كونها النصف الآخر الذي لا تستقيم الحياة بدونه , ولا ترق الأمم والحضارات إلا بمشاركته وحضوره .
النِسْوِية مفهومها والخلفية المعرفية لها:-
- المصطلح والمفهوم:
تذهب ساره جامبل إلى أن (النسوية ) تعني :-"الاعتقاد بأن المرأة لا تعامل على قدم المساواة –لا لأي سبب سوى كونها امرأة – في المجتمع الذي يحدد شئونه ويحدد أولوياته حسب رؤية الرجل واهتماماته ...,وأن النسوية توصف بأنها:نضال لإكساب المرأة المساواة في دنيا الثقافة الذي يسيطر عليه الرجل "(1)
وهي بشكل عام "كل جهد نظري, أو عملي يهدف إلى مراجعة واستجواب أو نقد أو تعديل النظام السائد في البنيات الاجتماعية , الذي يجعل الرجل هو المركز ,هو الإنسان ,والمرأة جنسا ثانيا أو ( آخر ) في منزلة أدنى "(2)
وقد رافقت الحركة النسوية مصطلحات مثل (الأدب النسوي) ,و(النقد النسوي )
,فالأدب النسوي : هو الأدب الذي يؤكد وجود إبداع نسائي ,وآخر ذكوري, لكل منهما هويته وملامحه الخاصة ,وعلاقته بجذور ثقافة المبدع ,وموروثه الثقافي ,والاجتماعي والثقافي.,وتجاربه الخاصة من نفسية وفكرية تؤثر في فهمه للعالم من حوله ,والمرحلة التاريخية التي يعيشها.
أما النقد النسوي فهو : كل تقد يهتم بدراسة تاريخ المرأة وتأكيد اختلافها عن القوالب التقليدية التي توضع من أجل إقصاء المرأة, وتهميش دورها في الإبداع ...ويهتم إلى جانب ذالك بمتابعة دورها في العطاء الأدبي ,والبحث في الخصائص الجمالية والبنائية واللغوية في هذا العطاء(3)
2 -الخلفية المعرفية للفكر النسوي الغربي :-
تتجلى الخلفية المرجعية في شقيين رئيسين كان لهما الدور البارز في تشكيل مفهوم النسوية ,هما"الكتاب المقدس ,والتراث الفكري من أرسطو حتى القرن العشرين"(4)
أما الكتاب المقدس,(في العهد القديم والعهد الجديد متضمنا التوراة والإنجيل ) ,فقد انسحب تأثيرها في نسيج الثقافة الغربية منذ التراث اليوناني إلى اليوم , حيث اختلط في تلك الحقب ما هو ديني بما هو فلسفي ....,فقد بدأت النظرة الدونية إلى المرأة في فلسفة أفلاطون وأرسطو .ولا شك أن نصوص الروايات التوراتية قد ظهرت قبل ذلك (5)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)النسوية قراءة في الخلفية المعرفية لخطاب المرأة في الغرب .رياض القرشي,ط1, دار حضرموت للدراسات والنشر ,الجمهورية اليمنية 2008م ص62.
(2) المصدر نفسه ,ص63.
(3)النقد الأدبي الحديث من المحاكاة إلى التفكيك .إبراهيم محمود خليل ,دار المسرة ,ط:1 ,عمان الأردن ,2007م.ص137.
(4)المصدر السابق.ص69.
(5)المصدر نفسه.ص 118
ولعل هذا الترسيخ المتين في النصوص الدينية وفي النصوص الفلسفية ......انعكس في كل مجالات الحياة على مستوى الممارسة على الواقع وبخاصة في المجال القانوني الذي ثبت هذا الموقف المضاد للمرأة بقيود القانون"(1),وحينها كان على الحركة النسوية "أن تسبح ضد التيار فقد أكد أرسطو "أن الأنثى أنثى بفضل ما تفتقر إليه من خصائص ",وذهب القديس توما ألاكوني إلى أن المرأة رجل ناقص"(2)
وتواترت تأثيرات أهمها نظرية فرويد1856-1939) في التحليل النفسي المعاصر ,"وقد كانت نظريات فرويد -في الولايات المتحدة بوجه خاص- مختزلة في مستوى بيولوجي فج ,مما يجعل الأنثى تبدو طفلة تتطلع إلى عضو الذكورة,وتتعرف على نفسها من حيث هي أنثى بافتقادها عضو الذكورة ,فتحدد نفسها بالسلب وتعاني عقدة حسد القضيب بالضرورة"(3).
وقد كانت هذه المرجعية المعرفية الدينية, والفلسفية ,والاجتماعية ,والنفسية التي أعلت من شأن النظام الأبوي فظهرت الحركة النسوية كردة فعل لهذا الإلغاء والتمييز "ولقد كان التركيز في المرحلة الباكرة من الكتابة النسائية عن الأدب تركيزا سياسيا ....بمعنى أن الكاتبات كن يعبرن عن مشاعر ساخطة على الظلم ,وكن مشغولات بتعميق وعي النساء السياسي ومن ابرز كاتبات هذه المرحلة (كيت ميلليت,جيرمين جرير,وماري المان) (4),وبداية عكس النقد النسائي الأهداف السياسية لنظرية (المساواة بين الجنسين)...وظهرت المتابعات للمساهمات النسوية في التسعينات من القرن العشرين في مجال (تاريخ العلم )والممارسة العلمية)....وفي دراسات( ليندا شيبنجر ,1987م)أقامت أربع مقاربات تصورية اضطلعت بها مختلف (مدارس النسوية).وهي كالتالي :
1- إعادة اكتشاف انجازات النساء المبدعات المجهولات
2- تقصي المجالات المتاحة للمرأة في إنتاج المعرفة وتاريخ إسهام المرأة في المعاهد العلمية ومقارنة بالوضع الراهن للمرأة في هذه المهنة.
3- تحلل كيفية تحديد العلوم البيولوجية والطبية لطبيعة المرأة لتخبرنا بما هو عادي وطبيعي
4- تتفحص مواطن الاعوجاج في قواعد ومناهج العلم التي تؤدي إلى استبعاد المرأة (5)
ويتميز النقد النسوي بطابع محدد وأبرز ملامحه.
1- تجلية عالم المرأة العاطفي والشخصي من خلال القراءة النقدية لأعمال المرأة الإبداعية.
2- اكتشاف التاريخ الأدبي الموروث للمرأة والذي همشته الأعمال السابقة بفضل هيمنه ذكورية.
