السلوك الأخلاقي والسياسي عند ابن خلدون
أ.د. خليل حسن الزركاني د. لحسن عبد الله باشيوة
المقدمة
يعد "ابن خلدون" عبقرية عربية متميزة، فقد كان عالمًا موسوعيًا متعدد المعارف والعلوم، وهو رائد مجدد في كثير من العلوم والفنون، فهو المؤسس الأول لعلم الاجتماع، وإمام ومجدد في علم التاريخ، وأحد رواد فن "الأتوبيوجرافيا" ـ فن الترجمة الذاتية ـ كما أنه أحد العلماء الراسخين في علم الحديث، وأحد فقهاء المالكية المعدودين، ومجدد في مجال الدراسات التربوية، وعلم النفس التربوي والتعليمي، كما كان له إسهامات متميزة في التجديد في أسلوب الكتابة العربية في مؤلفاته أراء غنية في مجال السياسة والأخلاق ، وان أرائه السياسية والأخلاقية نابعة من عبقريته الفذة فكان عالما في مجال السياسة وعبقريا في مجال الأخلاق والمجتمع .
وقدم البحث صورة من المنهج السياسي والأخلاقي الذي ظهر من خلال كتابات العلامة ابن خلدون مع مزيج الآراء التي قدمها عالم الاجتماع العلامة علي الوردي إزاء منهجه وسلوكه في حياته.
وحاول البحث جاهدا أن يرسم الصورة الأخلاقية والسياسية الى ابن خلدون من خلال مؤلفاته . ويحاول الرد على المفاهيم التي طرحها الدكتور الوردي بما ينسجم وروح البحث العلمي وكذلك طبيعة الموضوع .
لا بد من التعريف ولو بشكل مختصر بابن خلدون والتعريف على النحو التالي:
نشأة "ابن خلدون" وشيوخه
ولد "ولي الدين أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن الحسن بن جابر بن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن خالد (خلدون) الحضرمي" بتونس في [ غرة رمضان 732هـ= 27 من مايو 1332م]، ونشأ في بيت علم ومجد عريق، فحفظ القرآن في وقت مبكر من طفولته، وقد كان أبوه هو معلمه الأول، كما درس على مشاهير علماء عصره، من علماء الأندلس الذين رحلوا إلى تونس بعدما ألم بها من الحوادث، فدرس القراءات وعلوم التفسير والحديث والفقه المالكي، والأصول والتوحيد، كما درس علوم اللغة من نحو وصرف وبلاغة وأدب، ودرس كذلك علوم المنطق والفلسفة والطبيعية والرياضيات، وكان في جميع تلك العلوم مثار إعجاب أساتذته وشيوخه.
ومن أبرز هؤلاء الأساتذة والمشايخ: محمد بن عبد المهيمن الحضرمي، ومحمد بن سعد بن برال الأنصاري، ومحمد بن الشواشي الزرزالي، ومحمد بن العربي الحصايري، وأحمد بن القصار، ومحمد بن جابر القيسي، ومحمد بن سليمان الشظي، ومحمد بن إبراهيم الآبلي، وعبد الله بن يوسف المالقي، وأحمد الزواوي، ومحمد بن عبد السلام وغيره.
وكان أكثر هؤلاء المشايخ تأثيرا في فكره وثقافته: محمد بن عبد المهيمن الحضرمي، إمام المحدثين والنحاة في المغرب، ومحمد بن إبراهيم الآبلي الذي أخذ عنه علوم الفلسفة والمنطق والطبيعة والرياضيات
وباء الطاعون يعصف بشيوخ "ابن خلدون"
وعندما حدث وباء الطاعون الذي انتشر عام [ 749هـ= 1348م] وعصف بمعظم أنحاء العالم شرقًا وغربًا، كان لهذا الحادث أثر كبير في حياة "ابن خلدون"؛ فقد قضى على أبويه كما قضى على كثير من شيوخه الذين كان يتلقى عنهم العلم في "تونس"، أما من نجا منهم فقد هاجر إلى المغرب الأقصى سنة [ 750هـ= 1349م] فلم يعد هناك أحد يتلقى عنه العلم أو يتابع معه دراسته.
فاتجه إلى الوظائف العامة، وبدأ يسلك الطريق الذي سلكه أجداده من قبل، والتحق بوظيفة كتابية في بلاط بني مرين، ولكنها لم تكن لترضي طموحه، وعينه السلطان "أبو عنان" ـ ملك المغرب الأقصى ـ عضوًا في مجلسه العلمي بفاس، فأتيح له أن يعاود الدرس على أعلامها من العلماء والأدباء الذين نزحوا إليها من "تونس" و"الأندلس" و"بلاد المغرب".(1)
في بلاط أبي سالم
ولكن سرعان ما انقلبت الأحوال بابن خلدون حينما بلغ السلطان "أبو عنان" أن "ابن خلدون" قد اتصل بأبي عبد الله محمد الحفصي ـ أمير "بجاية" المخلوع ـ وأنه دبر معه مؤامرة لاسترداد ملكه، فسجنه أبو عنان، وبرغم ما بذله ابن خلدون من شفاعة ورجاء فإن السلطان أعرض عنه، وظل "ابن خلدون" في سجنه نحو عامين حتى توفي السلطان سنة [ 759هـ= 1358م].
ولما آل السلطان إلى "أبي سالم أبي الحسن" صار "ابن خلدون" ذا حظوة ومكانة عظيمة في ديوانه، فولاه السلطان كتابة سره والترسيل عنه، وسعى "ابن خلدون" إلى تحرير الرسائل من قيود السجع التي كانت سائدة في عصره، كما نظم الكثير من الشعر في تلك المرحلة التي تفتحت فيها شاعريته.
طموح ابن خلدون
وظل "ابن خلدون" في تلك الوظيفة لمدة عامين حتى ولاه السلطان "أبو سالم" خطة المظالم، فأظهر فيها من العدل والكفاية ما جعل شأنه يعظم حتى نَفَسَ عليه كثير من أقرانه ومعاصريه ما بلغه من شهرة ومكانة، وسعوا بالوشاية بينه وبين السلطان حتى تغير عليه.
فلما ثار رجال الدولة على السلطان أبي سالم وخلعوه، وولوا مكانه أخاه "تاشفين" بادر "ابن خلدون" إلى الانضمام إليه، فأقره على وظائفه وزاد له في رواتبه.
ولكن طموح "ابن خلدون" كان أقوى من تلك الوظائف؛ فقرر السفر إلى "غرناطة" بالأندلس في أوائل سنة [764هـ- 1362م].
ابن خلدون في غرناطة
وفي "غرناطة" لقي "ابن خلدون" قدرًا كبيرًا من الحفاوة والتكريم من السلطان "محمد بن يوسف بن الأحمر" ـ سلطان "غرناطة" ـ ووزيره "لسان الدين بن الخطيب" الذي كانت تربطه به صداقة قديمة، وكلفة السلطان بالسفارة بينه وبين ملك قشتالة بِطْرُه بن الهنشة بن أذقونش لعقد الصلح بينهما، وقد أدى ابن خلدون مهمته بنجاح كبير، فكافأه السلطان على حسن سفارته بإقطاعه أرضًا كبيرة، ومنحه كثيرًا من الأموال، فصار في رغد من العيش في كنف سلطان "غرناطة".
