لاشكّ أن العولمة، في سياقها العام، هي ظاهرة مربكة بسبب ما طرأ على مدلولات الأمكنة والأزمنة من تغيير، وصحيح أيضا أنها تتضمّن مخاطر عدّة بفعل الوضع الجيوسياسي الجديد في العالم، والذي يستند إلى الجنوح الأحادي للقوّة الوحيدة في الكون. ولكن لا بدّ من أن ندرك جيّدا أننا نعيش عصرا انتقاليا بجميع المقاييس، لا قدرة لنا على إيقاف تقدّمه، بل أن قدرنا الاندراج في سياقه لكي لا نبقى على هامشه.
فالعولمة من هذا المنظور هي التحدّي المفروض علينا لتأكيد وجودنا وتثبيت إضافتنا وكسب الرهانات الآنية والمستقبلية المطروحة في مجتمعاتنا، خاصة وان الوضع العالمي الراهن غارق في ملابسات عدم التكافؤ، والجنوح إلى فرض نمطيّة أحادية تقرّ بأن لا وجود لحضارة غير حضارة التفوّق الاقتصادي والعسكري. والخوف كلّ الخوف، إزاء هذا الواقع، أن يجرفنا هذا التيار وفق ما أكّده ابن خلدون من أن المغلوب مولع بتقليد الغالب.
بقي أن العولمة وتحدياتها وطرق توظيفها المختلفة، مسألة كونية، تعني كلّ المجتمعات دون استثناء وتفرض عليها ضغوطاتها. فهي ليست موجّهة ضدّنا حتى ننظر إليها بذاك الاحتراس المبالغ فيه، ونعدّ، لمواجهتها، العدّة الدفاعية اللازمة، ونستنفر جميع طاقاتنا لصدّ زحفها. لماذا نحرص على التعامل معها كظاهرة سلبية بالكامل، في حين ان لـجميع الظواهر، في كلّ العصور، جوانب سلبية وأخرى ايجابية،؟ لماذا لا نعتبرها عاملا مغذّيا لروح التحدّي، ودافعا لتثبيت خصوصياتنا وتعميق حضورنا على ساحة الفعل الإنساني؟
فبنظرة موضوعية مجرّدة من تراكمات الخوف الساكن فينا، وبعيدا عن المجاهر المحدّبة، التي تضخّم السلبيات، نكتشف بيسر أن العولمة توحّد وتدمج، وتفتح الآفاق الواسعة، وتوفّر الفرص العديدة، بقدر ما تفرّق وتهمّش وتقصي. لذلك فإن التحدّي الأكبر يتمثل في قدرتنا على إحكام توظيف فتوحاتها الايجابية. وإن هذا التوظيف هو أوّل خطوط الدفاع في مواجهتنا لغزواتها السلبية.
فالعولمة واقع مفروض على الجميع، وإن كلّ المجتمعات مطالبة بالتعامل معها وفق ايجابياتها وسلبياتها، ومغالبة التحدّيات المتنوّعة التي تطرحها
. فالخوف ليس من المدّ الطاغي للعولمة، وإنما من تلك المبالغة في شدّها شدّا كلّيا للسلبيات، وهو ما كرّس شعورا بالرهبة والارتباك أمامها، وولّد نزعة انطوائية واحتمائية في ذوات محبطة ترى أن الآخر متربّص بها.
المشكلة الأساسية، إذن، ليست في العولمة ذاتها، وإنما في نظرتنا إليها وكيفية تعاملنا مع مرجعياتنا ومقاصدها وآلياتها وتحدّياتها. فهي الظاهرة التي تحدّد مسيرة العصر، وترسم، تبعا لذلك، مصائر المجتمعات. وإن الأمم التي تتخلى عن واجب الإقدام والتوثب، وتهمل تقديم قيم التأقلم البنّاء مع المستجدّات العالمية في جميع المجالات، ستنسحب، حتما، من مسيرة العصر.
ومن المؤسف أن يتمّ توظيف شعار الدفاع عن الهويّة، في هذا السياق، لمواجهة تيّار العولمة، ويُطلّ «حرّاس الهويّة» من دهاليز الماضي لشنّ الحملات التي لا طائل لها. فالعولمة كالزمان، تماما، لا ترتدّ إلى الخلف أبدا ولا تتوقف مطلقا، ولا تقنع بما كان ولا بما هو كائن. أمّا الهويّة فتصمد وتتجذّر عندما تتناغم مع تطوّر الزمن وتستوعب ارهاصات العصر.