3- السعي المستمر لتحديد سمات الأسلوب اللغوي الأنثوي وما فيه من صور ومجازات وأخيلة خاصة باستخدام المرأة(6)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)النسوية قراءة في الخلفية المعرفية لخطاب المرأة في الغرب.ص:120.
(2)النظرية الأدبية المعاصرة .رامان سلدن .تر:جابر عصفور.دار قباء .القاهرة,د.ط,1998م.ص193.
(3) المصدر نفسه .ص207,ص208.
(4)المصدر نفسه .ص198.
(5) المصدر السابق ص53,ص54
(6) النقد الأدبي الحديث من المحاكاة إلى التفكيكية .ص137,ص,138.
النقد النسوي في العصر الجاهلي
يطالعنا التاريخ العربي للأدب والنقد الجاهلي بأول حكومة نقدية احتكم فيه شاعران إلى امرأة في إصدار حكم لتفضيل في الشعر .إذ نازع امرؤ القيس علقمة بن عبده الفحل الشعر ,فقال له قد حكمت بيني وبينك امرأتك أم جندب .قال :قد رضيت ,فقالت :قولا شعرا على روي واحد وقافية واحدة ,صفا فيه الخيل ....فأنشداها ,فغلبت علقمة .فقال لها زوجها :بأي شيء غلبته فقالت :لأنك قلت:
فللسوط ألهوبٌ وللساق درّة ٌ وللزجر منهُ وقع أهوج منعب
فجهدت فرسك بسوطك ومرّيتهُ بساقك وزجرك ,واتعبتهُ بجهد ك .وقال علقمة :
فولى على أثارهن بحاصب وغيبة شؤبوب من الشد ملهب
فأدركهن ثانيا من عنانه يمر كمرِ الرائح المتحلبِ
فلم يضرب فرسه ُ بسوط ,ولم يمره بساق, ولم يتعبهُ بزجر(1)
أن قبول الشاعر لامرأة محكمة هو كسر لفكرة السيطرة الذكورية, فالمرأة العربية الجاهلية في مجال النقد تسجل تجاوزا وسيادة, فهي هنا صاحبة القرار, و من خلال نص الحكومة النقدية اتسمت بالموضوعية والجرأة وألغت كل الفواصل ,والامتيازات الجنسية من ذهنها والسيطرة الذكورية المتمثلة هنا بسلطة الزوج ,فوضعت شروطا للمتسابقين لتوخي الدقة ,والموضوعية إذ اشترطت ا(الموضوع) وهو وصف الخيل ,واشترطت (الروي ) و(القافية) ,.
ولأنها زوجة احد المتسابقين ,. فقد اختطت لنفسها سبيلا تجنبها من الانصياع لسلطة الزوج بأبعادها المتعددة , فالشروط التي وضعتها هيأت فضاء حيادي بعيد عن الذاتية ,وقد ساعد الموقف على خلق منهج علمي مصغر يعتمد على شروط مسبقة وعلى تعليل لاحق للتفضيل .
وستجد في تعليلها النقدي وتفضيلها لشعر علقمة :أنها استندت على قيم اجتماعية متعارف عليها في صفات الخيل الجيدة وهذا في هو الظاهر لكثير من النقاد الذين تناولوا النص بالدراسة وهناك جانب آخر - في تقديري- يتمثل في رفض المرأة للعنف والقسرية وميلها إلى الألفة ,فجاء تفضيلها شعر علقمة على شعر امرئ القيس لرقي التعامل وإنسانيته في شعر علقمة ولأنها ببساطة ترى أن بيت امرئ القيس يفصح عن علاقة سلبية مع الفرس تقوم على ضرب الحيوان وإنهاكه بمعنى آخر ترى أم جندب مضمون بيت امرئ القيس مضمون مختل الرؤية ,عصابي يعكس ثقافة الظلم ويفخر بها, والمرأة بطبعها ممتلئة بالرحمة تستفزها مشاهد العنف ولذا اتخذت حكومة أم جندب النقدية الوصف للخيل وطبيعة العلاقة بينه وبين فارسه المعيار الأساس لإصدار حكمها فكان فرس امرئ القيس بليدا وفارسه عنيفا وكان فرس علقمة قويا سريعا يمر مر الريح فاستحق صاحبه الحكومة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الأغاني . أبو فرج علي بن الحسين الأصفهاني,ج/8, دار إحياء التراث العربي ,بيروت .لبنان ط1 ,1997م,ص358,ص359.
وإذا كانت حكومة أم جندب تعاين الشعر من زاوية جزئية ,فقد سجل التاريخ النقد النسوي نصوص نقدية تتسم بالشمولية ,وعمق الرؤية في تقييم الشعر ودوره في المجتمع وتقييم الشاعر وإبداعه من خلال تقييمه بإصدار أحكام نقدية عامة,ومن تلك النصوص قصة امرأة المحلق فقد قالت لزوجها"إن الأعشى قدم وهو رجل مفوه مجدود في الشعر ما مدح أحدا إلا رفعه ولا هجا أحدا إلا وضعه وأنت رجل كما علمت فقير ,خامل الذكر ,وذو بنات وعندنا لقحة نعيش بها ,فلو سبقت الناس إليه فدعوته للضيافة,ونحرت له,واحتلت له فيما يتعاطاه لرجوت لك حسن العاقبة"(1)
فعمل زوجها بفكرتها ومدحهم الأعشى بقصيدة شهيرة يقول في مطلعها:
نفى الذم عن رهط المحلق جفنة ً كجابية الشيخ العراقي تفهقُ(2)
فامرأة المحلق تقيم الشاعر من خلال الآتي:
1-أنه شاعر مفوّه والمفوّه القادر على الكلام والمنطق , وهي من هذه الزاوية تتناول الشاعر الملقي كون الإلقاء, والقدرة على الكلام والمنطق, والبلاغة تمثل صفات الشاعر الأنموذج في العصر الجاهلي الذي يلقي قصائده في سوق ,وهذه اللفتة تعكس عمق النظرة للمرأة الناقدة, والتي تتنبه إلى العلاقة بين الشاعر الملقي والجمهور.
2-تقييم الشاعر من حيث حجم الجمهور ,وقيمة شعره في الأوساط الاجتماعية فوصفته ب"المجدود"أي المحظوظ في الاستماع وتناول قصائده من قبل الجمهور وروايتها .