ولكن لم تدم سعادة "ابن خلدون" طويلا بهذا النعيم، إذ لاحقته وشايات الحاسدين والأعداء، حتى أفسدوا ما بينه وبين الوزير "ابن الخطيب" الذي سعى به بدوره لدى السلطان، وعندئذ أدرك "ابن خلدون" أنه لم يعد له مقام بغرناطة بل و"الأندلس" كلها.
وفي تلك الأثناء أرسل إليه "أبو عبد الله محمد الحفصي" ـ أمير "بجاية" الذي استطاع أن يسترد عرشه ـ يدعوه إلى القدوم إليه، ويعرض عليه أن يوليه الحجابة وفاء لعهده القديم له، فغادر ابن خلدون الأندلس إلى بجاية فوصلها في منتصف عام [ 766هـ= 1365م]، فاستقبله أميرها، وأهلها استقبالا حافلا في موكب رسمي شارك فيه السلطان وكبار رجال دولته، وحشود من الجماهير من أهل البلاد.(2)
الفرار من جديد
وظل ابن خلدون في رغدة من العيش وسعة من الرزق والسلطان حتى اجتاح "أبو العباس أحمد" ـ صاحب "قسطنطينية" ـ مملكة ابن عمه الأمير "أبي عبد الله" وقتله واستولى على البلاد، فأقر "ابن خلدون" في منصب الحجابة حينا، ثم لم يلبث أن عزله منها.
فعرض عليه الأمير "أبو حَمُّو" ـ سلطان "تلمسان" ـ أن يوليه الحجابة على أن يساعده في الاستيلاء على "بجاية" بتأليب القبائل واستمالتها إليه؛ لما يعلمه من نفوذه وتأثيره، ولكن ابن خلدون اعتذر عن قبول الوظيفة، وعرض أن يرسل أخاه يحيى بدلا منه، إلا أنه استجاب إلى ما طلبه منه من حشد القبائل واستمالتها إليه.
ولكن الأمور انتهت بهزيمة "أبي حمو" وفراره، وعاد "ابن خلدون" إلى الفرار من جديد بعد أن صار مطاردًا من كل حلفائه.
مولد "المقدمة" في "قلعة ابن سلامة"
ترك ابن خلدون أسرته بفاس ورحل إلى الأندلس من جديد، فنزل في ضيافة سلطانها "ابن الأحمر" حينًا، ثم عاد إلى "المغرب" مرة أخرى، وقد عقد العزم على أن يترك شئون السياسة، ويتفرغ للقراءة والتصنيف.
واتجه "ابن خلدون" بأسرته إلى أصدقائه من "بني عريف"، فأنزلوه بأحد قصورهم في "قلعة ابن سلامة" ـ بمقاطعة ـ"وهران" بالجزائر ـ وقضى "ابن خلدون" مع أهله في ذلك المكان القصي النائي نحو أربعة أعوام، نعم خلالها بالهدوء والاستقرار، وتمكن من تصنيف كتابه المعروف "كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر"، والذي صدره بمقدمته الشهيرة التي تناولت شئون الاجتماع الإنساني وقوانينه، وقد فرغ "ابن خلدون" من تأليفه وهو في نحو الخامسة والأربعين بعد أن نضجت خبراته، واتسعت معارفه ومشاهداته.(3)
ابن خلدون في مصر
وأراد "ابن خلدون" العودة إلى "تونس" فكتب إلى أبي حمو يستأذنه ويرجو صفحه، فأذن له السلطان، فعاد إلى مسقط رأسه، وظل عاكفًا على البحث والدراسة حتى أتم تنقيح كتابه وتهذيبه، وخشي ابن خلدون أن يزج به السلطان إلى ميدان السياسة الذي سئمه وقرر الابتعاد عنه، فعزم على مغادرة تونس، ووجد في رحلة الحج ذريعة مناسبة يتوسل بها إلى السلطان ليخلي سبيله، ويأذن له في الرحيل.
وصل "ابن خلدون" إلى الإسكندرية في [ غرة شوال 784هـ= 8 من ديسمبر 1382م] فأقام بها شهرًا ليستعد لرحلة السفر إلى "مكة"، ثم قصد ـ بعد ذلك ـ إلى "القاهرة" ، فأخذته تلك المدينة الساحرة بكل ما فيها من مظاهر الحضارة والعمران، وقد وصف "ابن خلدون" وقعها في نفسه وصفا رائعًا، فقال: "فرأيت حضرة الدنيا، وبستان العالم، ومحشر الأمم، وكرسي الملك، تلوح القصور والأواوين في جوه، وتزهر الخوانك والمدارس بآفاقه، وتضيء البدور والكواكب من علمائه، وقد مثل بشاطئ بحر النيل نهر الجنة، ومدفع مياه السماء، يسقيهم النهل والعلل سيحه، ويحيي إليهم الثمرات والخيرات ثجة، ومررت في سكك المدينة تغص بزحام المارة، وأسواقها تزجر بالنعم...".
حفاوة المصرية بابن خلدون
ولقد لقي "ابن خلدون" الحفاوة والتكريم من أهل "القاهرة" وعلمائها، والتف حوله طلاب العلم ينهلون من علمه، فاتخذ "ابن خلدون" من "الأزهر" مدرسة يلتقي فيها بتلاميذه ومريديه، وقد تلقى عنه عدد كبير من الأعلام والعلماء، منهم "تقي الدين المقريزي"، و"ابن حجر العسقلاني".
ولقي "ابن خلدون" تقدير واحترام "الظاهر برقوق" ـ سلطان "مصر" ـ الذي عينه لتدريس الفقه المالكي بمدرسة القمصية، كما ولاه منصب قاضي قضاة المالكية، وخلع عليه ولقبه "ولي الدين" فلم يدخر "ابن خلدون" وسعًا في إصلاح ما لحق بالقضاء ـ في ذلك العهد ـ من فساد واضطراب، وقد أبدى صرامة وعدلا شهد له بهما كثير من المؤرخين، وكان حريصًا على المساواة، متوخيًا للدقة، عازفًا عن المحاباة.
وقد جلب له ذلك عداء الكثيرين فضلا عن حساده الذين أثارتهم حظوته ومكانته لدى السلطان، وإقبال طلاب العلم عليه، ولم يبد "ابن خلدون" مقاومة لسعي الساعين ضده، فقد زهدت نفسه في المناصب خاصة بعد أن فقد زوجته، وأولاده وأمواله حينما غرقت بهم السفينة التي أقلتهم من "تونس" إلى "مصر" بالقرب من"الإسكندرية"، وقبل أن يصلوا إليها بمسافة قصيرة.
ملاحقة الوشاة لابن خلدون
وترك "ابن خلدون" منصبه القضائي سنة [ 787هـ= 1385م] بعد عام واحد من ولايته له، وما لبث السلطان أن عينه أستاذًا للفقه المالكي بالمدرسة "الظاهرية البرقوقية" بعد افتتاحها سنة [ 788هـ= 1386م].
