رؤى وتصورات حول برامج
إعداد المعلمين في الوطن العربي
د. عبد العزيز بن عبد الله السنبل
نائب المدير العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم
ورقة عمل مقدمة للمؤتمر الدولي
حول إعداد المعلمين
كلية التربية ـ جامعة السلطان قابوس
مسقط ـ 1 – 3 مارس 2004
مقدمة
لعل من أهم سمات العصر الراهن، التغير المتسارع في كل مجالات الحياة. إلا أن التسارع الذي طال مجال إنتاج المعرفة الإنسانية والتطبيقات التكنولوجية المترتبة عنها، لم يعد خافيا عن أحد بحيث أدى تنامي إنتاج المعارف إلى ما أصبح يعرف بـ " الثورة المعرفية " أو " الانفجار المعرفي ".
يقول م. فابر (M. Fabre) في هذا الخصوص : " يتسم المجتمع ما بعد الصناعي فعلا بتطور يجعل من النشاطات العقلية في معناها الواسع، عنصرا لرأس المال يسمح باستثمار في مجال الابتكار وإنتاج المعارف ذي " قيمة مضافة " و" فائض للقيمة ". من انعكاسات ذلك أن أصبحت المنافسة بين دول العالم اشد حدة من تلك القائمة بينها في المجالات الاقتصادية التقليدية (1، ص 75).
ومما يزيد المسألة خطورة، أن المعرفة المنتجة سريعا ما تتقادم لتحل مكانها معرفة من نوع أرقى، من ذلك أن بعض الابتكارات التكنولوجية تصبح متخلفة حتى قبل بلوغها طور الاستخدام، وهذا يؤدي إلى تزايد حاجة المجتمعات إلى المخترعين والمنتجين للمعرفة، وإلى خصوبة الخيال لمواكبة إيقاع التطور المعرفي الراهن، ذلك لأن المعلومات والمهارات والقدرات والكفايات، أصبحت اليوم أكثر ضرورة لبقاء الأمم. فالسوق العالمي لم يبق سوق المنافع والخدمات فقط، بل سوق الأفكار أيضا، تلك الأفكار التي سرعان ما يتجاوزها الزمن ويتحتم تجديدها باستمرار (2، ص 7).
إن وظيفة التعليم ودور المعلم وأداءه وانتظارات المجموعة منه، ينبغي أن ينظر إليها نظرة جديدة في بداية الألفية الثالثة، فقد أصبحت المجموعات البشرية المتطورة ترغب في نوع جديد من المدارس يتوافق أكثر مع الثورة التكنولوجية والمعلوماتية الهائلة التي عرفتها المجتمعات الصناعية.
فالحديث اليوم يدور عن المدرسة ذات الفصل العالمي (Ecole de classe mondiale) وعن المقاصد والأهداف الاستراتيجية لتكوين مهنيين في التعليم، وعن مجتمع المعرفة. حيث يشكل أولئك الذين يتصرفون في المعلومة لحل المشاكل القائمة وتقديم الخدمة العناصر الأكثر أهمية في القوى النشيطة. وفي هذا المحال بالذات، برزت على السطح فلسفة جديدة للتربية والتكوين تؤكد على جملة من الأسس من أهمها :
1. ضرورة العمل على نشر ثقافة الامتياز ومحفزات التعليم مدى الحياة.
2. النهوض بمجموعة مترابطة من المسارات والعلاقات بين التربية والشغل والتعليم ما بعد الدراسة وأثناء الخدمة. وجاء التأكيد في هذا الخصوص على ضرورة التنسيق بين المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، وبين البنى الجديدة المستنبطة التي قد توفر إمكانات التعليم المستمر والتكوين المنفتح على آفاق ثقافية ومهنية جديدة طوال الحياة.
3. الدخول في شبكة من العلاقات والمؤسسات عن طريق التكنولوجيات الحديثة في الاتصال والإعلام توفر حظوظ الارتقاء إلى أفضل البرامج وأحدث الطرق في التعليم والتعلم على مستوى كوني.
4. إيجاد معايير محددة وضوابط دقيقة للنهوض بجوانب التكوين لأطر التدريس وتدعيم المهارات والاقتدارات الضرورية لممارسة المهنة واستنباط قواعد وتقنيات مستحدثة لتقييم المردود وتحسين الأداء.
كل ذلك يدعو إلى إعادة النظر في أهداف التربية المدرسية وبالتالي في دور المعلم باعتباره من أهم عناصر المنظومة التربوية، ذلك لأن إعداد الناشئة للانخراط في عالم اليوم يتطلب منه أن يكون وسيطا بين التلاميذ والمعرفة، وأن ينمي لديهم روح المبادرة والاستقلالية فكرا وفعلا، ويكون لهم مساعدا على امتلاك المعلومات وتوظيف مختلف الوسائل والأدوات الموصلة إليها.
كما أن مما يزيد أدوار المعلم تعقيدا، تزايد أعداد التلاميذ وتباين مستوياتهم في الصف الواحد، وهذا يتطلب منه تنويع الطرائق والتقنيات البيداغوجية استجابة لحادات المعلمين النوعية ومراجعة أساليب التقويم لتحديد صعوبات التعلم بدعة، واستنباط أشكال التدخل الضامنة للتطور المنشود.
إن ضرورة تكوين أجيال من المبتكرين المنتجين للمعارف يجعل التربية ذات أولوية على التعليم. ومما يزيد تأكيدا على هذا التوجه ذي الطابع الكوني فيما يتعلق بالمجتمعات المتطورة خصوصا مطالبة المعلم إلى جانب مهماته التعليمية، أن يستجيب لحادات التلاميذ العاطفية والوجدانية نتيجة لتطور العوامل الاجتماعية تبعا لحصول المرأة على بعض حقوقها، وانخراطها في عالم الشغل خارج المنزل. فأصبحت الأسرة بذلك أقل تفرغا من ذي قبل للمهمات التربوية التي أنيط بجانب منها إلى المدرسة وإلى المعلم بشكل مباشر.
هذا، ولا يفوتنا في هذا المجال ما أفرزته الدراسات السيكولوجية والبيداغوجية من مؤشرات تدل على أهمية الفروق بين المتعلمين فيما يتعلق بحاجاتهم النفسية والتعلمية، وأساليبهم المعرفية والحافزية، وبالتالي مدى الصلة بين الاستجابة لتلك الحاجات والتمايزات من جهة، وفعالية التعليم أي دور المعلم في مردودية العملية التعليمية من جهة أخرى.
