[center]
التجديد فى فلسفة التربية العربية لمواجهة تحديات العولمة
( رؤية نقدية من منظور مستقبلى )
السيد سلامة الخميسي
أولاً ـ الإطار العام للمشكلة
1 ـ مدخل :
يظلّ النظام التربوى من أكثر النظم المجتمعية حساسية للتغيرات الحادثة من حولـه ، فى فضائه القريب ( المحلى ) ، أو فضائه البعيد ( الكونى ) .
ولذا كان النظام التربوى مطالباً دوماً بأن ينخرط فى علاقات تفاعل نشط مع المتغيرات المحيطة به ، حيث لا يعمل هذا النظام فى فراغ ، كما لا يُقبل منه أن يتخلف عن حركة التغيرات العلمية والتكنولوجية والمعرفية والثقافية الكبرى من حوله .
فالنظام التربوى ـ بدءاً من فلسفته وتوجّهاته الفكرية وانتهاءً بما يقدم داخل حجرات الدراسة ـ معنىًٌ بالتعامل مع بنى علمية ومعرفية وتكنولوجية وثقافية ، المتغيرات فيها أكثر من الثوابت ، والانشغال بالمستقبل فيها أكثر من الانشغال بكل من الماضى والحاضر .
ورغم قدم انشغال التربويين وغيرهم بالبحث فى إشكاليات العلاقة بين التربية و «التغير» ، وما يمثله ذلك من تحدِّيات تواجههم فى تحديد الغايات التربويـة ، ورسم السياسات والاستراتيجيات ، وتنظيم المناهج وبرامج التعليم .. إلخ ، فإن التحديات التى صاحبت « العولمة » ونشأت عن تناميها وتداعياتها ، باتت تمثل التحدِّى الأكبر أمام التربويين وغيرهم من المعنيين بالشأن التربوى من مختلف جوانبه .
لقد أخذت معالم العولمة وتداعياتها وتجليّاتها تتضح بصورة تكشف عن توجهاتها الاقتصادية والسياسية والثقافية إلى جانب التدفقات المتواصلة فى إنتاج المعرفة بمختلف أشكالها ومختلف ميادين توظيفها .
وفى الجانب الآخر للعولمة ، تتداخل نتائج ومعطيات الثورات العلمية والتكنولوجية والمعلوماتية بمختلف تيارات العولمة مما أدى إلى انبثاق وتولد كثير من الهواجس الإنسانية بشأن الجدل حول منافع العولمة ومضارها ، حول ما تطرحه فى الأفق من آمال ، وحول ما تسببه من إخفاقات . بيد أن هذا الجانب يختلف فى تقديره وتقويمه من حيث منافعه الإنسانية . ومردّ ذلك إلى أن تلك الثورات تتيح للبشرية كلها فرصاً واعدة للمشاركة فى صنع مستقبل أفضل . ولكنها فى الجانب الآخر ـ من التوقع ـ تحمل احتمالات « الانفراد » بتحديد صورة المستقبل لبعض القوى ، و « تهميش » القطاع الأكبر من البشر فى العالم خارج عملية صنع المستقبل !!
ولم يعد السؤال المطروح ، أو المشروع الآن هو : هل نقبل العولمة وننخرط فيها ، أم نرفضها ؟ ولكن السؤال المهم ، والمشروع ـ تربوياً وحضارياً ـ هو : ماذا ينبغى علينـا أن نفعل للانخراط فـى العصر العولمى بوعى ، وبفاعلية ، وباقتدار ؟
فالذين انخرطوا ، وسوف ينخرطون فى المواطنة العولمية ، هم أفراد قبل أن يكونوا أجزاءً من نظم سياسية أو اقتصادية أو صناعية أو تكنولوجية ... إلخ . والتى سوف تصبح نتاجاً سلوكياً وثقافياً لهؤلاء الأفراد إذا ما أعدوا الإعداد الملائم للمواطنة العولمية .
ولذلك ، فإن من أهم الخطوات التى ينبغى اتخاذها على طريق العولمة ، هى تربية وتكوين الإنسان القادر على « المواطنة العولمية » كما يرى زمرمان Zimmerman 1990 ، وهذا يقتضى إعادة النظر فى التربية بدءاً من فلسفتها ، وانتهاءً بصياغة وبناء الموقف التعليمى وفق معايير جديدة للحكم على النتاج التربوى Educational Outcome فى إطار نواتج سلوكية تستند إلى معايير جودة عالمية استرشاداً بثقافة الجودة العالمية حتى لا يكون ـ تربوياً وتعليمياً ـ خارج إيقاع عصر العولمة وصورة المستقبل المتولّدة عنه .
ولكن .. لماذا فلسفة التربية العربية ابتداءً ؟
تسعى فلسفة التربية فى أى نظام تربوى إلى تحديد غايات التربية ، وعليها أن تجيب فى ذلك الشأن عن سؤالين محوريين :
السؤال الأول : لماذا نعلم ونتعلم ؟
السؤال الثانى : ما مواصفات الإنسان الذى يجب أن تكونه التربية المنشودة ؟
والفلسفة التربوية لا تنشأ فى فراغ ، بل لابد أن تنبثق من ، وتستند إلى فلسفة اجتماعية واضحة المعالم ، كما يفترض فى الفلسفة التربوية ألاّ تكون ثابتة أو نهائية ، حيث يجب أن تتَّسم بالمرونة والقابلية للتجديد ولا سيما فى هذا العصر الذى يشهد تغيرات متلاحقة وتدفقات معرفية على كافة الأصعدة .
ولدى مُعِدّ هذه الورقة قناعة فكريـة ومنهجيـة فى أن أزمة مجتمعنا العربى المتفاقمة هى ـ فى جوهرها ـ أزمة تربوية ، ومن ثم تبدو أهمية المخرج التربوى سبيلاً للخروج من هذه الأزمة والإنعتاق من إسارها الحضارى . فالتربية ، كما يرى عبد الدائم (1991) : « هى مدخلنا إلى تنمية شاملة ودرعنا الواقى ضد الاكتساح الثقافى » .