ولكن وشايات الوشاة ومكائدهم لاحقته حتى عزله السلطان، واستأذن "ابن خلدون" في السفر إلى فلسطين لزيارة بيت المقدس، وقد بجل ابن خلدون رحلته هذه ووصفها وصفًا دقيقًا في كتابه التعريف (4)
ابن خلدون يقابل تيمورلنك
وحينما جاءت الأنباء بانقضاض جيوش تيمور لنك على الشام واستيلائه على "حلب"، وما صاحب ذلك من ترويع وقتل وتخريب، خرج الناصر فرج في جيوشه للتصدي له، وأخذ معه ابن خلدون فيمن أخذهم من القضاة والفقهاء.
ودارت مناوشات وقتال بين الفريقين، ثم بدأت مفاوضات للصلح، ولكن حدث خلاف بين أمراء "الناصر فرج"، وعلم السلطان أنهم دبروا مؤامرة لخلعه، فترك دمشق ورجع إلى القاهرة.
وذهب ابن خلدون لمقابلة "تيمور لنك" يحمل إليه الهدايا، ويطلب منه الأمان للقضاة والفقهاء على بيوتهم وحرمهم.
العودة إلى القضاء
وعندما عاد "ابن خلدون" إلى "مصر" سعى لاستيراد منصب قاضي القضاة، حتى نجح في مسعاه، ثم عزل منه بعد عام في [ رجب 804هـ= فبراير 1402م]، ولكنه عاد ليتولاه مرة أخرى في [ ذي الحجة 804هـ= يناير 1402م] انتهت بوفاته في [ 26 من رمضان 808هـ= 16 من مارس 1405م] عن عمر بلغ ستة وسبعين عامًا
ابن خلدون والسياسة
مما يلفت الانتباه والنظر في حياة ابن خلدون ، لاسيما منها تلك الفترة التي اشتغل فيها بالسياسة ، أنها لم تكن تخلو من خلق (ربما لايتصف بها ابن خلدون وهي صفات (لغدر والنفاق والانتهازية )لان ابن خلدون كان عالما حتى ولو اشتغل بالسياسة فهذه الصفات بمجموعها هي صفات مذمومة لاتنطبق على عالم مثل ابن خلدون .
وهذا الأمر يكاد أكثر الباحثين يتفقون عليه
.يقول الدكتور علي الوردي ، عالم الاجتماع العراقي فالمعروف عن ابن خلدون انه كان لايستقر في ولائه على شيء وكثيرا ما كان ياملق من يرجو المنفعة عنده ويبدي له إمارات الإخلاص والنصيحة ، حتى إذا رآه مهزوما أو مغلوبا قلب له ظهر المجن وأسرع الى خصمه الغالب يتملق له على منوال ما فعل مع سلفه .الظاهر انه كان يحب الجاه والمنصب حبا جما ، وهو لايبالي إن يدوس على جميع المبادئ الخلقية في سبيلهما .(5)علي الوردي
ويغلب الظن انه كان مصاب بعقدة نفسية طاحنة شغلت باله واجهدته زمنا طويلا .ولاشك إن هذه العقدة ضعفت لديه بعد كتالة المقدمة ، إنما هي لم تذهب عنه ذهبا تاما ، فقد ظل يعاني منها قليلا أو كثيرا ، حتى أخر يوم في حياته .(6)أن رأي الدكتور الوردي كان قاسيا لأنه ربما كان لاياخذ بالنظر الاعتبار الظروف المحيطة بابن خلدون وهي الظروف المليئة بالصراع والفوضى أحيانا ، وربما كان ابن خلدون له العذر في ذلك لاسيما وان له من الحساد والمناوئين ما يجعله أحيانا يسلك سلوكا كهذا فهو بشر يحاول التخلص من المأزق الذي ربما وضعه له مناوئيه
كان ابن خلدون حسن الصورة بارع الحديث وكان فوق ذلك يملك لباقة دبلوماسية ممتازة ، ويعرق كيف يتصرف مع الملوك ويتحبب الى قلوبهم .ولعل هذا هو الذي جعل الملوك يحاولون اجتذابه إليهم على الرغم من إشهاره بقلة الوفاء (7) إن البراعة والحنكة التي يمتع بها ابن خلدون هي التي جعلته يصار الى مواصل إليه من رفعة ومجد علمي انعكس ذلك على سلوكه الأخلاقي .
مهما يكن الأمر فقد ساءت سمعة ابن خلدون في المغرب ، ولما رحل الى مصر وتولى فيهل منصب القضاء ، عجب أهل المغرب من ذلك ونسبوا الى المصريين قلة المعرفة(8) حتى ابن عرفة قال لمل قدم الى الحج تعد خطة القضاء أعظم المناصب .فلما بلغ ابن خلدون ولي القضاء عددناها بالضد من ذلك ))(9) .
وقد نسبوا ليه انه كان عند توليه القضاء يكثر من ازدراء الناس ويشتد من التعسف فيهم والزجر لهم ، إنما هو لايكاد يعزل من القضاء حتى يصبح إنسان أخر فيأخذ بالتودد الى الناس والتواضع لهم ، يقول البشتى عنه انه ((يكثر الازدراء بالناس ، وانه حسن المعاشرة إذا كان معزولا فقط ، فإذا ولي المنصب غلب عليه الجفاء والنزق فلا يعامل بل ينبغي إن لايرى ))(10)
إن هذه التهم ربما كانت ملفقة مكذوبة اختلقها الخصوم على ابن خلدون أو بالغوا فيها . ولكننا نلاحظ إن من بين الذين ذكروا ها ووثقوا بصحتها ابن حجر العسقلاني . وهذا الرجل من ثقات المحدثين ، وكان ممن عاصروا ابن خلدون وتتلمذوا عليه . ومما تجدر الإشارة إليه إن ابن حجر على الرغم من ميله الى ذم ابن خلدون وذكر مثالبه يقول عنه ((لم يشتهر عنه في منصبه إلا الصيانة ))(11) .
نستطيع إن نستنتج من هذا إن ابن خلدون كان من طراز أولئك الناس الذين لايحبون المال بل يحيون الجاه والمنصب (12). يعتقد الباحث ان رأي استأذنا الوردي فيه شيء من القسوة والمبالغة فهو يحاكم ابن خلدون ليس باعتباره بشرا يحب ويكره كما يحب غيره من البشر
والظاهر انه كان يحب منصب القضاء لما فيه من نفوذ وإمرة .ولعله كان يتكالب على منصب القضاء في مصر كما كان يتكالب على منصب الإمارة في المغرب ، إذ هو يجد فيهما ما يشبع شهوته الى الجاه . ومن هنا وجدنا ه يشمخ بأنفه حين يتولى المنصب فإذا عزا عنه ذل وتواضع .
يمكن القول إن هذه طبيعة كل الناس الذين هم من هذا الطراز آذهم يعدون المنصب مقياس عظمة الإنسان ، فإذا نالوه شعروا بالضعة فيتصاغرون . والملاحظ أنهم حتى إثناء رفعتهم وتكبرهم لاتوانون عن التصاغر والتملق لمن هو أعلى منهم في المنصب . فهم كمثل ما يتكبرون على من هو دونهم ، يتصاغرون لمن هو فوقهم وقد رأينا من أمثال هؤلاء الناس كثيرون ، في زماننا وفي كل زمان .
نموذج من سلوكه
حفظ لنا التاريخ نموذجا للطريقة التي كان ابن خلدون يتملق بها للأمراء.
وهذا النموذج لم يروه خصوم ابن خلدون إنما رأوه ابن خلدون نفسه في كتاب ((التعريف ))، حين ذكر تفاصيل مقابلته لتيمورلنك خارج أسوار دمشق عام 803هـ .