لم يعد خافيا اليوم عمن يهمه شأن التربية والتعليم تعقد دور المعلم وتعدد أبعاد ذلك الدور، رغم بروز نماذج تعليمية عديدة كالتعليم باستخدام الحاسوب، والتعليم عن بعد، وغيرهما من الأساليب التي قد توحي بتناقص حادة المجتمعات ا لحديثة للمعلمين. إلا أن التكنولوجيا الحديثة بدلا من أن تعوض المعلم كليا، فهي على العكس من ذلك سوف تحرره من بعض مظاهر دوره التقليدية حتى يتفرغ إلى التنشيط والتوجيه، وبناء الاتجاهات المساعدة على التعلم الذاتي وإضفاء بعد إنساني أوضح على صلة الطلاب بالمعرفة، وبذواتهم، وبالآخرين (3، ص 11 – 12). إنه من مفارقات هذا العصر أن نشهد إلى جانب تعدد انتظارات المجتمعات إزاء المعلم، وتعقد الأدوار المتوقعة لديه، تدنيا ملحوظا لمكانته الاجتماعية وتناميا للاتجاه الناقد لعمله الآتي من أطراف عديدة كأولياء الأمور والمؤسسة التربوية والمجتمع عموما، حيث يحمل مسؤوليات شتى تتعلق بسلوك الناشئة واتجاهاتها وثقافتها كما لو كان العامل الوحيد المؤثر في ذلك.
في هذا الخصوص، تشير دراسات عديدة إلى الظروف الصعبة التي يعمل فيها المعلم في العالم عموما وفي الوطن العربي على وجه الخصوص، وتدني صورته الاجتماعية مما يجعله غير قادر على مواجهة الرهانات الماثلة أمامه. ولعل ذلك مما يفسر ولو جزئيا ظاهرة عزوف الشباب العربي عن هذه المهنة، والبحث عن بدائل لها تحقق لهم الدخل الأوفر والمعاناة الأهون (14، ص 16).
أهداف الدراسة :
تسعى هذه الدراسة إلى تحقيق الأهداف التالية :
1. التعرف على السمات الرئيسية لمجتمع المعرفة.
2. تحديد المتطلبات التربوية لمجتمع المعرفة.
3. مكانة المعلم في مجتمع المعرفة.
4. وضع تصور مقترح لتكوين المعلم في مجتمع المعرفة.
أهمية الدراسة :
تنبثق أهمية الدراسة من أنها تتناول موضوعا حيويا يعد حجر الزاوية في إصلاح المنظومة التعليمية، ألا وهو موضوع إعداد المعلمين. وتنبثق أهمية الدراسة من طرحها لموضوع التعليم عن بعد كخيار استراتيجي ينبغي استثماره في مجال إعداد وتدريب المعلمين في الوطن العربي
أسئلة الدراسة :
في ضوء مشكلة الدراسة الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها، صيغت أسئلة الدراسة كما يلي :
1. ما السمات الرئيسية لمجتمع المعرفة ؟
2. ما المطالب التربوية لتحقيق مجتمع المعرفة العربي ؟
3. ما الأدوار الجديدة للمعلم العربي لكي يسهم في بناء مجتمع المعرفة ؟
4. ما المقومات الأساسية لإعداد المعلم وتدريبه في مجتمع المعرفة ؟
أولا : السمات الرئيسية لمجتمع المعرفة :
حتى عهد قريب، كان التطور النسبي التدريجي هو السمة العامة والسائدة لحياة الإنسان في هذا الكون، كانت حياته عبارة عن سلسلة من الأحداث المتلاحقة، كل منها تعتمد على ما قبلها وتؤدي إلى ما بعدها، وكان حاضره امتدادا طبيعيا لماضيه، وطريقا ممهدا لمستقبله، وكان من اليسير على المتخصصين توقع ما يمكن أن يكون عليه المستقبل، ومن ثم كان بإمكانهم تحديد أهدافهم وتصميم خطط تنفيذها سواء على المدى القريب أو البعيد. وكانت تتخلل تلك المنظومة الحياتية تغيرات أو تحولات تقدمية في الجانب الاقتصادي أو السياسي ما تلبث أن تؤثر على جوانب الحياة الأخرى لفترة زمنية ما، ثم تعود الحياة إلى ما كانت عليه من استقرار وتطور تدريجي.
إلا أن ما يعيشه الجيل الآلي والأجيال التالية خلال هذه الحقبة الزمنية التي تبدأ مع قرن وألفية جديدة، يختلف كما ونوعا وعمقا عما كانت تعيشه الأجيال السالفة، حيث أننا نعيش تحولات جذرية سريعة ومعقدة وشاملة قد تزداد تعقدا وسرعة بطريقة يصعب ملاحقتها، ومن ثم إدراك أثرها في مختلف المجالات بما فيها النفس البشرية، وما وراء الكون. هذه التحولات بدأت منذ سنوات ولا نستطيع أن نتوقع متى ستنتهي، وإن كانت جميع الأدلة والقرائن تؤكد حتمية استمرارها بدرجة اكثر تعقيدا وعمقا، وفي ذات الوقت لا ندري ما إذا كان من حسن حظ هذا الجيل ومن بعده أو سوء حظهم أن يعيشوا هذه الحقبة التي إذا كانت تشهد تقدما هائلا في النظريات العلمية والمعلومات والأجهزة والوسائل التكنولوجية التي تساعد في إحكام السيطرة على ما يحيط بنا، وتعيننا على معوقات الزمان والمكان، وحل كثير من المشكلات، فإنها تحمل بين طياتها العديد من المشكلات والتحديات التي تصيب الإنسان في أي مكان بالقلق والاغتراب ليس نحو مستقبله فقط، بل نحو حاضره وذاته ومجتمعه الذي يعيش فيه.
إن هذه التحولات والتغيرات الهائلة التي يشهدها العالم في الوقت الحاضر، أدت إلى ما يسمى بمجتمع المعرفة الذي تبرز سماته الرئيسية فيما يلي :
1. أن التغير الذي نعيشه الآن وفي المستقبل ليس مجرد انقلاب أو طفرة في أحد جوانب الحياة ينعكس بدوره على بعض جوانبها الأخرى كما كان يحدث في الماضي، ولكنه بمثابة ثورة جذرية مستمرة شاملة لجميع جوانب الحياة على المستوى المحلي والقومي والعالمي، بل تعدت في توسعها إلى ما وراء العالمية حيث الفضاء الخارجي، وفي عمقها إلى ما بداخل الإنسان ذاته، حيث أنها لم تترك صغيرة أو كبيرة إلا وتعاملت معها بدقة علمية وتكنولوجية عالية.
2. إذا كانت الثورات أو الموجات السابقة قد أعطت الأولوية للاستخدام المكثف لراس المال المادي والعمل والمصادر غير المتجددة للطاقة، فإن هذه الثورة تعتمد أساسا وبقوة على كل ما هو متجدد من هذه المصادر وعلى رأسها العنصر البشري الذي فجر هذه الثورة، وأبدعها، وأصبح صاحب اليد العليا في الهيمنة عليها لتحقيق طموحاته وآماله التنموية، ذلك المصدر المتجدد الذي لا ينضب بل ينمو ويتجدد بسرعة فائقة مقارنة بالعناصر الأخرى من خلال اكتشافه ورعايته، وتنمية قدراته، ومواهبه، واتجاهاته.