ورغم قناعتنا بأن التربية ليست إلا أحد النظم الفرعية فى النظام الاجتماعى الأكبر ومن ثم فليس بوسعها وحدها أن تحقق هذا الخلاص الحضارى . . نعم ، ولكن يجب أن تكون التربية هى جبهة العمل الأولى لمواجهة تحديات العولمة ومؤثراتها .
فالتربية العربية كما يرى نبيل على (2001) : « باتت رهاننا الوحيد وعلى إبداع بشرنا . فالإنسان العربى هو العامل الحاسم إذا أحسنَّا تربيته ، وهو مصدر التهلكة إن أسأناها » .
2 ـ المُشْكِلْ :
لقد عملت كثير من الدول العربية على تحديث أنظمتها التربوية ؛ حتى تبدو غير متخلفة عن إيقاع العصر ، ولكن هذا التحديث اقتصر على البيئة المادية والتنظيمية والشكلية لهذه النظم ، أو ما يمكن تسميته بالمظاهر الخارجية للتحديث التربوى ( المبانى ، المرافق ، الأدوات والتقنيات ، التمويل ، التدريب ، أشكال التعليم ... إلخ ) ، بيد أن هذه النظم لم تتجاوز التحديث Modernization الشكلى ، لتنتقل إلى الحداثة Modernity (*) فى النظام برمته ـ بنية ووظائف ـ ومن ثم ، عجز هذه النظم عن تكوين الإنسان العربى القادر على العيش والتفاعل فى عصر ما بعد الحداثة بمختلف معطياته ... لماذا ؟
لقد وظفت المؤسسات التربوية العربية توظيفاً أيديولوجيا ، وما زالت تلعب دوراً طبقياً يعزز اتجاهات التسلط ، والإكراه ، والانتقائية فى الوطن العربى إلى حد كبير ، فهى بأساليب عملها ، وآليات اشتغالها تعمل بصورة واعية شعورية أولا شعورية على تعزيز قيم التسلط ، والتمايز ، والإكراه ، والاصطفاء وتعطّل بصورة عامة اتجاهات العمل الحر والإبداع والنزعة العقلية وتحقيق التكامل فى الشخصية الإنسانية .
انشغلت التربية العربية بمنطق التحديث ، فراحت النظم التربوية العربية تجلب التقنيات الحديثة ، وتبنى مختلف المظاهر الخارجية للتربية والتعليم من مدارس ومبانى وأدوات وإدارة وتقنيات حديثة .
أما الحداثة الحقيقية التى تتصل بالجوهر والروح الحقيقية للعملية التربوية والقدرة على بناء النزعة العقلية فى الإنسان ، وترسيخ الروح العلمية وتدعيم قيم الإبداع ، والحرية ، وحقوق الإنسان ... فلم تنشغل بها تربيتنا العربية حتى الآن ، ولذا أضحت خارج حركة التغيرات الكبرى من حولها .
وهناك شبه اتفاق على ثلاث غايات رئيسة لابد أن تعنى بها التربية فى كل عصر ، وهى :
- إكساب المعرفة .
- التكيف مع الحياة .
- تنمية الذات والقدرات الشخصية .
وقد أضاف عصر « المعلومات » بعداً تربوياً رابعاً وغاية جديـدة تتمثل فى : « ضرورة إعداد إنسان العصر لمواجهة مطالب الحياة فى ظل العولمة » .
فهل استوعبت التربية العربية هذه الغاية المستحدثة ، وضمنتها فى فلسفتها حتى تستهدى بها فى تحديد سياساتها واستراتيجياتها وبرامجها وآليات عملها فى الواقع التربوى والتعليمى ؟ فحين نعظِّم طموحاتنا من النظام التربوى لنرى فى التربية خلاصنا من أزمتنا الحضارية ـ كما سبقت الإشارة إلى ذلك ـ فلا ينبثق ذلك من نظرة مثالية ، أو نزعة عاطفية ، وإنما ينطلق هذا من القناعة بأن التربية قادرة على تغيير المجتمع . حين تنطلق فلسفتها فى التغيير من معرفة حقيقية لهذا المجتمع ونقده وتحليله أولاً . وحين تنطلق بعد ذلك فى رسم غاياتها وأهدافها ، وتحديد سياساتها واستراتيجياتها عندئذ لن تلقى من المجتمع مقاومة كبرى ، لأنها انبثقت من واقع المجتمع ، وجاءت معبرة عن طموحاته وتطلعاته نحو الأفضل .
وعليه ، يمكن التعبير ـ منهجياً ـ عن مشكل هذه الورقة فى تساؤل رئيس تستهدى به الورقة عبر محاورها المختلفـة للتعبير عن رؤية صاحبها ، وهو :
كيف يمكن للتربية العربية أن تجدد فلسفتها ، حتى تكون مؤهلة لمواجهة تحديات العولمة من منظور مستقبلى وفى إطار الخصوصية الثقافية العربية ؟
3 ـ المنطلقات الفكرية والنظرية للورقة :
فى غمار سعى هذه الورقة للإجابـة عن التساؤل المحورى المطروح ، فإنها تتبنى ـ نظرياً وفلسفياً ـ مفهوم فلسفة التربية القائمة على « الوجود » (*) والتى تقوم على بعدين رئيسين :
- بُعد الكشف عن الغايات والمقاصد من خلال تحليل الواقع التربوى وما وراءه .
- بُعد النظرة المستقبلية ، التى تعنى ، الانطلاق فى رسم غايات التربية ومقاصدها من صورة المستقبل كما يتكشف من تحليل الماضى والحاضر وبعد نتائج الدراسات المستقبلية .
4 ـ منهجية الورقة :
4/1 : تتوسَّل الورقة بمنهجية التحليل الفلسفى للإجابة عن تساؤلها الرئيس ، حيث تتم المزاوجة بين التحليل وإعادة التركيب واستجلاء المفاهيم والآراء والطروحات والعمليات .
4/2 : والورقة ـ فى إطار هذه المنهجية ـ لا تلجأ لأى إجراء إميريقى ، حيث تعتمد على المتاح من الأدبيات ، وكذا معالجة صاحبها للموضوع برؤية بحثية خاصة تتجاوز القوالب والأطر المنهجية المُتَّبعة والشائعة .