خلاصة القصة إن جيش تيمورلنك كان يحاصر دمشق بغية احتلالها عنوة أو صلحا .وكان ابن خلدون آنذاك في دمشق ، فخشي إن تقع المدينة في يد تيمورلنك فيكون نصيبه الموت . فغلب عليه إذا ذالك حل المغامرة والأثرة ، فذهب الى السور وتدلى من فوقه بحبل ثم مضى يتلمس مقابلة تيمورلنك .يقول ابن خلدون :
((فوقع في نفسي لأجل الوجل الذي كنت فيه إن أفاوضه في شيء من ذلك يستريح إليه ، ويأنس به منى ، ففاتحته وقلت : أيدك الله لي اليوم ثلاثون أو أربعون سنة أتمنى لقاءك . فقال لي الترجمان عبد الجبار :وما سبب ذلك ، فقلت : أمران ، الأول انك سلطان العالم ، وملك الدنيا وما اعتقد انه ظهر في الخليقة منذ ادم لهذا العهد مللك مثلك ولست ممن يقول في الأمور بالخزاف ، فاني من أهل العلم ، وأبين ذلك فأقول ))
واخذ ابن خلدون يشرح الأمرين الذين أشار إليهما .
فذكر أولا كيف إن الدول لاتقوم إلا بالعصبية ، وان على كثرتها يكون قدر الدولة .وأراد ابن خلدون من ذلك إن يبرهن لتيمورلنك على انه أعظم ملوك الأرض قاطبة ، إذ إن العصبية التي معه هي أعظم العصبيات في العالم . ثم عرج ابن خلدون بعد ذلك الى الأمر الثاني وهو ماكان يسمعه في المغرب على لسان المنجمين وشيوخ المتصوفة عن قرب ظهور الثائر العظيم تنطبق كل الانطباق على صفات تيمورلنك عز نصره (13)
ويعتقد الباحث إن ذلك من سبيل التخلص من المأزق الذي وضعهم تيمولنك به وقد برع ابن خلدون في التخلص منه إن سلوك ابن خلدون كان في سبيل النجاة في الحياة حيث كان تيمور لنك قاسيا يعذب من يغضب عليه عذابا شديدا وهناك ابن عربشاه إن تيمولنك أمر لهم الطعام ، فنشر لهم السماط أكواما من اللحم المسلوق ، ووضع إمام كل منهم ما يليق به . فتعفف البعض منهم عن الأكل تنزها ، وتشاغل آخرون بالحديث عنه ، بينما اخذ بعضهم يلتهم الطعام التهاما . وكان ابن خلدون من بين الآكلين وانتهز ابن خلدون المناسبة بأعلى صوته ((يامولانا الأمير . الحمد لله العلي الكبير . لقد شرفت بحضوري ملوك الأنام ، وأحييت بتاريخي ما ماتت لهم من أيام .ورأيت من ملوك الغرب فلانا وفلانا ، وحضرت لدى كذا وكذا سلطانا ، وشهدت مشارق الأرض ومغاربها ، وخالطت في كل بقعة أميرها ونائبها . ولكن الله المنة إذ امتد بي زماني ، ومن الله على بان حياني ، حتى رأيت من هو الملك على الحقيقة ، والمسلك بشريعة السلطنة على الطريقة . فان كان طعام الملوك يؤكل لدفع التلف ، فطعام مولانا الأمير يؤكل لذلك ولنيل الفخر والشرف .))
يقول ابن عربشاه : فاهتز تيمور عجبا ، وكاد يرقص طربا ، واقبل بوجه الخطاب إليه ، وعول في ذلك دون الكل عليه ، وسأله عن ملوك الغرب وإخبارها ،ة وأيام دولها وأثارها . فقص عليه من ذلك ما خدع عقله وخلبه ، وجلب لبه وسلبه (14)
ويحدثنا ابن خلدون كيف انه صار في رعاية تيمورلنك وفي ضيافته خمسة وثلاثين يوما ، وهي المدة التي مكث فيها ابن خلدون في دمشق قبل إن يرجع الى مصر ، وكتب ابن خلدون إثناء تلك الفترة المدة رسالة عن جغرافية المغرب طاعة لأمر تيمورلنك . والمضنون إن تيمورلنك كان عازما على فتح بلاد المغرب فأراد إن يتعرف على جغرافيتها سلفا . وقد أتم ابن خلدون الرسالة في اثني عشر كراسة ، فقدمها الى تيمورلنك ، فأمر بترجمتها الى اللغة المغولية (15)
وأحب ابن خلدون أخيرا إن يقدم لتيمورلنك هدية تزيد من حضوته عنده ، فاشترى من سوق دمشق ، مصحفا رائعا ، وسجادة أنيقة ، ونسخة من قصيدة البردة ، وأربع علب حلاوة مصر الفاخرة . فتقبل تيمورلنك الهدية بقبول حسن واظهر السرور بها .
مما تجدر الإشارة إليه أن دمشق كانت حينذاك قداستسلمت لتيمورلنك ، فانتشر فيها النهب والحرق ، وامتدت النيران تأكل المدينة أكلا حتى اتصلت بالجامع الأموي فسال رصاصه وتهدمت سقوفه وجدرانه . فكان أمرا بلغ مبالغه في الشناعة والقبح _ على حد تعبير ابن خلدون (16)
أيام الشباب
إن الصورة التي قدمها الدكتور الوردي صورة قاتمة عن علامة كبير هو ابن خلدون ويستمر في وصف أخلاقه ويقول ( هذا الذي ذكرناه يعطينا صورة واضحة لخلق ابن خلدون وبراعته في النفاق والتملق. والغريب انه فعل كل ذلك وكان عمره ينوف على السبعين عاما حيث إن ابن خلدون قدبدل سلوكه بعد كتابة المقدمة ، فاخذ يتجه نحو الاشتغال بالسياسة .
يقول الدكتور عبد الواحد وافي في وصف فترة الشباب من حياة ابن خلدون )) : وقد قويت حينئذ لدى ابن خلدون نزعة ذميمة ، يصرح هو نفسه بتصويرها ولا يحاول إخفائها ، وان كان يلتمس لها المعاذير والمبررات ، وهي نزعة انتهاز الفرص بأي وسيلة ، وتدبير الوصول الى المقاصد من أي طريق . فكان لايضره ، في سبيل الوصول الى منافعه وغاياته الخاصة ، أن يسيء الى من أحسنوا إليه ، ويتآمر ضد من غمروه بفضلهم ، ويتنكر لمن قدموا له المعروف . وظلت النزعة رائدة في مغامراته السياسية وعلاقاته بالملوك والأمراء والعظماء منذ صلته بوظائف الدولة حتى مماته ))(17) . يعتقد الباحث أن المبالغة والحكم على تصرفات إنسانية ظاهرة بنبغي تحليلها ونقدها وليس بوصفها مثل هذه الأوصاف التي ربما تجافي الحقيقة .