3. إذا كانت بعض الدول كالولايات المتحدة الأمريكية واليابان وبعض دول أوروبا قد أخذت مكان الصدارة أو الريادة في الثورة التكنومعلوماتية الحالية، فإن هذا لا يمنع المشاركة الفعالة لكثير من الدول والمناطق الجغرافية في مستقبل هذه الثورة، حيث لم تعد هذه الثورة حكرا على دولة أو منطقة جغرافية معينة،خاصة مع انتشار الاتجاه الذي أطلق عليه الاتجاه بين الدول (Inter-Country Approach) الذي يؤكد عدم إمكانية أية دولة مهما كانت قدرتها الذاتية أن تنفرد بصناعة جميع عناصر المنتج، وسيؤدي هذا بالضرورة إلى تزايد أعداد الشركات والمؤسسات متعددة الجنسيات أو عالمية النشاط التي تمتد بأنشطتها إلى ما وراء الحدود السياسية والجغرافية للدول.
4. أن هذه الثورة تعتمد ـ إلى حد كبير ـ على عامل المعلوماتية من أفكار ومفاهيم ونظريات في مختلف مجالات المعرفة، سواء تلك التي كنا نعرفها من قبل أو التي خرجت علينا فجأة خلال السنوات الأخيرة. وقد أدى هذا التزايد المفرط والمعقد في كم وكيف المعرفة إلى إضفاء صفة المعلوماتية على هذه الثورة، حيث أطلق عليها البعض مجتمع المعلوماتية. وقد أشاد ألفن توفلز بقيمة المعرفة في عالمنا المعاصر والمستقبل بقوله : " ما كان بوسع أي عبقري في السابق أن يتخيل ما تشهده هذه الأيام من منحى عميق في تحول السلطة، أي هذه الدرجة المذهلة التي أصبحت بها القوة والثورة تعتمدان على المعرفة حاليا… المعرفة نفسها ليست المصدر الوحيد للسلطة فحسب، بل أنها أيضا أهم مقومات القوة والثورة " (5، ص 33 – 34).
أما فيما يتعلق بزيادة التعقد والعمق في كم وكيف المعرفة، فقد أكد بعض المفكرين أن المعلومات العلمية تزداد 13 % سنويا، أي أنها تتضاعف كل سبع سنوات، وأن هذه النسبة سترتفع إلى حوالي 40 % بسبب النظم المعلوماتية الدقيقة وزيادة أعداد العلماء وفروع المعرفة والجامعات ومراكز البحوث (6، ص 32).
5. التقدم الهائل والسريع في وسائل الاتصال والمواصلات ونظم نقل المعومات الإلكترونية بين الدول، مخترقة بذلك حدودها السياسية والجغرافية، مختصرة بعدي الزمان والمكان بين مناطق العالم المختلفة، مما دفع كثير من المفكرين والعلماء إلى الاعتقاد بأن هذا العالم المترامي الأطراف تحول في قترة زمنية وجيزة إلى قرية كونية واحدة (Global Village) كل عضو فيها سواء أراد أم أبى عليه أن يؤثر ويتأثر بغيره بطريق مباشر أو غير مباشر، وأصبح مصطلح الكونية أو العولمة هو أكثر المصطلحات ارتباطا بمجتمع الحاضر والمستقبل وأكثر المفاهيم انتشارا. وبناء على ذلك، لا تستطيع أية دولة ـ حكومة وشعبا ـ في هذا العالم أيا كانت وأينما كانت، أن تعيش في عزلة أو انفصام عما يدور حولها من تغيرات وتطورات فكرية وتكنولوجية في مجالات الحياة المختلفة. وقد أدى هذا التحول السريع في وسائل الاتصال ونظم المعلومات إلى تحول كثير من المشكلات من المستوى المحلي والقومي إلى المستوى الكوني ومنها مشكلات، الغذاء، والتلوث، والإرهاب، ونقص المياه وغيرها.
6. تصاحب هذه الثورة التكنومعلوماتية إعادة رسم الخريطة الإيديولوجية والاقتصادية لعالم اليوم والغد، وتحديد المواقع الاستراتيجية عليها، حيث اندثرت تكتلات كان لها الريادة في الثورة الصناعية الثانية (7، ص 9).
7. ولم تقتصر الثورة العلمية والتكنولوجية على العلوم الطبيعية، بل شملت العلوم الاجتماعية والنفسية، فخضعت المجتمعات والثقافات كما خضعت شخصية الإنسان للدراسة والتحليل، واتضحت معالم التطور الإنساني على مستوى الأمم وتعاقب الحضارات، وعلى مستوى الأفراد والشخصيات وزاد الفهم للعوامل المحركة لهذا التطور والقوى المؤثرة فيه.
8. غير أن تسارع تنامي المعرفة وتطبيقاتها الذي نعيشه هذه الأيام يجعلنا نقف مشدوهين أمام عظمة الإنسان ويثير فينا أحاسيس مختلفة من الإعجاب والزهو، فإنه يثير فينا أيضا الرهبة والذهول والارتياع، ذلك أن تفاوت إسهامات شعوب العالم في إنتاج المعرفة يزيد من الهوة التي تفصل بينها. كما ويجعل الدول المتقدمة في هذا المجال في حالة سباق تكنولوجي دائم لان من يحقق هذا السبق سيضمن سيطرة اكبر على الاقتصاد العالمي (9، ص 11).
كما أن الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام الجماهيرية من نشر المعلومات على اختلافها وتوحيد المضامين التي تنقلها في كل لحظة، لدليل أكيد على أن التكنولوجيا ستلعب دورا بالغ الأهمية مستقبلا في تشكيل العقول وتحديد الصلات الاجتماعية والاقتصادية بين بني البشر مع ما يترتب على ذلك من هيمنة لثقافات الشعوب المنتجة للمعلومة على ثقافة الشعوب المستهلكة.
وإذا نحن تركنا ما يحدث في الحاضر إلى ما ينتظر حدوثه في المستقبل، جاءت الصورة أشد روعة وإرهابا، ومن أخطر ملامح هذه الصورة تخطي القدرة العلمية التكنولوجية المتصاعدة تطويع الطبيعة إلى التأثير في الإنسان ذاته جسدا وعقلا ونفسا بالوسائل البيولوجية عناصرها المعنية المجردة أيضا، حيث أدت الثورة التكنومعلوماتية إلى زلزلة عنيفة للأنساق القيمية والقوانين والمبادئ التي تحكم الحياة الاجتماعية والثقافية في كثير من المجتمعات، واهتزت على إثرها قيم كنا نتوقع لها دوام الخلود والاستمرارية كما كانت في الماضي. وتسيدت قيم لم نكن نتوقع لها مكانا في حياتنا الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وربما يرجع ذلك إلى الغوص الدقيق للعلم والتكنولوجيا في مجالات لم تكن معهودة له من قبل، خاصة فيما يتعلق بالهندسة الوراثية وعلوم الفضاء. ومن أمثلة ذلك ما يحث من عمليات الاستنساخ بين الحيوانات والبشر والتي تثير العديد من التساؤلات بين العلماء والمفكرين، ورجال الدين.
