المجتمع المدني
دراسة في إشكالية المفهوم
أ.م.د. عامر حسن فياض
إن مفهوم المجتمع المدني لم يظهر بشكله الخالص، إنما ظهر، كما هو حال ظهور وتبلور مفهوم الديمقراطية، من خلال تطور تأريخي يفسره منتظم فكري فلسفي مر بمرحلة تبلور مديدة منذ بروزها بهيئة نطف في فكر الفيلسوف الإنجليزي (جان لوك) 1691، او بصورة ناضجة في فكر الفرنسي (جان جاك روسو) (القرن 18)، أو أكثر نضجاً في فلسفة الحق لـ(هجيل) فيما بعد(1). حاول كل من لوك وروسو وهجيل ان يربطوا نشوء المجتمع المدني بعملية "انتقال" و"خروج" التجمع البشري من حالة إلى أخرى فقدموا الصياغات الأولى لمفهوم المجتمع المدني بوصفه كل تجمع بشري انتقل او خرج من حالة الطبيعة الفطرية إلى الحالة المدنية التي تتمثل بوجود هيئة سياسية قائمة على اتفاق تعاقدي. وبهذا المعنى فان المجتمع المدني هو "المجتمع المنظم سياسياً، أو أن المجتمع المدني يعبر عن كل واحد لا تمايز فيه، كل يضم المجتمع والدولة معاً(2).
وفي حدود تطور مفهوم المجتمع المدني في تاريخ الفكر السياسي الحديث والمعاصر نؤكد أن ظهور المجتمع المدني، كمفهوم، في حلقته الاولى عند المفكر الفرنسي (توماس هوبز) لم يكن منفصلاً عن الدولة، بل كان مجرد تعبير عن انتقال مبدأ السيادة (بمعنى القدرة او الهيمنة او السيطرة او النفوذ) من السماء (أي الحكم بالحق الإلهي) إلى الارض (أي الحكم على اساس العقد الاجتماعي)، رغم ان تصور الحكم الذي رافق (هوبز) كان ديكتاتورياً مطلقاً، وان لم ينفصل المجتمع المدني في هذه الحلقة الأولى عن المجتمع السياسي.
بعد (هوبز) فان افتراض طبيعة المجتمع او تخيل وجوده دون دولة عند المفكر الانجليزي (جون لوك) بشكل خاص، هو افتراض وجود افراد اجتماعيين في حالتهم الطبيعية، أي دون دولة، وهو الافتراض الذي يبنى عليه المجتمع المدني في حلقته الثانية كمجتمع مدني قائم بذاته، أي بانفصال عن الدولة(3).
وقد اضاف المفكر الفرنسي (مونتسكيو) وفيما بعد الامريكي (الكسي دي توكفيل) برؤيتهما ليجعلا من المجتمع المدني وسيط يوازن الدولة ويحد من تاثيرها المباشر في الفرد. او ان هذا المجتمع على حد تعبير الالماني (هيجل) يمثل "الحيز الاجتماعي والاخلاقي الواقع بين العائلة والدولة"(4).
وقد تحول افتراض (جون لوك) لمجتمع خارج الدولة في النظرية الليبرالية الى السوق. وبعد ان كان المجتمع المستند الى العلاقات المتبادلة بين الافراد في السوق هو ما ينتج مجتمعاً مدنياً خارج الدولة اصبح السوق هو نموذج المجتمع، ولم تعد هنالك حاجة لمصطلح المجتمع المدني.
ومما يلفت النظر ان الماركسية التقليدية التي سادت لاحقاً (في نموذجها السوفيتي خصوصاً) تعاملت مع مفهوم المجتمع المدني باسلوب التجاهل والاقصاء والتهميش. فكثيراً ما اهملت المجتمع المدني واعابت عليه بوصفه مفهوماً برجوازيا، لان الحديث عنه يعني الغطاء والتبرير لعدم الحديث بصراحة، وبكل وضوح، عن صراع الطبقات والمآس المترتبة عليه(5).
والحقيقة ان (كارل ماركس) في رده على (هجيل) والهيجلية، نظر الى المجتمع المدني بوصفه الاساس الواقعي للدولة وفضاءاً للتنافس والصراع، ليس الاقتصادي فقط، كما يرى (هيجل) بل السياسي والطبقي ايضاً. وهذا الفضاء سوف يخصه (ماركس) بفرع معرفي مستقل هو الاقتصاد السياسي.
