صناعة الخوف في المؤسسة الإعلامية:الحرب على العراق نموذجاّ
د . حلمي ساري
ثقافة الخوف
يستخدم علماء الاجتماع هذا المفهوم لوصف تلك الحالة المشاعرية السلبية التي تسيطر على الخطاب الشعبي في المجتمعات المعاصرة، و بخاصة مجتمعات ما بعد الحداثة. وتظهر هذه الحالة المشاعريةالتي تتسم بالخوف والذعر والقلق نفسها في علاقات الافراد الاجتماعية وتصرفاتهم اليومية مع بعضهم البعض إلى الحد الذي غدت هذه الحالة تشكل سمة من السمات الثقافية السائدة في المجتمعات المعاصرة.
و يختلف علماء الاجتماع فيما بينهم في أسباب سيادة هذه الثقافة وانتشارها في الخطاب الشعبي اليومي. فمنهم من يرى, وبخاصة عالم الاجتماع باري جلاسنر(Glassner)، أن هذا النوع من الثقافة إنما عملت على تصنيعه في المجتمعات المعاصرة (manufacturing) بطريقة مقصودة ومتأنية مؤسسات كثيرة أهمها المؤسسة الاعلامية كنوع من سياسة "المتاجرة بالخوف والذعر". (Fear mongering)
ومن بين المفكرين الذين يجادلون بأن ثقافة الخوف هي ثقافة طارئة على المجتمعات المعاصرة، تم تصنيعها بشكل متعمد عالم اللغويات نعوم شومسكي ، وعالم الاجتماع باري جلاسنر، و الكس جونز، و أدم كيرتز ، ومايكل مورالمخرج السينمائي المعروف.
و أما الدوافع والأسباب التي تقف وراء سياسة تصنيع الخوف المتعمد والمقصود ، كما يرى هؤلاء المفكرون، فهي أسباب ودوافع اقتصادة واجتماعية بالدرجة الأولى تهدف إلى زيادة الضبط الاجتماعي الذي تمارسه السلطة السياسية على الجماهير الخائفة؛ تلك الجماهير التي ينتابها الشك و عدم الثقة بالأشياء المحيطة بها، فلا تجد فرصة أمامها للتخلص من هذا الشك و الريبة والخوف إلا بالاعتماد على النظام السياسي ودعمه، ذلك النظام الذي أوجد أصلا هذه الحالة المشاعرية بينهم.(Glassner,B ,1999 Chomsky,N and Herman, E.1998)
ويذهب اصحاب هذا الأعتقاد إلى القول بأن صناعة الخوف في المجتمعات المعاصرة إنما تتم بشكل متأن و متكرر وبطريقة متعمدة. و تعمل المؤسسة الأعلامية على تغذية الخوف بشكل دائم ، مع مؤسسات أخرى بالطبع، من خلال التلاعب بالأخبار، وتزييف الحقائق ومصادر المعلومات و البيانات،وتغيير المصطلحات، واستبدال الكلمات، وتحريف التعبيرات. كل ذلك كسب تأييد الدعم للسلطة السياسية وتبرير أعمالها وتصرفاتها، بالاضافة إلى جعل الأفراد في حالة استهلاك دائم. (Glassner,1999).
ويضيف غلاسنر إلى الأسباب السابقة أسباباّ أخرى لتصنيع الخوف في المجتمعات المعاصرة، يوافقه عليها تشومسكي وهيرمان ، تكمن في تحريف النظام السياسي انتباه الرأي العام عن قضايا جوهرية تمس واقعه اليومي، كمشكلات البطالة والفقر وتلوث البيئة والتمييز ضد الأقليات والأمن الاجتماعي ،تلك المشكلات التي يعجز هذا النظام عن حلها أو التامل معها ، واشغاله بقضايا أخرى أقل أهمية من تلك المشكلات. وما الحرب على العراق ألا أحدى هذه الأسباب .
وبالاضافة إلى الأسباب السياسة والاجتماعية السابقة المفسرة لأسباب تصنيع الخوف وانتشاره بين افراد الرأي العام في المجتمعات الغربية تبقى هناك اسباب أخرى لا تقل أهمية عن تلك الأسباب وهي الأسباب المادية .حيث تقوم المؤسسة الاعلامية بتصنيع الخوف ونشره بشكل كبير ومتواصل بين الناس من أجل الكسب المادي الوفير .إذ تحول هذه المؤسسة مادة الخوف والأخبار المتعلقة به إلى سلعة استهلاكية كباقي السلع تباع وتشترى (commodity).
وأما اليات صناعة ثقافة الخوف المتعمد في المجتمعات المعاصرة ، فتتم من خلال عملية الصناعة الروتينية المعروفة للأخبار، ومنها ما يلي:
ـ الاختيار المتأني لبعض الأخبار و حذف بعضها الآخر
-تشويه الإحصائيات و الأرقام المتعلقة بقضية من القضايا.
-تحريف بعضالمصطلحات أو الكلمات أو الاساءة اليها من أجل تحقيق أهداف معينة.
-وصم بعض الأفراد أو الجماعات بوصمات تxxxxية.
وعلى ضوء هذه الخلفية سنقوم بتحليل لعملية أسباب صناعة أخبارالخوف المتعلقة بالحرب على العراق في المؤسسة الاعلامية الغربية وبخاصة التلفاز، من أجل خلق حالة من الفزع والذعر من النظام العراقي بين الرأي العام الغربي من أجل كسب تأييدة لشن الحرب على هذا النظام من جهة ، ومن أجل التأثير على الروح المعنوية للجماهير العربية وابطال تعاطفها مع هذا النظام الذي سيجر اليها الويلات والمصائبو الدمار من جهة أخرى. وحتى تكون عملية التحليل واضحة لا بد من استعراض لنظريات تأثير وسائل الاعلام .
نظريات تأثير وسائل الاعلام
على الرغم من الصعوبات الكثيرة التي تواجه الباحثين عند محاولتهم تقصي تأثيرات وسائل الاتصال الجماهيرية، إلا أن مثل هذه المحاولة تبقى ضرورية عند محاولتنا التعرف على مدى شدة هذه التأثيرات على الأفراد والمجتمعات في حالة الخوف والذعر الذي تسببه هذه الوسائل من خلال ما تقدمه من أخبار (News). لذا، سنقوم باستعراض موجز لأهم النظريات التي حاولت تقصي طبيعة تأثيرات وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية بدءا بنظرية التأثير القوي لهذه الوسائل ومرورا بنظرية التأثير المحدود ثم المعتدل، وانتهاء بالنظرية الثقافية.
1-نظرية التأثير القوي:
يعتبر هذا المدخل (Approach(من وجهة النظر التاريخية أقدم المداخل التي حاولت تقديم تفسير لمسألة تأثير وسائل الاتصال الجماهيرية على الأفراد؛ حيث ساد في مطلع العشرينيات والثلاثينيات من القرن المنصرم اعتقاد بقوة هذه الوسائل ذهب بعضهم إلى تشبيهه بالطلقة السحرية (Magic bullet) ومن هنا جاء اسم المدخل.
ويعتقد دعاة هذا المدخل أن وسائل الاتصال الجماهيرية تتمتع بنفوذ قوي ومباشر وفوري على الأفراد. إذ لديها القدرة على حملهم على تغيير آرائهم واتجاهاتهم الوجهة التي يرغبها القائم بالاتصال(Defleur. M. and Pall – Rokeach, S, 1989).