9. الثورات الصناعية السابقة كانت موقوتة بفترات معينة، أي أنها بدأت واستمرت فترة زمنية معينة ثم ما لبثت أن ضعفت، ولكن هذه الثورة التكنومعلوماتية بدأت، ولكننا لا ندري متى ستنتهي، وإن كانت جميع المؤشرات والأدلة تؤكد أنها مستمرة مع زيادة في الدقة، والعمق، والسرعة، والتعقيد، ومن ثم فإن قدر هذا الجيل والأجيال القادمة أن تعيش في داخل زنزانة حاضرها دون أن تكون لديها الفرص الكافية للتخطيط لما يمكن أن يكون عليه المستقبل الذي أصبح يكتنفه الغموض والمفاجأة.
10. التزايد المستمر للمشكلات البيئية الناتج عن اتجاه كثير من الدول وخاصة المتقدمة إلى سوء استثمار البيئة الطبيعية، والضغوط على الأرض الناتجة عن التزايد السكاني المستمر، وسوء التصرف بالنفايات الصناعية والذرية، والاستخدام غير المنظم للمواد الكيماوية الضارة، ووقوع الحوادث الصناعية، ومن ثم تهدد سلامة الهواء، والأرض، والماء مما ينعكس بدوره على صحة الإنسان والأمراض التي تصيبه. والبيئة لا حدود لها وطنية أم إقليمية، لذلك فإن المورد الطبيعي الذي ينفد في جزء من العالم يخسره العالم أجمع.
هذه هي بعض السمات العامة لمجتمع المعرفة، يتضح منها أن المجتمعات الحالية تعيش أزمة وإن اختلفت في طبيعتها ودرجتها، وأن هناك تحديات راهنة ومقبلة لابد من مجابهتها. ولما كانت التربية هي قاطرة التقدم وتلعب دورا هاما في تحقيق مجتمع المعرفة بالتعاون مع سائر المؤسسات الاجتماعية الأخرى، لابد لنا من الكشف عن مطالب هذا المجتمع الجديد، على التربية عامة وعلى التربية المدرسية خاصة قبل التساؤل عن انعكاساتها على دور المعلم وتكوينه في مجتمع المعرفة.
ثانيا : المطالب التربوية لمجتمع المعرفة :
1. التطلع لتحقيق مجتمع المعرفة جعل مهمة التربية تزداد تعقيدا " فقد أضحت النظم التربوية اليوم وهي المسؤولة عن تكوين رأس المال البشري ذي النوعية الراقية الذي تتطلبه التنمية الشاملة، مسؤولة أيضا عن الإنسان ومستقبله، وهي مدعوة الآن أكثر من أي وقت مضى إلى تطوير ذاتها وتجديدها بما يجعلها أكثر قدرة على ملاءمة ميول المتعلم واستعداداته وقدراته، وتلبية احتياجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، التي تتطور باستمرار. وبهذا المعنى، فإن على التربية أن تغرس وتنمي الطاقات المبدعة في كل فرد، وفي الوقت ذاته أن تسهم في تطوير المجتمع وتماسكه في زمن يزداد عولمة يوما بعد يوم " (9، ص 7).
2. أن تسارع إنتاج المعرفة وكذلك تعدد التجديدات والاختراعات ومجالات تطبيقها بالإضافة إلى تسارع تقادم المعارف بشكل عام، يستدعي على الصعيد التربوي، مزيد الربط بين عمليات التعليم والبحث العلمي والعمل الإنتاجي، وأن يترك التعليم مكانه للتربية والعمل بمبدأ التربية المستديمة، والسعي إلى تكوين الإنسان متعدد المهارات القادر على التعليم الذاتي (10، ص 8).
3. كذلك فإن الثورة الاتصالية التي تسم العصر، تستدعي من التربية لكي تحصل الفائدة المرجوة منها أن تعمل على تمتين صلة الناشئة بمصادر المعلومات، والتدريب على كيفية الحصول على المعلومة وتحليلها وفهمها، وتنمية الفكر النقدي والقدرة على حل المشكلات، بحيث يصبح المعلم موجها ومرشدا لطلابه أكثر مما هو مصدر للمعرفة.
4. وأما تراجع القيم، وتفاقم الصراعات، وهيمنة القوي على الضعيف، لمما يدعو إلى تربية الناشئة على الحس الإنساني من أجل التواصل والمساواة، عن طريق الإنصات للآخر وتقبله واحترامه، والتدريب على تحقيق أهداف مشتركة، وتجاوز تبليغ المعلومات إلى ما ينطوي عليه تطبيق مختلف الابتكارات من أبعاد أخلاقية.
5. أن يتصف النظام التربوي بالمرونة والقدرة على تغيير هيكل عمليات التعليم والتعلم وفك ارتباطها بالمؤسسة التعليمية. وتتمثل مرونة النظام التعليمي في عدد سنوات الدراسة وفي محتواها بحيث تستجيب لحاجات المتعلمين المختلفة والمتجددة وفي انفتاح المدرسة دوما على عالم العمل وحاجاته وتطوير بنيتها ومناهجها وأساليبها تبعا لذلك. وكذلك أيضا في تنويع التعليم وتشعيبه وتيسير الانتقال بين الاختصاصات والفروع المختلفة، والقضاء على الحواجز بين التعليم النظامي وغير النظامي وتحقيق التكامل بينهما، وانفتاح المدرسة النظامية على الطلاب من مختلف الأعمار، وتنويع الدراسة في شتى مراحل التعليم تبعا لحاجات المتعلمين المختلفة. وهكذا، فالمرونة شرط لابد منه لمواجهة التغيرات العالمية المفاجئة وللمحافظة على قدرة النظام التعليمي في عالم متجدد (11÷ ص 16).
6. أن الثروة الحقيقية لأي مجتمع إنما تكمن في ثروته البشرية، وفي ذكاء وعبقرية أفراده، وفي قدرتهم وطاقاتهم، والعقل البشري هو مصدر قوة الأمة، فالذين يفكرون هم الذين يغيرون والذين يبدعون هم الذي يضيفون، والأمة المتقدمة هي الأمة العارفة بصرف النظر عن عدد سكانها أو حجم مواردها الطبيعية. وهذا يملي على المدرسة أن تعطي الذكاء قيمة خاصة وأن تنمي لدى الناشئة القدرة على الإبداع وروح المبادرة وأن تنمي لديهم مهارة التفكير الناقد والمحاكمة وحل المشكلات. " فمن الضروري تعليم التلاميذ مهارات العثور على المشكلات وحلها ". كما أنه من الهام جدا تربيتهم على عدم اليقين، " بحيث لا يصبح التلاميذ مرتبطين أكثر مما ينبغي بالنتائج التي يصلون إليها… ففي العالم الحقيقي تحل المشكلات عادة لفترة ما إلى حين توافر معطيات جديدة، عندئذ تتغير الحلول " (12، ص 23).
7. تكمن قدرة المدرسة في مجتمع المعرفة، على إعداد الإنسان للمستقبل في تعليمه كيف يتعلم وكيف يبقى متعلما، وهي مدعوة إلى أن تنقل إلى طلابها الرغبة في التعلم،ولذة التعلم، والقدرة على تعلم كيف نتعلم، وحب الاستطلاع العقلي، بل إن المرء يستطيع أن يتخيل مجتمعا يصبح كل فرد فيه معلما ومتعلما على نحو دوري (13، ص 20).
