أمير بن محمد المدري
إمام وخطيب مسجد الإيمان – اليمن
لقد رسم القرآن منهج الخطاب الديني أو الدعوة الدينية في آية كريمة من سوره المكية، حين قال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125).
فهذه الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكل من يتأتى خطابه من الأمة من بعده. إذ الدعوة إلى الله، أو إلى سبيل الله ليست خاصة بالنبي عليه الصلاة والسلام، بل أمته أيضا مطالبة بأن تقوم بدعوته معه وبعده.
وفي هذا يقول القرآن أيضا في مخاطبة الرسول: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108).
فكل من اتبع محمدا صلى الله عليه وسلم، ورضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا ورسولا: هو داع إلى الله، وداع على بصيرة، بنص القرآن { أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي }.
وبهذا كانت الأمة مبعوثة إلى الأمم بما بُعث بها نبيها، فهي تحمل رسالته، وتحتضن دعوته، كما قال صلى الله عليه وسلم للأمة: "إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين
فالخطاب الديني الذي نريده أن يسود وينتشر وتتظافر كل الجهود على إشاعته وإذاعته بكل الوسائل والأساليب ليس هو مهمة الإمام والواعظ والكاتب في مواضيع الدين المختلفة فقط بل مهمة الجميع في تكامل وانسجام واتفاق على المرامي والأهداف التي لا يمكن أن تكون إلا واحدة: وهي أن نعيش معا في انسجام واحترام متبادل واعتراف بحقوق بعضنا البعض وأن نسعى متكاملين متعاونين من أجل الحفاظ على ما نعتبره –ويعتبره التفكير السليم القويم- مكاسب لا سبيل إلى التفريط فيها فلا نترك أحدا (فردا أو جماعة) يتهددها.
إن الخطاب الديني الذي نروم نشره والتوعية به هو انعكاس صحيح وتطابق كامل لمقاصد الدين وغاياته وأهدافه النبيلة والتي هي خير كلها ورحمة كلها ومصلحة كلها. وكل فهم للدين يجانب هذه الخصائص هو رد على صاحبه وغير ملزم لأحد من الناس. فالدين إنما يمثله أجلى وأوضح وأكمل وأجمل تمثيل وتجسيم وتطبيق من جاء به من عند الله فهو الموعظة المجسمة، وهو حجة الله على عباده، وهو الأسوة والقدوة وهو الذي في أتباعه مرضاة لله (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) ومن قرأ سيرة رسول الله سيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بتدبر وروية وبصيرة بعيدا عن النظرة الجزئية المبسطة الحرفية التي لا تعتبر الواقع ولا المقاصد ولا تراعي النوايا. من يقرأ سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم –الإنسان الكامل- فسيرى رحمة ورفقا ولينا وسماحة وسعة صدر وعفوا ودفعا بالتي هي أحسن وكل تلك السمات ينبغي أن يعتمد عليها وينطلق منها الخطاب الديني ويعمل جاهدا من أجل التطابق معها والوفاء لها.
فالخطاب الديني بهذا المعنى وبهذه الخصائص هو خطاب التحرير والتنوير، وهو خطاب التبصير والتذكير، وهو خطاب جمع الكلمة ووحدة الصف، انه خطاب السماحة والرفق والرحمة واللين والدفع بالتي هي أحسن، وهو خطاب التسامح والتعايش والسلام والتعاون على البر والتقوى، وهو خطاب التوكل الصحيح والأخذ بالأسباب وتغيير ما بالنفس، إنه خطاب الأمل والعمل وهو خطاب الرقي والتقدم والتمدن والتحضر.
* الخطاب الديني المنشود والذي هو وفي لنصوص الشرع ومقاصده خطاب ينبذ التعصب والتزمت والإنغلاق والتحجر، يقاوم الفرقة والفتنة ويحارب كل ما يمكن أن ينال من كرامة الإنسان ويتصادم مع حقوقه الأساسية، إن الخطاب الديني يأبى على المؤمن أن يظل في تخلف وتقهقر وضعف ومهانة ومذلة، إنه خطاب يدفع إلى تحقيق الخيرية الفعلية لأمة الإسلام (كنتم خير امة أخرجت للناس) والعزة الفعلية (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) ولن تتحقق الخيرية بالشعارات والأماني (ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي) ولن تتحقق الخيرية بالمظاهر والصور (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى وجوهكم) ولن تتحقق المباهاة يوم القيامة من طرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمة ضعيفة متهالكة متصارعة ترزح تحت نير الجهالة والتخلف والفقر والأمية.
* إن الخطاب الديني الصحيح والايجابي البناء الذي يرضى الله ورسوله والمؤمنين هو خطاب الدفع إلى الأمام ومعاضدة كل الجهود الخيرة التي تبذل من أجل إسعاد المسلمين السعادة الحقيقية الشاملة الكاملة.
* الخطاب الديني بكل قنواته ووسائله وفي طليعتها الخطبة الجمعية والدرس والمحاضرة والمقال والدراسة هو خطاب المعاضدة لكل عمل بناء ولكل مبادرة خيرة تنفع العباد والبلاد.
* الخطاب الديني هو الدافع إلى الانخراط بصفة كلية وتلقائية -رغبة في الحصول الأجر والثواب- في كل ما من شأنه أن ينفع الناس إذ (أحب العباد إلى الله انفعهم لعباده) ومجالات الإيمان وشعبه تتعدى العقائد والعبادات إلى المعاملات، إذ (الإيمان بضع وستون شعبه أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى من الطريق والحياء شعبة من الإيمان).
ومن هنا فإن الخطاب الديني يجب أن يكون خطاب وحدوي ، يقوم على صهر الناس من خلال المفاهيم في بوتقة العقيدة الإسلامية ليكونوا أمة واحدة تربطهم عقيدة الإسلام ، وهو لا يقبل الارتباط بغير العقيدة الإسلامية ، واعتبر الروابط الأخرى من أمر الجاهلية ، وأنها لا تصلح لأن تربط بني الإنسان ببعضهم ،لأنها روابط منحطة لا تليق بالإنسان، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾(الحجرات:10) ، وقال الله تعالى: ﴿ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾( المؤمنون :52) ، فرابطة العقيدة لا تتقطع باختلاف النسب ، ورابطة النسب تتقطع باختلاف العقيدة.
أميربن محمد المدري