ولقد بنى أصحاب هذا المدخل اعتقادهم بقوة وسائل الاتصال الجماهيرية في التأثير على الأفراد، على بعض الافتراضات النفسية والاجتماعية المستمدة من علمي النفس والاجتماع السائدة آنذاك. ففي المجال النفسي ساد الاعتقاد بأن الأفراد إنما تحركهم عواطفهم و"غرائزهم" التي ليس بمقدورهم السيطرة عليها بشكل إرادي، فإذا ما استطاعت وسائل الاتصال حقنهم بمعلومات معينة تخاطب هذه "الغرائز" والمشاعر فإنهم سيتأثرون مباشرة بهذه الحقنة الاتصالية وسيستجيبون لها فوراً.
وأما على المستوى الاجتماعي، فقد ساد اعتقاد أيضاً بأن الأفراد في المجتمعات الجماهيرية الصناعية هم مخلوقات سلبية ومعزولة عن بعضها البعض نفسياً واجتماعياً، ولا توجد بينهم روابط قوية تجمعهم في هذه المجتمعات. لذا، فهم فريسة سهلة لا يوجد من يحميها أمام ما تمارسه وسائل الاتصال عليهم من تأثيرات بغياب هذه الروابط والعلاقات الاجتماعية. (المصدر السابق).
2 ـ نظرية التأثير المحدود
وأما النظرية الثانية التي أعقبت هذا المدخل فهي تلك المسماة بنظرية "التأثير المحدود" أوالتعرض الانتقائي (Selective Exposure). ويستند الفهم الجديد لتأثيرات وسائل الاتصال الجماهيرية على الجمهورإلى مسلمات نفسية واجتماعية مختلفة تماماً عن تلك الافتراضات والمسلمات التي استند إليها الباحثون السابقون، كما يعكس أيضاً تقدماً في أساليب البحث العلمي المتبعة في تلك المرحلة لقياس هذه التأثيرات.
وينضوي تحت هذه النظرية نماذج أومداخل مختلفة أهمها:
أ.مدخل الفروق الفردية : يركز أصحاب هذا المدخل على دور عملية التعليم والتعلم كمصدر من مصادر الفروق بين الأفراد في استجاباتهم لوسائل الاتصال الجماهيرية، وعلى دور الأفراد في إنتقاء وسائل الاتصال الجماهيرية التي يودون التعرض لها؛ فالتأثير الذي تحدثه هذه الوسائل عليهم، إنما يخضع لظروف الفرد الذاتية، ولسماته الشخصية.
ب.مدخل الفئات الاجتماعية(Social Categories): تختلف توجهات أصحاب هذا المدخل ومنطلقاتهم عن منطلقات المدخل السابق. فهم وإن كانوا يقرون بوجود فروق فردية بين الأفراد في المجتمع، كما يذهب أصحاب مدخل الفروق الفردية، إلا أنهم يختلفون معهم في نظرتهم إلى استجابات هؤلاء الأفراد لوسائل الاتصال. فالأفراد، كما يرى أصحاب مدخل الفئات الاجتماعية، لا يوجدون كذرات مستقلة أومنفصلة عن بعضها البعض داخل المجتمع، وإنما هم يتعنقدون أو يتجمعون في فئات أوشرائح أوطبقات اجتماعية معينة، ويتميزون بخصائص متشابهة كتشابههم في الدخل، أوالعقيدة، أوالطائفة، أوالعرق، أوالحزب، أوالطبقة، أو القطاع الاجتماعي "الريف وحضر"، أوالعمر أوالمهنة...إلخ. إن هذا التشابه في الخصائص تجعل من كل فئة من هذه الفئات فئة اجتماعية مغايرة للفئات الأخرى في طرق تعاملها واستجاباتها لوسائل الاتصال الجماهيرية. وهكذا، فإن الفئات المتشابهة تستجيب لوسائل الاتصال بطرق متشابهة. (Edelstien, A, etal, 1989).
ج.مدخل العلاقات الاجتماعية(Social Relations): وأما المدخل الآخر الذي ينضوي تحت نظرية التأثير المحدود لوسائل الاتصال الجماهيرية، والذي كان له دور كبير في كشف المزيد عن طبيعة العلاقة بين وسائل الاتصال والجمهور، والذي أثرت نتائج البحوث التي أجراها المدافعون عنه إلى تقدم ملموس وواضح في مسيرة التفكير الاجتماعي بمسألة طبيعة هذه العلاقة، فهو المدخل المعروف باسم مدخل العلاقات الاجتماعية.
ويرى الباحثون هنا أن طبيعة العلاقات الاجتماعية السائدة في المجتمع الذي تعمل فيه المؤسسة الاتصالية (رسمية أم غير رسمية، مغلقة، أم مفتوحة، فاترة أم حميمية، صراعية أم تعاونية...إلخ) تحدّ وتقلل من التأثيرات المباشرة والفورية لوسائل الاتصال على الأفراد. فالعلاقات غير الرسمية والمفتوحة السائدة في مجتمع ما، قد تعمل على حماية الأفراد، من تأثيرات وسائل الاتصال المباشرة عليهم، وتقلل من مخاطرها وانعكاساتها السلبية. (Defleur, M, and Pall – Rokeach, S 1989).
وقد توصل الباحثون إلى هذه النتيجة من خلال دارساتهم التي أجروها على السلوك الانتخابي في أثناء الحملة الإعلامية لانتخابات الرئاسة الأمريكية في الأربعينيات. حيث تبين لهم مدى فاعلية الدور الذي تقوم به العلاقات الشخصية والاجتماعية في هذا السلوك في مجمل عملية الاتصال الجماهيري خلال تلك الحملة، ودور الجماعات المرجعية (Reference Groups) أيضاً في التأثير على هذا السلوك. إذ تعمل هذه الجماعات كعوامل وسيطة تحمي الأفراد من التأثيرات المباشرة لوسائل الاتصال. (Schramm, W 1975) وهذا يعني أن غالبية الأفراد لا يحصلون على معلومتهم بشكل مباشر من هذه الوسائل، وإنما هناك عوامل وسيطة تتوسط بينهم وبينها. كالأسرة مثلاً، واتحاد النقابات، والجمعيات وقادة الرأي، ... ألخ.
إن تدفق العملية الاتصالية، إذن، يمر بخطوتين، وليس بخطوة واحدة كما كان يظن في السابق: الخطوة الأولى تبدأ حيناأأأ تخرج الرسالة من المؤسسة الاتصالية إلى الجمهور، ولكنها لا تصل إليه مباشرة، بل تمر عبر قادة الرأي، فيتلقاها هؤلاء القادة باعتبارهم عوامل وسيطة بين المؤسسة الاتصالية وبين الأفراد، وأما الخطوة الثانية فتبدأ حين تخرج الرسالة من قادة الرأي هؤلاء إلى بقية أفراد المجتمع.