8. إن ثورة الاتصال وغزارة المعلومات التي تنهمر على التلاميذ من مصادر متعددة تتراوح من الكتب المدرسية إلى شبكة الانترنيت، تفرض على المدرسة تمتين صلة التلاميذ بمصادر تلك المعلومات وتدريبهم على كيفية الحصول عليها وغربلتها وتحليلها وفهمها، وكذلك فإن تسارع تقادم مضمون المعارف يستدعي تجديدها باستمرار، الأمر الذي يؤكد الحاجة إلى أن تكون التربية مستمرة من المهد إلى اللحد. وهنا لابد للتربية المدرسية أن تقوم على مبدأ التعلم الذاتي بالتركيز على المعلم والاهتمام بدوره الفعال وبمشاركته المباشرة في التعلم وامتلاكه لأدوات المعرفة التي تمكنه من أن يعلم نفسه بنفسه، بحيث " يتغير دوره من مستمع سلبي إلى مشارك وباحث وناقد مصدر أساسي من مصادر المعرفة، بل حتى إلى مقوم أساسي لنتاج جهده " (14، ص 24).
9. ويتطلب التعلم الذاتي تمكين التلاميذ من استخدام التقانات التعليمية الحديثة في الوصول إلى المعلومة، وكذلك في معالجتها بطريقة فعالة وسوف يحتاج التلاميذ لصقل مهاراتهم في التعامل مع المكتبات وأجهزة الإعلام والأقراص الممغنطة والحاسوب وغيرها من التقنيات للوصول إلى المعلومات الوفيرة بسهولة ويسر، ويؤدي هذا إلى نقل التركيز من التعليم إلى التعلم، والتعلم في جوهره عملية مستمرة غير انه لا يمكن بلوغ هذه الغايات إلا بوجود الرغبة المستمرة في التعلم، وبالربط بين التعليم الأساسي والتربية المستمرة. وهذا يتطلب من المدرسة في مجتمع المعرفة أن تركز لاسيما في مرحلة التعليم الأساسي، على " امتلاك التلاميذ لأدوات التعلم الأساسية (كالقراءة والكتابة والتعبير اللغوي والحساب وحل المشكلات)، وكذلك للمضامين الأساسية للتعلم (كالمعارف والمهارات والقيم والاتجاهات)، الأمر الذي يضمن لهم مواصلة التعلم.
10. التأكيد على دمقرطة الحياة المدرسية والأسرية، وبناء الفعل التربوي على " سلطة العقد " من خلال السعي إلى تحقيق مشروعات مشتركة كبديل للسلطة التقليدية التي يمارسها الكبار على الصغار، وكذلك التركيز في كل ممارسة أو إجراء على التربية من أجل حقوق الإنسان، واستنباط الوسائل الكفيلة بضمان التعليم للجميع (وسائل تعليمية، تعليم عن بعد...)، وفي مستوى الفعل التربوي، فإن الأمر يؤدي إلى التأكيد على :
- تدريب الطلاب على العمل الجماعي.
- تعويد المتعلمين على الضبط الذاتي بدلا من الخضوع إلى سلطة خارجية.
- تنويع أساليب التعليم وتكييفها حسب مقتضيات الفروق الفردية وصولا إلى ضمان حق كل متعلم في الاستفادة المثلى من التربية المدرسية.
- استخدام التقويم المدرسي في بعديه التشخيصي والتكويني لبناء العملية التربوية على أساس من العقلنة الوظيفية.
11. ضرورة تضمين المناهج الدراسية، معارف علمية على صلة بالمشكلات البيئية، وتربية النشء على احترام الوسط الطبيعي والاهتمام بما يسمى بـ " الأخلاقية البيئية الجديدة " بصورة عامة. وفي دور التربية لمواجهة ظاهرة البطالة الشبابية، فإن الأمر يتطلب تنمية القدرة على المبادرة وعلى التكيف مع المواقف غير المألوفة، وتنويع شعب التعليم ومسالكه بما يضمن دخول ايسر إلى عالم العمل وكذلك انفتاح المؤسسة التعليمية الفعلي على عالم الإنتاج.
ثالثا : خصائص المعلم في مجتمع المعرفة وأدواره الجديدة :
إن الاستجابة لمتطلبات بناء مجتمع المعرفة وما يستلزمه من تغير في سياسات التربية وأهدافها ومضامينها وبنائها، تضفي على أدوار المعلم في العملية التربوية أهمية متزايدة وشأنا أكبر.فتطوير المناهج الدراسية من حيث الأهداف والمحتوى والطرائق والأساليب التعليمية وأساليب التقويم وترجمتها إلى واقع النشاط التربوي، وبما يمكن المدرسة من تقديم تعليم راقي النوعية، إنما يعتمد على المعلمين من حيث كفاياتهم ووعيهم بمهامهم وإخلاصهم في أدائها، لآن المعلم هو عصب العملية التربوية، والعامل الرئيسي الذي يتوقف عليه نجاح التربية في بلوغ غاياتها وتحقيق دورها في إعداد الجيل لمستقبل أفضل (15، ص 3). وهو القادر على تحقيق أهداف التعليم وترجمتها إلى واقع ملموس باعتباره ركنا أساسيا من أركان العملية التعليمية/التعلمية، لا بل حجر الزاوية فيها. " فالمعلم الجيد ـ حتى مع المناهج المتخلفة ـ يمكن أن يحدث أثرا طيبا في تلاميذه، بينما المعلم السيئ حتى مع المناهج الجيدة لا يمكنه أن يقدم شيئا " (16، ص 27).
والمعلم هو العنصر الأساسي في أي تجديد تربوي لأنه أكبر مدخلات العملية التربوية وأخطرها بعد التلاميذ،ومكانة المعلم في النظام التعليمي تحدد أهميته، " من حيث أنه مشارك رئيسي في تحديد نوعية التعليم واتجاهه وبالتالي نوعية مستقبل الأجيال وحياة الأمة " (17، 1).
وفي ضوء ما تقدم، يمكن أن تجمل الأدوار الجديدة للمعلم في مجتمع المعرفة بما يلي :
1. دور المعلم كوسيط بين التلاميذ ومصادر المعرفة :
على الرغم من أن المعلم كان ولا يزال يحتل مكانا مركزيا في العملية التعليمية/التعلمية، فإنه لم يعد يشكل المصدر الوحيد للمعرفة بعد ثورة الإعلام والاتصال، حيث تعدد مصادر المعرفة وطرق الحصول عليها. وبدلا من أن يعرف المعلم ماذا يجب أن يحفظ من معارف، أصبح عليه أن يعرف كيف وأين يمكن الحصول على المعرفة ؟ وبذلك أضحى دور المعلم وسيطا بين التلاميذ ومصادر المعرفة، واصبح من مهامه تدريب التلاميذ على طرق الحصول عليها، بالاعتماد على جهدهم الذاتي، وبالاستعانة بمختلف الوسائل والتقنيات الضرورية لذلك، وبكلام آخر على المعلم أن يركز على طرائق وأساليب التعليم أكثر من تركيزه على المعرفة ذاتها.