4/3 : والورقة إذ تسعى للإجابة عن تساؤلها المحورى فى ضوء الاستناد إلى إطار نظرى معرفى تعبّر عنه المنطلقات والموجِّهات الفكرية السابق الإشارة إليها .
4/4 : وفى ضوء ذلك كله ، فإن الورقة تسير منهجياً علاوة على الإطار العام لمشكلتها السابق بيانه عبر الأطر والمحاور التالية :
4/4/1 : إطار مفاهيمى ونظرى عن العولمة ، وفلسفة التربية ، والمستقبل .
4/4/2 : إطار تحليلى عن ( فلسفة التربية العربية الراهنة فى ظل مؤثرات العولمة وتجلّياتها ) .
4/4/3 : رؤية مستقبلية للتجديد فى فلسفة التربية العربية لمواجهة تحديات العولمة .
الإطار المفاهيمى والنظرى
- حول العولمة .
- فلسفة التربية .
- المستقبل .
ثانياً ـ الإطار المفاهيمى والنظرى
1 ـ العولمة ... ما هى ؟
1/1 : حول العولمة ومفهومها :
يرتهن كل فعل إنسانى ـ ومنه التربوى بالطبع ـ اليوم بطابعه الكونى تأثيراً وتأثراً ، ولا نستطيع اليوم أن نتحدث عن حداثة أو نهضة تربوية دون أن نأخذ فى الاعتبار كونية المجال الحيوى لهذه الحداثة أو لتلك النهضة . فنحن نتأثر ونؤثر بصورة مباشرة وغير مباشرة بمنظومة الفعاليات الكونية سياسية واقتصادية ، وتكنولوجية وثقافية ، بل وقيمية .
وإذا كان من فعل حداثى كونى يجب أن تنشغل بـه ونحدد سُبل وآليات التعامل معه ، فإنه « العولمة » Globalization التى لا نستطيع أن نتجاهل انعكاساتها وتداعياتها التى تتغلغل فى أعماق وجودنا ، وحتى لا نقف مبهورين أو حيارى أمام العولمة ، فإن علينا أن ننظر إليها نظرة نقدية منهجية باعتبارها واقع موضوعى يجب ألا نرفضه برمّته ، أو نقبلـه بكلِّيته ، وإنما علينا ـ من خلال فهمه ونقده ـ أن نحدد سُبل التعامل معه والإفادة من معطياته وتجنب شروره ومخاطره .
والعولمة والتى يقابلها فى الإنجليزية Globalization وفى الفرنسية Mondialisation وما يرادفها من مصطلحات « كالكوكبية » أو « الكونية » ظاهرة ذات ملامح سياسية واقتصادية وثقافية وإعلامية وتربوية .. وهى لا تزال تتشكَّل وتتطوَّر بفعل المتغيرات الكبرى التى تؤثر فى حضارة العصر وحياة الشعوب .
وإذا أردنا الاقتراب من صياغة تعريف شامل للعولمة فلابد أن نضع فى الاعتبار ثلاث عمليات تكشف عن جوهرها : يتعلق العملية الأولى ، بانتشار المعلومات بحيث تصبح متاحة لجميع الناس ، وتتعلق الثانية بتذويب الحدود بين الدول . أما العملية الثالثة فتتمثل فى زيادة معدلات التشابه بين الجماعات والمجتمعات والمؤسسات ، وهذه العمليات الثلاث قد تؤدى إلى نتائج إيجابية لبعض المجتمعات ، وإلى نتائج سلبية لبعضها الآخر .
وقد شاع استخدام مفهوم العولمة بدرجة كبيرة فى مطلع التسعينيات من القرن الماضى ، خاصة بعد سقوط سور « برلين » وانهيار الاتحاد السوفيتى ، ولكن هناك من يُرجع التعريف إلى الستينيات حيث شاع شعـار : « فكر عالمياً ، ونفذ محلياً » “Think globally and act locally” ، بل إن هناك من يرى أن المفهوم بمعناه الواسع ومضامينه يمتد إلى أبعد من ذلك بكثير ، إلى القرن الخامس عشر ، إلا أنه بدأ يتبلور أكثر وتتشكل ملامحه وتتبلور مساراته فى العقد الأخير من القرن العشرين حيث بدأت مظاهر العولمة وتجلياتها الاقتصادية السياسية والثقافية تتبلور أكثر ، وفرضت انتقالاً غير مسبوق للسلع والمنتجات والأفكار والتقنيات عبر الحدود بشكل « كونى » .
وهناك من يرى أن النشاطات والمواد التى تخطت الحواجز والحدود فى حركة سيولة غير مسبوقـة قد اشتملت فى عصر العولمة على ستـة أنـواع ، وهـى : « البضائع والخدمات ، والأفراد ، والأفكار والمعلومات ، والنقود والأموال ، والمؤسسات ، والأشكال المختلفة مـن السلوك والتطبيقات » .
والورقة التى بين أيدينا غير معنية بالبحث فى الصياغات « الاصطلاحية » أو اللغوية المفاهيمية للعولمة ، حيث تكثر هذه الصياغات وتلك التعريفات وتتعدد ، بتعدد وتنوع زوايا النظر ومداخل المعالجة للباحثين والمفكرين .. هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى ، فإن الباحثين ـ ولا سيما فى العالم الثالث ـ مازالوا فى مرحلة فهم الظاهرة ، واستكشاف القوانين الخفيّة التى تحكم مسيرتها ، والآليات التى تُسهم ـ فى الوقت الراهن ـ فى تشكيلها .
فالعولمة ، كما يرى « السيد يسين » هى فى الحقيقة ظاهرة غيـر مكتملة الملامح والقسمات ، فضلاً عن أنها عملية مستمرة ، تكشف كل يوم عن وجه جديد من وجوهها المتعددة .
ولذلك ، فإن هذه الورقة تعنى أكثر بمظاهر العولمة وتجلياتها ، والتوترات التى تُنْتِجها أو تُسْهِم فى إنتاجها أكثر مما تُعنى بالتعريف الاصطلاحى لها ، وإذ نأخذ بهذا المنحى ، فإن ذلك مَسْعَاه تلمُّس أهم التحديات التى تضعها الظاهرة أمام نظم التعليم العربية .