فالتّقوقع والانزواء والتمركز المعكوس لا يحمي الهويّة كما لا يوقف تيّار العولمة.
لقد ركب خصوم العولمة صهوة الهويّة، فاختلطت لديهم المفاهيم وانقلبت القيم رأسا على عقب إلى درجة غدت فيها الهويّة مرادفا للتعصّب والشوفينية، وأحاطت بها التوظيفات التفاعلية والمزايدات التي لا طائل من ورائها. فيكفي أن تمتدّ أيدي التفتح والتواصل لتنهل من ينابيع العولمة، وأضاف أنها حتى ينطلق «حماة الهويّة» ليفجّروا القضايا المغلوطة، ويفتحوا الأبواب والنوافذ أمام جدل هستيري، ويوهموا بأن المجتمع في خطر، وأركان المناعة قد اهتزّت!! فأية هوية يحرسون، وعن أية مناعة يتحدّثون؟!
إن الهويّة أعمق وأشمل من تلك «المرجعيات» التقليدية الموروثة التي أتت عليها طوارئ الزمن. إذ هي جملة من القيم المتماسكة والمتكاملة، يشدّها إلى بعضها البعض، إدراك مشترك، ويحتضنها نموذج حياتي عملي، واضح المعالم. فقد يمكّنك تفتحك على الحضارات والثقافات والأديان الأخرى، من إثراء موروثك، وبالتالي توفير الإفادة لهويتك خلافا للذين اختاروا العيش على إيقاع الموروث وفي كنفه. أمّا المناعة فيثبّتها الإيمان بالذات وتلك القدرة على مواكبة مسيرة العصر، والتوظيف المحكم للرّوافد، واحترام الآخر، والمشاركة الفاعلة في تأثيث ما كان سماها خير الدين التونسي منذ قرن ونصف القرن من الزمان "البلدة المتحدة" وليس من آفات تنخر الهوية والمناعة كما التعصّب والانكماش والتقوقع والجذب إلى الخلف و«الحمائية الوهمية» والتمركز المعكوس والانسحاب من مسيرة العصر.
لا أدّعي بهذا الموقف أن المرجعيات التقليدية للهوية قد انهارت واندثرت تماما، ولا أدعو مطلقا إلى التخلي عنها، وإنّما أعتقد أن وظائفها قد تقلّصت في هذا العالم المفتوح، ولا بدّ، والحال تلك، من إعادة صياغة مرجعيات جديدة للهوية تقينا ذعر التائهين ومزايدات الغافلين. فالهويّة، وإن كانت ذات ثوابت، فهي ليست قالبا جامدا وإنما هي إطار انتماء مفتوح على إمكانيات التطوّر والتجدّد والتحوّل والتغيّر. وهو ما يحثّنا على تشكيل معنى جديد للهويّة طبقا للمستجدّات الطارئة، وهو المعنى الذي يفكّ أسر الارتهان إلى الماضي، ويستعيد الإرادة، ويحرّر الفكر من قيود الأبنية الموروثة. فالسؤال الذي يجب أن نطرحه الآن ليس كيف نتمسك بهوياتنا في مواجهة تيّار العولمة، وإنما كيف نُشكّل معنى لهويات تتأقلم مع هذا التيار وتندرج في سياقه لتثبّت إضافاتها للتنوّع الإنساني.
يتحدّث البعض عن الهوية من منظور إيديولوجي يمجد الاختلاف الذي روّج له فكر اليسار في بداية النصف الثاني من القرن الماضي، في حين يوظفها البعض الآخر لأغراض ملفوفة بأردية الظلامية. لذلك نجدها شعارا مرفوعا ضدّ العولمة في الحالتين، وتناسى الطرفان ان الهوية هي في الأصل، خلاصة مختلف تفاعلات الإنسان مع محيطه القريب والبعيد، وتتيح له التعرّف على ذاته من خلال ذاك المحيط. فليس هناك هويّة في حدّ ذاتها ومن أجل ذاتها فقط، كما إنها نسبية وليست مطلقة، وتتضمن عناصر متغيّرة ومتحوّلة، مما يجعلها خاضعة، دوما للصياغات المتواترة.
ولا بدّ، من التأكيد، في هذا الإطار، إن العالم يعيش منذ القديم على إيقاع ذاك الصّراع الأزلي بين مركزيتين: تتمثل الأولى في الجنوح نحو فرض الذات وتوسيع مدارات التأثير، وتتلخص الثانية في التقوقع بين ثنايا المكاسب الموروثة والاكتفاء بالدفاع عنها وصيانتها.