ونجد تأكيداً لدور قادة الرأي أيضاً في الحد من تأثير قوة وسائل الاتصال على الأفراد لدى أصحاب مدخل آخر يعرف باسم "انتشار المبتكرات ". يذهب أصحاب هذا المدخل وبخاصة روجرز وشوميكر،(Rogers and Shoemaker) إلى تأكيد فرضية تدفق سير العملية الاتصالية على مراحل، وإلىالدور الحاسم الذي يمارسه قادة الرأي في التأثير على الأفراد خلال كل مرحلة من هذه المراحل. ففي نظريتهما المعروفة باسم انتشار المبتكرات (Difussion of Innovation)، ذهبا إلى القول بأن انتقال المعلومات، وبخاصة حول المبتكرات أو الأفكار الجديدة في المجتمع، يمر بأكثر من خطوة، وينساب عبر عدد كبير من الأفراد يسمح لهم بالتدخل في توضيح بعض الجوانب المتعلقة بهذه المبتكرات. إن دور الاتصال، حسب رأيهما، في هذه الحالة يتجسد في إثارة اهتمام الأفراد بهذه المبتكرات الحديثة وتهيئتهم لتقبلها. وفي هذه الحالة فإن الدور الأكبر والفعلي في انتشار المبتكرات إنما يرجع إلى ما يمارسه قادة الرأي من تأثيرات معينة عليهم. (Rogers, E, and Shoemaker, F. 1973).
ومن أشهر المداخل الأخرى التي تندرج تحت نظرية التأثير المحدود، والتي تعتبر إسهامات روادها في تفسير استخدام الأفراد لوسائل الإتصال مهمة في إعادة النظر في مسألة تأثير وسائل الإتصال، فهوالمدخل المعروف باسم الاستخدامات والإشباعات (Uses and Gratifications) .
يرى أصحاب هذا المدخل، أن وسائل الاتصال تعتبر مصدراً حيوياً ونافعاً في تزويد الأفراد بما يريدونه من معارف، وفي تلبية ما لديهم من حاجات ومتطلبات. لذا، فهم حين يلجأون إلى هذه الوسائل إنما يكون من أجل تحقيق هذه الحاجات والعمل على إشباعها. (Katz, E. 1959, Rosengren, K. 1974).
وهكذا فإن تعامل الجمهور مع هذه الوسائل بهذه الطريقة يعمل على حمايته من طغيان تأثيرات هذه الوسائل عليه، كما يقول إدلشتاين، أكثر مما تعمله أية عوامل أخرى (Edelstein, etal, 1989) ذلك أن وسائل الاتصال في هذه الحالة ليست هي التي تحدد للأفراد نوع الرسائل أوالمضامين التي يتوجب عليهم مشاهدتها أوالتعرض لها، وإنما الأفراد أنفسهم هم الذين يتحكمون بتلك الرسائل بالطريقة التي يريدونها وبالوسيلة التي يختارونها من أجل إشباع حاجاتهم المختلفة (كالحصول على المعرفة، والترفيه، والمعلومات، والأخبار...إلخ) (Katz, E. 1959; Rubin, A. 1985).
وعلى الرغم من أهمية هذا المدخل في استجلائه لجانب مهم من جوانب تعامل الأفراد مع وسائل الاتصال في تلك المرحلة، إلا أنه تعرض لبعض الانتقادات التي دفعت بعض الباحثين إلى إعادة النظر في بعض افتراضاتهم ومسلماتهم حوله، وإجراء بعض التعديلات عليها والتوضيحات على بعضها الآخر في السنوات اللاحقة، حيث لا يزال يتبع هذا المدخل العديد من الباحثين في الدراسات الاتصالية ممن يرون في افتراضاته بعض جوانب الصحة التي تساعدهم في فهم طبيعة العلاقة بين هذه الوسائل والأفراد.
وبالرغم من تعدد المداخل الفرعية التي تنضوي تحت (نظرية التأثير المحدود) فإن جميع الباحثين الذين ينضوون تحت لوائها كانوا قد حاولوا، في الواقع، التأكد من صحة ادعاءات مدخل التأثير القوي والمطلق لوسائل الاتصال الجماهيرية على الأفراد؛ إذ قاموا بإجراء دراسات وبحوث ميدانية عديدة للتأكد من صدق هذا الإدعاء،بدأت من الأربعينيات واستمرت حتى نهاية الخمسينيات تقريباً، لم توصلهم إلى أي دليل يدعم صدق ما ذهب إليه ذلكالادعاء السابق، بل توصلوا إلى نتائج معاكسة تماماً؛ إذ تبين لهم أن تأثير وسائل الاتصال الجماهيرية على الأفراد ليس فورياً ولا مباشراً من جهة، وليس متجانساً في قوته أيضاً من جهة أخرى؛ بل هوتأثير يختلف باختلاف الفروق النفسية والمزاجية للأفراد الناشئة عن تباين طرق تنشئتهم الاجتماعية وتمايز أساليب اكتسابهم لخبراتهم المتنوعة (McQuail, D. 2000; Bilton, T, etal. 2002).
وبالإضافة إلى ذلك، فقد أفضت نتائج دراساتهم التي أجروها في هذا المجال، الى التأكيد على انه يجب النظر الى قوة وسائل الاتصال أو ضعفها، سواء أكان ذلك مباشراً أم غير مباشر، مقصوداً أم غير مقصود، من خلال العمليات الاختيارية أوالانتقائية التي يقوم بها الفرد للمحتوى المعرفي الذي يتعرض له في هذه الوسائل؛اذ تعمل هذه العمليات كعوامل وسيطة في العملية الاتصالية، من شأنها أن تحد من تأثيرات وسائل الاتصال القوية والمباشرة عليه.
وقد اتضح لهم من خلال هذه الدراسات أيضا، أن الأفراد يعرضون أنفسهم بشكل طوعي أو اختياري (Selective Exposure) للوسيلة الاتصالية التي يريدونها، والتي يتوافق محتواها مع ميولهم واهتماماتهم واعتقاداتهم، كما تبين لهم كذلك ان الأفراد انما يدركون الرسائل الاتصالية التي يتعرضون لها في هذه الرسائل، ويفسرون محتوياتها وفقا لأذواقهم ومصالحهم وتوقعاتهم. هذا إضافة الى انهم يتذكرون بشكل انتقائي ما يحبونه أو يرغبونه، ويتجنبون تذكر أو استرجاع ما لا يحبون أو يرغبون من محتويات هذه الرسائل الاتصالية التي يتعرضون لها.
وهكذا كشفت الدراسات الميدانية التي قام بها هؤلاء الباحثون، أن وسائل الاتصال لا تؤثر تأثيراً مباشراً على الافراد، ولكنها تعمل من خلال ما أسموه بالعمليات الاختيارية اوالعوامل الوسيطة.
وقد استعرض الباحث جوزيف كلابر في الستينيات الدراسات التي اجريت حول تأثيرات وسائل الاتصال الجماهيرية على الافراد، وخرج بعدة تعميمات يمكن تلخيصها بما يلي:
"إن وسائل الإتصال ليست عادة السبب الكافي أوالضروري لإحداث التأثير على الجماهير. ولكنها تعمل مع، ومن خلال، بعض العوامل والمؤثرات الوسيطة. وفي الحالات الخاصة التي تعمل فيها وسائل الاتصال على حدوث تغيير، فمرد ذلك هوعدم قيام العوامل الوسيطة بدورها في هذه الحالة، وبذا يصبح تأثير وسائل الإتصال مباشراً، اوان العوامل الوسيطة التي تميل الى تدعيم الاتجاهات الموجودة لدى الفرد وتقويتها لديه، تساعد هي نفسها على إحداث التأثير أو التغيير" (Klapper, J, 1963).