1/2 : العولمة فى تجلياتها المتنوعة :
رغم تعدد وتنوع التجليات التـى تأخذها الظاهرة ، فلعل ما يعنينا أكثر هنا ، أنها تتخذ شكل « الهيمنة » و « التبعية » بصورة تسعى إلى « التنميط » Uniformalisation أو « التوحيد » Unification الثقافى للعالم كله .
والعولمة ـ بصورتها الراهنة ـ أضحت تعنى السيادة المطلقة ليس لنموذج اقتصادى معين فحسب ، وإنما سيادة النظام الكونى الأمريكى الموحد عبر آلياته وأهدافه التى تؤكد على ذلك يوماً بعد يوم ، مما دعى كثير من المفكرين والباحثين إلى الزعم بأن العولمة تعنى أمْرَكة العالم Americanization اقتصادياً وسياسياً وتقنياً وثقافياً ... بل وأخلاقياً !!
1/2/1 : التجلّيات الاقتصادية :
وتبدو فى تنامى وانتشار الاعتماد المتبادل بين الدول والاقتصاديات القومية وفى وحدة الأسواق المالية وتعمّق المبادلات التجارية ، كما تبدو فى ظهور ونمو التكتلات الاقتصادية العالمية ونشاط الشركات دولية النشاط والمؤسسات الاقتصادية الدولية كالبنك الدولى وصندوق النقد الدولى ، بمعنى آخر ، فإنها مرحلة الرأسمالية عابرة القوميات Cross Nations ، وتبدو المظاهر الاقتصادية للعولمة كذلك فى تنامى الاقتصاد القائم على « المعرفة المكثفة » الذى يحل محل الاقتصاد القائم على « العمل المكثف » ، ويقوم الاقتصاد الأول ، والمتنامى فى عصر العولمة على ثلاثة افتراضات :
- سوف تظهر معرفة جديدة ، وسوف تتضاعف مرة كل خمس سنوات .
- سوف يقل العمر الافتراضى للمعرفة ، وقد يقل عمر براءة الاختراع ليصل إلى ستة أعوام فحسب .
- سوف يرتفع مستوى معدل التعليـم ، وسيحل مفهوم التـعلم « مـدى الحياة » محل التعليم « الهيكلى » .
1/2/2 : التجلِّيات السياسية :
وتبدو فى تراجع الشمولية السياسية وتقلص الديكتاتوريات والسلطوية السياسية والنزوح نحو الديمقراطية والتعددية السياسية وحقوق الإنسان ومقاومة التمييز وتوسيع دوائر المشاركة وتنامى جماعات المجتمع المدنى والمنظمات غير الحكومية ، كما تبدو هذه التجليات كذلك فى تضخم القطبية الأحادية ، وانفرادها بالسطوة السياسية على العالم ( القطبية الأحادية الأمريكية ) .
1/2/3 : التجلَّيات الثقافية :
تتجه العولمة لصياغة ثقافة عالمية جديدة تتخطى الهويّات والثقافات المحلية والوطنية ، فالعولمة تسعى لتعميم ثقافتها وخطها الإنتاجى العام ، ومن ثم تسعى لاختراق وتذويب كل الخصوصيات وتنميط كل الهويَّات .
فالعولمة تسعى إلى فرض ثقافة كونية واحدة تغطى مختلف جوانب النشاط الإنسانى ، وتسعى إلى فرض أيديولوجيا واحدة هى ثقافة وأيديولوجية المنتصرين فى الحرب الكونية المريرة التى سادت العالم . والأخطر من ذلك ، أنها ما فتئت تضغط فـى سبيـل صياغـة نسق ملزم من « القواعد والمعايير الأخلاقية الكونية » ، ولا يخفى أن العولمة تصدَّر لمختلف الثقافات مختلف الأنماط السلوكية الحياتية ( فى المأكل والمشرب ، والسكن والملبس والفن ... إلخ ) للثقافة الكونية الجديدة .. الثقافة الأمريكية المهيمنة إن شئنا مزيداً من التحديد !!
1/2/4 : التجليات التكنولوجية :
فقد سخرت العولمة مختلف جوانب التقدم التكنولوجى ( ولاسيما تكنولوجيا المعلومات ) من أجل سيطرتها على أسواق وصناعة وتجارة المجتمعات المختلفة .
وفرضت الثورة التكنولوجية تحديات خطيرة تتعلق بالتكنولوجيات المتقدمة اكتشافاً واستعمالاً وترويجاً وتطبيقاً ، وفى نفس الوقت حماية المجتمع الإنسانى من سيطرة هذه التكنولوجيات على الثقافة والحضارة الإنسانية ، أدى هذا الاكتساح التكنولوجى إلى ظهور توترات بيئية ، واجتماعية ، وأخلاقية نظراً لغلبة التكنولوجيا العولمية على مختلف جوانب الحياة الإنسانية وهو ما عبّر عنه بعض الباحثين اصطلاحاً بـ « Technopoly » .
1/2/5 : التجليات الاتصالية والإعلامية :
تبرز هذه التجليات فى سطوة الآلة الاتصالية بمختلف أشكالها ( الأقمار الصناعية والبث الفضائى ، وشبكة المعلومات العالمية والحاسبات ، والهواتف المحمولة ... ) والتى يؤدى انتشارها والتنامى المتسارع لاستخدامها إلى أكبر ثورة معرفية فى التاريخ .
هذه الأدوات الاتصالية ، بما تنقله من معارف ومعلومات وأحداث وثقافات تؤدى إلى زيادة التفاعل الثقافى Cultural Interaction بين الأفراد والجماعات والشعوب ، ولكن هذا التفاعل ـ من وجهة نظر كثير من مفكرى العالم الثالث ـ ليس تفاعلاً ندَّياً متكافئاً . فتدفق الرسائل الإعلامية والاتصالية غالباً ما يأتى من المراكز الرأسمالية ـ بكل قوتها التقنية والاتصالية والإعلامية ليصب فى دول الأطراف من مجتمعات العالم الثالث ، والتى تصبح مجرد متلقية ومستقبلة لهذه الرسائل والمضامين بكل ما تحمله من قيم وتوجهات تهدد الخصوصيات الثقافية وتكرس هيمنة دول « المركز » وتبعية دول « الأطراف » .