ان ما يفسر عدول (ماركس) اللاحق عن استخدام مفهوم المجتمع المدني واستبداله بمفهوم (المجتمع البرجوازي) في دراسته للاقتصاد الرأسمالي يمكن تلمسه وملاحظته في تأكيد ماركس على ان المجتمع المدني لا يمكن ان يبحث الا في الاقتصاد السياسي. وهذا التأكيد تكرر لاكثر من مرة في كتابه "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي" وفي اجزاء مختلفة من كتابه "رأس المال"(6).
بيد ان التطورات اللاحقة على ما كتبه (كارل ماركس) قد بينت ان المجتمع المدني يمثل فضاءً للتنافس والصراع بمختلف اشكاله (الاقتصادية، السياسية، الايديولوجية، الثقافية) بين الطبقات والفئات الاجتماعية كافة. وهذه التطورات التي شهدها مفهوم المجتمع المدني ستكون موضع اهتمام المفكر الايطالي الماركسي (انطونيو رامشي) فهو يرى ان هناك مستويين للمجتمع هما:
الاول: يمكن ان يدعى المجتمع المدني الذي هو مجموعة التنظيمات التي غالباً ما تسمى تنظيمات خاصة.
والثاني: يدعى المجتمع السياسي او الدولة.
ويحتوى المجتمع المدني عند (غرامشي) على العلاقات الثقافية الايديولوجية ويضم كل النشاط الروحي-العقلي. واذا كان صحيحاً ما قاله (كارل ماركس) من ان المجتمع المدني هو البؤرة المركزية ومسرح التاريخ كله. فالمجتمع المدني عند كل من (ماركس) و(غرامشي) هو اللحظة الايجابية والفعالة في التطور التاريخي، وليس الدولة هي تلك اللحظة كما ورد عند هيجل. غير ان اللحظة الايجابية والفعالة، أي المجتمع المدني، تمثل الظاهرة البنيوية التحتية (القاعدة) عند ماركس، بينما هي عند (غرامشي) تمثل لحظة فوق بنيوية (بناء فوقي). وهذا ما يفسر اهتمام (غرامشي) الواسع بقضايا الثقافة، واهتمامه الخاص بمفهوم المثقف والمثقفين عبر التفرقة الشهيرة التي قام بها بين المثقف التقليدي والمثقف العضوي ودور الاخير في الهيمنة.
ان المجتمع المدني عند (غرامشي) يمثل المرحلة النهائية في تنظيم المصالح المختلفة، المتقدمة في القاعدة (البناء التحتي) كمرحلة انتقالية باتجاه الدولة. وهنا فان المجتمع المدني هو وجود خاص خارج نطاق الدولة رغم كونه على علاقة جوهرية بالدولة انه الوسيط بين التشكيلة الاقتصادية والدولة وكلها تخص مرحلة محددة تاريخياً.
وعند (غرامشي) يشكل المجتمع المدني مع الدولة ما يعرف بالمنظومة السياسية في المجتمع. ويسميها (غرامشي) ذاته بـ(الدولة الموسعة) أي منظومة سياسية بشقيها المدني والسياسي. وبهذا المعنى يقول (غرامشي): "ان الدولة هي المجتمع السياسي زائد المجتمع المدني"(7) بينما يحتوي المجتمع المدني على التنظيم السياسي للمجتمع باحزابه ونقاباته وتياراته السياسية، فان الدولة تحتكر السلطة السياسية عبر اجهزتها ومؤسساتها المختلفة. وبهذا المعنى تكون العلاقة بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي علاقة جدلية. فيمكن للمجتمع المدني ان يكون مسانداً للدولة او معارضاً لها. ففي الحالة الاولى يشكل المجتمع المدني مصدر الشرعية لسلطة الدولة عبر مشاركة منظمات المجتمع وفئاته المختلفة في صنع القرار. اما في الحالة الثانية التي تتصدى الدولة بجهازها ومؤسساتها القمعية لكل اشكال الاضطراب والثورة، تبدو الدولة وكأن المجتمع هو الذي وجد من اجلها لا العكس.
نلاحظ مما تقدم تداخل وتفاعل الدولة والمجتمع المدني عبر توافقهما تارة، وعبر تعارضهما تارة اخرى.
ومنذ (غرامشي) ثمة تطور مثير للاهتمام اخذ يفصح عن نفسه فيما يخص العلاقة بين الدولة والمجتمع. فبعد ان استحوذت الدولة ولفترة طويلة على اهتمام المفكرين، اخذ الاهتمام ينصب، تدريجياً على دراسة المجتمع المدني ضمن اطار الاهتمام بالديمقراطية وحقوق الانسان والتنمية والعدالة الاجتماعية على المستوى العالمي.