ويقول الأستاذ محمد عبدا لله عنان من تصرف ابن خلدون تجاه احد لملوك تلك الفترة (وقد كان تصرفه في حق السلطان أبي عنان بادرة سيئة تنم عن عواطف وأهواء ذميمة ، بيد انه لم يكن وليد خطاء مؤقت ، بل كان بالعكس عنوان نزعة متماثلة في النفس ، وثمرة مبدأ راسخ ، كان ابن خالدون رجل الفرص ، ينتهز ها بأي الوسائل والصور ، وكانت الغاية تبرر لديه كل واسطة ، ولا يضيره في ذلك أن يجزي الخير بالشر والإحسان بالأساة ، وهو صريح في تصوير هذه النزعة لايحاول إخفائها ....(18)
رأي العلامة الدكتور على الوردي بابن خلدون من الناحية الأخلاقية والسياسية
ان المعجبين بابن خلدون يحاولون تبرئته من وصمة النفاق والتملق ، وبالتالي فأنهم لا يستطعون إن يتصورون مفكرا عظيما كابن خلدون يسير في سلوكه الشخصي على هذا النمط الذميم ، ولعلهم يرون إن الرجل مادام عظيما في تفكيره فلابد إن يكون عظيما في سلوكه أيضا .
إن هذا رأي لا يلائم ما يقوله به العلم الحديث ويعتمد عليه إليه الدكتور الوردي في نقده الى ابن خلدون في أمر تكوين الشخصية في الإنسان ومدى الصلة بين السلوك والتفكير فيها . فا لإنسان قد يكون ذا تفكير عظيم جدا ، وهو في الوقت ذاته ذو سلوك منحط .
كان الفلاسفة القدامى يعتقدون أن السلوك نتاج التفكير، وكلما صح تفكير الإنسان صح سلوكه كذلك . وهم إذا رأوا أنسانا ذا أخلاق وضيعة نسبوا ذلك الى الجهل وسقم التفكير ، ولا يزال هذا الرأي سائدا على أذهان الكثير ين حتى يومنا هذا .(19)
هناك نقطة تلفت النظر كما أشار إليه الدكتور الوردي في أمر ابن خلدون ، ولعله يتميز بها عن أمثاله من أصحاب العقد السيئة . فالمعروف عن هؤلاء إن سلوكهم الشخصي لايظهر أثره في كتاباتهم واضحا ، وكثيرا ما نراهم أولى شخصية مزدوجة يفكرون على نمط ويساكون على نمط أخر . إما ابن خلدون فكان على العكس من ذلك ، إذ إن سلوكه الشخصي يظهر واضحا في كتاباته ، وقد يصدق عليه من بعض الوجوه ما وصفه المغربي حين قال : أن باطنه وظاهره سواء (20)
نجده في كتاب التعريف يذكر الأفعال الانتهازية بذكر الأفعال التي قام بها في أيام شبابه بصراحة عجيبة ، لايرئي فيها أو يعتذر عنها . وكأنه كان يعدها امرأ طبيعيا لاداعي لكتمانه .(21)
يعتقد الباحث ان ابن خلدون يعد المنشئ الأول لعلم الاجتماع، وتشهد مقدمته الشهيرة بريادته لهذا العلم، فقد عالج فيها ما يطلق عليه الآن "المظاهر الاجتماعية" ـ أو ما أطلق عليه هو "واقعات العمران البشري"، أو "أحوال الاجتماعي الإنساني فانه قد يبرر سلوكه هذا بقدرته العجيبة على دراسة مجمل المظاهر الاجتماعية واختبارها بما يتماشى مع طبيعة المجتمع وليس كما يصفه استاذنا الوردي بهذه الصفات
السلوك الأخلاقي والرأي السياسي
قدم لنا في الفصل السادس من مقدمته الشهيرة تحت عنوان في أن السعادة والكسب إنما يحصل غالباً لأهل الخضوع والتملق وإن هذا الخلق من أسباب السعادة
يمكن تلخيصه بالنقاط التالية :
(1)قد سبق لنا فيما سلف أن الكسب الذي يستفيده البشر إنما هو قيم أعمالهم. ولو قدر أحد عطل عن العمل جملة لكان فاقد الكسب بالكلية. وعلى قدر عمله وشرفه بين الأعمال وحاجة الناس إليه يكون قدر قيمته. وعلى نسبة ذلك نمو كسبه أو نقصانه.
(2)يبين ابن خلدون أن الجاه يفيد المال لما يحصل لصاحبه من تقرب الناس إليه بأعمالهم وأموالهم في دفع المضار وجلب المنافع. وكان ما يتقربون به من عمل أو مال عوضاً عما يحصلون عليه بسبب الجاه من الأغراض في صالح أو طالح. وتصير تلك الأعمال في كسبه وقيمها أموال وثروة له فيستفيد الغنى واليسار لأقرب وقت.
(3) ثم إن الجاه حسب رأي ابن خلدون متوزع في الناس ومترتب فيهم طبقة بعد طبقة ينتهي في العلو إلى الملوك الذين ليس فوقهم يد عالية وفي السفل إلى من لا يملك ضراً ولا نفعاً بين أبناء جنسه. وبين ذلك طبقات متعددة. حكمة الله في خلقه. بما ينتظم معاشهم وتتيسر مصالحهم ويتم بقاؤهم لأن النوع الإنساني لما كان لا يتم وجوده وبقاؤه إلا بتعاون أبنائه على مصالحهم لأنه قد تقرر أن الواحد منهم لا يتم وجوده
. وأنه وإن ندر ذلك في صورة مفروضة لا يصح بقاؤه. ثم إن هذا التعاون لا يحصل إلا بالإكراه عليه لجهلهم في الأكثر بمصالح النوع ولما جعل الله لهم من الاختيار وأن أفعالهم إنما تصدر بالفكر والروية لا بالطبع. وقد يمتنع من المعاونة فيتعين حمله عليها فلا بد من حامل يكره أبناء النوع على مصالحهم لتتم الحكمة الإلهية في بقاء هذا النوع. وهذا معنى قوله تعالى: " ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات " ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ورحمة ربك خير مما يجمعون "
(4) فقد تبين أن الجاه هو القدرة الحاملة للبشر على التصرف فيمن تحت أيديهم من أبناء جنسهم بالإذن والمنع والتسلط بالقهر والغلبة ليحملهم على دفع مضارهم وجلب منافعهم في العدل بأحكام الشرائع والسياسة وعلى أغراضه فيما سوى ذلك ولكن الأول مقصود في العناية الربانية بالذات والثاني داخل فيها بالعرض كسائر الشرور الداخلة في القضاء الإلهي. لأنه قد لا يتم وجود الخير الكثير إلا بوجود شر يسير من أجل المواد فلا يفوت الخير بذلك بل يقع على ما ينطوي عليه من الشر اليسير. وهذا معنى وقوع الظلم في الخليقة فتفهم.
(5) ثم إن كل طبقة من طباق أهل العمران من مدينة أو إقليم لها قدرة على من دونها من الطباق. وكل واحد من الطبقة السفلى يستمد هذا الجاه من أهل الطبقة التي فوقه ويزداد كسبه تصرفاً فيمن تحت يده على قدر ما يستفيد منه.
(6) والجاه على ذلك حسب ابن خلدون داخل على الناس في جميع أبواب المعاش ويتسع ويضيق بحسب الطبقة والطور الذي فيه صاحبه. فإن كان الجاه متسعاً كان الكسب الناشئ عنه كذلك وإن كان ضيقاً وقليلاً فمثله.