ويجب ألا يفهم من النتيجةالتي توصل اليها كلابر، أن وسائل الاتصال الجماهيرية عديمة التأثير على الأفراد في كل الظروف، وإنما يعني انها تمارس عملها وتأثيراتها ضمن نظام العلاقات الاجتماعية القائمة في المجتمع الذي تعمل فيه هذه الوسائل. وفي ظل ظروف ثقافية واجتماعية محددة تعمل هذه الظروف والعلاقات، وبخاصة غير الرسمية، على الحد أو التقليل من تأثيرات هذه الوسائل.
وبالإضافة إلى ذلك، توصلت الدراسات السابقة الى أن تأثيرات وسائل الاتصال ترتبط ايضا باعتبارات فردية، وسمات شخصية، وظروف الفرد الذاتية. فما يتعلمه الأفراد من وسائل الاتصال لا يؤدي بالضرورة الى تغيير اتجاهاتهم، واذا ما أدى إلى ذلك في حالات معينة ومحدودة، فإنه قد لا يؤدي الى تغيير في سلوكاتهم وتصرفاتهم. فالتأثير، في الواقع، يخضع، حسب وجهة نظرهم، لاعتبارات كثيرة أهمها كما قلنا، ظروف الفرد الذاتية وطبيعة العلاقات الاجتماعية القائمة في المجتمع؛ إذ تعمل هذه العوامل على حماية الأفراد من تأثيرات وسائل الاتصال المباشرة والفورية عليهم. (McQuail, D. 2000, Blulmer, J & McQuail, D. 1968, Bilton, T, etal, 2002).
وهكذا لم يعد يُنظر إلى الأفراد حسب المدافعين عن هذه النظرية، بمداخلها/نماذجها المختلفة، على أنهم مجرد تجمّع سلبي وخامل، (Passive) في تعاملهم مع هذه الوسائل، بل هم أفراد فاعلون (Active) في هذا التعامل، لديهم حرية اختيار الوسيلة الاتصالية التي يريدون التعامل معها أو مع مضامينها الثقافية والمعرفية (Selective Exposure) ويدركون هذه المضامين بطرق انتقائية/اختيارية (Selective perception)، كما أنهم يتذكرون بطرق اختيارية ما يريدون تذكره من هذه المضامين (Selective recalling). إن هذا التعرض الانتقائي أوالاختياري هو الذي يحميهم من مخاطر التأثير القوي لهذه الوسائل عليهم، كما كشفت عنه نتائج دراسات الباحثين في هذا المجال في تلك الفترة من تطور التفكير الاجتماعي في مسألة فهم العلاقة بين وسائل الاتصال الجماهيرية وبين الأفراد.
وهكذا، فإن نظرية التأثير المحدود بنماذجها السابقة المختلفة، كانت قد عملت على تقديم صورة مختلفة ومتباينة إلى حد كبير عن تلك التي قدمها أصحاب مدخل التأثير القوي المباشر بشأن طبيعة العلاقة بين الأفراد ووسائل الاتصال الجماهيرية.
ولكن البحث العلمي في مسألة التأثيرات لم يتوقف عند هذا الحد، بل استمر في الكشف عن فهم طبيعة العلاقة بين وسائل الإتصال الجماهيرية والأفراد؛ إذ طرأت في السنوات اللاحقة، بعض التغيرات والتعديلات على هذه النظرية تعكس التقدم الذي طرأ على الفكر الاجتماعي في هذه المسألة. ولقد تمخضت هذه التعديلات عن نظرية ثالثة شكلت اسهاماً مهماًً وجديداً في فهم مسألة تأثيرات وسائل الاتصال الجماهيرية.
3 ـ نظرية التأثير المعتدل:
شهدت السنوات اللاحقة (الستينيات والسبعينيات) تطوراً في التفكير الاجتماعي بمسألة تأثيرات وسائل الاتصال على الجمهور، كما أشرنا، أفضى إلى ظهور نظرية جديدة تدعوإلى إعادة النظر في فهم طبيعة العلاقة بين وسائل الاتصال الجماهيرية وبين الأفراد.
يرى أصحاب النظرية الجديدة أن الفهم السابق لمسألة التأثير، برغم أهميته، يبقى غير دقيق وغير كاف لفهم هذه العلاقة المعقدة، وينقصه العديد من المتغيرات التي يجب أخذها بعين الاعتبار عند دراسة هذه العلاقة؛ كما انهم يرون أيضا ان تقليل نظرية التأثير المحدود السابقة من شأن تأثير وسائل الاتصال على الأفراد، واهتمامها بالتأثير ذي المدى القصيروالمباشر، واستبعادها للتأثيرات ذات المدى البعيد وغير المباشر، وانحصار اهتمامها بتأثير هذه الوسائل على آراء الأفراد واتجاهاتهم فقط، كان قد جعل منها نظرية غير موفقة في تقديم فهم شامل لمسألة التأثير الذي تحدثه وسائل الاتصال على الأفراد. ومن هنا كانت الحاجة، برأيهم، إلى نظرية جديدة لا تبالغ في تصوير قوّة وسائل الاتصال، ولا تقلل من شأن هذه القوّة أو تنفيها. (McQuail, D, 2000).
وتتكون نظرية التأثير المعتدل لوسائل الاتصال الجماهيرية من عدة نماذج فرعية، يشكل كل نموذج/مدخل منها إضافة جديدة الى ما سبقه من نماذج من حيث فهمها لمسألة التأثيرات.ويمكن تلخيص كل مدخل منها كما يلي:
أ. مدخل ترتيب الأوليات - الأجندة (Agenda Setting ) .
يرى أصحاب هذا المدخل أن وسائل الاتصال بمقدورها توجيه الرأي العام، والتأثير على المدى الطويل في تشكيل اهتماماته حول قضية ما من القضايا الاجتماعية اوالسياسية اوالاقتصادية، وذلك من خلال التركيز عليها في هذه الوسائل حتى تستحوذ على اهتماماته وانتباهه. أي أن الدور الفعلي لهذه الوسائل، كما يرون، يكمن في تحريك اهتمامات الجمهور بقضايا وموضوعات بعينها لتتفق في ترتيبها مع الترتيب الذي تضعه هذه الوسائل لأهمية هذه القضايا والموضوعات؛ فمثلما يحدد أويرتب جدول أعمال أي مؤتمر أولقاء أواجتماع الموضوعات التي سوف تجري مناقشتها بناء على أهميتها حسب ذلك الجدول، تقوم وسائل الاتصال الجماهيرية بالوظيفة نفسها. أي أنها تفرض على الجمهور جدول أعمالها الذي يحدد لهم الأهم، والمهم، والأقل أهمية، وغير المهم من تلك الموضوعات. (حسن مكاوي وليلى السيد، 1998).