وفي نطاق الفكر العربي فلعل من المفارقات ان هذا الفكر لم يتعرف على مفهوم المجتمع المدني بحد ذاته، بل جاء هذا التعرف عبر الاهتمام المتزايد الذي لاقته مؤلفات (غرامشي) في المنطقة العربية بعد السبعينات. لكن الاهتمام بمفهوم المجتمع المدني بدأ يتسرب الى الفكر العربي المعاصر بدءاً من ثمانينيات القرن العشرين خصوصاً في اقطار المغرب العربي، حيث نوقش هذا المفهوم بغرض التفكير في ظروف التحول من الحزب الواحد الى التعددية الحزبية لاسيما في تونس والجزائر(8).
ولعل اوضح استخدام لمفهوم المجتمع المدني بالمعنى الغرامشي، يمكن رصده في فصول كتاب "الفلسفة الاجتماعية" للدكتور (غانم هنا) الذي يركز فيه الاهتمام على تقصي الفرق بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، وحدد فيه مكونات المجتمع المدني وخصوصية الفهم الغرامشي له من منظور الفلسفة النقدية. هذا بالاضافة الى الندوة التي عقدت في تونس حول المجتمع المدني، ثم توالى الاهتمام بالمفهوم، عربياً، لينتقل الى حقل التداول الواسع على صفحات الصحف والمجلات، وفي عقد الندوات كما حدث في ندوة القاهرة عام 1990، وندوة بيروت عام 1992 وغيرها(9).
والحقيقة ان شيوع استخدام مصطلح "المجتمع المدني" قد زاد من تشوشه واضطرابه، وحجب ضرورات التفكير في تأصيله النظري، وغيب الى حد بعيد امكانية تناوله النقدي. فالمجتمع المدني يعرف على نحو اجرائي بانه »جملة المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعمل في ميادينها المختلفة في استقلال عن سلطة الدولة لتحقيق اغراض متعددة منها، اغراض سياسية كالمشاركة في صنع القرار على المستوى الوطني، ومثل ذلك الاحزاب. ومنها اغراض نقابية كالدفاع عن المصالح الاقتصادية لاعضاء النقابة، ومنها اغراض مهنية كما هو الحال في النقابات للارتفاع بمستوى المهنة والدفاع عن مصالح اعضائها. ومنها اغراض ثقافية كما في اتحادات الكتاب والمثقفين والجمعيات الثقافية التي تهدف الى نشر الوعي الثقافي وفقاً لاتجاهات اعضاء كل جمعية. ومنها اغراض اجتماعية للاسهام في العمل الاجتماعي لتحقيق التنمية. وبالتالي يمكن القول ان الامثلة البارزة لمؤسسات المجتمع المدني هي: الاحزاب السياسية، النقابات العمالية، النقابات المهنية، الجمعيات الاجتماعية والثقافية«(10).
ويبين التحليل النقدي للتعريف الاجرائي السابق الذكر، ان جوهر المجتمع المدني ينطوي على اربعة عناصر رئيسية هي:
ـ العنصر الاول ويتمثل بفكرة (الطوعية) التي تميز تكوينات المجتمع المدني عن باقي التكوينات الاجتماعية المفروضة تحت أي اعتبار.
ـ العنصر الثاني ويشير الى فكرة (المؤسسية) التي تستغرق مجمل الحياة الحضارية تقريباً، والتي تشمل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
ـ العنصر الثالث ويتعلق بفكره (الغاية والدور) الذي تقوم به هذه التنظيمات والاهمية الكبرى (لاستقلالها) عن السلطة السياسية وعن هيمنة الدولة من حيث هي تنظيمات اجتماعية مستقلة تعمل في سياق روابط تشير الى علاقات التماسك والتضامن الاجتماعيين.
ـ العنصر الرابع ويكمن في ضرورة النظر الى مفهوم المجتمع المدني بوصفه جزءاً من منظومة مرتبطة به تشتمل على مفاهيم مثل. المواطنة، حقوق الانسان، التنمية، المشاركة السياسية الشرعية..الخ.
ان هذا المفهوم الاجرائي لا يكتمل دون ان نضع المجتمع المدني في سياق تطوره التاريخي، بكلمه اخرى ان عدم هدر السياق التاريخي لمفهوم المجتمع المدني سيجعل منه مفهوماً ديمقراطياً تنموياً يتصل بالبناء والتطور والتغيير. أي مفهوماً يتصل بالديمقراطية من جهة وبالتنمية من جهة اخرى.