3- براعته في فنين متناقصين (المدح,والهجاء)والتمكن منهما ولهذا علاقة بما سبق,فتفوق الشاعر بهذين الفنين يدل على قدرته على الكلام والمنطق,والقدرة على الإلقاء,وهذا كله يضمن جمهور واسع للشعر وللحفظ والرواية,وهذا التلاحم في الوصف للشاعر يعكس قدرة المرأة الناقدة ,وتمكنها من الوقوف على علاقة الشعر بالخارج النصي (المجتمع-الإنشاد-الجمهور)ولذلك وصفته أنه ما مدح أحدا إلا رفعه وما هجا أحدا إلا وضعه",ففي هذا القول إفصاح عن أهمية الشعر ,وسطوة الكلمة في حط قوم ورفع آخرين, وبهذا تؤمن المرأة بهذا السلاح ,وتركن إليه من أجل القضاء على الدونية ,ولفت الأنظار إلى بناتها.
فالناقدة ترى في الشعر العنصر السحري للحراك, والانتقال بالأسرة من وضع الطبقة المسحوقة إلى الطبقة ذات المكانة المرموقة,فنجد امرأة المحلق قامت بوضع معادلة عناصر المدخلات فيها:-
كساد بنات لأب خامل الذكر+ضيافة شاعر مفوه مجدود ←إقبال كبير على البنات+ارتقاء مكانة الشاعر وأسرته.
والناقدة لم تدرك أهمية الشعر فحسب ,بل تنبهت قبل ذلك إلى تهيئة المناخ الشعري فاحتاطت بالشراب من أجل صفاء القريحة ,واسترسال الأبيات العذاب,وهذا مؤشر يعكس حجم الوعي لدى الناقدة بدواعي الشعر ومهيآت القول . دون طلب من الشاعر أن يمدح فهي تهيئ لقول الشعر ولا تتعسف تعسف الملوك ,وهي بهذا تراعي خصوصية الإيداع وطبيعته ,فيقول الأعشى راغبا قصيدة تلغي المسافة بين حلم ال المحلق وواقعهم فيحضر الحلم ويغيب الواقع المر إلى غير عودة وتدخل التاريخ أسرة كانت على هامش اليومي بفضل وعي نسوي بقيمة الأدب ودور الكلمة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) العمدة, ابن رشيق القيرواني:ج1,ص78.
(2) الكامل في اللغة والأدب أبو العباس المبرد.:,تحقيق.جمعة الحسن ,ج1.دار المعرفة .بيروت ,ط2 200م.
ليس بالضرورة أن يكون النقد تقييما للأخر, فقد يكون من خلال تقييم الشاعرة لذاتها في ضوء الآخر " قال النابغة للخنساء :انشدي, فأنشدته,فقال لها,والله ما رأيت امرأة أشعر منك. فقالت الخنساء :لا والله ولا رجلا......."(1)
نجد في النص النقدي للخنساء تضخم الأنا واثبات حضورها وتفوقها على الآخر أي كان جنسه أو نوعه وهي من طرف آخر تنبه النابغة على الحكم على الشعر من حيث كونه شعرا, بغض النظر عن القائل, وجنسه سواء كان ذكرا ,أم أنثى ,وهذه النص يعد مؤشرا للتصادمات الجنسية وقوة الحضور النسوي الأدبي أمام السلطة الذكورية الأدبية التي يمثلها النابغة ,وقول النابغة :"ما رأيت امرأة أشعر منك "يحيل إلى مشهد (شعري) نسوي كبير, وإلا فبمن سيقارن الخنساء؟ وبناء عليه ,وبالإفادة ما سبق من نصوص نقدية نخلص إلى أن المرأة العربية الجاهلية حضرت في المشهد الأدبي والنقدي بقوة ,ولم تلقَ إلغاء أو تهميش من الرجل وهناك أسماء شعرية نسويه في هذا العصر كثيرة ربما تفوق إلى درجة كبيرة شاعرات العصور الأدبية القديمة اللاحقة للعصر الجاهلي ,وما ذلك إلا مؤشرا على فضاء إبداعي حر حضرت المرأة إلى جانب الرجل ,واهتم الشاعر الجاهلي بتثقيف أسرته وتعليمها قول الشعر ,وتذكر المصادر "إن ابنة الأعشى كان أبوها قد علمها, وثقفها حتى وثق بذوقها ونقدها,فكان يعرض عليها شعره,وكان يقول لها:عدي لي المخزيات-القصائد التي تخزي غيره فيعجز عن الإتيان بمثلها-فتسمعه من شعره"(2)
فهذا النص يؤكد على القصدية في تعلم النقد من خلال حفظ الشعر ,وتنمية الذائقة النقدية ,ثم الركون إليها في اختيار عيون القصائد التي تجعل الخصم يتقزم أمامها ,ومن هذا النص نستطيع الجزم بوجود قواعد يتدرب عليه الناقد, ويتمرسها حتى يركن على ذائقته في إصدار الأحكام النقدية وتمييز الصحيح من الزائف.ويذكرنا هذا النص النقدي بنص آخر مشابه في قصة أبي دؤاد الأيادي الذي درب أسرته على قول الشعر ,حيث وصف ثورا يخرج من أجمة وقال مقطوعة مطلعها :
وبدت له أذن توجس حرة وأحم وارد
ثم قال أنفذي يا أم دؤاد –ومعنى النفاذ محاكاة الشعر مع تغيير الكلمة الأخيرة تمرينا على القول والتمرس على القوافي ,فنفذت وغيرت الكلمة الأخرى من كل بيت ......ثم قال لابنته أنفذي يا دؤادة ,فقالت وما أقول مع من أخطأ ,فقالوا ومن أين أخطأنه ,فقالت : جعلتم له قرنا واحدا وله قرنان .قالوا لها قولي . فقالت :
وبدت له أذن توجس حرة وأحمتان(3)
وهنا يظهر الاهتمام بتعليم المرأة الشعر والتمرس على القول وأمام مشهد شعري حي ,وهو وصف الثور .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الأدب الجاهلي وبلاغة الخطاب الأدبية وتحليل النص عبد الإله الصائغ .:,دار الفكر المعاصر.صنعاء 1999-2000م.ص102.
(2) منهج النقد الادبي عند العرب . .حميدادم -تويني:.:نقلا عن الأغاني ج15,ص106
(3) الأغاني .ج/6.ص,ص532-533.