2. دور المعلم في تجسيد مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان :
على المعلم أن يجس مبدأ الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان في سلوكه الشخصي، وأن يعمل على تنمية المهارات اللازمة لتلاميذه للمشاركة في العملية الديمقراطية من خلال تصميم وتنفيذ أنشطة صفية تماثل ما يجري في الحياة الواقعية. كما أن تجسيد المعلم لمبدأ ديمقراطية التعليم على ارض الواقع يتطلب منه تفريق الطرق وتنويع الأساليب والتقنيات التربوية المستخدمة تبعا للحاجات النوعية لتلاميذه، كما يتطلب منه أيضا استخدام التقويم المدرسي في بعديه التشخيصي والتطويري لتحديد صعوبات التعلم بدقة، واستنباط أشكال التدخل الضامنة للتطور المنشود،على أن يراعي عند ذلك نسق التطور الخاص بالتلاميذ المتفوقين، مما يتطلب منه السعي إلى تمكين أكبر نسبة من التلاميذ من المعارف والمهارات والكفايات الضرورية لمتابعة الدراسة دون إخفاق وتفادي الآثار السلبية للفضل الدراسي على شخصية التلميذ في أبعادها المختلفة.
3. دور المعلم كمقوم لأداء الطلاب :
تمثل عملية تقويم أداء الطالب (Student Evaluation) إحدى المكونات الرئيسة لمنظومة التعليم، خاصة وأن هذه العملية تتميز بالتعقد والصعوبة، والأمانة والموضوعية، والحساسية الاجتماعية نظرا لأنها تلعب دورا مهما في تحديد المستوى العلمي للتلميذ، ومن ثم التأثير على مستقبله المهني.
وتعتبر عملية التقويم واحدة من أصعب الأدوار والمسؤوليات التي يناط بها المعلم، لذلك يجب أن يتم إعداده وتدريبه للقيام بمهام هذا الدور، وتطوير أساليب وأدوات التقويم بما يتفق مع ما يسود الفكر والتجارب التربوية العالمية. ويتمثل ذلك في تنمية وعيه بفلسفة تقويم أداء الطالب، وأهدافه،وأهميته في تشخيص أداء الطالب وعلاجه ومتابعته، وتدريبه على كيفية استخدام أدوات ووسائل وطرق التقويم بطريقة موضوعية. ويجب أن تكون لدى المعلم قناعة بأن عملية التقويم وسيلة وليست غاية في حد ذاتها، وأنها عملية شاملة لجميع جوانب أداء الطالب العقلي والمهاري والوجداني، وعملية مستمرة طوال العام أو الفصل الدراسي، وعملية تتنوع فيها الأدوات والأساليب لتقابل الفروق الفردية بين الطلاب، ومحاولة تقويم أدائهم بطرق متنوعة.
4. دور المعلم في خدمة البيئة والمجتمع المحلي :
المدرسة ابنة المجتمع الذي توجد فيه. هي منه واليه، ومن ثم يجب أن توجه جل أفكارها وأنشطتها وجهودها، لخدمة مجتمعها وبيئتها، وتطويرها. وإذا كان دور المدرسة في خدمة مجتمعها وبيئتها مهما خلال السنوات الماضية، فإن هذا الدور يزداد أهمية وقيمة في مجتمع المعرفة نظرا لأنها تمثل مركز إشعاع للتعلم والمعرفة والتربية.
وإذا كانت المدرسة تقوم بهذا الدور الحيوي، فإنه يتم في الواقع من خلال معلميها الذين يقع عليهم العبء الأكبر في تنفيذ هذا الدور، وذلك بما يتميزون به من كفاءة، وخيرة،ومعرفة،ومهارة في توصيل المعلومة، والقدرة على إقناع الجماهير. ويتمثل دور المعلم في هذا المجال، في المشاركة الفعالة في الأنشطة العلمية، والمهنية،والاجتماعية،والثقافية على مستوى المجتمع المحلي، وذلك من خلال المشاركة في الحوارات والحملات الإعلامية، وقوافل الخدمات للمناطق النائية والريفية والفقيرة بالمدن وحملات التوعية البيئية والسياسية والاجتماعية، وإجراء البحوث والدراسات التي تخدم البيئة والمجتمع المحلي، وقيادة طلابه في أنشطتهم لخدمة البيئة والمجتمع وحثهم على المشاركة فيها.
5. دور المعلم كمستخدم جيد لتقانة المعلومات في تيسير عملية التعليم :
يتميز عالم اليوم بالاستخدام المتزايد يوما بعد يوم للأجهزة والأدوات التقنية العصرية بأنواعها المختلفة، في تسهيل عمليات التعليم والتدريب والتعلم. وقد ازدادت أهمية هذه الأجهزة والأدوات نتيجة لاستخدامها في عمليات التعلم داخل قاعات الدرس والمعامل، والورش، بالإضافة إلى استخدامها الأكثر في صيغ وأشكال التعليم الجديدة مثل التعليم عن بعد، والتعليم الإلكتروني وغيرها. ويؤدي هذا بدوره أن يضاف دور جديد إلى أدوار المعلم، والمتمثل في التعرف على هذه الأجهزة والأدوات ومعرفة كيفية استخدامها في المواقف التعليمية المختلفة، وكيفية التعامل معها وصيانتها، خاصة وأن استخدامها الجيد يمكن أن يساعده في تحقيق أهداف التدريس والتدريب والتقويم الجيد،ويوفر لديه الوقت والجهد الذي يبذله في العملية التربوية والتعليمية، خاصة في المواقف التعليمية التي تتضمن أعدادا كبيرة من الطلاب. ومن أمثلة هذه الأجهزة والأدوات، الحاسب الآلي، والدوائر التليفزيونية المغلقة، والفيديو كومبيوتر، والبريد الإلكتروني، ووسائل الاتصال المختلفة.
6. دور المعلم كموجه في التعلم التعاوني :
رغم سيادة أسلوب التعلم التنافسي (Competitive learning) في نظمنا التعليمية المختلفة، فإن له كثيرا من السلبيات التي يمكن أن تؤثر على العملية التعليمية وشخصية الطالب، وعلاقاته بزملائه. لذلك، فإن ظهور أسلوب التعلم التعاوني (Cooperative learning) يمكن أن يعالج كثيرا من هذه السلبيات، بالإضافة إلى بعض إيجابياته، حيث أشارت نتائج كثير من الدراسات أنه يساعد في رفع مستوى التحصيل الدراسي لجميع الطلاب، وتشجعهم على مساعدتهم بعضهم البعض، وزيادة دافعيتهم للتعلم، ونمو اتجاهاتهم الإيجابية، وميولهم نحو التعليم والتعلم، ويسهم في حل كثير من المشكلات النفسية والاجتماعية التي يعاني منها بعض الطلاب، وكذلك التأخر الدراسي، والتسرب، بالإضافة إلى أنه يساعد في سيادة قيم الحب والتعاون والمسؤولية المشتركة بين الطلاب (18، ص 7 – 9).