ولقد لخص الباحثان لانج ولانج هذا المدخل والافتراضات القائم عليها كما يلي:" ان وسائل الاتصال هي التي توجه اهتمام الجمهور نحوقضايا بعينها، وهي التي تطرح الموضوعات عليه، وهي التي تقترح ما الذي ينبغي ان يفكر فيه، وما الذي ينبغي ان يعرفه أو يشعر به " (Lang, K; and Lang, G. 1966, P. 126). فعلى سبيل المثال حين تقرر وسيلة اتصالية ما ان قضية ما من القضايا "كالإرهاب" مثلا، هي قضية مهمة، أو أن شخصاً ما هو شخص "إرهابي"، أو أن مطربة ما من المطربات هي مطربة "مهمة" فإنها تعطيها مساحة أو تغطية واسعة وتخصص لها وقتاً كافياً في عروضها وتكرّر ذلك بشكل دائم، حتى تبدو تلك القضية، كما يقول أصحاب هذا المدخل، قضية هامةلدى الجمهور الذي يتعرض لتلك الوسيلة الاتصالية، وتكتسب عندهم أولوية من أولوياتهم.
وعلى الرغم من الانتقادات التي وجهت الى هذا المدخل،الا انه أسهم في تعميق الفهم لذلك الدور الذي تمارسه وسائل الاتصال الجماهيرية في التأثير على الافراد، وبخاصة التأثير على المدى البعيد.
ب. مدخل التثقيف أو الغرس الثقافي (Cultivation Approach)
يعتبر هذا المدخل تطبيقاً للافكار الخاصة بعمليات بناء المعاني وتشكيل الحقائق الاجتماعية والتعلم بالملاحظة، والأدوار المنسوبة الى وسائل الاتصال في هذه العمليات؛ حيث ينسب دعاة هذا المدخل الى هذه الوسائل دوراً واضحاً وملموساً في ذلك. (محمد عبد الحميد 1997).
وقد قام الباحثون من التأكد امبريقياً من هذا الادعاء، فقاموا بدراسات ميدانية امتدت لسنوات طويلة، استمرت في الواقع طيلة الستينيات والسبعينيات حول قدرة هذه الوسائل على تشكيل المعاني والمعتقدات والصور الرمزية حول قضية شغلت المجتمع الامريكي في تلك السنوات، وهي قضية الجريمة والعنف الذي ساد ذلك المجتمع في تلك الفترة. (DeFleur, M, and Pall – Rokeach, S, 1989).
وقد قادتهم دراساتهم الى نتيجة مفادها ان تعرض الفرد المتكرر للتلفزيون ولفترات طويلة ومنتظمة تنمي لديه اعتقاداً بأن العالم الذي يشاهده هو صورة عن العالم الاجتماعي الذي يعيشه (Becker, S; 1987).
وهكذا فإن هذا المدخل يرى ان وسائل الاتصال تؤثر بشكل قوي على ادراك الافراد للعالم الخارجي وتبني لديهم اعتقادات خاصة حول طبيعة هذا العالم، وخاصة اولئك الذين يتعرضون لهذه الوسائل بشكل مكثف ولمدة طويلة من الزمن. وعليه فإن الصور الذهنية التي يحملها هؤلاء الافراد في رؤوسهم ما هي إلا نتيجة لهذا التكرار.
وتؤكد هذه الدراسات ايضاً أن تأثير التلفزيون كوسيلة اتصالية فاعلة ومؤثرة في تكوين هذه الصور الرمزية عن العالم الاجتماعي،إنما هوتأثير يتم على المدى الطويل، أي أنه يحتاج إلى فترة طويلة حتى تظهر آثاره من خلال عملية تراكمية ممتدة زمنياً، كما أنه تأثير غير مباشر على الأفراد، وغير متجانس أيضاً في قوته على الجميع (محمد عبد الحميد، 1997)؛ فتأثيره على الصغار يكون أقوى منه على الكبار، ذلك لأن الصغار لم تتكون لديهم القدرة على التمييز بين الحقيقة والخيال؛ ويكون تأثيره على الصغار في الأسر المفككة أقوى من تأثيره على الاطفال في الاسر المتماسكة.
ج- مدخل الاعتماد على وسائل الاتصال ( Dependency Approach)
يتناول هذا المدخل وسائل الاتصال باعتبارها أنظمة اجتماعية (Social Systems) ذات طبيعة تفاعلية مع الأنظمة الأخرى الموجودة في المجتمع (كالنظام الاقتصادي والسياسي). وقد أضاف هذا الفهم لطبيعة العلاقة بين وسائل الاتصال والأفراد بعداً جديداً ومهماً لم يلتفت إليه الباحثون في السنوات السابقة مطلقاً.
إن النظر إلى وسائل الاتصال بوصفها أنظمة اجتماعية تتداخل مع الأنظمة الأخرى الموجودة في المجتمع، وتحديد طبيعة هذا التداخل والتفاعل بينها، هو الذي يقرر مدى قوةالتأثير الذي تحدثه هذه الوسائل أو ضعفه من جهة، أوتجعل منه تأثيراً مباشراً أو غير مباشر على الأفراد سواء، أكان قصير المدى أم بعيده، من جهة أخرى (McQuail, D, 2000).
ويذهب دوفلور، بوصفه أحد أقطاب هذه النظرية والمدافعين البارزين عنها، إلى القول بأن فهمنا لطبيعة التأثير، ومستواه وقوته ومداه سيستعصي علينا، ما لم نستطع تحديد الاعتماد المتبادل (Interdependent) بين كل من مؤسسة الاتصال الجماهيرية،باعتبارها نظاماً اجتماعيا،ً وبين النظام السياسي والاقتصادي في المجتمع، وبين الجمهور.
وأما فيما يتصل بعلاقة النظام السياسي بالمؤسسة الإعلامية، فهو، في الواقع، يلجأ إليها لتساعده في نشر سلطته، وفرض هيمنته، والترويج لأفكاره ومبادئه في المجتمع؛ في حين نجد أن النظام الاقتصادي يلجأ إليها لدوافع أخرى تكمن في قدرتها على الترويج لمشاريعه الضخمة والإعلان عنها. ولا توجد مؤسسة أخرى، كما يقول دوفلور، ويؤيده في ذلك الباحث هربرت شيللر، بمقدورها القيام بهذا الدور بفاعلية كالمؤسسة الاتصالية التي لا تستغني هي الأخرى عن دعم هذين النظامين لها وحمايتهما السياسية والمادية لها في ترويجها ونشرها لمنتجها الثقافي والمعرفي (Defleur, M, and Pall – Rokeach 1989,Schiller, H. 1974, 1992).
وأما فيما يتعلق بالاعتماد المتبادل بين المؤسسة الاتصالية والجمهور، فيرى دوفلور أن الجمهور لا يستطيع الاستغناء عن هذه المؤسسة أيضاً، فهي التي تزوده بالمعرفة والمعلومات والأخبار بكافة أشكالها وأنواعها محلياً وخارجياً، وهي التي تعمل على توجيه سلوكه وتفاعله وطريقة تعامله مع المواقف الطارئة من خلال ما تقدمه له من معارف ومعلومات وخبرات، وهي أيضاً التي تعمل على ترفيهه وتسليته ليروّح عن نفسه عناء التعب اليومي في مجتمع رأسمالي لا يرحم.
