تتأسس المجتمعات البشرية علي آلية الاتصال وبناء العلاقات بين الأفراد والجماعات المختلفة ، وبناء علي مدي تقدم وسائل الاتصال وتقنياته المتنوعة تتقدم المجتمعات الإنسانية ، ومن هنا تبرز أهمية الاتصال في تكوين الحضارات وتطور الأمم والشعوب ، ولا شك أن عناصر معينة ، مثل اللغة ، والتكنولوجيا، والعلاقات الاجتماعية ، هي من ابرز واهم مقومات الاتصال في هذا الخصوص ، بما تشتمل عليه من وسائل واليات وتقنيات التعبير والتواصل والتفاعل ونمو التفكير وإذكاء حركة الثقافة المجتمعية ، ومختلف النظم الاقتصادية والإدارية والقانونية ، وما إلي ذلك ...، ولا يختلف الأمر كثيراً من هذه الناحية ، فيما يتعلق بنشوء المجتمعات علي الخطOnline (الافتراضية) ، وبخاصة فيما يعرف بالمدن الالكترونية ، ونموها وتطورها الاجتماعي الالكتروني ، في عالم الفضاء الرقمي علي شبكة المعلومات العالمية (الانترنت) وبذلك فهناك مقومات متعددة للتفاعل الاجتماعي الرقمي بآلية الاتصال المتطور وتقنياته المختلفة في بناء هذه المجتمعات الالكترونية وتطويرها وتفعيلها بصورة متواصلة متطورة.
لقد جاء المجتمع الافتراضي Virtual Community كتطور طبيعي للثورة المعلوماتية ، ليؤسس لنمط جديد من التعامل والتفاعل والتواصل ضمن سياق معولم ".سايبري." . كما أنه يمثل مرحلة القطيعة مع النماذج الاتصالية التقليدية في إدراك الواقع وإدارته ، ويؤسس لرؤية جديدة قائمة علي قيمة التفاعلية والتواصلية والشفافية. هذا ، و يعد ".هاورد رينجولد " Haward Rhingold ، من الأوائل الذين استخدموا هذا المصطلح في كتابه المجتمعات الافتراضية ، والذي يؤكد فيه بأن هذه المجتمعات تجمعات اجتماعية تشكلت من أماكن متفرقة في أنحاء العالم تربطهم اهتمامات مشتركة ، ولا تربطهم بالضرورة حدود جغرافيّة أو أواصر عرقيّة أو قبليّة أو سياسيّة أو دينيّة ، يتفاعلون عبر وسائل الاتصال ومواقع التواصل الاجتماعي الحديثة ، ويطوّرون فيما بينهم شروط الانتساب إلى الجماعة وقواعد الدخول والخروج ، وآليات التعامل والقواعد والأخلاقيات التي ينبغي مراعاتها. ويري " ألدو دي مور " ، و " هانس واينجد " Aldo de Moor , Hans Weigand ، أن المجتمعات الافتراضية ليس مجرد مجموعة مؤقته من الأفراد ، ولكنها عباره عن مجموعة من الأفراد الذين يشتركون في القيم والمصالح والاهتمامات المشتركة ويدخلون في علاقات وتفاعلات اجتماعية باستخدام الوسائط الإلكترونية ".
إن المجتمع الافتراضي لم يكن ليظهر فجأة ولكن حدث نتيجة عدد من العوامل التي مهدت لظهوره من أهمها الشبكة الدولية للمعلومات وتشكل الفضاء الرمزي ، ومع ذلك فإن هذا المجتمع لم تكتمل صورته بعد ، ذلك لأنه مرتبط بتكنولوجيا الاتصال، وبمجتمع المعلومات العالمي وهذا المجتمع آخذ في التشكل ولا يستطيع أحد التكهن بالصورة الأساسية للمجتمع الافتراضي في المستقبل ، وذلك لعدة اعتبارات منها : أولا - سرعة التغيرات التي تطرأ علي هذا المجتمع ، وارتباط تحولاته بصناعة البرمجيات التي تتطور في عالمنا بشكل ملحوظ . ثانياً - كثرة المتفاعلين في السياق الافتراضي ، إذ أن هذه التفاعلات بدأت علي المستوي النخبوي ، والآن يتعامل معها كل من يجيد أساسيات التعامل مع الكمبيوتر. ثالثاً- تفاوت أعمار المترددين علي تفاعلات المجتمع الافتراضي ، إذ انه لا يرتبط بشريحة عمرية واحدة ، فجميع الأعمار منذ الطفولة حتي الشيخوخة تتفاعل في هذا السياق. رابعاً - تعدد الصور والآليات التي يتواصل بها الأفراد في التفاعلات الافتراضية ما بين غرف محادثات ومجموعات بريدية وقوائم بريدية ومنتديات ، ومدونات وغيرها من طرق التفاعل.