وعن حدود هذا الاتصال وتلك العلاقة بين المجتمع المدني والديمقراطية والتنمية لنتوقف عند الصياغات الفكرية السياسية العامة للمفكر الانجليزي (جون لوك) حول النشوء التاريخي للمجتمع المدني بوصفه بناء ديمقراطي تنموي(11). فهذه الصياغات تشكل الاصول التي لم يخرج عنها من جاء بعده ليهتم بهذا الشأن، وعند (لوك) يتحدد مفهوم المجتمع المدني بدلالة كونه المجتمع المتقدم والمتميز عن التجمع البشري في حالة الطبيعة الفطرية. وفي معرض مقارنته بين الحالتين يصف (لوك) حالة الطبيعة بانها حالة الانسان ما قبل السياسي، بينما وصف حالة المجتمع المدني بانها حالة الانسان السياسي. واذا كان من الممكن ان تكون حالة الطبيعة حالة حرب، كما من الممكن ان يكون العقل الاجتماعي بمثابة نوع من الاستسلام الذي تنتهي اليه هذه الحرب ليقود بالتالي الى نوع من الحكم السياسي المطلق، وهذا ما تمسك به المفكر الفرنسي توماس هوبز، فان حالة الطبيعة، بالمقابل، من الممكن ان تكون حالة سلام، ليكون العقل الاجتماعي بمثابة اتفاق محدود اشتراطي وقابل، بخصائصه هذه، لان يقود الى حكم سياسي مقيد، وهذا ما اخذ به المفكر الانجليزي (جون لوك).
والاخير يعرف حالة الطبيعة بأنها حالة المخلوقات التي لم تكن عرفت بعد المجتمع المدني حتى في شكله الاولي، وفي ظل هذه الحالة يكون الناس احراراً متساوين ويحملون في اعماقهم نور العقل الذي يسمح لهم في تلمس القانون الطبيعي، وفي مطابقة سلوكهم مع متطلباته.
وهكذا نرى ان حالة الطبيعة عند (لوك) تدفع بنا الى تصور وضع يسود فيه السلام التام، ومجتمع بدون مؤسسات سياسية، الامر الذي يجعلها حالة تبدو بصفتها حالة الحرية التامة، وكذلك حالة المساواة، ولكن حالة الطبيعة هذه هي ليست حالة اباحة، فمما لا شك فيه-كما يرى (لوك) ان الانسان وهو يعيش في ظل حالة الطبيعة يمتلك الحرية المطلقة في التصرف بشخصه وبأمواله.
ولكن في الوقت نفسه، لا يملك، مع ذلك الحرية في تحطيم ذاته، ولا في تحطيم اي مخلوق الا في حالة استعمالها الذي يستهدف الحفاظ على النفس، كما يرى (لوك) ان حالة الطبيعة يحكمها القانون الطبيعي الذي يلزم كل واحد، فطالما كان الناس متساويين ومتمتعين بالاستقلال ينبغي ان لا يوقع احد الضرر بالاخر في حياته وفي صحته او في حريته او في امواله، ان كل واحد يتمسك بالحفاظ على ذاته، بعدم ترك موقعه هذا ارادياً، وللسبب نفسه ينبغي عليه، طالما ان ذلك لا يضر في مسعاه للحفاظ على ذاته، ان يعمل بقدر ما يستطيع من اجل حماية الناس الآخرين. كما ينبغي عليه ان لا يزهق او يتلف الحياة او ما يرتبط بالحفاظ على الحياة، سواء تعلق الامر بحرية شخص آخر او صحته او امواله.
ان (لوك) يبدو في هذا الرأي كما لو انه تمثل مجتمعه الطبيعي في شكل حياة مشتركة ما بين اناس طيبين لا يمتلكون حاجة لاكراه الدولة من اجل ان يطابقوا سلوكهم مع قواعد قانون غير مكتوب. عند ذلك نجد انفسنا عند المصدر النظري للمجتمع المدني في الفكر الليبرالي حيث ان اسبقية المجتمع واستقلاليته النسبية بالقياس الى الدولة يعنيان ان الاول (المجتمع) بمقدوره ان يتولى الامر بدون الثانية(الدولة). كما تعنيان، اكثر من ذلك، ان نشاطات المجتمع تتمتع، بالنسبة لاي بناء تنظيمي، بأهمية وقيمة تفوقان اهمية وقيمة الدولة.