ويتضمن التعلم التعاوني طرقا متعددة منها تدريس الأقران (Peer teaching)، والتدريس الجماعي (Group teaching)، وهناك أيضا أسلوب التدريس التعاوني (Collaborative teaching) الذي يشير إلى مشاركة أكثر من معلم سواء من نفس التخصص أو من تخصصات متنوعة في العملية التعليمية داخل قاعة الدرس، بهدف نجاح العملية التعليمية.
7. دور المعلم كمرشد في التفكير الإبداعي :
تؤكد المدارس في مجتمع المعرفة على أهمية التفكير بوجه عام، والتفكير الإبداعي بوجه خاص، كهدف من الأهداف العامة لبرامجها. وبالتالي، فقد استحدثت كثير من المدارس مقررات دراسية تهدف إلى تنمية التفكير الإبداعي وتضمينه في كثير من المقررات الدراسية بالإضافة إلى إنشاء معاهد ومراكز علمية متخصصة هدفها الأساسي تنمية التفكير الإبداعي والتفكير الناقد. وقد أدى بدولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية أن تضع هدفا خامسا للتعليم يتمثل في الأهمية البالغة لزيادة نسبة الخريجين الذين يستطيعون إثبات قدرتهم وحل المشكلات التي تواجههم حلا إبداعيا.
ومن المتفق عليه أن الاهتمام بهذا النوع من التفكير لم يأت عبثا ولكن لقناعة القائمين على النظم التعليمية وغيرهم، بأن الإبداع هو الطريق الرئيسي للتقدم في عالم لا يعترف إلا بمجتمعات المبدعين، وأن قياس تقدم المجتمعات حاليا لا يقاس بما ليها من ثروات طبيعية، بقدر ما لديها من ثروات بشرية إبداعية متعلمة.
ويعتمد أسلوب حل المشكلات بالطريقة الإبداعية على أربع ركائز أساسية ممثلة في تشجيع الطلاب على ضرورة النقد، وإطلاق حرية التفكير والترحيب بكل الأفكار، وإنتاج أكبر عدد من الأفكار، والبناء على أفكار الآخرين والإضافة إليها.
وقد حان الوقت الآن لأن تتجه مدارسنا إلى ضرورة الاهتمام بتنمية القدرات الإبداعية لدى طلابها وذلك من خلال طرق متعددة منها أن يكون المعلم ذا عقلية متفتحة تعترف بالتفكير الإبداعي لطلابه وتشجيعهم على أن يأتوا بالجديد والمختلف من الأفكار، وحل المشكلات والآراء، وأن يهيأ لهم الظروف التي تساعدهم في تحقيق ذلك. وأن تكون لديه القدرة على التمييز بين الطالب المبدع والطالب العادي، ويشارك في حل مشكلات الطلاب المتفوقين والمبدعين والتي تعوق ممارساته الإبداعية، وأن يكون على وعي ودراية بطرق اكتشاف الموهوبين،ورعايتهم وتمنيتهم، وأن يقدمهم إلى المجتمع من خلال إبداعاتهم، ويساعدهم في إحداث التكامل بين أفكارهم. وقد أشارت نتائج كثير من الدراسات إلى أن المعلم المتميز في هذا العصر هو المبدع والذي يشجع طلابه على الإبداع.
8. دور المعلم كأخصائي نفسي واجتماعي ومرشد تربوي :
تؤدي متغيرات كثيرة في مجتمعنا المعاصر إلى ظهور كثير من المشكلات النفسية والاجتماعية والتربوية التي يعاني منها طلاب كثيرون في المدارس وغيرها من مراحل التعليم المختلفة، وغالبا ما تؤثر هذه المشكلات والأمراض سلبا، ليس فقط على حياتهم التعليمية ومستقبلهم المهني فحسب، ولكن على حياتهم كمواطنين في المجتمع بوجه عام. ومن المتغيرات التي ساعدت على انتشار هذه المشكلات، الصعوبات الاقتصادية التي تعاني منها كثير من الأسر، وتعقد الحياة الاجتماعية، وتخلي كثير من الآباء والأمهات عن مهامهم التربوية نتيجة لسيطرة القيم المادية وإشباع ضرورات الحياة على سلوكياتهم، وضعف برامج التوعية في المجتمع، والانتماء لجماعات غير طبيعية من الأقران. وقد أدت هذه المتغيرات وغيرها إلى انتشار كثير من المشكلات والأمراض النفسية والاجتماعية والتربوية بين طلاب مراحل التعليم المختلفة، ومنها الاغتراب، والبلطجة، والإدمان، والعزلة، والتطرف وغيرها التي تؤثر سلبا على تكيفهم الدراسي والاجتماعي والنفسي.
ومن هنا يبرز دور المعلم مرشدا تربويا يساعد تلاميذه على تطوير قدراتهم وإمكاناتهم، وعلى اكتشاف كفاياتهم الخاصة ومجالات النشاط التي يستطيعون النجاح فيها باعتبارها أكثر توافقا مع دوافعهم الحقيقية. ومن ثم، ضمان الشروط المناسبة لعملية التوجيه المدرسي والمهني مما يسهل عليهم إيجاد عمل بعد تخرجهم. وبهذا يكون المعلم قد ساهم بصورة غير مباشرة في تخفيف البطالة بين الشباب. ومن جانب آخر، فإن إعداد التلاميذ للانخراط في الحياة الاجتماعية في عصر العولمة وثورة الاتصال والمعلومات، يتطلب من المعلم تدريب تلاميذه على مجموعة من السلوكيات التي ينبغي عليهم ممارستها، كاحترام قيم الجهد. فالناجحون في القرن القادم هم الذين " سيعرفون أهمية بذل الجهد ومحاولة التميز "، وتدريب التلاميذ على العمل الجماعي والضبط الذاتي الذي بدونه " تتبدد المواهب ". ويبرز دور المعلم في التأكيد على النظام " كنمط إيجابي للسلوك "، واحترام الآخرين، وتقدير التنوع، على اعتبار ذلك من أساسيات المجتمع المدني، والاعتزاز بالمواطنة، ومعرفة مسؤوليات الفرد وواجباته وحقوقه في مجتمع ديمقراطي " (20، ص 28).
ويترتب على الأدوار الجديدة للمعلم، ضرورة توافر عدد من الخصائص والمواصفات التي تمكنه من أداء أدواره بالشكل المطلوب من أبرزها :
1) الفهم العميق للبنى والأطر المعرفية في الموضوع الذي يدرسه واستخداماتها وطرق الاستقصاء التي تم بها توليدها أو إنتاجها، والمعايير والقواعد التي تستخدم في الحكم عليها من حيث صحتها، وتاريخها وكيفية تطورها.
2) فهم جيد للتلاميذ الذين يدرسهم، من حيث خصائصهم التي تؤثر في تعلمهم، ويشمل هذا الفهم معرفة دوافعهم وأساليبهم المتصلة بالتعلم.