2 ـ فلسفة التربية :
2/1 : المفهوم والأهمية :
الفلسفة التربوية ـ شأنها شأن الفلسفة العامة ـ نظرية ، وإرشادية ، وتحليلية . فهى نظرية : عندما تسعى إلى إنشاء نظريـات عـن طبيعـة الإنسـان ( المتعلم ) والمجتمع ، والعالم المحيط بنا كى تفسَّر أو تؤول بواسطتها المعطيات المتعارضة أو المتضاربة للبحث التربوى والعلوم التربوية . وهى إرشادية : عندما تعين الغايات التى ينبغى على التربية الوصول إليها ، والوسائل التى تتوسل بها لبلوغ هذه الغايات . وهى تحليلية : عندما توضح القرارات أو المقولات النظرية والمبادئ والأسس الإرشادية ، فالتحليل يقود إلى امتحان عقلانية أفكارنا التربوية وتوافقها مع الأفكار الأخرى .
وثمة تساؤل يطرح نفسه هنا ؛ من أين تبدأ فلسفة التربية ؟
فهناك من يرى أن تكون البداية بمناقشة وتحليـل المشكلات والخبرات التربوية ، بينما يذهب بعض آخر إلى ضرورة أن نلجأ إلى المسائل والمشكلات الفلسفية ثم نبحث عن دلالاتها وتطبيقاتها التربوية .
والطريق الأول ـ طريق المشكلات والخبرات التربوية ـ هو الأكثر واقعية كما يرى « سعيد إسماعيل ( 1995 ) » ، حيث الاعتماد فيه على فلسفة التربية كقوة تغيير مجتمعى لا مجرد رياضة عقلية فى المسائل التربوية .
ففلسفة التربية إذاً ، تبدأ ـ أو ينبغى أن تبدأ ـ من واقع المسألة التربوية ، حيث هذا المسلك يعنينا على فهم وتحليل المسألة التربوية بإشكالياتها الراهنة ، والتوسل بهذا الفهم فى استشراف المستقبل ، فلسفة التربية ـ فى نظرنا ، واتَّساقاً مع الرؤية السابقة ـ تتجاوز مرحلة التأمل والتفلسف التربوى النظرى لتكون عملية « مستقبلية » ، حيث تسعى إلى رسم صورة لما ينبغى أن يكون فى الشأن التربوى برمته .
ولذلك ، فحين نروم النظر إلى التربية فى كليتها كوجود فاعل فلابد أن نستعين بفلسفة التربية ، وحين ننظر فى الافتراضات الأساسية التى تقوم عليها التربية ونحللّها ، فلابد أن نتوسل بفلسفة التربية وليس معنى ذلك أن فلسفة التربية هى الضمانة الحقيقية المركزية لصيرورة الشأن التربوى كما ينبغى أو خلاصه ، فإذا كانت فلسفة التربيـة تحدد المنطلقات الفكرية للعمل التربوى بمختلف مراحله وصوره ، فإن العمل التربوى يمثل منظومة فرعية Subsystem ضمن منظومة مجتمعية كلية Super system تشمل كذلك على منظومات فرعية أخرى سياسية واقتصادية وثقافية ... إلخ .
هذا يعنى ، أن المنظومة التربوية لا تعمل وحدها ، إذ لابد أن تعمل فى تناغم وتكامل واتساق مع سائر المنظومات المجتمعية الأخرى مما يستوجب حتمية الارتكاز إلى منطلقات مجتمعية عامة مستمدة مما نسميه الفلسفة العامة للمجتمع التى تعبر عن الأهداف الكلية للمجتمع ونهجه العام وتطلعاته المستقبلية .
وعليه ، فإن غياب هذه الفلسفة الاجتماعية العامة أو ضعفها أو ضبابيتها يمثل واحدة من أهم الإشكاليات التى تعوق صياغة وبناء فلسفة تربوية لأى مجتمع .
وفلسفة التربية التى يدور حولها موضوع هذه الورقة تعنى : تلك المحاولة الجادة للوعى بالمحركات الأساسية للعمل التربوى سواء من داخله ، أو من داخل البنية المجتمعية فى إطار من التحليل والنقد القائمين على استخدام الأدلة العقلية والبراهين المنطقية ، والالتزام الدائم بمحكية الخبرة التربوية على أرض الواقع .
ومن ثم فإن ميدان فلسفة التربية يتسع ليشمل مختلف أبعاد وجوانب المنظومة التربوية ، ففضلاً عن مسعاها لمناقشة وتحليل ونقد جملة المفاهيم الأساسية التى يتمحور حولها العمل التربوى ( طبيعة المتعلم ـ الخبرة التربوية ـ المعرفة ـ الثقافة ـ تكافؤ الفرص ... إلخ ) فإنها تسعى إلى مناقشة الافتراضات الأساسية التى تقوم عليها نظريات التربية من حيث ( التعليم ـ طرائق التعليم ـ بناء المنهج ـ أداة التعليم ـ التقويم ... إلخ ) .
ولذلك ، فمن غير المتصور ، أن نخطط مواقف ، أو نبنى استراتيجيات أو نرسم سياسات ينبغى اتخاذها على الصعيد التربوى لمواجهة تحديات « العولمة » قبل البدء أولاً بمراجعة فلسفة التربية التى تُحدد هذه المواقف ، وترسم هذه السياسات ، وتصاغ تلك الاستراتيجيات فى ضوئها وعلى هديها وانطلاقاً منها .
ومن ثم ، تبدو أهمية الاستناد إلى فلسفة تربوية ـ كإطار مرجعى عام ـ ونحن نحدد موقفنا من العولمة وتجلياتها وتداعياتها . إذ بدون هذه الفلسفة الحاكمة والموجهة ، فسوف تفتقر المواقف المتخذة من العولمة إلى شمولية النظر ، ووحدة الرؤية ، وعقلانية الاستجابة .