(7)وفاقد الجاه عند ابن خلدون وإن كان له مال فلا يكون يساره إلا بمقدار عمله أو ماله وعلى نسبة سعيه ذاهباً وآيباً في تنميته كأكثر التجار. وأهل الفلاحة في الغالب وأهل الصنائع كذلك إذا فقدوا الجاه واقتصروا على فوائد صنائعهم فإنهم يصيرون إلى الفقر والخصاصة في الأكثر ولا تسرع إليهم ثروة وإنما يرمقون العيش ترميقاً ويدفعون ضرورة الفقر مدافعة.
(8) وأن الجاه متفرع وأن السعادة والخير مقترنان بحصوله علمت أن باذله وإفادته من أعظم النعم وأجلها وأن باذله من أجل المنعمين. وإنما يبذله لمن تحت يديه فيكون بذله بيد عالية وعن عزة فيحتاج طالبه ومبتغيه إلى خضوع وتملق كما يسأل أهل العز والملوك وإلا فيتعذر حصوله
(9) فلذلك يقول ابن خلدون إن الخضوع والتملق من أسباب حصول هذا الجاه المحصل للسعادة والكسب وإن أكثر أهل الثروة والسعادة بهذا الخلق.
(10) ولهذا نجد الكثير ممن يتخلق بالترفع والشمم لا يحصل لهم غرض من الجاه فيقتصرون في التكسب على أعمالهم ويصيرون إلى الفقر والخصاصة
(11) يعتقد ابن خلدون جازما أن هذا الكبر والترفع من الأخلاق المذمومة إنما يحصل من توهم الكمال وأن الناس يحتاجون إلى بضاعته من علم أو صناعة كالعالم المتبختر في علمه أو الكاتب المجيد في كتابته أو الشاعر البليغ في شعره. وكل محسن في صناعته يتوهم أن الناس متحاجون لما بيده فيحدث له ترفع عليهم بذلك وبهذا يتوهم أهل الأنساب ممن كان في آبائه ملك أو عالم مشهور أو كامل في طور يعبرون بما رأوه أو سمعوه من حال آبائهم في المدينة ويتوهمون أنهم استحقوا مثل ذلك بقرابتهم إليهم ووراثتهم عنهم. فهم متمسكون في الحاضر بالأمر المعدوم إذ الكمال لا يورث وكذلك أهل الحيلة والبصر والتجارب بالأمور قد يتوهم بعضهم كمالاً في نفسه بذلك واحتياجاً إليه.
(12) وتجد هؤلاء الأصناف كلهم مترفعين لا يخضعون لصاحب الجاه ولا يتملقون لمن هو أعلى منهم. ويستصغرون من سواهم لاعتقادهم الفضل على الناس فيستنكف أحدهم عن الخضوع ولو كان للملك ويعده مذلة وهواناً وسفهاً. ويحاسب الناس في معاملتهم إياه بمقدار مما يتوهم في نفسه ويحقد على من قصر له في شيء مما يتوههمه من ذلك. وربما يدخل على نفسه الهموم والأحزان من تقصيرهم فيه ويستمر في عناء عظيم من إيجاب الحق لنفسه أو إباية الناس له من ذلك. ويحصل له المقت من الناس لما في طباع البشر من التأله. وقل أن يسلم أحد منهم لأحد في الكمال والترفع عليه إلا أن يكون ذلك بنوع من القهر والغلبة والاستطالة. وهذا كله في ضمن الجاه.
(13) فإذا فقد صاحب هذا الخلق الجاه وهو مفقود له كما تبين لك مقته الناس بهذا الترفع ولم يحصل له حظ من إحسانهم. وفقد الجاه لذلك من أهل الطبقة التي هي أعلى منه لأجل المقت وما يحصل له بذلك من القعود من تعاهدهم وغشيان منازلهم ففسد معاشه وبقي في خصاصة وفقر أو فوق ذلك بقليل. وأما الثروة فلا تحصل له أصلاً. ومن هذا اشتهر بين الناس أن الكامل في المعرفة محروم من الحظ وأنه قد حوسب بما رزق من المعرفة واقتطع له ذلك من الحظ وهذا معناه. ومن خلق لشيء يسر له. والله المقدر لا رب سواه. ولقد يقع في الدول إضراب في المراتب من أهل هذا الخلق ويرتفع فيها كثير من السفلة وينزل كثير من العلية بسبب ذلك.
(14) ويقول ابن خلدون أن الدول إذا بلغت نهايتها من التغلب والاستيلاء انفرد منها منبت الملك بملكهم وسلطانهم ويئس من سواهم من ذلك. وإنما صاروا في مراتب دون مرتبة الملك وتحت يد السلطان وكأنهم خول له.
(15) فإذا استمرت الدولة وشمخ الملك تساوى حينئذ في المنزلة عند السلطان كل من انتمى إلى خدمته وتقرب إليه بنصيحته واصطنعه السلطان لغنائه في كثير من مهماته. فتجد كثيراً من السوقة يسعى في التقرب من السلطان بجده ونصحه ويتزلف إليه بوجوه خدمته ويستعين على ذلك بعظيم من الخضوع والتملق له ولحاشيته وأهل نسبه. حتى يرسخ قدمه معهم وينظمه السلطان في جملته فيحصل له بذلك حظ عظيم من السعادة وينتظم في عدد أهل الدولة.
(16) وناشئة الدولة حينئذ من أبناء قومها الذين ذللوا صعابها ومهدوا أكنافها مغترين بما كان لآبائهم في ذلك من الآثار وتشمخ به نفوسهم على السلطان ويعتدون بآثاره ويجرون في مضمار الدالة بسببه فيمقتهم السلطان لذلك ويباعدهم. ويميل إلى هؤلاء المصطنعين الذين لا يعتدون بقديم ولا يذهبون إلى دالة ولا ترفع. إنما دأبهم الخضوع له والتملق والاعتمال في غرضه متى ذهب إليه فيتسع جاههم وتعلو منازلهم وتنصرف إليهم الوجوه. والخواص بما يحصل لهم من ميل السلطان والمكانة عنده. ويبقى ناشئة الدولة فيما هم فيه من الترفع والاعتداد بالقديم لا يزيدهم ذلك إلا بعداً من السلطان ومقتاً وإيثاراً لهؤلاء المصطنعين عليهم إلى أن تنقرض الدولة.
وهذا أمر طبيعي في الدول. (22 ).ولا يكتفي ابن خلدون بهذا بل نراه في كثير من فصول مقدمته يذم المثالين المتزمتين ذما مقذعا ، ذلك لأنهم في رأيه لايسايرون التيار ولا يسلكون حسبما تقتضيه طبيعة المجتمع الذي يعيشون فيه
يعتقد الباحث إن الأسباب التي دفعت ابن خلدون الى إبداع نظريته فأراد إن ينشئ علما جديد ليقول فيه بان هذا الخلق هو الذي يجب أن يتخلق الناس به ، آذ هو الخلق الملائم لطبيعة الحياة الاجتماعية (23) .
لقد كان ابن خلدون في علمه الجديد واقعيا حيث قدم به وصفا رائعا للمجتمع الذي عاش فيه .
ولكنه لم يقف عند هذا الحد ن بل اخذ ينصح الناس ان يكونوا في سلوكهم واقعيين يسايرون التيار الاجتماعي من غير مراعاة للمبادئ الخلقية .