3) القدرة على استخدام التعلم الفعال، والطرائق والأساليب المناسبة لتحويل المحتوى الذي يراد تدريسه، إلى صيغ وأشكال قابلة للتعلم.
4) فهم أساليب وطرائق التقويم الملائمة لتشخيص قدرات الطلبة واستعداداتهم لتعلم موضوع ما وقياس ما حققوه من تعلم.
5) التفاعل مع الطلاب وإتاحة الفرصة للمناقشة والحوار، وإقامة علاقات ديمقراطية معهم، والتحرر من الصور التقليدية للمعلم.
6) الرغبة في التعليم والقدرة على التعلم الذاتي.
7) الاتزان الانفعالي.
8) القدرة على تبسيط المعارف واستخدام التقانات الحديثة في البحث والتدريس.
9) القدرة على تطوير ذاته، وتحسين الطرائق التي يتبعها في التعليم وفي تحفيز المتعلمين على المبادرة والمشاركة باتخاذ القرار.
10) القدرة على تحقيق التواصل الفعال بين المدرسة والأسرة والمجتمع المحلي.
11) امتلاك مهارات استخدام الحاسوب في الحياة العملية وفي التعليم كوسيلة تساعد على تطوير طرائق التدريس وتجعلها أكثر تشويقا وفعالية (21، ص 58).
رابعا : تصور مقترح لتكوين المعلم في مجتمع المعرفة :
سنحاول في هذا القسم أن نضع تصورا لتكوين المعلم في مجتمع المعرفة، في ضوء ما قدمناه في الأقسام السابقة من هذه الدراسة، وسوف يكون اختيارنا لنموذج تكوين قائم على الكفايات، واختيار هذا النموذج تأكيدا على قدرته على توجيه عمليات التعليم والتدريب نحو إتقان الكفايات وممارستها فعلا، بالإضافة إلى المزايا العديدة التي يتمتع بها من حيث وضوح أهدافه وسهولة تنفيذه واعتماده على التعليم الافرادي والتقويم الموضوعي مما يجعله نموذجا وظيفيا. وسوف يتم الاعتماد على منهج النظم لوضع هذا التصور : ذلك أن هذا المنهج يساعد في تحديد الكفايات ذات الأولوية الواجب توافرها لدى المعلم، كما سنبحث في أهم العناصر التي يمكن إدراجها في كل من المكونات الثلاثة المعروفة : المدخلات والعمليات والمخرجات.
الإطار المرجعي للتصور : يتألف الإطار المرجعي لهذا التصور من ثلاثة عناصر رئيسية هي :
1. مجموعة المطالب التربوية لمجتمع المعرفة..
2. مجموعة الأدوار الجديدة التي ينبغي على المعلم القيام بها لتحقيق تلك الغايات.
3. الكفايات المطلوبة للمعلم كي يستطيع أداء أدواره بفعالية وتحقيق الغايات المرجوة.
أولا : المدخلات
1. إعداد المعلم :
أ. أهداف الإعداد :
تندرج أهداف الأعداد ضمن هدف عام مفاده " تكوين معلمين مهنيين للتعليم في المراحل : الابتدائية والمتوسطة والثانوية يتمتعون بزاد أكاديمي وبمهارات علمية وتقنية عالية، وباتجاهات موجبة نحو المهنة، وباستقلالية مهنية وحس قوي لخدمة المجتمع طبقا لقواعد ومعايير أخلاقية تتماشى مع طبيعة المهنة ومكانتها الاجتماعية ". ويمكن تصنيف الأهداف المتفرعة عن هذا الهدف العام إلى أهداف معرفية وأهداف علمية تقنية، وأهداف وجدانية في شكل اتجاهات.
• أهداف معرفية وهذه أهمها :
- إتقان المعارف التخصصية في المادة أو مجموعة المواد المتعين تدريسها.
- القدرة على استخدام المفاهيم والاستراتيجيات الجديدة في التربية كالتعلم القائم على أسلوب الأداء والتمكن في الأداء وبيداغوجيا الإتقان، وبيداغوجيا الدعم (التعليم العلاجي، والبيداغوجيا التفريقية " الفروق الفردية ").
- الإلمام بالمقاربات التعليمية المرتبطة بالمادة أو المواد التي تدخل في مجال الاختصاص.
- الإلمام بنظريات التعليم والتعلم.
- إتقان الكفايات التي تمكن من التعلم الذاتي.
- اكتساب ثقافة علمية عامة في المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية تمكن من متابعة التغيرات الطارئة في هذه المجالات والإشكاليات الناجمة عنها ذات الأهمية في حياة المجتمع (البيئة، العنصرية، حقوق الإنسان، صراعات دولية…).
• أهداف عملية تقنية ومن أهمها :
- إتقان المهارات المتصلة بتخطيط العمل التعليمي.
- اكتساب مهارات تحليل المواقف التعليمية وتخطيطها وتنفيذها وتقويمها.
- إتقان استخدام التقنيات الحديثة : الحاسوب، شبكات المعلومات والاتصال.
- اكتساب التقنيات الخاصة بتطبيق تكنولوجيا الأهداف في العملية التعليمية/التعلمية وتقويمها.
- اكتساب مهارات الحصول على المعرفة من مصادرها المتنوعة.
- اكتساب مهارة استخدام تقنيات التقويم المختلفة.
- اكتساب مهارات البحث العلمي.
- اكتساب مهارات الاتصال ووسائلها.
- اكتساب أساليب التربية الخاصة.
- اكتساب تقنيات تنظيم وبناء المنهج وتطويره.
• أهداف ذات طابع وجداني (اتجاهات) :
- تكوين صورة موجبة للذات المهنية.
- تكوين صورة إيجابية للمهنة.
- تحقيق الانخراط الذاتي في المهنة وإنماء الرغبة في ممارستها.
- الانفتاح على التجديدات التربوية عموما وبخاصة على التقنيات والمقاربات الجديدة والرغبة في اكتسابها.
- الرغبة في العمل التعاوني.
- الإنصات إلى حاجات التلاميذ التعلمية والسعي إلى الاستجابة لها.
- الرغبة في ممارسة حقوق المواطنة وواجباتها، والتأكيد على مبدأ الديمقراطية في السلوك اليومي والحياة العملية واحترام حقوق الإنسان.
- الرغبة في التفاعل مع البيئة المدرسية والمحلية والمشاركة الإيجابية في معالجة الإشكاليات الجديدة المتصلة بالبيئة والصحة، والتفاهم بين الحضارات والأمم.
ب. المحتوى :
ذكرنا سابقا أن برنامج تكوين المعلمين يشتمل على مواد دراسية (مقررات) يمكن توزيعها على أربعة مجالات رئيسة هي مواد الثقافة العامة، مواد التخصص الأكاديمي، مواد التخصص المهني، والتربية العملية، وسوف نكتفي بإشارة سريعة إلى تلك المقررات مع التأكيد من البداية على ما يلي :
• ضرورة ربط محتويات المقررات بالأهداف المحددة وكذلك بالكفايات المطلوبة للمعلم في مجتمع المعرفة.
• ضرورة مراجعة الأهداف والكفايات