كما تبدو أهمية فلسفة التربية لتأسيس الموقف التربوى من العولمة فى ضوء موقف أشمل وأعم على الصعيد الحضارى والثقافى العام الذى تحكمه الفلسفة العامة للمجتمع ، وحتى يكون الموقف التربوى متجانساً ومتكاملاً مع الموقف الثقافى والحضارى العام للمجتمع من العولمة .
2/2 : مبررات البحث عن فلسفة تربوية فى هذه المرحلة :
إذا كانت مبررات البحث عن ، وصياغة فلسفة تربوية واضحة المعالم مهمة ولا خلاف بشأنها لأى نظام تربوى ، فإنها اليوم ـ وفى ظل هذه الواقع العولمى ـ تبدو أكثر أهمية لجملة من المبررات أهمها :
2/2/1 : إن الإنسانيات Humanities والعلوم الاجتماعية Social Sciences التى تستمد منها التربية بنيتها المعرفية والمعلوماتية ، علوم منفصلة يبحث كل منها عن استقلاله لأنه يعنى بميدان محدد من الخبرة ، ويعوز هذه العلوم إطار كلى تكاملى يجمعها وأسس عامة لتربية متكاملة وهذه التكاملية المعرفية والعلمية ، وتلك التربية المتكاملة المستمدة منها لا يتحققان دون فلسفة تربوية .
2/2/2 : إن علوم التربية المتنامية والمشتتة فى آن معاً ـ مناهج ، نظريات تعلم ، اجتماعيات تربية ، إدارة تخطيط ـ طرائق تعليم ـ يعوزها بناء « ابستمولوجيا » قوامه البحث عن مناهج هذه العلوم حتى تضطلع بدورها فى تكوين نظرية فى التربية يمكن التوسل بها فى التعامل مع قضايا الواقع التربوى ، واتجاهات التربية المرتقية مستقبلاً ، هذه البنية الابستمولوجية ، وهذا الدور المنهجى يتحققان من خلال فلسفة التربية .
2/2/3 : إن التساؤل الأساسى لعملية التربية برمتها وهو : « ماذا يعنـى أن نربى ؟ » ، سؤال يضم العديد من الأسئلة الفرعية حول موقع المشروع التربوى فى أى مجتمع ، والعلاقة بين المعلم والمتعلم ، وموقع المؤسسة التربوية من سائـر مؤسسات المجتمع ، ومواصفات الإنسان المرجو من العمل التربوى ... إلخ ، هذا السؤال الأساسى ، والأسئلة الفرعية المنبثقة عنه ، يصعب الوصول إلى إجابات شافية لها دون الاستناد إلى فلسفة تربوية تتشكل فى ضوئها الإجابات وتحدد على هديها المسارات .
2/2/4 : وعلاوة على الدور الإبستمولوجى الذى تقدمه فلسفة التربية وتضطلع به نحو العلوم التربوية جميعها ، فإنها تضطلع بأدوار عملية وإجرائية لا تقل أهمية ، فهى توفر لكافة المشتغليـن بالعمل التربـوى ـ مختصين authoriseds ومتخصصيـن specialists ( باحثيـن ، مخططين ، مديرين ، موجهين ، معلمين ) ـ القواعد العامة والمفاهيم الأساسية والروابط البنيوية والمنهجية لأجزاء الظاهرة التربوية . ومن ثم ، فإن فلسفة التربية توفر مرجعية كلية موجهة لكافة المعنيين بالخبرة التربوية فى مختلف صورها ومواقعها وأزمنتها .
2/2/5 : وإذا كان من أهم سمات هذا العصر ، أنه عصر الثورة المعلوماتية والتدفق اللامحدود للمعلومات ، فإن هذا التدفق ، وما يتبعه من تغير فى بنية المعرفة ومعطياتها ، يستوجب بين الحين والحين وقفة للمراجعة والفحص والنقد لما سبق التسليم به ، ولما مورس من نشاط وفق ما سبق التسليم به ، فهذا التدفق المعلوماتى يصيب التربية أكثر من غيرها ـ فى محتواها وفى طرائقها ، وفى تفاعلاتها ـ ومن ثم تبدو أهمية فلسفة التربية لمراجعة وفحص ونقد ما يجرى فـى مؤسساتنـا التعليميـة ، ... بل إعادة النظر فيما تحمله أدمغتنا من مقولات وما يقدم لطلابنا من معارف ومعلومات ، وكيف تقدم ؟!
2/2/6 : لما كان « التغير » المتسارع فى شتى ميادين الحياة هو خاصية أصيلة من خصائص هذا العصر ، فإن هذا التغير يستوجب مرونة وديناميكية فى بنية النظام التربوى ووظائفه حتى يستجيب لمتطلبات تغير العصر . والتوترات والهواجس التى قد يجلبها التغير ـ ولا سيما على مستوى القيم والضوابط الأخلاقية ـ لا يمكن الاستجابة له والتفاعل معه بغير مظلة قيمية توفرها فلسفة التربية .
2/2/7 : طرح العصر العولمى مفاهيم جديدة مثل : ( الحوار الحضارى ، وصدام الحضارات ) ، وأعاد طرح مفاهيم أخرى بتأويلات جديدة مثل : ( حقوق الإنسان ، والسلام العالمى ، والتحديات البيئية ) ، مما يستدعى معالجات جديدة على الصعيد التربوى سياسات وبرامج وإجراءات ، وهو ما لا يتحقق بدون فلسفة للتربية تستهدى بها هذه السياسات وتلك البرامج والإجراءات .
2/2/8 : ضغطت العولمة فى اتجاه إعادة هيكلة التعليم ، واستخدام طرائق وتقنيات ومسارات جديدة ، كما طرحت تساؤلات حول الدور المرتقب للمعلم ، وعلاقة الدولة بالتعليم ... إلخ . وهذا وغيره لا يمكن أن يأخذ طريقه الصحيح فى أرض الواقع دون فلسفة تربوية تحدد الأولويات وتحسم الجدل فى ضوء إجابتها عن التساؤلات الكبرى حول التربية وغاياتها .