ويؤكد دوفلور هنا، أنه على الرغم من وجود مؤسسات أخرى في المجتمع تقوم بتحقيق هذه الحاجات والأهداف للفرد ( كالأسرة والأصدقاء وبعض الاتحادات والجمعيات التي ينتمي إليها الفرد.... الخ)، إلاّ أن اعتماد الفرد على المؤسسة الاتصالية في المجتمع المعاصر في تحقيق ذلك يفوق أي اعتماد آخر. فهذه المؤسسة هي التي تسيطر على مصادر المعلومات التي يحتاجها الفرد في حياته اليومية أكثر من غيرها، الأمر الذي يجعل الإعتماد عليها أمراً ضرورياً لا يمكن الاستغناء عنه. ونظراً لتباين الافراد واختلافهم في اهدافهم ومصالحهم وحاجاتهم فانهم، كما يقول دوفلور، يختلفون في درجة اعتمادهم على هذه المؤسسة.
ويقدم دوفلور نموذجاً دقيقاً لفهم طبيعة تأثيرات المؤسسة الاتصال الجماهيرية، بوصفها نظاماً اجتماعياً متداخلاً ومترابطاً مع أنظمة أخرى في المجتمع. ويقوم هذا النموذج على فهم دقيق لثلاثة عناصر متداخلة هي:
1-طبيعة البناء الاجتماعي للمجتمع الذي تعمل فيه المؤسسة الاتصالية.
2-طبيعة الأفراد من حيث مدى اعتمادهم على هذه المؤسسة في تزويدهما لهم بالمعرفة والمعلومات الضرورية في حياتهم.
3- طبيعة المعلومات نفسها التي تقدمها المؤسسة الاتصالية للأفراد.
وإذا ما تمكنا من تحديد طبيعة الاعتماد المتبادل بين هذه النظم الثلاثة، استطعنا، كما يقول دوفلور، تحديد نوع التأثير الذي ستحدثه هذه المؤسسة على الأفراد سواء أكان وجدانياً، أم معرفياً أم سلوكياً، واستطعنا كذلك تحديد مستوى قوته أوضعفه وتمكنا أيضاً من تحديد مدى قوة هذا التأثير سواء أكان قصير الأجل أم بعيده.(Delfeur, M, and Pall – Rokeach, S 1989, McQuail, D, 2000).
لقد سيطر هذا المنظور الجديد، والفهم الدقيق في تفسير طبيعة العلاقة بين وسائل الاتصال والجمهور على تفكير العديد من الباحثين، ليس فقط في السبعينيات بل في السنوات التي تلت ذلك، وهي السنوات التي شهدت زخماً هائلاً في بحوث تأثير وسائل الاتصال وبخاصة التلفزيون باعتباره القناة الأكثر جاذبية وجدلاً في حقيقة تأثيراتها على الجمهور.
ولابد من التأكيد هنا، على مدى تأثر البحوث والدراسات الاتصالية في هذه المرحلة من مراحل تطور التفكير الاجتماعي بمسالة طبيعة العلاقة بين وسائل الاتصال الجماهيرية والجمهور بالجدل المحتدم آنذاك بين الماركسيين وأصحاب الاتجاه التعددي في العلوم الاجتماعية (Pluralists) حول مسألة ملكية وسائل الإنتاج (Ownership) وطبيعة الضبط (Control) الذي يمارسه مالكو هذه الوسائل على طبيعة محتوى الإنتاج الثقافي والمعرفي لها.
وفي هذا الصدد يرى بعض المنظرين الماركسيين، وفي طليعتهم ميليباند، (Miliband) بأن مالكي المؤسسة الاتصالية (Media Owners) – بصفتها مؤسسة إنتاج معرفي وثقافي – يمارسون قوة هائلة في التأثير على الجمهور من خلال تدخلهم المباشر في تقرير شكل المنتج وطبيعته. (Miliband, R, 1969). في حين يرى بعضهم الآخر، وبخاصة بيتر جولدنج وجراهام ميردوك، أن هؤلاء المالكين لا يتدخلون بشكل مباشر في طبيعة المحتوى المعرفي والثقافي لهذه المؤسسة، وإنما يمارسون تأثيرهم من خلال المديرين الذين يعينونهم لينوبوا عنهم في تنفيذ سياساتهم وتوجهاتهم الأيديولوجية (Golding, P, and Murdock, G, 1991).
وأما ذووالاتجاه التعددي، فلهم وجهة نظر مخالفة لوجهة نظر الماركسيين في هذه المسألة؛ إذ يرون أن تأثير مالكي المؤسسة الاتصالية في تقرير شكل الرسائل الاتصالية المنتجة ومحتواها هوتأثير ضعيف للغاية. فالدور الأكبر والأقوى في صناعة هذا المنتج إنما يعزى للجمهور نفسه وليس لهؤلاء المالكين. إنّ طلبات الجمهور وحاجاته ورغباته (Audience Demands)، هي التي تتحكم بهذا المنتج وبهذه الرسائل الاتصالية، وإن لم تستجب هذه المؤسسة لهذه الحاجات، فإنها، برأيهم، ستتعرض للإفلاس والانهيار. (Whale, J, 1977).
واعتماداً على ما سبق،يمكن القول بأن نظرية التأثير المعتدل لوسائل الاتصال الجماهيرية على الأفراد، بنماذجها المتعددة، كانت قد سيطرت على الفكر الاجتماعي بهذه المسألة طيلة فترة الستينيات والسبعينيات، وتمثل بداية جديدة ونقطة انطلاق مهمة في النظر الى مسالة تأثير هذه الوسائل عليهم. فهي بتأكيدها عليهم. على ضرورة التعامل مع وسائل الاتصال الجماهيرية باعتبارها نظماً اجتماعية ذات طبيعة اعتمادية - تفاعلية مع النظم الاخرى الموجودة في المجتمع، كالنظام الاقتصادي والسياسي، يصعب فهم وظائفها وأدوارها دون تحليل عميق لطبيعة هذه التبادلية، تكون قد مهدت لبروز اتجاه جديد في الدراسات الإتصالية يركز على البعد الإجتماعي والإقتصادي والسياسي في فهم عمل المؤسسة الأتصالية.
وهكذا يمكن الاستنتاج من الاستعراض التاريخي السابق لنظريات تأثيرالاعلام ووسائل الاتصال الجماهيرية عدم توصلها إلى إجابات شافية ونهائية في البت في مسألة التأثير الذي تحدثه هذه الوسائل ، على الرغم من بعض الأفكار والافتراضات والمفاهيم الجديدة التي قدمتها بعض المداخل / النماذج في دراسة هذه المسألة.
نظريات وسائل الإعلام: الأبعاد الاجتماعية والسياسة والاقتصادية
كيف يمكن أن نفهم أسباب ودوافع تصنيع وسائل الإعلام والاتصال الجماهيريةللخوف والذعر؟ ذلك بالنظام السياسي والاقتصادي والثقافي؟
يجمع الكثير من المفكرين العاملين في العلوم الاجتماعية،وبخاصة المهتم منهم بالإنتاج المعرفي والثقافي للمؤسسة الإعلامية، أنه يتعذر علينا فهم طبيعة هذه المضمون دون ربطه بالنظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي تعمل فيه هذه المؤسسة. وقد قدم الباحثون في هذا الصدد العديد من النظريات ، سنقوم باستعراض لأهم الافتراضات والمسلمات التي استندت إليها كل نظرية منها في محاولتها فهم طبيعة المضمون الثقافي والمعرفي للمؤسسة الإعلامية.
