محددات تشكيل الهوية الثقافية للطفل العراقي
أ.د. سـامي مهـدي العـزاوي
مركز أبحاث الطفولة والأمومة
جامعة ديالى / العراق
2009
مقدمة :
يشكل بناء الهوية الثقافية للطفل الحجر الأساس في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للمجتمعات التي تنشد الرفاهية والتقدم والازدهار لمستقبل أبنائها ، لأن ما يصنعه المجتمع بالأفراد وهم صغار يصنعونه به وهم كبار ، من هنا تبدو خطورة عملية التثقيف التي يتعرض لها الطفل عبر ما يسمى بالتنشئة الثقافية 0فالطفل يتشرب الثقافة بالكيفية التي يمليها عليه المجتمع فموقفه في ذلك كالاسفنجة التي تمتص السوائل جميعا دونما تمييز، وكلما تعرض الطفل الى مواقف تربوية ناضجة كان اقدر على فهم نفسه والآخرين وما حوله ، وكان أسرع واقرب الى السير في الاتجاه الصحيح 0واذا كان الأمر غير ذلك ، فانه مصيره سيؤول الى الإخفاق والفشل والإحباط وربما الخيبة حين يتعثر في مسيرة حياته المستقبلية 0
وبقدر ما توفق الأسرة ووكالات التنشئة الاجتماعية الأخرى (جماعة الأقران الروضة ، المدرسة ،وسائل الاتصال الجماهيري 000الخ) في الانتقاء السليم والاختيار الأفضل للعناصر الثقافية اللازمة للطفل بقدر ما توفر له فرص النماء الثقافي التي تساعده على تمثل نمط الحياة السائدة والانصهار في بوتقة المجتمع الذي يحتويه 0
وما شخصية الطفل ألا انعكاس لصورة الحياة اليومية والتفصيلية التي يعيشها في كنف الأسرة وهي تتفاعل مع المحددات الاجتماعية والثقافية الأخرى وان لم يكن طرفا مباشرا فيها.ذلك أن النتائج المترتبة على صيرورة التفاعل ستترسب في ذاكرة الطفل سواء أكان ذلك بصورة شعورية أم بصورة لاشعورية وبما تشكل الملامح الأساسية لهويته الثقافية المستقبلية وخارج مديات أرادتنا وقدراتنا لما ينبغي أن تكون عليه هويته الثقافية في المستقبل 0 ومثل هذه تعد إشكالية خطيرة ينبغي على الأسرة الوقوف عندها وتأملها بروية كي تجد لها حلا في مجالي التثقيف والتربية معا 0
أن مشكلة الطفل في اغلب البلدان العربية تكمن في انه يولد وينمو داخل مربع يرضع ثقافته من لبان أضلاعه الأربعة وبما يمكن تسميتها (بضائعه الثقافية ) (يوسف،2000) ففي المرحلة الأولى من عمره يتشرب ثقافة الأسرة 0والجميع يعرف شؤون وشجون الأسرة العربية في شتى أرجاء الوطن العربي وما تتعرض له من معاناة اقلها نسبة الأمية التي ترتفع بين الأمهات لتتجاوز الخمسين بالمائة وأمية الإباء وما يترتب على تلك الأمية من انحسار وابتعاد عن الأساليب الصحيحة في مجال التنشئة والتثقيف وغور الأباء وانشغالهم عن أطفالهم من اجل تامين متطلبات العيش الضرورية لهم مما يجعلهم دون مستوى المسؤولية التربوية التنشيئية خبرة 0
ومن بعد ذلك يأتي دور الحضانة ورياض الأطفال التي لاتقل بؤسا عن المؤسسات الأخرى إذ تشير الإحصاءات الرقمية الى أن الطاقة الاستيعابية لدور الحضانة والرياض تشكل نسبة ضئيلة جدا مقارنة بعدد الأطفال ضمن هذه المرحلة العمرية 0وان الأمر سيكون في غاية الأهمية والخطورة معا إذا ما علمنا أن النمو العقلي للطفل ضمن هذه المرحلة يتم بسرعة كبيرة تصل الى 50 % مابين ميلاد الطفل والسنة الرابعة من عمره (بهادر،1987)
ثم يأتي دور المدرسة ,هذه المؤسسة التي يعّول عليها كثيرا في عملية التعليم الذي يعد المتغير الأساس الذي من خلاله نخلق الهوية الثقافية للطفل ونبلورها 0ويعلم الجميع ما تعاني هذه المؤسسة (المدرسة ) من عوامل الضعف ونواحي القصور سواء أكان ذلك على مستوى المناهج والمقررات الدراسية أم طرائق وأساليب التعليم والتعلم التقليدية أو على مستوى أعداد المعلم الموسوعي الذي ينبغي أن يكون مؤهلا لاستيعاب ثقافة العصر والمتغيرات المستحدثة كي ينهض بمسؤوليته في أعداد الطفل 0او يتغلب على مستوى التقصير في تهيئة المستلزمات والمتطلبات التعليمية الضرورية .
ولأتقل وسائل الأعلام عن بقية المؤسسات مسؤولية في تكوين الهوية الثقافية للطفل والتأسيس لها لما تتوفر لها من امتيازات ومواصفات تجعلها موضع جذب واستقطاب وبخاصة التلفزيون الذي يتيح للطفل الفرصة كي يكون في موضع التقمص الوجداني Empathy وما يترتب على ذلك من تأثير في شخصية الطفل وثقافته ولكن مع هذه الامتيازات والمواصفات نتلمس جوانب الضعف والتقصير في أجهزة الأعلام إزاء الطفولة ، وذلك لقلة البرامج الموجهة للطفولة والتي ان وجدت فأنها تعاني من غياب الأنموذج القومي المؤثر في شخصية الطفل واقتصارها على نماذج ثقافية عالمية لاتمت الى ثقافة الطفل العربي بصلة تذكر وبما يجعل الطفل يميل الى تبخيس الذات والانبهار بالآخر.
إن ما ينبغي قوله هنا أن ثقافة الطفل ليست مجرد تبسيط أو تسطيح للثقافة العامة على وفق المفهوم (التيلري ) التي تشمل المعارف والمعتقدات والفن والقانون والأخلاق والتقاليد والعادات وجميع القدرات والإمكانات التي يكتسبها الفرد بصفته عضوا في المجتمع .إنما ينبغي أن تتوفر فيها عناصر ومضامين ثقافية خاصة بالطفولة سواء أكان ذلك في محدداتها أم في انتظامها البنائي ، ألاان ما نلاحظه هو أن ليس هناك حدود فاصلة بين ثقافة الطفل وثقافة الكبير أي أننا والحال هذه نلغي مرحلة الطفولة ونقفز من فوقها متجاوزين المساحة التي يجب أن تحتلها وتمثلها .وكثيرا ما تظهر الملامح الخاصة بثقافة الكبار في ثقافة الأطفال .فالمجتمع الذي يولي أهمية كبيرة لقيمة معينة تظهر في ثقافة أطفاله الأمر الذي يدعونا الى التوقف عند هذه الإشكالية من خلال هذه الدراسة المتواضعة التي سنحاول من خلالها تسليط الضوء على محددات تشكيل الهوية الثقافية للطفل العراقي بكل ما تشكله التحديات المجتمعية من ثقل عليها .
ضع ردا ليظهر الرابط