2/2/9 : وأخيراً ، فإن أىّ تجديد فى المناهج ، أو الطرائق والأساليب ، أو التنظيمات الهيكلية أو الأدوات الوظيفية ... لابد أن يتم فى إطار منظومة تجديد شاملة ومتكاملة حتى يؤتى التجديد أكله . هذه المنظومة التجديدية لا تتحقق ، بل لا يمكن بلورتها واعتمادها بدون فلسفة تربوية مجددة تحدد معالم الطريق لعملية التجديد التربوى الشامل .
3 ـ المنظور المستقبلى :
3/1 : فلسفة التربية وتشوّف المستقبل :
لما كان مسعانا فى هذه الورقة تجديد فلسفة التربية العربية لمواجهة تحديات العولمة انطلاقاً من تبنى مفهوم فلسفة التربية القائمة على ( الوجود ) ، فهذا التبنى مرجعه أساساً إلى انتهاج النظرة المستقبلية التى نروم بها تخليص التربية العربية من حالة عجزها أمام تحديات العولمة .
ففلسفة التربية القائمة على ( الوجود ) تمضى مـن الوجـود إلـى ( الماهية ) بمعنى أنها تنطلق أساساً من تحليل الواقع ودراسته والكشف عن معناه ودلالاته ، وتستخلص اتجاهاتها المستقبلية ، وتسعى لتشوف مستقبلها من هذا التحليل نفسه .
فهل يمكن للتربية العربية فى هذه المرحلة وهى تجابـه تحديات العولمة أن تتشوف مستقبلها ، ومستقبل المجتمع العربى من خلالها وهى تستند إلى فلسفة تربوية ـ أو مبـادئ عامة ( * ) ـ تعود إلى منتصف السبعينيات ؟!
فلعل ذلك يعيد وضع فلسفة التربية مرة أخرى فى دائرة الضوء حين نكون معنيين بالتغيير والتجديد فى التربية العربية لتجاوز الواقع التربوى المأزوم . ومن ثم إعادة طرح السؤال المحورى مرة أخرى : هل نحن فى حاجة إلى فلسفة التربية فى هذه المرحلة المفصلية فى مسيرة نظمنا التعليمية العربية ؟
والإجابة ، أننا حقاً فى حاجة إلى فلسفة تربوية جديدة تقود التغيير التربوى الشامل انطلاقاً من معرفة الواقع العربى وفحصه وتحليله ونقده ، ثم الانطلاق بعد ذلك ، وفى ضوئه لرسم غايات وأهداف ممكنة التحقيق ، لا تلقى مقاومة من المجتمع ، لأنها منبثقة عنه ، ومعبّرة عما يصبو إليه من تطلعات .
هذه الفلسفة سوف تلقى الترحيب من الظهير المجتمعى حين تجيب عن تساؤلات المجتمع المستقبلية ، وحين تجيب عن بعض التساؤلات المتعلقة بهواجسه ومخاوفه من مؤثرات العولمة وإشكالياتها المتواترة ، ومن ثم تكون فلسفة التربية المرجوة عامل تجديد فعلى لكل من التربية والمجتمع .
وفلسفة التربية إذ تنبثق من واقع المسألة التربوية ، فلكى تعيننا على فهمه ومواجهة مشكلاته ، لكن الهدف الأبعد من هذه العملية هو استشراق المستقبل وتلمُس مساراته «المتوقعة» انطلاقاً من معطياته « الواقعة » فهى إذاً عملية مستقبلية حيث تسعى إلى رسم صورة لما ينبغى أن يكون على مختلف جبهات العمل التربوى .
3/2 : ولكن ... لماذا ينبغى أن تكون فلسفة التربية المرجوة ... مستقبلية ؟
تواجه التربية العربية ـ فى عصرنا الحالى ـ موقفاً صعباً للغاية ، فقد أصبح لزاماً عليها أن تجدد رؤيتها الفلسفية لمواجهة المتغير المعلوماتى فى غياب فلسفة اجتماعية عربية ، وقصور الوعى العام فى إدراك الجوانب التربوية العديدة لظاهرة المعلومات وعولمتها . ( نبيل على : 2001 ) .
ويؤكد « خلدون النقيب » على هذا البعد الغائب فى التربية العربية ، ومن ثم معاودة الإمساك به وامتلاكه ، حيث يقول : « إننا لا نملك وعياً تربوياً فى الوطن العربى لأننا نفتقد الفلسفة التربوية التى توجه عملية التعليم . ( خلدون النقيب ، 1993 ) . وهذا يعنى ، أن المجتمعات العربية تشهد اليوم ضغط حاجة مضاعفة إلى بناء فلسفة تربوية تضع على رأس اهتماماتها الخروج بالإنسان العربى مـن « فـرد » فـى القبيلـة ، إلـى « عضو » فى المجتـمع المدنى ، وبالعلاقات الاجتماعيـة مـن علاقـات « قبلية » إلى علاقات « مدنيـة » تتجاوز الأطُـر العشائـرية والطائفيـة . ( الأمين ، 1998 ) .
وإذا كان الغرب المتقدم اليوم ينخرط فى مرحلة « ما بعد الحداثة » ، فإن هذه التجربة الحضارية النقدية التى يدخلها الغرب يمكنها أن تسدد خطانا وأن تساعدنا فى اكتشاف سلبيات التجربة الغربية وتأكيد إيجابياتها ، وهذا يعنى فى نظر « وطفه » أن حداثتنا التربوية يمكنها أن تحقِّق فى آن واحد متطلبات الحداثة الأولى ، وأن تجنبنا تحديات الحداثة الثانية التى تتجلى فى تحديات عصر العولمة .
ومطالبتنا بأن تكون فلسفة التربية المنشودة مستقبلية التوجّه والغايات ، لأن هذا التوجه المستقبلى هو سبيلنا فى تجاوز واقعنا التربوى المأزوم وتحريره من قيوده الثقافية وتقاليده الباليـة .
فلكى نربى أبناءنا تربية تمكنهم من أن يكونوا الصنّاع الحقيقيين لعالم أفضل ، فإن علينا حينئذ أن نعلّمهم أن يعملوا من أجل الغد ، وأن يدركوا أن هذا الغد رهن بالجهود المبذولة اليوم ، وبمراجعة وتصحيح أخطاء الواقع .
