ملخص الدراسة
تحاول الدراسة التعرف على تأثير البيئة الإجتماعية في إنتاج و إعادة إنتاج ظاهرة تعاطي المخدرات ، و ذلك من خلال الإجابة على تساؤل مؤداه :
- إلى أي مدى ترتبط ظاهرة تعاطي المخدرات بالبيئة الإجتماعية ؟ .
من خلال هذا التساؤل نرى أن الدراسة تحاول إظهار العلاقة بين طرفين أو متغيرين أحدهما يمثل المتغير المستقل و هو البيئة الإجتماعية ، و الآخر يمثل المتغير التابع و هو ظاهرة تعاطي المخدرات.
تهتم هذه الدراسة بالظروف و العوامل التي تحيط بالفرد ، و هي في هذه الدراسة تقتصر على العلاقات و الروابط الوثيقة بين الشخص و فئات من الناس يختلط بهم إختلاطاً و ثيقاً ، ويرتبط بهم لفترة من الزمن ، و هذه المجموعات التي نرى أن لها علاقة بتكوين سلوكه هي الأسرة و جماعة الأصدقاء و الحي السكني ، و يمكن تحديد بعض المحددات الإجتماعية بشكل أوضح في أهداف الدراسة :
1 – تستهدف الدراسة بالدرجة الأولى التعرف على الخصائص التي تشتمل عليها البيئة الإجتماعية المرتبطة بظاهرة تعاطي المخدرات من خلال التعرف على :
- الخصائص الإجتماعية و الثقافية للمتعاطين و أنواع المخدرات التي يتم تعاطيها و كيفية الحصول عليها .
- التعرف على نصيب الأسرة في تشكيل ظاهرة تعاطي المخدرات .
- التعرف على علاقات الصداقة التي يرتبط بها المتعاطي و نصيبها في تشكيل الظاهرة .
- التعرف على الأماكن التي يعيش فيها المتعاطون .
2 – التعرف على المقولات النظرية التي ترتبط مباشرةً بتفسير ظاهرة تعاطي المخدرات .
و قد تم تطبيق الدراسة على جميع نزلاء مراكز الإصلاح و التأهيل بشعبيات الجبل الأخضر و مركز الإصلاح و التأهيل ببنغازي ، المحكومين في قضايا تعاطي المخدرات و الذين بلغ عددهم 72 حالة ، و تم إستخدام منهج المسح الإجتماعي مع الإستعانة بمنهج دراسة الحالة لتحليل بعض الحالات ، و أستخدمت إستمارة المقابلة لجمع البيانات .
التصور النظري للدراسة:
إذا كانت إشكالية الدراسة تتبلور في فكرة مؤداها : أن تعاطي المخدرات هي ناتج بيئة إجتماعية ذات مكونات ثلاثة هي جماعة الأصدقاء- الأسرة- الحي السكني ، فإن هذه البيئة بمكوناتها الثلاثة من وجهة نظر الدراسة تمثل نسقاً إجتماعيّا تتفاعل بداخله هذه المكونات الثلاث بوصفها عناصر بنائية تتبادل التأثير على النحو الذي يؤدي إلى إنتاج و إعادة إنتاج الظاهرة .
عندما ننظر إلى البيئة الإجتماعية بوصفها نسقاً إجتماعيّا و قيمياً . فللنسق مكونات موضوعية تحكمها منظومة قيم و معايير ، أي تشير إلى ( النسق القيمي ) الذي يعرفه بارسونز بوصفه : " مجموعة من الأفكار المعيارية يتبناها الأفراد و يحددون من خلالها ما بجب أن يكون عليه المجتمع الذي يعيشون فيه " ، كما عرف القيم بأنها : " أنماط معيارية يتبناها مختلف الأفراد عند تقييم طبيعة النسق الإجتماعي الذي يحيون فيه " ، كذلك يعرف المعايير بأنها : "أنماط عامة من التوقعات تحدد التوقعات الفرعية السائدة لدى الوحدات البنائية المتباينة " ، وبتعبير أبسط فإن المعايير تشير إلى ما يتوقعه الفرد من الآخرين و ما يتوقعونه منه في إطار المجتمع .
من خلال هذه المفاهيم يبدوا واضحاً أن المعايير و القيم و الأهداف الجمعية هي التي تحكم وتضبط سلوك الفرد . الفكرة هنا أن البيئة الإجتماعية بمكوناتها الثلاثة تمثل نسقاً ؛ و النسقية هنا تعني التجانس القيمي و المعياري ، لذلك تمثل ظاهرة تعاطي المخدرات هنا خروجا على النسق.
يمكن صياغة نموذج يظهر الترابط و التفاعل بين المكونات الثلاثة للبيئة الإجتماعية ، ويمثل في ذات الوقت بناءً فرضياً تسترشد الدراسة به من ناحية ، و من ناحية أخرى تقوم الدراسة بمحاولة فحصه و إختباره إذ يمثل النموذج أداة منهجية .