النقد النسوي في العصر الاسلامي:
روي عن السيدة عائشة –رضي الله عنها-قولها:"الشعر كلام فيه الحسن والقبيح, فخذ الحسن ,واترك القبيح" (1)
وهذا التصور في حقيقة انعكاس للتصور الإسلامي الذي تميز بنظرته إلى الشعر من "حيث هو خدمة للنظام ووسيلة لغاية أشرف منه,فوظيفته اجتماعية أخلاقية (2).وهذا التصور اختزال للتصور الإسلامي من حيث نظرته إلى الشعر ,ومفهومه, ووظيفته ,ويسميه الدكتور جودة إبراهيم "نظرية ما وافق الحق" (3)
وقد تنبهت السيدة عائشة إلى قضايا نقدية حساسة ,من خلال تنبهها إلى البواكير الأولى في علاقة المجتمع بالشعر, فنجد السيدة عائشة تقول:"كذب من أخبركم أن أبا بكر قال بيت شعر في الإسلام" (4)ولم يقتصر إنكارها للشعر المنسوب لأبيها, بل تعدى إلى الشعر المنسوب إلى بعض الشعراء"فقد سألت مزرداً بن ضرار عن أبيات نسبت إليه ومنها:
جزى الله خيرا من إمام وباركت يد الله في ذاك الأديم الممزق فحلف بالله ما شهد تلك السنة المواسم".(5)
إن الانتباه من قبل السيدة عائشة يعتبر مؤشرا خطيرا في وضع الشعر,وحجم الظاهرة ,فالشاعر يوضع على لسانه ومازال حيا يرزق بين أظهر القوم لتصل درجة الإنكار إلى أنه لم يحضر تلك المواسم .أما ما يتعلق بالشعر المنسوب إلى أبيها ,فيعكس اتساع ظاهرة الانتحال وقدرة المرأة الناقدة على التنبه إلى هذه القضية خاصة ما يتعلق بشعر منسوب إلى أبيها على الرغم من كونه قد اعتزل قول الشعر بعد إسلامه ,وانشغل عنه بكتاب الله والجهاد في سبيله .
ويمثل هذا النقد للسيدة عائشة حجر الأساس في التنبه إلى الشعر المنسوب إلى آل البيت والصحابة ",وذلك إن مجال الشك فيما ينسب إليهم واسع, وكبير, فقد يعز على العامة أن لا يكون للصحابة اثر في شعر الجاهلية ,أو لا يكون لهم رصيد من الشعر في صدر الإسلام, فذهب الرواة إرضاء لهؤلاء العامة ينحلونها إلى أصحاب الرسول –صلى الله عليه وسلم-وأهل بيته"(6)
ونجد من خلال النصوص السابقة أن النقد النسوي في فترة صدر السلام قد أصيب بضعف شديد ,وهذا الضعف يتمثل في قلة النصوص النقدية النسوية ,حتى أن القلة التي ظهرت لا تعكس خصوصية المرأة الناقدة بقدر ما تعكس النظرة الإسلامية للشعر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-القيرواني ابن رشيق. العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده,ج1. بيروت: دار مكتبة الهلال.ط1 ,ص41، بلا تاريخ
2-سليمان.نبيل. نقد النقد. بيروت: دار الطليعة .ط1، 1983م
3-إبراهيم جودة:. ملامح نظرية نقد الشعر العربي. سوريا: تنوير للخدمات الطباعية,ط1.، 1944م.
4-الإسلام والشعر.يحيى الجبوري,منشورات مكتبة النهضة,د.ط,ص84.
5-ا:في النقد العربي القديم . .مجد محمد البرازي,ص283.
6-:الإسلام والشعر,ص83.
النقد النسوي في العصر الأموي:-
تظهر الحركة النسوية النقدية في هذا العصر بشكل ملفت وعلى يد ناقدة موهوبة ومتخصصة(السيدة سكينة بنت الحسين عليهما السلام)أما موهبتها فتتجلى في التعديلات التي أجرتها على المقطوعات والأبيات الشعرية , وأما كونها متخصصة فذاك راجع إلى اقتصارها على تتبع صورة المرأة في الشعر الذكوري وتصحيح التصورات التقليدية التي تغض من المرأة من جهة,ومن جهة أخرى تعزيز التصورات الايجابية التي يتصورها الشعراء عن المرأة.
وثمة ,أسس ثلاثة تمثل خلفية معرفية لنقد السيدة سكينة –رضي الله عنها– يجدر الإشارة إليهما قبل تناول نصوصه النقدية ,يتصل الأساس الأول بمكانتها الدينية بوصفها سيدة من بيت النبوة والرسالة وبنت الحسين بن علي _كرم الله وجهه-,وهذا الأساس يحيل إلى المكانة الاجتماعية أيضا فهي من سادات قريش ,وأما الأساس الثاني فهو طبيعة العصر والحياة في بيئة متحضرة مترفة ,"فقد كانت الحجاز أسبق البيئات إاى التكور بشعرها إذ سبقت التطور بحياتها الاجتماعية تحت تـأثير الثروات التي أصابها أهلها من الفتوح وما أغدقه عليهم الأمويون من الأموال حتى يرضوا عنهم ويصرفوهم عن الخلافة"(1), وأما لاساس الثالث فهو موهبتها الأدبية , وذائقتها الفنية وتتواشج الأسس الثلاثة لتشكل شخصية الناقدة فالأساس الأول والثاني مصدر الثقة والاعتزاز بالنفس وشعور بمسؤولية ورسالة في الحياة ولاهتمامها بالأدب والشعر فقد تمثلت رسالتها الأدبية المستندة على الدين وسموه وعدالته على الاهتمام بالمرأة ونظرة الرجل إليها ناسفة أن يكون هناك أعلى أو أدنى أو جعل المرأة أداة للاستمتاع وهي بهذه الرؤية لم تغض الطرف عن جماليات الأدب والشعر في سبيل تحقيق أهداف نسويه متحيزة ,فقد مزجت الأولى بالثانية فصارا غاية واحدة وهذه الخلفية لا تعني انجرار وتبعية مطلقة فالدين لم يسيطر على الأدب والأدب ليس تابعا للفقهي الشرعي فخلفيتها الدينية خلفية تتمثل بالسمو الروحي والحب وقيم الصفاء والإنسانية ونقدها جاء مراعيا للخصوصية الشعرية التي تحفظ له استقلالية ,وللحركة النسوية التى تتبناها, وعليه يمكن رصد ملمحين اثنين رئسين لطريقة معالجة النصوص والنقد:
الأول :الاهتمام بصورة المرأة في الشعر وطبيعة النظرة الذكورية لها.