وعلى حد تعبير(محمد فتحي الشنيطي)، في دراسته عن (جون لوك)، فأن (لوك) كان يعتقد ان حالة الطبيعة هي ليست الفردوس الارضي، وان مبادئ القانون الطبيعي ليست من النصاعة والبداهة، بحيث لا تجنح الميول الشريرة بالناس عن جادة الصواب، حيث ان حالة الطبيعة، بواقعها المسالم، لم تستمر. فالتطور الاقتصادي في مجتمع حالة الطبيعة نجم عن تعقل العلاقات الاجتماعية وانغماس تدريجي للعدالة والاستقلال الملازمين لحالة الطبيعة والحافظين للامن والسلام فيها، ويرجع (لوك) هذا التطور الاقتصادي الى استعمال العملة النقدية، فمع ظهورها بات الانسان يميل الى تملك اموال تفوق حاجاته، وقبل ذلك كان انسان حالة طبيعية مقيداً بعدم امكانية الحفاظ على ما يزيد عن حاجاته الاستهلاكية، ولكن مع ظهور العملة النقدية اصبح الادخار والاكتناز لهذه العملة ممكناً.
وبسبب من ذلك فأن ظاهرة عدم المساواة اذا كانت في البداية ضئيلة وغريبة عن حالة الطبيعة، فأنها، بعد ظهور العملة واكتنازها، راحت تتنامى وبذلك ثار الحقد عند من يملكون قدراً اقل، وثار الخوف عند من يملكون قدراً اعظم، وبالتالي دب الشقاق وعمت الفرقة واخذ الامن والسلام بالتوارى التدريجي.
ولعل عاملاً مهماً كان قد ساعد على ذلك، الا وهو تمسك الافراد بحقهم في دفع الاذى عن النفس، ومعاقبة من يحاول الاساءة، او يستفيد من ذلك كل فرد يجد نفسه قاضياً في قضيته، بل وفي قضية المجتمع الانساني بأسره.
هكذا يمكن القول ان ما كان سائداً في حالة الطبيعة، مع هذه التطورات الاقتصادية، هو ما يسمى بـ(العدالة الخاصة) التي لم تكن لتمثل الا رد فعل الضحية اواقاربه او اصدقائه، لكن اللجوء الى العدالة الخاصة كان زاد من اختفاء السلام والامن عن حالة الطبيعة. لذلك يرى (لوك) انه من الضروري وضع حد للعدالة الخاصة. وما كان الانسان الما قبل سياسي الا ان يستشعر بالحاجة الى اشياء ثلاثة معتمدة على نور العقل وهي:-
(قانون وضعي محدد وواضح، قاضي غير متحيز من اجل تطبيق هذا القانون، وقوة جماعية قادرة على ان تفرض احترام الحكم الصادر عن القاضي).
هذا ما كان يحتاجه الانسان الما قبل-سياسي، ولم يكن بحاجة الى اكثر من ذلك، بكلمة اوضح ان ما كان يحتاج اليه هو التضحية بحقه في اصدار الحكم، اما حقه في حماية حياته وحريته وامواله، فينبغي ان يبقى متكاملاً دون ان يمس، مهما كانت النتائج. ومن اجل بلوغ هذه التضحية يصار الى طريقة تعاقدية. وبهذا الخصوص يرى (لوك) ان الطريقة الوحيدة للانسان الما قبل- سياسي، من اجل ان يتنازل عن حريته الطبيعية، ويتحمل التزامات المجتمع المدني هو ان يتفاهم مع آخرين لغرض التجمع وتشكيل جماعة مكرسة من اجل ان تجلب لهم جميعاً الرفاه والامن والسلام، ضمن اطار التمتع بأموالهم وممتلكاتهم مع توفير افضل حماية ضد اعتداءات اولئك الذين لم ينتموا الى هذه الجماعة. ان هذه الجماعة ستمثل بلا شك الدولة، غير ان سلطة الدولة في نظر (لوك) تأتي عن مصدر وحيد هو حاصل تنازل الافراد عن حق محدد بالذات هوالحق في ايقاع العقاب الخاص لتحتكره الدولة لنفسها، وبالنتيجة فأن قيام الدولة، بموجب العقد الاجتماعي، ليس من شأنه ان يعدم الحريات الفردية التي كانت قائمة في حالة الطبيعة، وذلك من اجل ضمان التمتع بالحقوق الاخرى كافة. وهكذا فأن (لوك) كان يسلم بأن قيام الدولة، بموجب العقد الاجتماعي، يقترن بوجود سلطة اكراه عامة مستقلة عن سلطة كل فرد ومتميزة عنها ومتفوقة عليها ومتمتعة بالسمو بالقياس اليها. ولكن هذه السلطة لا تتجاوز حدود ممارسة العقاب العام من اجل ضمان السلام وبالتالي تهيئة الفرصة المناسبة لكل مواطن فيها للتمتع الفعلي بحقوقه وحرياته كافة.