1-نظرية المجتمع الجماهيري:
تستند هذه النظرية في تفسيرها لمضمون المؤسسة الإعلامية إلى عدة افتراضات أو مسلمات تتعلق في معظمها بفهمها لطبيعة الجمهور المتلقي لهذا المحتوى؛ إذ يرى المدافعون عنها (ميلز، وكرونهاوسر، وبراسون، ويل) أن الجمهور المستهلك للمادة الثقافية لهذه المؤسسة هو جمهور كبير ومتنوع الثقافات ومختلف الميول والاتجاهات ولا تربطه ببعضه أية روابط. فهو من هذا المنطلق "فريسة سهلة الصيد" للقائمين على المؤسسة الإعلامية وبخاصة في المجتمعات الصناعية المعقدة البناء الاجتماعي.( McQuail,2000 ).
وأما فيما يتعلق بوظيفة المضمون الذي تقدمه المؤسسة الإعلامية، فانه يخدم بالدرجة الأولى مصالح القوى السياسية والاقتصادية في المجتمع؛ وعليه فإن المدافعين عن هذه النظرية يولون أهمية خاصة لهذه المؤسسة لأنها، برأيهم، أقوى المؤسسات دون منازع، في المحافظة على النظام الاجتماعي القائم؛ فما هذه المؤسسة سوى جزء لا يتجزأ من النظام القائم في المجتمع. وهنا تكمن أهميتها وهو إخضاع الأفراد لسلطة هذه النظام القائم.( المرجع السابق)
وأما كيفة عمل هذه المؤسسة، فيرى المدافعون عنها، بأنها تقوم بتزويد أفراد المجتمع برؤية محددة للعالم، غالبا ما تكون رؤية مضللة، فما وسائل الإعلام سوى أدوات تضليل بالغة القوة والتأثير في يد القوى السياسية والاقتصادية. وفي هذا الصدد يذهب هربرت شيللر ليؤكد الدور التضليلي الذيس تمارسه المؤسسة الإعلامية في المجتمعات الرأسمالية؛ إذ نجده يقول في مقدمة كتابه الشهير (المتلاعبون بالعقول):
" يقوم مديرو أجهزة الإعلام في أمريكا بوضع أسس عملية تداول "الصور والمعلومات" ويشرفون على معالجتها وتنقيحها وإحكام السيطرة عليها، تلك الصور والمعلومات التي تحدد معتقداتنا ومواقفنا، بل وتحدد سلوكنا في النهاية. وعندما يعمد مديرو أجهزة الإعلام إلى طرح أفكار وتوجهات لا تتطابق مع حقائق الوجود الاجتماعي، فإنهم يتحولون إلى سائسي عقول. ذلك أن الأفكار التي تنحو عن عمد إلى استحداث معنى زائف، وإلى انتاج وعي لا يستطيع أن يستوعب بإرادته الشروط الفعلية للحياة القائمة أو أن يرفضها، سواء على المستوى الشخصي أو الاجتماعي، ليست في الواقع سوىأفكار مموهة أو مضللة. إن تضليل عقول البشر، على حد قول باولو فرير، أداة للقهر " إنه يمثل إحدى الأدوات التي تسعى النخبة من خلالها إلى تطويع الجماهير لأهدافها الخاصة". (شيللر، 1986 ص5).
2-النظرية السياسية الاقتصادية لوسائل الإعلام:
يذهب المدافعون عن هذه النظرية وبخاصة (جرهام ميردوك وبيتر جولدنج) إلى القول بأن المؤسسة الإعلامية هي في الأصل مؤسسة اقتصادية منغمسة في إنتاج سلع اقتصادية وهي مضامين المواد الإعلامية، وترتبط هذه المؤسسة ارتباطا وثيقا بالنظام السياسي؛ لذا؛ فإن المنتج المعرفي لهذه المؤسسة والمخصص للاستهلاك في غالبيته، كما يقول أهم المدافعين عن هذه النظرية وهو جرنهام، يمكن عزوه إلى تحقيق المصالح الاقتصادية المباشرة للمالكين وصناع القرار في المؤسسة الإعلامية والمتمثلة بشكل رئيسي في الحاجة إلى الربح في العمليات الاقتصادية.((Garnham, 1979 .
3- نظرية الهيمنة:
خلافا للنظرية السابقة التي تولي أهمية خاصة للبنى الاقتصادية للمؤسسة الإعلامية، وبشكل أكثر دقة ملكية هذه المؤسسة والسوق الذي تعمل فيه، فإن أصحاب هذه النظرية يهتمون اهتماما رئيسيا بالدور الأيديولوجي الذي تقوم به المؤسسة الإعلامية؛ حيث يرى غرامشي، والتوسير، وستيوارت هول، أن نشر وسائل الإعلام لأيديولجيا الطبقة الحاكمة بالمجتمع بين الأفراد هي المهمة الأولى لهذه المؤسسة ( 2000 (McQuail,. وتشكل الأيديولوجيا باعتبارها شكلا من أشكال التعريف المشوه للحقيقة، وانعكاس للعلاقات الطبقية، وأشكال التعبير عنها وطرق صياغتها في معايير ورموز ودلالات، إضافة إلى الوسائل التي تحقق لها الديمومة والاستمرارية والنجاح في إبقاء الأفراد خاضعين لهيمنة الطبقة الحاكمة، الاهتمام الرئيسي لهذه النظرية (Hall,1980)
4-النظرية الثقافية:
يعود الفضل في تطور هذه النظرية وبلورتها إلى إتجاه متماسك في الدراسات الاعلامية إلى تلك الجهود التي بذلها فريق مركز الدراسات الثقافية المعاصرة في مدينة بيرمنجهام في بيريطانيا (Centre for Contemporary Cultural Studies) الذي يتزعمه ستيورات هول ودورثي هوبس وأندرو لوي وبول وليس (Hall,S,Hobson, D, and Willis, P. 1980).
ويتميز هذا الإتجاه في الدراسات الإعلامية بفهم المضامين الثقافية التي تقدمها المؤسسة الإعلامية، وبخاصة الثقافة الجماهيرية، والإطار الإجتماعي الذي يتم فيه إنتاج هذه المضامين واستهلاكها في المجتمع. وفي هذا الصدد يقول هول في دفاعه عن أهمية هذا الإتجاه، وضرورته في الدراسات الإعلامية ما يلي: "أنه يعطي الثقافة والعمليات التثقيفية دوراً أساسياً في المجتمع، على عكس كثير من النظريات المادية التي تعطيها دوراً هامشياً ومحدداً. ففي كثير من هذه النظريات المادية يُنظر إلى الثقافة بأنها وعاء يعكس الترتيبات الإقتصادية والمادية في المجتمع. والتعريف المعطى للثقافة هنا يؤكد أن الثقافة متداخلة في كل الأنشطة الإجتماعية، وأن هذه الأنشطة الإجتماعية تعتبر هي بدورها، أحد أبرز أشكال النشاط الإنساني العام" (. Hall,S. 1980). ويعارض الإتجاه النظري هنا النظر إلى الثقافة بمنظور العلاقة بين البنية الفوقية الفكرية، والبنية التحتية المادية والإقتصادية، حيث تُصور الثقافة على أنها جزء من النظام الفكري الذي يتحكم فيه بشكل حتمي النظام الأقتصادي المادي للمجتمع. ويُعرّف هذا الإتجاه الثقافة على أنها تمثل كلاً من الوسائل والقيم التي تتبعها الجماعات والشرائح والطبقات الإجتماعية المختلفة – طبقاً لعلاقاتها وظروفها التاريخية، للمعايشة والتعامل والإستجابه مع واقع حياتها. ( المرجع السابق)
وهكذا يتضح من هذا الفهم لمعنى الثقافة، أن مؤسسي الأتجاه الثقافي في الدراسات الإعلامية، إنما يركزون اهتمامهم، بشكل رئيسي، على تحليل المضامين الإعلامية (الرسائل)، بهدف استخراج المعاني الضمنية لهذه الرسائل، وكشف حقيقة انتظام هذه المعاني فيها من جهة، وعلى استجابات الجماعات الإجتماعية على هذه المعاني من جهة أخرى. ويبدو، كما يقول دينس ماكويل، أن هناك أتفاقاً بين معظم المؤيدين لهذا الإتجاه على أن فهم العملية الثقافية يتطلب فهماً لعمل القوى المادية التاريخية في المجتمع، وعلى أن فهم القوة المادية يتطلب فهماً لدور الثقافة في المجتمع، (ماكويل، 1992).