و يشير عدد من الباحثين إلي أنه بظهور الإنترنت كوسيط اتصالي أصبحنا نعيش في مجتمعين أو عالمين ، أحدهما أطلق عليه " المجتمع الواقعي " أو " مجتمع خارج الإنترنت "، و هو المجتمع القائم علي التواصل عبر الإتصال الشخصي بين الأفراد والآخر يطلق عليه ".المجتمع الإفتراضي " ، أو " مجتمع الإنترنت " ، وهو المجتمع القائم علي التواصل بين الأفراد عن بعد عبر الإنترنت . وقد حاول عدد من الباحثين تحديد ماهية العلاقة بين هذين المجتمعين الواقعي والإفتراضي ، وكيف يمكن أن يؤثر كل مجتمع من هذين المجتمعين علي الآخر ، وقد انقسمت آراء الباحثين إلي ثلاثة آراء حول هذا الصدد ، الرأي الأول : الذي يتبناه مجموعة من الباحثين أمثال ".ايليكنز " ، يري أنه من الطبيعي مع هذا التطور التكنولوجي أن ينشأ المجتمع الإفتراضي الذي يعتبر فرعاً صغيراً من المجتمع الواقعي ولا يغني عنه . أما الرأي الثاني : الذي يتبناه مجموعة من الباحثين أمثال " ألكسندر " Alexander ، و ".لوكارد " Locard ، ويري أن انغماس الفرد في مجتمع الفرد يجعله أكثر بعداً عن الآخرين في المجتمع الواقعي ، ويجعله محصوراً مكانياً في مكان تواجد الإنترنت ، ويخلق نوعاً من الفردية مع ذاتهم عبر الإنترنت (Solitary Mode) ، مما يجعل الأفراد أكثر تركيزاً مع ذاتهم عبر الإنترنت ، ويصبح التواصل بين الأفراد مرتبطاً بالشخصية والذات أكثر من التواجد بالجسد . الرأي الثالث : الذي يتبناه باحثين أمثال " ويليمان " Welman ، و " دامر " Damir ، ويري أن المجتمع الواقعي ، والمجتمع الإفتراضي مجتمعان مكملان لبعضهما البعض ، وهناك تفاعل واعتمادية بينهما ، فالفرد يمكنك أن يتعرف علي أشخاص جدد عبر الإنترنت ، ويطور هذه العلاقات في المجتمع الواقعي ، والعكس صحيح ، حيث يساعد مجتمع الإنترنت في تقوية العلاقات بين الأفراد في المجتمع الواقعي .
و ينظرعلم الاجتماع الآلي (الإنترنت) ، وهو علماً اجتماعيا تكنولوجياً جديداً ، إلي أن الإنسان أصبح يعيش وسط بيئة افتراضية ، أو بيئة ثالثة بديلة ، بيئة إنترنتية ، أو ما يطلق عليها المواقع الاجتماعية ، او المجتمعات الشبكية ، وعن الإهتمام بدراسة المجتمعات الإفتراضية ، فقد اهتم العديد من العلماء والباحثين في علم الاجتماع بدراسة هذا النوع من المجتمعات بإعتبارها ظاهرة ظاهرة اجتماعية ، و يعد " كاستلز " أبرز المتخصصين في دراسة هذا النوع من المجتمعات ، وقد أصدر سنة 1998 كتاب " مجتمع الشبكة " وأتبعه بسلسلة أخرى تعالج قضايا هذه الظاهرة . وقد أكد " بايوكا فرانك " Biocca Frank ، أن المجتمعات الافتراضية ظاهرة اجتماعية ، كما ساهم " جاك لوميز " Jack Loomis ، مع " مارك ليفي " Leefe ، عام 1995 ، في تطوير مختبرات لقياس الواقع الافتراضي ، وشارك معهم " جيم بلاسكوفج " Jim Blascovich ، في تأسيس مركز بحوث رئيسي في (جامعة كاليفورنيا) في عام 1996 ، ومع مرور الوقت ظهرت أنواع من المجتمعات الافتراضية ، وقد اختلفت هذه المجتمعات في توجهاتها واهتماماتها وأهدافها ، ومن هذه المجتمعات علي سبيل المثال لا الحصر ، مجتمعات الألعاب Games Societies ، حيث يمارس الأطفال الألعاب الإلكترونية داخل فضاء الإنترنت ، وتكون بين أفراد هذه المجتمعات علاقات اجتماعية ، وصداقات ، وهناك مواقع تحاكي الواقع أطلق عليها الحياة الثانية Second Life ، كما ظهرت مجموعة كبيرة من المجتمعات الافتراضية أبرزها أمريكا أونلاين America Online ، وهناك مجتمعات افتراضية لقضاء أوقات الفراغ ، وهي مجتمعات تعزز التفاعل الاجتماعي ، أبرزها موقع الفيس بوك Facebook ، وهو موقع للشبكات الاجتماعية ، أنشأه " مارك زوكربيرج " Mark Zuckerberg، عام 2003 ، وكان في بدايته لجمع زملاءه في الجامعة ، لتبادل الأخبار والصور والآراء في مختلف المواضيع ، وسرعان ما لقي هذا المجتمع رواجاً بين طلبة (جامعة هارفارد) ، واكتسب شعبية واسعة الأمر الذي شجعه علي توسيع قاعدة من يحق لهم الدخول إلي المجتمع لتشمل طلبة جامعات أخري أو طلبة مدراس ثانوية يسعون إلي التعرف علي الحياة الجامعية ، ثم فتحت أبواب موقعه أمام كل من يرغب في استخدامه . ولا يخفي ما حققه هذا المجتمع علي صعيد الأحداث السياسية الأخيرة في الوطن العربي .