وأما الثاني فهو تحقيق الشعرية الفنية وفق تصور خاص للشعر يعتبر من صميم الشعرية الفنية
فقد تنبهت إلى دور المفردة في إنتاج الجمال الشعري وما نقدها لقول الأحوص:
من عـاشقـين تواعـدا وتراسلا ليـلا َ إذا نجـــم الثريا حلـــقا
باتـا بأنعــم ليــلة وألــذها حتى إذا وضح الصباح تفــرقا
إلا لسذاجة المفردة "تفرقا" ,فعابت عليه وقالت ألا قال "تعانقا" بدلا من تفرقا(2)
لان البيتين يفتقدان الشاعرية فهما وصف لحدث يومي تواصلي عادي ,وإذا كان الشاعر في بداية البيت يوظف أسلوب الإبهام (من عاشقين ..) فالتعمية والتنكير لها غرض أسلوبي شعري يتمثل بالمبالغة وشد انتباه المتلقي /المستمع الذي ينتظر المفاجأة فلا يجد إلا نهاية ساذجة تخرج الشعر من دائرة الفنية لتهوي به لفظة (تفرقا) من هضبة التخييل إلى سحيق التقريرية .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) النقد, شوقي ضيف دار المعارف ,القاهرة ,ط:الخامسة ,ص30.(2)الأغاني .ج:16,ص375.
وهنا تتجلى براعة الناقدة ,في رؤيتها للشعر, في تعاليه على العادي والمألوف, فهو فضاء للحلم وللمتخيل . والناقدة لا تكتفي بالتشخيص للعلة الفنية في البيت فحسب ,بل تؤكد مقدرتها الفنية على المعالجة و فتضع لفظة (تعانقا ) لتحقق شعرية المقطوعة بهذا التغيير كون المفردة مكمن الإدهاش والمفاجأة التي حققت شعرية المقطوعة ,وأنقذت الجمل التي قبلها من مزلق العادية لتنفتح الصورة على كنوز من الدلالات الشعرية الراقية فتعانقا تحد ومغامرة وتفرقا استسلام وضعف تفرقا سلبية .تعانقا تأكيد
وتعزيز لسمو الحب وتوهجه وصدقه تعانقا كشف شعري وتفرقا تقليد يخفي في بذرته سوء النية والإشباع الغرائزي فيكون الصبح منقذا مخلصا.
وقد تتبعت مثل هذه السقطات الشعرية الشعر حيث أخضعت بيت للحارث بن خالد للنقد والمساءلة :
ففرغـنً من سبع وقد جهـــدت أحشــاؤهـن موائـل الخـُـمــر
فقالت أحسن عندكم ما قال ؟ قالوا:نعم فقالت : وما حسنه, فو الله لو طافت الإبل سبعا لجهدت أحشاؤها. (1)
تستغرب السيدة سكينة من الذائقة التي تخدع بالموسيقى والسذاجة المعنوية وترى إن الشعر ليس نقل الواقع ومشابهته أو استنساخه إنها تبحث عن الشعرية أو الخصوصية التي تميز الشعر, فهي لا ترى الوزن والإيقاع ما يميز الشعر, ولكنها تشترط عدم الاستنساخ للواقع, وتبحث عن خيال يسمو بالشعر من واقعيته س وهي تقوم بأول عملية قطع معرفي في النظرة إلى الشعر ومجاله .
نخلص مما سبق إلى رؤية خاصة إلى الشعر وطبيعته وماهيته وهو تحول يسبق الزمن فترى الشعر المفاجأة الإدهاش التعالي على العادي المباشر وهنا تتجلى موهبة السيدة سكينة النقدية فهذا التغيير ينم عن رؤية وذائقة ساميتين.
والسيدة سكينة في نقدها للشعر تجعل من موضوع الغزل حقلا لتجاربها ونقدها وهذا يعني أولا أنها صاحبة قضية هي المرأة فنافحت عن المرأة وصورتها في الوعي ألذكوري من خلال الشعر التي تمثل انعكاس لممارسات في الواقع اليومي وترسبات من الذاكرة العربية فتجلي صدأ التمييز والدونية ,والابتذال والامتهان مهما خفيت خيوطه ,فهي تنتقد
قول الفرزدق :
هما دلتاني من ثمانين قامة كما انحط باز أقتم الريش كاسره
فتقول له:ما دعاك إلى إفشاء سرها وسرك ؟هلا سترتها وسترت نفسك (2)
.فهذا النقد هو رفض للمضمون الذي يحمل دلالة الاستبهار بالفواحش رفض لان يكون الشعر مسرح لاستعراضات ومغامرات جنسية تسيء إلى أخلاق الشاعر و معشوقته المرأة فالشعر سمو روحي وأخلاقي بعيدا عن الإيذاء وكشف الخصوصية ,والاستفهام في قوله ما دعاك هو استفهام إنكاري إذ لا يمكن لشاعر أن يحقق شعرية من إساءة للذات وللأخر!فامتهان المرأة وفضحها حتى على المستوى المتخيل الشعري مرفوض لأنه انعكاس لوعي عصابي ويؤسس لعصابية تفقد الشعر قيمته ووظيفته الإنسانية العالية .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في النقد العربي القديم مجد البرازي.ص133
(2) الأغاني .ج:16,ص 373.
وإذا كان رفض السيدة سكينة للمضمون الاستتبهار والإساءة إلى المرأة ,فإنها في المقابل ترفض الانغلاق وإقصاء المرأة /المعشوقة تحت تأثير وهم العفاف الذي يعكس سلوك انتقاص ودونية للمرأة فتنتقد جريرا في قوله:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا حين الزيارة فارجعي بسلام
وتقول هلا أخذت بيدها ورحبت بها وقلت له ما يقال لمثلها .أنت عفيف وفيك ضعف. (1)
وتقترح عليه أن ينزع لفظة ارجعي ويضع لفظة "ادخلي ".إنها تنكر على الشاعر سلوكه تجاه المرأة المعشوقة وهو بالتالي رفض لقيمة اجتماعية تعامل المرأة بحذر وخوف وامتهان من اجل إثبات عفة وتراه ضعف وهذا انتقاد لوعي ذكوري خاصة في البادية يخفي انتقاص من المرأة وتصور مجحف عن نواياها وهنا يتلازم نقد الوعي المهمش للمرأة بنقد الشعرية في البيت التي تختل باختلال المضمون فالمرأة عاشقة مغامرة مخلصة تزور في أصفى ساعات الزيارة فتقابل بالرفض فترفض السيدة سكينة هذا الرفض وترده على صاحبه مستنكرة هذا الاستعلاء .. إنها بمعنى آخر ترهف السمع لنسمات العصر الجديد والحياة المدنية الناعمة التي تقتضي أعادة النظر في طبيعة العلاقة والسمو بها وهنا نلمح البذور الأولى لمبدأ نقدي عما قريب سيولد على يد نقاد أواخر القرن الثاني الهجري, وهو ما يسمى بمبدأ اللياقة . وهذا المبدأ لا يعد نقدا للشعر نفسه وإنما يشير إلى العلاقة بين الشعر والمواضعات الاجتماعية "(2), فعلى الشاعر أن يعيد بناء منظومة القيمية تجاه المرأة والتي تتطلب بالضرورة نسف المنظومة السابقة وما تغيير الناقدة للفظ ارجعي بلفظ ادخلي إلا إثباتا لحركة الهدم والبناء وهذا التحول يحقق شعرية النص بوصفه بعث لعلاقات جديدة وراقية تبعد عن الفقهي والمتوقع وتؤسس للشعري المدهش المتطلع إلى آفاق روحية عادلة.