اذاً الدولة هذه ستبدو- كما يقول (هارولدلاسكي) بمثابة (شركة ذات مسؤولية محددة) فهي ليست دولة ذات سلطة مطلقة بل دولة ذات سلطة مقيده، بمعنى انها سلطة ديمقراطية ومن هنا يرتبط نشوء وبناء المجتمع المدني بوجود السلطة الديمقراطية (الامر الذي يسمح لنا بتأكيد وجود علاقة بين المجتمع المدني والديمقراطية على اعتبار ان الاخيرة (اي الديمقراطية) تمثل المستلزم او المشروع السياسي للمجتمع المدني وجوداً واستمراراً وتفعيلاً.
وهذه العلاقة يؤكدها، بشكل واضح، (سعد الدين ابراهيم) عندما يشير الى انها علاقة وثيقة لاسيما في الركن او المقوم الثالث الاساسي للمجتمع المدني(12) الخاص بحق الاختلاف في الآراء وفي المصالح المادية والمعنوية. فهذا الركن هو جوهر الديمقراطية، بل ان الديمقراطية كما يقول (سعد الدين ابراهيم) هي( الجانب السياسي) للمجتمع المدني وزيادة على ذلك يشير (سعد الدين ابراهيم) الى ان هناك صلة واحدة في جوهرها بين عمليتي بناء المجتمع المدني(13) والتحول الديمقراطي لاسيما في المنطقة العربية فيقول (ففي الوقت الذي تنمو وتتبلور فيه التكوينات الاجتماعية والاقتصادية الحديثة، فأنها تخلق معها تنظيمات مجتمعها المدني الذي تسعي بدورها الى ترسيخ دعائم المشاركة في الحكم. واليوم اذا كان ترويج خطاب المجتمع المدني يتم من باب الديمقراطية، فأن هناك باب آخر للترويج هو باب التنمية فما هي حدود العلاقة بين المجتمع المدني والتنمية؟
ان التنمية على رأي عالم الاجتماع الامريكي (روبرت بونتام) تغذي (رأس المال الاجتماعي) بالقوة، والمصطلح الاخير يعني (المجتمع المدني)(14)، واذا كانت عملية الربط بين التنمية والمجتمع المدني تغذي الاخير بـ(القوة) فالمقابل ان التنمية الشاملة ستعتمد على رسوخ قيم ومبادئ المجتمع المدني، وفي هذا الصدد يؤكد (سعد الدين ابراهيم) ان الدعوة لقيم ومبادئ المجتمع المدني ودعم مؤسساته هي (الطريق الامثل للديمقراطية الحقة والتنمية الشاملة العادلة(15).
ومن ذلك يتضح لنا أن هناك مقترب يساعد على تحديد مفهوم المجتمع المدني الا وهو مقترب التنمية حيث أن الاهتمام بمفهوم المجتمع المدني يعود، اصلاً، الى مفردة ذات صلة بالتنمية الشاملة وهي مفردة (التحول الحضاري) او مفردة (التطور التاريخي) وفي هذا الشأن يشير (فالح عبد الجبار) في معرض المدخل العام لمفهوم المجتمع المدني والاهتمام الاستثنائي بمفهومه خلال العقد الاخير، بالقول »ان سمة الاهتمام الجاد وغير الجاد ايضاً، تأتي من تحول حضاري كبير يتمثل بأنهيار عالم قديم بمثله وقيمه ومفاهيمه ومقولاته الفلسفية«(16). كما تبدو العلاقة ايضاً بوصف المجتمع المدني يمثل مفهوماً تطورياً لظاهرة لها وجود حقيقي متغير في الزمان، وجود يمكن تلمس قسماته العامة. وبهذه الصفة التاريخية التطورية يكتسب مفهوم المجتمع المدني الملامح التاريخية، كما يتميز بخصوصية في حقبتنا الراهنة. ولا يقتصر الحديث عن العلاقة بين المجتمع المدني والتنمية من خلال مفاهيم التحول الحضاري والتطور التاريخي للمجتمعات فقط بل ايضاً من خلال الخصائص العامة للمجتمع المدني، فقد تميز المجتمع المدني الناشئ والمتبلور في المدن المستقلة بخصوصية وبخصائص عديدة اولها بروز الفرد في مجال الانتاج المادي والفكري، ثم الانتاج المتسارع للثروة على اساس الصناعة والتجارة، والانتماء للمجتمع بدل الانتماء لطائفة دينية او حرفية، والتسامح الديني، ونظرة جديدة الى المجتمع تقوم على دور فاعل للانسان، واعلاء شأن العلم والعقل(17).