ابن خلدون ومكافيلي
من الممكن مقارنة ابن خلدون من ناحية مكافيلي ، المفكر الايطالي المعروف الذي عاش بعد ابن خلدون بقرن واحد تقريبا
يقول ماكس لرنر : أننا نشهد في كتابات مكيا فيلي مايقارب أن يكون ثورة في التفكير السياسي .
لقد نبذ مكافيلي الأفكار الكلامية والمثالية والمتافيزقية التي كانت سائدة في القرون الوسطى وكان اتجاه العام نحو الواقعية السياسية أمرا عير معروفا اوغير مألوفا في زمانه (24)
أن ميكافيلي أراد بكتاباته في الغالب أن يقدم مجموعة من النصائح العلمية للأمير بغية الانتفاع بها في سياسة رعاياه . انه بعبارة أخرى لم يقصد أن يؤسس علما في الاجتماع له أصوله وقواعده كما فعل ابن خلدون .
يمكن تشبيه ميكيافلي في هذا الرجل الذي يجتمع مع صديق له بنصحه كيف يفهم طبائع الناس وكيف يستفيد من ذلك في معاملته لهم وفي تمشيته مصالحه فيهم .
لقد كان مكيافيلي ثائرا على هذا الازدواج في التفكير كما ثار عليه ابن خلدون من قيل وهما قد استمدا مادة كتابتهما من الخبرة الاجتماعية في الغالب لكنهما يختلفان من ناحية أخرى فابن خلدون لم يقدم خبرته الاجتماعية على شكل نصائح عملية كما فعل مكيافيلي بل هو ربطها بعد أن ربط أجزائها المتفرقة برباط منطقي متكامل تقريبا وجعل منها فلسفة عامة تقوم على أساس جديد . ويصح إن نقول إذن انه كان في ذلك خبيرا اجتماعيا وفيلسوفا في أن واحد .
أما مكيافيلي فأقصى ما يمكن أن نصفه به هو انه كان خبيرا اجتماعيا فقط
مما يجدر ذكره إن الناس صاروا ينظرون الى مكيافيلي يغير النظرة التي نظروا بها ابن خلدون . فقد غضي الناس علة مكيفيلي وأقذعوا في ذم كتاباته . أنهم وجدوا فيها ما لايليق في شرعة الأخلاق والأديان . ولهذا أصبح مكيافيلي سبة في الأفواه يذكره الناس كلما أرادوا التحدث عن سياسة المكر والخداع . يقول لرنر : إن مكيافيلي صار في أذهان الناس مرادفا للشيطان نفسه (25) إما ابن خلدون فلم يحصل من الناس على مثل هذه السمعة السيئة . جعل مافعله الناس تجاه القرون التالية أنهم أهملوه ونسوه.
لقد امتاز ابن خلدون بأسلوبه الدبلوماسي الذي يغطي الآراء التي تبدو (منحرفة )بغطاء من الشفافية البراقة حيث استأثر ابن خلدون باهتمام الباحثين شرقا وغربا، وكثيرا ماجرت المقارنة بينه وبين «ماكيافلي». وقد أشار المستشرق ماستيمو كامبانيني، في ورقته التي قدمها في الندوة الى هذه المقارنة التي تتمثل في رفض كليهما للطوباوية الارتدادية الى الماضي المستحيل أعادته في ظروف الراهن، إلا انه توجد سمة أساسية تميّز فكر الرجلين حسب رأيه: ففي حين يلتزم ابن خلدون نظرة دينية بارزة نجد أن ماكيافلي مقتنع بأن الدين يعيق إدارة السلطة.
ابن خلدون..(افكاره السياسية ) من خلال نظرية الدولة
إن أنظمة الحكم ثلاثة إشكال:
الأول: حكم يستند الى شرع الله ”الخلافة“..الثاني: سياسة عقلية وهي تضطلع بمصالح الدنيا فقط..الثالث: سياسة مدنية، وهي مثالية مفترضة مثل المدن الفاضلة عند الفلاسفة وهي بعيدة الوقوع..ويقرر ابن خلدون إن الحكومة التي يجب إن تسوس شؤون مجتمع العمران هي الحكومة الإسلامية لما فيها من حفاظ على مصالح الناس.
لقد قام القاضي والوزير والسفير والمؤرخ ورجل السياسة والعلم ابن خلدون، باختبار الحياة من زوايا مختلفة ومتنوعة، ادت به الى مهن وحقول وطبقات زادته علماً، ما دفع به الى محصلة نظرية عميقة قلما شهد عصره مثلها في مقدمته وانطلاقاً من
خبرته الميدانية الواسعة جدا سرعان ما يكتشف ابن خلدون إن مصدر أفكار البشر ليس ذاك العالم الذي وصفه أفلاطون، بل نمط حياتهم وشكل تنظيمهم الاجتماعي، يقوم ابن خلدون باستخلاص نتائج خبرته الاجتماعية السياسية في المقدمة بنباهة مميزة وبحس نظري راقٍ جداً، كما تتميز هذه النتائج بأنها صالحة حاليا للاستثمار في حقول علوم إنسانية شتى مثل التاريخ والاجتماع والسياسية.
يرصد لنا ابن خلدون جميع خبراته وإمكاناته العملية والعلمية ليقدم دراسة تنطبق فيها فكرة التاريخ الجديد على المجتمعات البشرية، وفي هذه الدراسة التي تتناول مفهوم الدولة عنده، نراه منطلقا في تحديد النموذج الذي طبق عليه قوانينه وآراءه وهو الدولة الإسلامية.
هذا التطبيق لم يخل من تجربة ابن خلدون العملية في الحياة وتدرجه في المناصب السياسية، كل هذا اثر على نحو مباشر وغير مباشر في أفكاره السياسية وعلى إعماله لهذه الأفكار، لان ابن خلدون وضع خطة جديدة وقوانين يمكن تطبيقها في مجتمع ما، فلابد إن يعيش مع شعب، وإذا عاش مع شعب لابد إن يعيش على ارض، ولكي تظل العلاقة قائمة بين هؤلاء الناس أو القبائل أو الشعب أو هذه المجموعة البشرية لابد إن ينظمها حاكم، وأنواع الحاكم تدرجت من حاكم بسيط” شيخ قبيلة “ الى حاكم مطلق، استطاع إن يستخدم كل الوسائل التي هيأها له المجتمع البشري، أو هذا العمران وإذا أصبح حاكما مطلقا استطاع إن يؤسس دولة، فان أسس الدولة التي طبق عليها ابن خلدون نظريته، مرت الدولة بمراحل مختلفة.
ويقول ابن خلدون إن هناك للدولة خمسة أطوار، وأربعة أجيال اسرية، فالأطوار هي مرحلة البداية والتأسيس، توطيد الحاكم نفوذه الى إن يصبح حاكماً مطلقاً، يبعد نفسه عن عصبيته، يعتمد على المرتزقة في الدفاع عن الدولة. (26) .
يعرف ابن خلدون الدولة بأنها كائن حي له طبيعته الخاصة به، ويحكمها قانون السببية، وهي مؤسسة بشرية طبيعية وضرورية كما أنها وحدة سياسية واجتماعية لايمكن آن تقوم الحضارة ألا بها وقانون السببية عند ابن خلدون مفاده أن الوقائع الاجتماعية والإحداث التاريخية خاضعة للحتمية، وليست بفعل المصادفة لارتباط الأسباب بالمسببات.