ويتسم نقد السيدة سكينة بالانتقائية فهي ناقدة تختار جزئية من النص وتستهدف أبيات تعاين من خلالها صورة المرأة في الشعر الذكوري بغرض تعديل الوعي المتطرف الذي ينتقص من المرأة من جهة ومن الإخلال بعاطفة الحب ا من جهة أخرى ,وهذا التقويم يتم داخل دائرة تراعي الخصوصية الشعرية.
وقد تعرضت لأبرز شعراء العصر ليكون لحركتها أثرها الايجابي السريع خاصة أنها تمتلك موهبة ,وأسلوب موجز مكثف في لغتها النقدية يستعصي على النسيان ,فقد انتقدت بيت نصيب :
أهيم بدعد ِما حييتُ وإن أمت فوا حزناً من ذا يهيم بها بعدي
فقالت :أما رأى له همة إلا من يتعشـّـقها بعده ...ألا قال :
............................ {فلا صلحت دعد لذي خلة بعدي}(3)
تجد الناقدة في بيت نصيب مضمون يغاير لكل مضامين وأعراف العشاق فهي ترى في الحب قيمة أبدية وترى في هم كهم نصيب اختلال في الرؤية وضعف وفكرة سخيفة تفصح عن حب دوني وعاشق لا يهمه إلا من يتعشق حبيبته بعد موته .وتعدل السيدة سكينة الروية بنسف عجز بعجز أخر يزيده قوة ومتانة وهي بهذا التصحيح "تتفق مع الفطرة الإنسانية فالمحب يحب نفسه وأحلامه من خلال هذا المحبوب" أنها تحل رويتها المستمدة من القيم الروحية السامية في سبيل تأكيد وترسيخ قيم الحب في ابعد تجليات الذات المحبة وخصوصيتها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الأغاني ,ج:16,ص:374.
(2)تاريخ النقد الأدبي عند العرب نقد الشعر من القرن الثاني وحتى القرن الثامن ,إحسان عباس , دار الشروق للتوزيع والنشر ,عمان ,د.ط ,ص32.
(3)االمصدر السابق , ص:375.
ولم يقتصر نقد السيدة سكينة على تقويم اعوجاج النظرة إلى المرأة ,في الشعر الذكوري ,وإنما عززت كثير من تصورات الشعراء للمرأة, وأعجبت برقي وعيهم في اكتشاف مشاعر إنسانية تحيل إلى تجربة متوهجة وصادقة تجلت في الشعر على مستوى الروية والتعبير الشعري
فقد أعجبت بقول جميل :
لكل حديث بينهن بشاشة وكل قتيل عندهن شهيد
جعلت حديثنا بشاشة وقتلانا شهداء
وعلقت على قول نصيب
ولو لا أن يقال صبا نصيب لقلت بنفسي النشا الصغار
بنفسي كل مهضوم حشاه إذا ظلمت فليس له انتصار
قالت ربيتنا صغارا ومدحتنا كبارا
وأما أبيات كثير :
واعجني يا عز منك خـلائق كراما إذا عد الخلائق أربع
دنـوك حتى يطمـع الصــبا ودفعك أسباب الهوى حين يقنع
وقطعك أسبـاب الكـريم و وصلك اللئيم و خـلات المكارم ترفع
فو الله ما يدري كريم مماطل أ ينساك إذ باعــدت أم يتقــرب
فقد اثنت عليها بقولها له :ملحت وشكلت(1)
وأول ما نلمحه في نقدها للأبيات السابقة امتلاك الناقدة للغة الراقية الموجزة التي تكثف دلالات ومعاني متعددة تعكس عمق النظرة والموهبة في سبر أغوار النص الشعري ملخصة بجملة واحدة فكرة ومضمون الأبيات الشعرية (جعلت حديثنا بشاشة وقتلانا شهداء .ربيتنا صغارا ومدحتنا كبارا ,ملحت وشكلت ) ففي هذه الجمل نشعر أننا أمام نص نقدي لا يقل جمالا وفنيه عن النصوص التي ينقدها ,انه بمعنى آخر خلق آخر للنصوص السابقة جاء نتيجة وعي بجوهرها وتفاعل مع مضمونها وأشكالها.
وينفرد نقد السيدة سكينة من الناحية اللغوية بخصائص أسلوبية تحيل إلى هم نسوي جماعي فتكثر من استخدام الضمير" نا"الدالة على جماعة المتكلمين فتقول (ربيتنا ,ومدحتنا ,حديثنا ,قتلانا ) .
وإعجابها بالأبيات السابقة هو إعجاب بصورة المرأة وايجابيتها وحضورها القوي في وعي الرجل فهي مدللة وجبارة في بيت نصيب وهذا المضمون هو ما تطمع إليه المرأة وهو أن تعامل كطفلة وأن تطلق من آسار الحرمان والكبت وان تغدق بالحنان
وفي المقابل أن تستقل بإرادتها وان لا تصبح تابعة الآخر ومكمن الإعجاب به جمعه بين صفتين تحب المرأة أن توصف بهما وقربهما من نفس المرأة وابتعادهما على المستوى الواقعي أنتجا شعرية النص موضع النقد ,وهنا نشعر أننا نقف أمام عالمة نفس بخصوصيات عوالم الأنثى وحاجتها.
ـ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الأغاني :ج16,ص:374,ص375.