وبين المركزيتين توجد مساحة للحضور الفاعل والتأثير المفيد والاستيعاب الخصب، فلا يفيدنا، اليوم ما كسبنا وما أنجزنا، بل ما ننجز الآن وما نطمح إلى انجازه في المستقبل. فالاستمرار في التفكير والتصرّف بعقلية دفاعية وانطوائية لا ينتج إلا التّعثّر ولا يمهّد إلا للسقوط والاندثار.
ومن هنا لا بدّ أن ننخرط في الدفاع عن القيم الإنسانية المشتركة ونتبنى منهجا عقلانيا يقطع مع رؤيتنا الأحادية للعالم وتأويلاتنا الانتقائية للحقيقة. فالواقع الذي نعيشه متعدّد الرهانات والتحديات ولكنه ينبض فرصا وإمكانيات.
إنّ الحوار مع الآخر هو فرصتنا الأساسية لتأمين تثبيت وجودنا من جهة وتيسير اندراجنا الفاعل في مسيرة العصر من جهة أخرى. ولكن للحوار خصائص ووظائف وأدوات وحدود ومقاصد. فهل نريد من الحوار أن يحوّلنا إلى مثيل للآخر أم أن يقلّص الفجوة ويعمق التواصل بيننا؟ لا شكّ أن الحوار المفيد لا يستقيم إلا إذا ما توفّر التنوّع، إذ التماثل يلغي قواعد الحوار وينسف إمكانيات الإثراء الإنساني المشترك. ففي الحوار إقرار بالحاجة إلى التنوع انطلاقا من الإيمان بأن لكل حضارة إسهامها الخصوصي في إثراء المخزون الإنساني. فالوحدة الكونية لا تقوم على غير التنوع إذا ما رمناها ثرية وخصبة، وهي نقيض التماثل والتجانس الأحادي الذي لا ينجب غير العقم والبوار والأنماط الجامدة والقوالب الجاهزة.
والى جانب مخاطر التماثل تتّسع رقعة المستنقعات الداكنة التي تبثّ روائح التعصّب والتزمّت بدعوى صيانة الهويّة والدفاع عن الذات وموروثها.
في هذا الإطار تحديدا، يمكن تنزيل حضور التونسيين، وخاصة الشباب منهم، في الشبكات الاجتماعية الإلكترونية، وتوظيفهم لهذه التكنولوجيات الاتصالية المتطوّرة للتعريف بالوجه الحقيقي لبلادهم، والموسوم، ماضيا وحاضرا، بالتسامح والتفتح والتحديث، ولمواجهة كلّ دعاة الجذب إلى الخلف والانطواء والتمركز الحمائي المعكوس. فمثل هذا الحضور الفاعل والمكثف من شأنه أن يدعّم توجهات بلادنا في الدعوة إلى صحوة إنسانية يكون فيها التسامح والتواصل المثمر، والشراكة الخصبة، أساس منظومة من القيم المشتركة.
إنّ الاندراج في مسيرة العصر، ينطلق من إحكام توظيف الفرص والإمكانيات التي تتيحها العولمة في جانبها الايجابي.
صحيح أن التحديات المطروحة عديدة ومتنوّعة، فالوضع السّائد، والذي يغلب عليه تضارب المصالح، من شأنه أن يعرقل التوجّه نحو عالم تسوده المبادئ والقيم الإنسانية الرفيعة، ويجعل أغلب الأفراد والجماعات في تردّد بين القيم المرجعية الموروثة والعادات الانتمائية من جهة، وتطوّرات العصر ومستجدّاته من جهة أخرى، ولكن دورنا أن نضع حدّا لهذ االتردّد بإشاعة قيم الاندراج المثمر في سيرورة الإبداع الإنساني، ونشر ثقافة الانفتاح، وتكريس الإيمان بأن العولمة فرص وإمكانيات، وان صيانة هويتنا ينطلق من قدرتنا على تأمين تواصلها مع هويات الآخرين. فوعي الذات هو المدخل الأوّل إلى وعي الآخر ووعي العالم ولا بدّ أن يخرج خطاب الهوية من براثن التوظيف الإيديولوجي والعقائدي، ليستعيد حقّ تأمل المستقبل في عالم تتداخل فيه أزمنة وأمكنة الأنا مع أزمنة وأمكنة الآخر. وتلك هي أهم التحديات التي تواجهنا.