وقد يفسر وجود هذه المجتمعات بفقدان القدرة علي التواصل الحياتي عبر العلاقات الشخصية غير الرسمية ...، كما قد يفسر بمحاولات البحث عن عوالم غامضة تفك الإنسان من قيود مجتمعه ، إلي عوالم مجهولة يجد فيها ذاته وخصوصيته. كما أن هناك ثقافة خاصة يمارسها الأفراد داخل المجتمعات الإفتراضية تحمل من الخصائص والسمات الفريدة ما جعل العاملين في العلوم الاجتماعية يطلقون عليها (ثقافة الإنترنت) . حيث تخلصت هذه الثقافة من قيود الزمان والمكان ، وقيود الجنس (ذكر - أنثي) ، أو اللون ، أوالفوارق الإجتماعية لتطلق يد الفرد في إقامة شبكة علي نطاق واسع من العالم وهذا هو الجانب المشرق للظاهرة ، أما الجانب السلبي فقد يكون الفرد عرضة للخداع ، والتنكر ، وإمكان استغلاله لأغراض غير مشروعة أو غير أخلاقية . ولقد أثبتت الأبحاث ان الأفراد الذين ينتمون إلي هذه المجتمعات لديهم أنظمة قيمية قد تكون مختلفة عن قيم المجتمع الحقيقي الذي يعيشون فيه ، و هناك لغات مستحدثة تستخدم من قبل أعضاء مجتمع افتراضي معين ، لغة مكونة من الحروف والأرقام الإنجليزية . ومن المشكلات الشائعة بين أفراد المجتمعات الإفتراضية ، هي حالة الإدمان علي المجتمعات الإفتراضية ، فالبعض يرغب بالاستمرارية داخل مجتمعه الإفتراضي حسب علاقاته أو واجباته في المجتمع الحقيقي .
أما بالنسبة إلي سمات المجتمعات الإفتراضية ، فمن أهم سمات هذه المجتمعات أنها متاحة للأفراد الذي يريدون المشاركة في أحد أنماطها ، فالمدينة الافتراضية علي حد قول ".البرتا روبرت " Alberta Ropert ، و".ميشيل جينكنسون " Jenkinson Michael مدينة لا تنام . فهناك دائما أفراد مشتركون في التفاعلات الافتراضية حتي في منتصف الليل - ولا غرابة في ذلك - فلقد أصبح الإنترنت بشكل عام جزءاً من حياة الناس والجماعات الافتراضية بأنماطها المختلفة باتت تشكل أهمية للعديد من المهتمين بالإنترنت علي وجه خاص . ومن سمات المجتمعات الإفتراضية أيضاً أنها تنتهي إلي عزلة ، علي ما تعد به من إنفتاح علي العالم وتواصل مع الآخرين . وهذه المفارقة يلخصها عنوان كتاب لـ " شيري تيركل."Sherry Turkle ، نحن معاً . لكننا وحيدون : لماذا أصبحنا ننتظر من التكنولوجيا أكثر مما ينتظر بعضنا من بعض؟ . فقد أغنت الرسائل النصية القصيرة . وما يكتبون ويتبادلون علي الفيس بوك عن الزيارات . من هنا لم تعد صورة الأسرة التي تعيش في بيت واحد بينما ينهمك كل فرد من افرادها في عالمه الإفتراضي الخاص . لم تعد مجرد رسم كاريكاتيري . بل حقيقة مقلقة تحتاج مزيداً من الإنتباه والإهتمام 3
ويمكن أن نستخلص مما سبق أن المجتمع الافتراضي هو اختزال واختصار للمجتمع الحقيقي والتاريخي ، وسلب لبعض أنشطته واختصاصاته ، فبقدر ما يتوغل الشخص في المجتمع الافتراضي ويتعزز حضوره فيه ينفصل أكثر عن المجتمع التاريخي ، إلى درجة يمكن القول معها بشكل عام : إن الوجود الافتراضي يضعف الوجود التاريخي إلى درجة الإلغاء في بعض الحالات. ورغم هذه الصعوبات في محاولة رسم سيناريوهات مستقبلية حول واقع التطور الذي يحدث علي خلفية التفاعلات الافتراضية إلا أن ذلك لا يعني أن المجتمع الافتراضي يزيح المجتمع الواقعي ليحل محله ، ولكن يشكل بوابة جديدة للتفاعلات التي تخرج عن إطار المحلية وتبقي إشكالية حول مستقبل التفاعلات الواقعية في ظل الانخراط في التفاعلات الافتراضية ومستقبل التفاعلات الأسرية علي وجه الخصوص في ظل انفراج بوابة المجتمع الافتراضي.
المزيد على دنيا الوطن ..
http://pulpit.alwatanvoice.com/articles/2014/08/25/339824.html#ixzz3PUSMSvHV Follow us: @alwatanvoice on Twitter | alwatanvoice on Facebook