فقد أعجبت السيدة سكينة برقي النظرة إلى المرأة فهي مصدر الهام عالي للشعراء إذا ما أرهفوا السمع لأرواحهم ولأن المرأة حرة ومتسلطة في الأبيات السابقة (تدنو وتدفع ,تصل وتقطع , صاحبة سلطة سحرية "يصبح الحليم فيها حيران"فلا يدري أينسى أم يتضرع) ولأنها كذالك تتفق مع أسس حركة السيدة سكينة النسوية في المساواة ورفض أي تصور يهمش المرأة ويسمها بالابتذال والدونية و تعزز الشعراء لما تحمله مضامين شعرهم من قيم إنسانية تحفظ للمرأة خصوصيتها ومكانتها حرة فاعلة ايجابية للشعراء أن يستشرفوا صورا مثالية للمرأة وان يؤسس شعرهم وعي إنساني سامي لا تنتقص المرأة فيه أو تكون هامشا أو حاشية لمتن ذكوري
وما نلمحه في نقد السيدة سكينة انه نقد تصادمي في الرؤى انه اعتراضات احيانا كما سبق في نقدها لبيت جرير (ارجعي بسلام ,ادخلي بسلام)و
فهو اختلاف وتصادم مع رؤى تقليدية غاشمة بطريقة مباشرة ,وهو احيانا تشجيع لتناقضات واختلافات تخلق الشعرية في النص وتؤسس لحرية وفضاء نسوي مستقل ل,فجاءت عبارتها النقدية محملة بعواصف وتيارات صدامية تحترف التنوع وتعززه تكسر نمط الواحد والثابت فالفوضى والاختلاف إفساح لحضور نسوي إلى جانب الذكوري وزعزعة للنسق المتفرد.
وليست سكينة الناقدة الوحيدة في هذا العصر ولكنها الابرز حتى على الذكور ,وهناك ناقدات أخريات كان نقدهن عبارة عن ردة فعل تجاه ابيات شعرية وليس نقد قضيةكما وجدنا عند السيدةسكينة ومن ذلك النقد الحوار الذي جرى بين بثينة ,وعمر بن أبي ربيعة حينما قالت له :والله يا عمر لا أكن من نسائك اللائي يزعمن أن قد قتلهن الوجد بك ,فقال: لها قول جميل:
وهما قالتا لو أن جميلا عـرض اليـــوم فرأنــا
بينما ذاك منهما وإذا بي أعمل النص سيرة زفيانا
نظرت نحو تربها ثم قالت : قــد أتانا وما علمنا منانا
فقالت :إنه استملى منك فما افلح ,وقد قيل اربط الحمار مع الفرس, فإن لم يتعلم من جريه تعلم من خلقه"(1)
ولو نظرنا إلى بداية الحوار ؛نجد أنها تشير إلى أمور لم تفصح عنها تتعلق بشخص الشاعر من جهة ,وتتعلق ببنات جنسها من جهة أخرى وهي إشارة إنكار واستغراب ,والمهم من ذلك هو تقييمها لشعر جميل من خلال هذه المقطوعة ؛كونها تعرف جيدا أسلوب جميل كما تعرف أيضا شعر عمر بن أبي ربيعة ,ونحن نقف أمام مصطلح جديد تصف به علاقة التأثر في الأسلوب الشعري ,وطريقة البناء الشعري ,وعند قراءتنا للمقطوعة نجد ظهور ابن أبي ربيعة وغياب جميل فطريقة الحوار والشخوص واللغة السهلة الرقيقة كل هذه السمات يتسم بها شعر عمر بن أبي ربيعة ,واستملاها منه جميل ,ويكشف المثل الذي ضربته في حوارها مع عمر- "اربط الحمار مع الفرس ,فإن لم يتعلم من جريه تعلم من خلقه "-معنى الاستملاء, وهو كما يبدو لي التقليد السلبي الذي يلغي الخصوصية الذاتية للمستملي ,ولذا أضافت في وصفها لجميل بعدم الفلاح ما معناه التورط في تقليد الآخر بحيث يصبح العمل الأدبي"عملية وعي يفتقر إلى لاوعي الموهبة"(2)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الأغاني,ج8,ص352.
2- منهاج البلغاء وسراج الأدباء. حازم القرطاجني .: تحقيق محمد الحبيب بن الخوجة,بيروت ط2,دار العرب الإسلامي,1981م.
ولبثينة لمحات نقدية في شعر جميل فقد قالت له :أتزعم أنك تهواني وانت القائل :
رمى الله في عيني بثينة بالقذى وفي الغر من أنيابها بالقوادح
فقال لها بل أنا القائل
ألا ليتني أعمى أصم تقودني بثينة لا يخفى عليا كلامها
فقالت له :ما حملك على هذه المنى أوليس في سعة العافية ما كفانا جميعا(1)
فإذا كانت السيدة سكينة تفضل بيت جميل الاخير وتحكم له بالافضلية على شعر جرير والفرزدق والاحوص .(2) فإن بثينة ترى عكس ذلك كونها حبيبة والحبيبة ترى نفسها ومستقبلها في امنيات وتطلعات حبيبه وتعاتبه على المضمون المرضي الذي نتج من خلفية عذرية تقوم العلاقة فيها على قطع الصلات ,وسؤال بثينه ليس عابرا ولا يجيب عنه الشاعر ,لان اجابته رسائل علمية تدرس نفسية الشاعر العذري الذي حرم متعة اللقاء والوصل.
وتختلف وجهات النظر إلى البيت نفسه فبثينة حبيبة تدفعها عاطفة الحب الى العتاب والانكار أماسكينة فمحكمة لايهما الاصدق العاطفة وجودة الشعر .
وقد شاع منهج السيدة سكينة في مكة والحجاز والمدينة وتأثر به النقاد رجالا ونساء ,فهذه عجوز تنتقد كثير في قوله :
وما روضة في الحسن طيبة الثرى يمج الندى جثجاثها وعرارها
بأطيب من أردان عزة موهنا وقد أوقدت بالمندل الرطب نارها
فقالت له :فض الله فاك أرأيت لو أن ميمونة الزنجية بخرت بمندل رطب أما كانت تطيب ألاقلت كما قال سيدك امرؤ القيس
ألم ترياني كلما جئت طارقا وجدت بها طيبا وإن لم تطيب (3)
فهذا التهكم والسخرية من الشاعر هو مطالبة نسوية بالمزيد من الكشف الجمالي الحقيقي بعيدا عن السطحي المكتسب فالعصر الأموي "أصبحت فيه المرأة محورا أساسيا في حياة المجتمع الحجازي واتخذها الشعر رمزا مقدسا ,وربما كان هذا الانبعاث الجديد لصورة المرأة ممثلا لبقايا اعتقادات مثلت المرأة فيها الآلهة المعبودة عند الجاهليين "(4) فالصورة التي رسمها كثير لحبيبته لا تفصح عن جمال حقيقي لأن التطيب يجعل من –ميمونة الزنجية – فاتنة ولك أن تتخيل معي ميمونة الزنجية التي ضربت بها المثل في نقدها بيت كثير فصورتها تتشكل في الذهن كنساء الطبقات المهمشة التي تفتقد الى أساسيات الجمال وكمالياته ,وهذه السخرية تمثل رعشات حقيقية للشاعر ليصغي إلى العصر ومفهوم أهله للجمال.