والسبب عند ابن خلدون يكمن في النظر الى الأسباب كما استخدمها القرآن الكريم للوصول الى الحكم دون البحث في ماهية الشيء أو وجوده، كما يفعل الفلاسفة الذين يبحثون في ماهية الله، وهذا منهي عنه في الإسلام، ويرى ابن خلدون إن الدولة لا تقوم إلا على أساسين:
أولهما: الشوكة والعصبية المعبر عنها بالجند.
وثانيهما: المال الذي هو قوام أولئك الجند، وإقامة ما يحتاج إليه الملك من الأحوال، فالدولة في أولها تكون بدوية، حيث يكون الإنفاق معقولاً، ولذا يكون هناك إمعان في الجباية والإسراف، وإذا عظم المال انتشر الترف الذي يؤدي الى انهيار الدولة، فان نفقات السلطان وأصحاب الدولة تتضاعف، وينتشر الإسراف بين الرعايا، وتمتد أيديهم الى أموال الدولة من جهة ومن جهة أخرى يبدأ الجند في التجاسر على السلطة، فيضطر السلطان الى مضاعفة الضرائب فيختل اقتصاد البلاد.
ويحدد ابن خلدون أنظمة الحكم بثلاثة إشكال الأول: حكم يستند الى شرع الله ”الخلافة“ والثاني سياسة عقلية وهي تضطلع بمصالح الدنيا فقط، إما الثالث فهو سياسة مدنية، وهي مثالية مقترحة، مثل المدن الفاضلة عند الفلاسفة وهي بعيدة الوقوع، ويقرر ابن خلدون في صراحة كاملة إن الحكومة التي يجب تسوس شؤون مجتمع العمران هي الحكومة الإسلامية لما فيها من حفاظ على مصالح الناس. في دنياهم وسلامة مصيرهم في أخرتهم.
إما على الصعيد المعرفي، فالدولة التي يحللها ابن خلدون هي دولة محلية وإسلامية من كل جوانبها وغالبا هي الدولة أو الدول التي عاصرها كما لو إن التاريخ البشري لم يعرف غيرها، في حين أن ظاهرة الدولة عرفت نماذج أخرى، قبل عصره اقل أو أكثر تطورا من الإشكال التي عرفها مباشرة عن الدولة الإسلامية في شمال إفريقيا آنذاك وهذا الأمر يربك كونية الاستنتاجات العامة التي يخرج بها تحليله
نفسه، بينما هي عند هيغل ”دولة كونية“ دائماً. (27 )
رأي ابن خلدون في الثورة
إن العلاقة بين سلوك ابن خلدون ونظريته تظهر واضحة كل الوضوح في موضوع الثورة . وقد جعلته نزعته الواقعية المفرطة .
الظاهر انه كان يصنف الثورات الى صنفين : ناجحة وفاشلة وهو لايخفي تمجيده للثورة الناجحة . إما الثورة الفاشلة فهي في نظره مذمومة جدا ، وهو يشجبها شجبا مقذعا بغض النظر عما يمكن إن يكون فيها من مبادئ صالحة اومثل عليا .
يصف ابن خلدون الثوار الفاشلين بأنهم حمقى أو مشعوذون . ويرى أنهم يجب إن يعاقبوا عقابا شديدا أو يعالجوا . فإذا كانوا من أهل الجنون عولجوا بالمداواة .
أما إذا أحدثوا في المجتمع هرجا وفتنة عوقبوا بالقتل آو الضرب . ومنهم من ينبغي إذاعة السخرية منهم واعتبارهم جملة من الصفاعين (28)
كان الفقهاء في عهودهم المتأخرة يؤمنون بوجوب طاعة السلطان وبتحريم الخروج عليه .وكان مستندهم في ذلك ماورد في القران الكريم والسنة النبوية من الحث على طاعة ولي الأمر ولو كان جائرا اوفاسقا . وكان بعضهم يعلل ذلك بكون الخروج على السلطان يؤدي الى الهرج والفوضى وسفك الدماء وخلاصة رأيهم في هذا الصدد : أن الحكومة الجائرة خير من الفوضى (29) .
ليس يخفى أن هذا الرأي الذي توصل أليه الفقهاء في عهودهم المتاخرة هو نتاج وضعهم المعاشي . فقد كانوا في الغالب موظفين لدى الحكومة يعتمدون عليها في رزقهم ويأملون منها الترفيع والمكافأة .
ولهذا كانوا يشجبون كل ثورة من شانها تهديد الحكومة التي يرتزقون منها(30) يعتقد الباحث ان ابن خلدون كان فيلسوفا ايضا وان فلسفته قد دفعت الى الى تفسير الثورة بهذه الشاكلة
أنهم ينسون إن الحكومة القائمة جاءت الى الحكم جاءت الى الحكومة القائمة جاءت الى الحكم نتيجة ثورة قامت ضد حكومة سابقة ، وربما قامت ثورة أخرى فتنجح في تأسيس حكومة جديدة ويدخلون في خدمتها كما دخلوا في خدمة الحكومة القائمة . الظاهر أنهم لايهتمون إلا بماهو حاضر بين أيديهم ، وليس من شانهم أن يهتموا بما كان أو سيكون .
أما ابن خلدون فكان من طراز أخر . وجدناه قبل كتابة المقدمة يسعى سعيا حثيثا لتاسيس أمارة له في المغرب آو الحصول على مجد يعيد به ما كان لإبائه من قبل . وعندما فشل وسات سمعته ، لجا الى مكان منعزل يتأمل في سبب فشله . وقد هداه تفكيره حينذاك الى أهمية العصبية في حياة المجتمع . ومن هنا كان رأيه في الثورة مستمدا من هذه الأهمية التي عزاها الى العصبية (31).
انه يمجد الثورة الناجحة بغض النظر عما ينتج عنها من فوضى وسفك دماء . فهي في نظره ثورة قامت على أساس العصبية. وهي أذن لابد أن تحدث ولابد إن يكون مصيرها النجاح . ولو أراد صاحب العصبية إن يتعاقس عن ثورته لقام غيره بما تتوافر لهم العصبية مثله .
يجب على الثائر في رأي ابن خلدون أن يحسب حسابه قيل القيام بحركته فيحصى إتباعه وقوة عصبيتهم ، فإذا وجدها اضعف مما يؤدي به الى النجاح كان الجدير به أن يجلس في بيته ويسكت تاركا الأمور تجري حسبما يريد لها أهل العصبيات الذين بيدهم الحل والعقد (32) .
أن النزعة الواقعية المفرطة لدى ابن خلدون جعلته يضع النقاط على الحروف في تعليله الى الثورة ومنهجه الواقعي الدقيق فيها وحساباته العلمية التي يخرج منها
كثيرا ما يكون الثائر مؤمنا بالمبدأ الذي يثور من اجله ، وهو يندفع به فلا يبالي أوقع الموت منه أم وقع عليه . ورب ثائر دون أن يكون لديه ما يؤهله للنجاح ، ثم يأتيه النجاج من حيث لايحتسب.
يبدو أن ابن خلدون لايهتم إلا بالنجاح العاجل . أما النجاح الأجل فهو لايعير له أهمية تذكر . وهو في