وكل هذه الخصائص تعبر عن انشغالات تنموية، ولنكن على يقين ان هذه الخصائص المتمثلة بتطورات اقتصادية واجتماعية وثقافية لم تبرز جاهزة بل تبلورت بالتدريج على مدى عدة قرون على نار التطور الهادئة، التي لم تكن تخلو من توترات وتصادمات وانفجارات وحروب، وعليه فأن المجتمع المدني يرتبط بمفهوم التقدم الانساني عموماً وان التنمية ركن اساسي للتقدم الانساني.
والحقيقة ان التقدم الانساني لا ينحصر في مجتمع دون آخر، وبصدد المجتمع في المنطقة العربية فأن الحديث عن العلاقة بين التنمية والمجتمع المدني هوحديث عن تحول البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، اي الحديث عن التنمية الشاملة. والاخيرة في المنطقة العربية تمثل مستلزماً او شرطاً ملازماً لنشوء وتفعيل المجتمع المدني العربي قيد التشكيل، فطالما ان المجتمع المدني في المنطقة العربية هو (ضعيف وهلامي وقيد التشكل) فهو يحتاج الى مستلزمات اولها وآخرها اقامة التنمية الشاملة. ويصف (فالح عبد الجبار) عملية نشوء المجتمع المدني في المنطقة العربية لاسيما في حالة العراق مثلاً بوصفها عملية تنموية، ففي المدن العربية حيث تجري التحولات وتتغير صورة كل مدينة الى درجة يتعذر معها التعرف على ملامحها القديمة. فالجدران التي تفصل الاحياء (المحلات) عن بعضها البعض كخطوط انفصال ديني اوطائفي او قبلي او حرفي تنهار وتذوب مزيلة، بالتدريج، اشكال الاندماج الميكانيكية القديمة، وخالقه عوامل التحام عضوية جديدة، اي ان عوامل الاتحاد في هذه الاحياء (الحارات) القائمة على علاقات التبعية الشخصية وتضامن الاصناف الحرفية او الجماعية الدينية (مجموعة سنية اوشيعية او مسيحية او يهودية او طائفة صوفية)، او تخف بالتدريج لتحل محلها علاقات وروابط اجتماعية جديدة تتبلور بالتدريج في شكل الاتحادات الصناعية، وغرف التجارة ونقابات العمال والمنظمات المهنية والاحزاب السياسية(18).
والحقيقة ان كل هذه التحولات التنموية لنشوء معالم المجتمع المدني في المنطقة العربية تقوم على يد الدولة، والاخيرة تهيمن على الحيز الاكبر من اهم وظائف المجتمع المدني والمتمثلة بوظائف: انتاج وتبادل الثروة الاجتماعية، وميدان التنظيمات الاجتماعية وميدان انتاج الثقافة. ويمكننا القول-يقول (فالح عبد الجبار) ان زحف الدولة في الميدان الاول (الانتاج)، مهد لزحفها الظاهر في الميدان الثاني (التنظيمات الاجتماعية) والميدان الثالث (انتاج الثقافة)، وهانحن ازاء مجتمع مدني(19). واهن من جهة، ويفتقر من جهة اخرى الى الادوات المدنية للتعبير عن النفس.
ولكن رغم ذلك تظل الدولة في المنطقة العربية بوظائفها هذه تنمي نفسها، وفي الوقت ذاته تقود الى خلق مجتمع مدني(20).
ومما يفيد تأكيد العلاقة ما بين التنمية والمجتمع المدني في المنطقة العربية هو الضرورة المستقبلية للمجتمعات المدنية العربية ككل واحد، فوجود مثل هذه العلاقة يمثل ضرورة ملازمة لمستقبل وحدة الوطن العربي. واليوم تتحكم في مستقبل الوطن العربي ومجتمعاته ثلاثة مشاهد رئيسية محتملة يوردها (غسان سلامة)(21).
المشهد الاول: هو امتداد للاوضاع القائمة دون تغيير كيفي يذكر. الا وهو مشهد استمرار واقع ومنطق التجزئة، وهويمثل اسوأ الاحتمالات بالنسبة للوطن العربي عموماً، ولكل دولة على حده مهما كان حجمها او درجة ثرائها، ولبعض الدول الحدودية على اطراف الوطن العربي خصوصاً.
المشهد الثاني: هو احتمال التعاون الاقليمي او التنسيق العربي العام، وينطوي على وقف التدهور وتحسين الاداء العربي العام، سواء في داخل كل دولة ام في علاقات هذه الدول بالقوى الاقليمية والدولية المتربصة بها.