ولمعاودة الإجابة عن السؤال الذى صُدِّر به هذا المحور حول مستقبلية فلسفة التربية ، يمكن معاودة التأكيد ـ بقدر نسبى من التفصيل ـ أن التربية الموجهة نحو المستقبل Future Oriented Education تأخذ أهمية خاصة فى هذا العصر لجملة أسباب أهمها :
3/2/1 : إن الاهتمام بالمستقبل أضحى هدفاً عاماً مشتركاً لجميع العلوم والأنشطة فى مختلف الجوانب العلمية والسياسية والاقتصادية والثقافية ، ومن غير المتصور أن تبقى التربية بعيدة عن هذا الاهتمام وخارج هذا الهدف ، وهى التى ـ بحكم طبيعتها وغاياتها ـ تتجه نحو المستقبل أكثر مما تتمركز حول الحاضر .
3/2/2 : إن الاهتمام بالمستقبل فى العمل التربوى يحرر الفكر التربوى من السير فى مسار تقليدى جامد ، ويفتـح أمامه أكثر من طريق واحد فى تجاوز الحاضر وأكثر من بديل ( سيناريو ) للنمو المستقبلى مع الاعتماد على القراءة الدقيقة للواقع فى أىّ تشوف أو استشراف للمستقبل .
3/2/3 : إن تحديد الخيارات الفلسفية للتربية لابد أن تعتمد على نتائج الدراسات المستقبلية للمفاضلة بين هذه الخيارات ، فلم يعد مقبولاً الآن الحديث عن تنبؤ أو شكل واحد للمستقبل ، بل شاع استخـدام مفاهيـم « المستقبـلات والمشاهـد البديـلـة » ، و « استشراف المستقبل » ، و « التحليل المستقبلى » بدلاً من المفاهيم التى كانت تعنى بصورة واحدة للمستقبل . معنى ذلك ، أن الاهتمام بالمستقبل وتضمينه فى فلسفة التربية يُسهم فى توسيع دائرة الخيارات التربوية ومرونتها .
3/2/4 : إن الكائن الإنسانى ( الطالب ) ـ وهو المستهدف من التـربية ـ كائن « ذو قصد » يشدّه التطلع إلى أمامه ، ويغريه أن يسعى إلى غايات يُسهم فى تحقيقها . ولذلك ، فعندما تبدو أمامه مشروعات مستقبلية حضارية تستجيب لحاجاته فعلاً ، وتعبّر عن تطلعاته ، فإن الجميع يلتف حولها ويدعمها ، ويشارك فى إنجازها .
3/2/5 : إن تأكيد المستقبلية فى العمل التربوى ، يطرح البديل الحقيقى والفعّال عن الغايات المفروضة سلفاً التى تأخذ بها التربية غالباً وتثبتها فى وظيفتها المحافظـة Conservative ، ولا سيـما تلك التى تأخذ بفلسفة « الماهية » فالغايات التى تشتق من صورة المستقبل أو صوره المفترضة والمتوقعة وهى غايات تتحرك وتتجدد بناء على مسيرتنا نحو المستقبل التى هى فى حالة حركة وصيروره دوماً .
3/2/6 : إن الأخذ بالنظرة المستقبلية فى فلسفة التربية تُخفّف من حدّة ذلك التناقض الشائع بين ما هو « فردى » وما هو « اجتماعى » فى العمل التربوى وفى الشأن الاجتماعى عموماً ، فالنظرة المستقبلية تساعد الفرد فى أن يدرك أن المشروعات المستقبلية التى يتطلع للإسهام فى إنجازها هى عمل جماعى مشترك يتطلب منه أن يعمل بشكل فاعل مع الآخرين ومن خلالهم .
3/2/7 : والنظرة المستقبلية لفلسفة التربية ـ وخاصة فى هذا العصر ـ هى التى تطرح مسألة « الغايات » وما يلحق بها من مسألة « القيم » طرحاً عميـقاً وحـاداً ، ففـى عصـر تسوده سطوة الماديـة علـى حسـاب « الإنسانيات » وأخلاقياتها التى تنمى لدى الإنسان « شواجن القلب » و « بواعث الوجدان » ، تبدو أهمية التسلّح بمنظومات قيمية لها صيرورة وصلاحية مستقبلية حتى لا تفتك الصراعات الناشئة عن توترات العولمة بكل ما هو إنسانى وأخلاقى .
3/2/8 : وأخيراً ، فإن النظرة المستقبلية لفلسفة التربية تجعل التربية نفسها ملامسة لذلك الاهتمام المتصاعد ـ منذ منتصف القرن الماضى ـ بالدراسات المستقبلية ، وما أدى إليه من امتلاك بعض طرائق التنبؤ والتحَسُّب Prospective حتى يمكننا تلمُّس صور المستقبل وبدائله لنعمل لها حساباتنا التربوية على مختلف أصعدة العمل التربوى تخطيطاً وتنفيذاً وتقويماً ومراجعة وتجديد.
مجمل القول فى هذا السيـاق ، أن فلسفـة التربيـة المرجوة ينبغى أن تكون « واقعية » و « مستقبلية » فى آن معاً . تكون واقعية حين تنطلق من السياق الاجتماعى القائم بمختلف موروثاته وأبعاده السياسية والاقتصادية والثقافية ومشكلاته الملحّة . وتكون مستقبلية حين تتخذ من هذا التحليل منطلقاً لاستشراف مستقبلها وصـورة النـظام التربـوى المرجـو فـى ضوء البعديـن ( الواقـع ) و ( المتوقع ) .
والفلسفة التربوية حين تمتلك هاتين الخاصيتين ، يصبح بمقدورها دفع العمل التربوى كله ـ أهدافاً ، ومناهج ، وتنظيمات ، وطرائق ، وإدارة وتقنيات ... إلخ ـ لمواجهة تحديات العولمة والتفاعل معها برؤية ومنهجية متبصرة ، وليس باجتهادات شخصية ، أو باستجابات سلبية أو بتحجر فكرى وتنظيمى .