5 ـ البنائية الوظيفية:
راجت هذه النظرية في الستينيات والسبعينيات ولا تزال تلقى قبولا واسعا لدى بعض العاملين في العلوم الاجتماعية، على الرغم من الانتقادات اللاذعة التي وجهت إلى مرتكزاتها النظرية وتوجهاتها الايديولوجية.
تقوم المؤسسة الاعلامية، كما يرى أحد أهم المفكرين المدافعين عن هذه النظرية وهو ميرتون،بوظائف عديدة في المجتمع أهمها إشباع حاجات محددة لأفراده ، والعمل على توفير التضامن والتكامل الداخلي بين أفراد المجتمع، إضافة إلى قيامها بوظيفة اشباع المتطلبات والحاجات الفردية ( المرجع السابق).
6 ـ نظرية ما بعد الحداثة
يزعم مفكرو ما بعد الحداثة أن المسلمات والافتراضات التي قامت عليها النظريات الاجتماعية السابقة لم تعد تصلح لتفسير التغيرات التي تشهدها مجتمعات ما بعد الحداثة وما تزال تشهدها.فهي نظريات كانت صالحة لتفسير المجتمعات ذات النظام الرأسمالي الصناعي؛ أما المجتمعات المعاصرة فقد طرأت، تغيرات جوهرية، برأيهم، على أبنيتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية لم يعد يصلح في تفسيرها تلك النظريات الكلاسيكية السابقة .
إن أهم ما شهدته المجتمعات المعاصرة، برأي هؤلاء المفكرين ، هو ظهور وسائل الاتصال الالكترونية الحديثة ؛ فهذه الوسائل هي السمة الأبرز لهذه المجتمعات ، وهي في الوقت نفسة هي المسؤلةعن نقل هذه المجتمعات إلى مرحلة ما بعد الحداثة. فوسائل الاتصال الالكترونية الحديثة ، وليس الاقتصاد كما زعم الماركسيون، أو النهج العقلاني كما توهم الفيبريون ،هي التي تشكل عصب الحياة في المجتمعات المعاصرة، وهي التي تتحكم في مجريات الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية لأفراد هذه المجتمعات( غيدنز، 2005 ، ص.717) .
فهذا المفكر الفرنسي ، ما بعد الحداثي ، جان بودريار (Baudrillard) يرى ان وسائل الاعلام والاتصال عملت على تغيير جوهري غير مسيوق في حياه الناس ؛ حيث أدى التطور المذهل في صناعة الاتصال الجماهيري الى تحولات عميقة وجذرية في طبيعة حياتنا . فالتلفاز على سبيل المثال ، كما يقول بودريار " لا يعرض لنا العالم " أو يعكسه أو يمثله ، بل إنه "اصبح بصورة متزايده يحدد ويعيد تعريف ماهية العالم الذي نعيش فيه "( كما وردت في غيدنز 2005 ص512). ويمضي بودريار ليوضح دور هذه الثقافة الحديثة في تغيير مجرى حياة البشرية: "إن نظرة سريعة إلى الوقائع التي ينقلها التلفاز للافراد والمجتمعات في جميع انحاء العالم بمختلف تفصيلاتها ومواطن الاثارة والمبالغة فيها، مثل الحروب والمجاعات والمحاكمات والمطاردات ، ستؤكد لنا أن التلفاز إنما ينقل لنا "عالم الواقع المفرط ". فالعالم الحقيقي لم يعد موجوداً بالفعل بل استيعض عنه بما نشاهده على شاشات التلفاز من مشاهد وصور وأحاديث وتعليمات " (كما اقتبست في غيدنز 2005 .ص513)
ويرى بودريار، أيضا ، أن وسائل الاعلام والاتصال الالكترونية الحديثه باتت تتغلغل في كل منحى من مناحي حياتنا اليومية وتهيمن على افكارنا وقيمنا وعالمنا كله ، حتى بدت حياتنا تنحل وتذوب في إطارات شاشات التلفزيزن ( المصدر السابق.ص717).
ويشاطر بودريار نظرته للدور الحيوي الذي تعلبه وسائل الاتصال الالكترونية وانتشارها في كل جانب من جوانب حياتنا ، وقدرة هذه الوسائل على التغلغل في كل مكان ، مفكر اخر من مفكري ما بعد الحداثه وهو جون تومسون. اذ يرى تومسون أن وسائل الاعلام منذ بداية عصرالطباعة والمطابع حتى الاتصالات الالكترونيةقد قامت بدور مركزي في نمو المؤسسات الحديثة.ولكن لسوء الحظ ، كما يقول ،لم يبد مؤسسو علم الاجتماع الأوائل، اهتماما كبيرا بهذا الدور في تشكيل المجتمع الحديث (1995 Thompson,).
وأما المفكر هابرماس فانه يولي وسائل الاعلام أهمية خاصة في المجتمعات المعاصرة وبخاصه في عمله الشهير "نظرية الفعل التواصلي " وكذلك في مناقشاته لما يسمية "المجال العام" (Public sphere) .يقدم هابر ماس تحليلا واسعا لنمو وسائل الاعلام والاتصال الجماهيرية منذ أوائل القرن الثامن عشر حتى عصرنا الراهن،ويتتبع نشوء "المجال العام " ثم انحطاطه وهبوطه .اذ نجده يؤكد على أن انتشار وسائل الاعلام الجماهرية وسطوة صناعة الترفيه الجماهرية كان قد أدى الى تشويه طبيعة "المجال العام" الى حد بعيدة (غيدنز 2005.ص512). ومع ذلك ، فانه بوسع الثورة الاعلامية ،كما يقول ، ان تسهم اسهاماً جوهرياً في تنمية التوجيهات والممارسات الديمقراطية ورغم ان التلفاز والصحافة والانترنت تخضع لاعتبارات ومصالح تجارية ان جانبا كبيراً من انشطتها كما يقول ، تفتح مجالات واسعة لتنمية المناقشات والحورات المفتوحة .(المصدر السابق ص726-727 ) .
ومن علماء الاجتماع البارزين في مرحلة ما بعد الحداثه والذي أولى تأثيرات الثورات التقانيه في مجالات الاعلام والاتصال