المشهد الثالث: هو احتمال الوحدة العربية، سواء بين تجمعات اقليمية ام بين الدول القطرية في شكل وحدة اتحادية (فيدرالية) وهو افضل الاحتمالات للمستقبل على الاطلاق، ليس فقط من حيث امن الوطن وعزة لمواطن ولكن ايضاً من حيث امكانيات التنمية الشاملة وسد الفجوة بين الدولة والمجتمع المدني.
مما تقدم يبدو لنا ان المنطقة العربية تعيش حالة التنمية الشاملة من جهة وحضور متزايد لفجوة قائمة بين الدولة والمجتمع المدني من جهة اخرى، الامر الذي يجعل من اقامة التنمية الشاملة وسد الفجوة بين الدولة والمجتمع المدني مستلزمان ضروريان لمستقبل افضل وفي تقديرنا ان الحديث عن العلاقة بين الثالوث المتلازم (التنمية والديمقراطية والمجتمع المدني) في الوطن العربي هو حديث عن استشراف مستقبلي جديد بكل معنى الكلمة.
الهوامش
(1) فالح عبد الجبار، الدولة والمجتمع المدني والتحول الديمقراطي في العراق، مركز ابن خلدون ودار الامين للنشر والتوزيع، القاهرة، 1995، ص42.
(2) المصدر نفسه، ص43.
(3) عزمي بشارة، المجتمع المدني (دراسة نقدية)، مركز دراسات الوحدة العربية، لبنان، بيروت، ط، 1998ف، ص12.
(4) المصدر نفسه، ص12.
(5) كريم ابو حلاوة، اشكالية مفهوم المجتمع المدني، دار الاهالي، دمشق، ط، 1998م.
(6) المصدر نفسه، ص76.
(7) المصدر نفسه، ص83.
(8) المصدر نفسه، ص100.
(9) انظر بحوث ومناقشات ندوة بيروت 1992 في كتاب المجتمع المدني في الوطن العربي ودوره في تحقيق الديمقراطية (مركز دراسات الوحدة العربية) بيروت، لبنان، ط1، 1992م.
(10) المصدر نفسه، ص292 (سيف الدين عبد الفتاح اسماعيل) المجتمع المدني والدولة في الفكر والممارسة الاسلامية المعاصرة..
(11) حول الصياغات الفكرية السياسية العامة لنشوء المجتمع المدني عند جون لوك انظر:
محمد فتحي الشنيطي، جون لوك، دار الطليعة، بيروت، 1969م.عبد الرضا حسن الطعان، تاريخ الفكر السياسي الحديث، دار الحكمة للطباعة والنشر، بغداد، 1992، ص ص 343-357.
(12) ينطوي مفهوم المجتمع المدني على ثلاثة مقومات او اركان اساسية: الركن الاول: هو الفعل الارادي، فالمجتمع المدني يتكون بالارادة الحرة لافراده، فهو غير الجماعة القرابية مثل الاسرة والقبلية، والركن الثاني هو التنظيم الاجتماعي، فالمجتمع المدني هو مجموعة من التنظيمات وكل تنظيم فيها يضم افراداً او اعضاء اختاروا عضويته بمحض ارادتهم الحرة، اما الركن الثالث للمجتمع المدني فهو ركن اخلاقي سلوكي. انظر سعد الدين ابراهيم-المجتمع المدني والتحول الديمقراطي في الوطن العربي-عن كتاب محمد زاهي المغريبي-المجتمع المدني والتحول الديمقراطي في ليبيا-مركز ابن خلدون ودار الامين للنشر والتوزيع ص ص 5-6.
(13) المصدر نفسه ص6.
(14) المصدر نفسه ص12. في دراسته المعنونة (جعل الديمقراطية تعمل: التقاليد المدنية في ايطاليا الحديثة) يذهب ربورت بونتام الى تأكيد ما ساماه (رأس المال الاجتماعي) Social Capital ولا يعدو هذا المصطلح ان يكون هو بذاته ما نسميه بـ(المجتمع المدني)-المصدر نفسه ص 8-9.
(15) فالح عبد الجبار-الدولة والمجتمع المدني والتحول الديمقراطي في العراق-مصدر سابق الذكر-ص الغلاف الاخير.
(16) المصدر نفسه ص 41 (53) المصدر نفسه ص 42.
(17) المصدر نفسه، ص47.
(18) المصدر نفسه، ص 63-64.
(19) المصدر نفسه، ص64.
(20) المصدر نفسه، ص63.
(21) غسان سلامة، المجتمع والدولة في المشرق العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت1987، ص9.