ومما سبق نخلص إلى أن النقد النسوي الأموي نقد متخصص في المرأة وصورتها في الشعر وقد أسست لهذه الحركة وقادتها السيدة سكينة فجلت عن أذهان الشعراء ما ترسب فيها من تصورات قاصرة عن المرأة وشحذت أفكارهم ومواهبهم ليواكبوا تطورات الحياة بأبعادها المختلفة بحيث تتصدر المرأة هذا الحراك فتكون صورتها في الشعر علامة بارزة لهذا الرقي ,وشاهدا عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الأغاني.ج:8,ص:298.
(2) المصدر نفسه.ج:16,ص:375.
(3) مقالات في تاريخ النقد العربي . داود سلوم.منشورات وزارة الثقافة والإعلام ,دار الرشيد ,العراق ,د.ط,1981م, ص 53.
(4) جدلية الإفراد والتركيب في النقد العربي القديم .محمد عبد المطلب ,مطابع الكتب المصري الحديث, ط1و1995م, ص:36.
الخاتمة :
تمخضت الدراسة عن جملة من النتائج:
- تمكنت المرأة العربية الناقدة من تحقيق حضور فاعل وجرئ رافق مسيرة النقد العربي منذ طفولته ,وعبرت النصوص النقدية عن مكانة مرموقة تبوأتها المرأة في خارطة النقد العربي
- تمكنت الدراسة من رصد نواحي القوة والضعف في مراحل النقد النسوي,إذ بدأ بداية قوية موهوبة على يد أم جندب والخنساء في العصر الجاهلي ,ثم انحدر إلى ضعف في العصر الإسلامي ,لكنه لم يدم طويلا , فتطور ووصل إلى ذروته في العصر الأموي على يد الناقدة سكينة بنت الحسين –رضي الله عنهما-
- كشفت الدراسة عن أهم وابرز الإسهامات والإضافات النسوية إلى حقل النقد الأدبي والمتمثل بالتيار الذي وجهته السيدة سكينة بنت الحسين في نقد الشعر من زاوية تناوله للمرأة
-تمكنت الدراسة من رصد تصور خاص للشعر لدى السيدة سكينة يتسم بالتركيز على عناصر شعرية تولد المفاجأة والدهشة وتتعالى عن التقريرية ونسخ الواقع.
- تنوعت أشكال المرأة الناقدة فقد برزت كمحكمة يقصده الشعراء والرواة ويحتكمون إليها مثل:( أم جندب ,والسيدة سكينة) ,وكمتذوقة ومتلقية مثل: (امرأة المحلق ,وبثينة ,والعجوز التي انتقدت كثير)
- إن حركة النقد النسوي مازالت بحاجة إلى جهود نقدية لاستخلاصها وتعقبها في بطون الكتب والمظان المعرفية لإبرازها وتفعيلها في حركة النقد المعاصرة.
قائمة المراجع:
1. إبراهيم.جودة.ملامح نظرية نقد الشعر العربي .تنوير للخدمات الطباعية .حمص .سوريا. ط1. 1994م.
2. الأصفهاني أبو فرج علي بن الحسين. الأغاني, دار احياءالتراث العربي ,بيروت .لبنان ط1 ,1997م
3. الباكير البرازي .مجد محمد.في النقد العربي القديم .مؤسسة الرسالة .بيروت.ط1. 1978م.
4. الجبوري ,يحي :الإسلام والشعر,منشورات مكتبة النهضة ,بغداد:د ط
5. الصائغ .عبد الإله: الأدب الجاهلي وبلاغة الخطاب الأدبية وتحليل النص,دار الفكر المعاصر.صنعاء 1999-2000م.
6. .القرشي .رياض .النسوية قرأءة في الخلفية المعرفية لخطاب المرأة في الغرب .داارحضرموت للدراسة والنشر , الطبعة الأولى . 2008م.
7. القيرواني, أبو علي بن حسين بن رشيق .العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده .تقديم وشرح وفهرسة صلاح الدين الهوا ري ,وهدى عودة ,دار مكتبة الهلال ,بيروت لبنان .ط1.1996م.
8. المبرد.ابو العباس: الكامل في اللغة والأدب ,تحقيق.جمعة الحسن ,ج1.دار المعرفة .بيروت ,ط2 2007م.
9. تويني . حميد آدم :منهج النقد الأدبي عند العرب,عمان ,الأردن ,دار الصفاء,2004م.
10. خليل ,إبراهيم محمود .النقد الأدبي الحديث من المحاكاة إلى التفكيك,دار المسرة ,ط:1 ,عمان الأردن ,2007م.
11. سلدن, رامان. النظرية الأدبية المعاصرة . .تر:جابر عصفور.دار قباء .القاهرة,د.ط,1998م.ص193.
12. سلوم.داود .مقالات في تاريخ النقد العربي .منشورات وزارة الثقافة والإعلام ,دار الرشيد . الجمهورية العراقية.د.ط.1981م.
13. سليمان.نبيل. مساهمة في نقد النقد. بيروت: دار الطليعة .ط1، 1983م
14. ضيف ,شوقي .النقد ,دارالمعارف , القاهرة ,الطبعة الخامسة .د.ت.
15. عباس إحسان:. تاريخ النقد الأدبي عند العرب من القرن الثاني حتى القرن الثامن الهجري .دار الشروق للنشر والتوزيع .عمان,الأردن .د.ط.
16. عبد المطلب .محمد .جدلية الإفراد والتركيب في النقد العربي القديم مطابع الكتب المصري الحديث ,طبعة أولى القاهرة ,1995م.
المحتوى
-مقدمة ...................................................................................................1
2- النسوية المفهوم والخلفية المعرفية ......................................................2
3-النقد النسوي في العصر الجاهلي.........................................................4
4-النقد النسوي في العصر الإسلامي .......................................................7
5-النقد النسوي في العصر الأموي ..........................................................8
6- خاتمة.......................................................................................14
7-قائمة المراجع.............................................................................15