يقوم النموذج على التصور التالي :
( تنشأ ظاهرة تعاطي المخدرات بوصفها ناتج متوقع لإختلالات تميز أهم عنصر بنائي داخل النسق الإجتماعي و هو الأسرة ، إذ تتميز بكبر الحجم و ضعف الموارد المالية ، و غياب الأب عن المنزل لفترات طويلة و إنخفاض المستوى التعليمي و الثقافي للوالدين ، و عدم القدرة على التوجيه و الإرشاد ، و نشر علاقات التوتر بين أفراد الأسرة . لذلك فإن النتيجة المتوقعة من هذه الظروف أن يمر الفرد ( المتعاطي ) بأول خبرة فشل حقيقية و هي عدم القدرة على التحصيل الدراسي و من ثم ترك المدرسة . و تجدر الإشارة هنا أن الإنتكاسات النفسية لمثل هذه الجوانب الأسرية على الفرد تتمثل في إكتسابه مشاعر النقص و الدونية و عدم الثقة في النفس ، و كبت روح المبادرة و الطموح بداخله ، و قد تتأكد هذه المشاعر بداخله من الخبرات الأليمة الناتجة عن العقاب البدني و المعنوي ، داخل الأسرة و المدرسة ، و يزداد الشعور بالألم إذا ما أرتبط العقاب بعدم التحقيق ( أي إرتباطه بالظلم و العدوان ) .
بمثل هذا التهيوء العقلي و النفسي يخرج الفرد ( المتعاطي ) و هو في سن مبكرة بحثاً عن العمل حتى يخفف من الأعباء المالية التي تقع على الوالد ، لكن يجد نفسه غير متملك للقدرة أو الإرادة على الإلتزام بالقواعد الواجبة الإتباع في المؤسسة التي يعمل بها ( مؤسسة حكومية- ورشة- متجر ... الخ ) ، لكن يجد نفسه مدفوعاً للإنخراط في علاقات مع أفراد من نفس الظروف الإجتماعية و الاقتصادية و من نفس المشاعر ، سرعان ما تتشكل علاقات و روابط تزداد قوة و تماسكا ، و تصبح نسقا من خلال تعاطي المخدرات فالأساس الذي جمع هؤلاء هو الإشتراك في نفس المشاعر ( أي مشاعر النقص والدونية و عدم الثقة في النفس ) . و سرعان ما ينشأ إتفاق و ميثاق غير معلن و غير محدد المبادئ ، إتفاق على أن يتم الإنفصال و الخروج من النسق الإجتماعي الذي يؤكد قيم النجاح في الحياة من خلال التعليم و تكوين ثروة ، و من خلال ضرورة أن يحظى المرء بالمكانة و التقدير بين الناس ، إذ تتفق الجماعة على الإنفصال عن هذا النسق و تشكيل نسق آخر بعيد عن النسق الأول و قيمه و معاييره – إذ تمثل النسق الآخر- أو هو عبارة عن إنسحاب لخلق قيم و معايير جديدة و صور ذهنية جديدة ، إذ يتصور المتعاطي أنه بواسطة هذا المخدر قد أمتلك العالم و أصبح أكثر علماً و ذكاءً ، أصبح أكثر قدرة و شجاعة على مواجهة العالم .
إذا كانت الظروف الإجتماعية و الإقتصادية للأسرة و إنعكاساتها النفسية هي التي تدفع الفرد ( المتعاطي ) للإنخراط في علاقات صداقة يجمعها أفراد من نفس الظروف الأسرية ، فإنه من المتوقع كما أشارت إلى ذلك الدراسة الإستطلاعية أن معظم أفراد جماعة الأصدقاء من نفس الحي السكني ، و يبدو هذا أمراً طبيعياً لأن الحي السكني كما هو واضح من إسمه يتكون من مجموعة من الأسر تقيم في مكان واحد يطلق عليه ( الحي ) ، و هو مصطلح يشير إلى شدة الجوار ، إذ تنشأ حياة إجتماعية مشتركة من خلال تجمع من الأسر في مكان واحد مشترك ، إذ غالباً ما يكون هذا التجمع من الأسر ذا مستوى إقتصادي و إجتماعي متقارب يضفي على الحي سمات معينة، كأن تتصف بعض الأحياء بالمستوى الإجتماعي و الاقتصادي العالي نظراً لأن التجمعات الأسرية بها تنتمي إلى هذا المستوى فضلاً عن تواجد بعض المؤسسات الثقافية والإجتماعية و الترفيهية لتمضية وقت الفراغ ، و من خلال الإقامة في حي مشترك تنشأ جماعات و علاقات إجتماعية من ضمنها تكوين جماعات الأصدقاء ، و هي تنشأ بحكم التجاور المكاني و تعكس ، أو هي مظهر من مظاهر الإنتماء إلى نفس المستوى الاقتصادي والإجتماعي.
ما يهم هنا هو التأكيد على فكرة مؤداها : أن الحي السكني و هو جانب إيكولوجي يكتسب أو يمثل ظرفاً موضوعياً في تكوين بعض الظاهرات الإجتماعية ، و من بينها تعاطي المخدرات وقد أظهرت الدراسة الإستطلاعية أن الأحياء السكنية تخلو من المظاهر التي من شأنها تمضية أوقات الفراغ كالنوادي لممارسة الأنشطة الإجتماعية و الرياضية ، و المراكز الإجتماعية والثقافية لممارسة الأنشطة العقلية .
لكن بشكل عام يصعب القول بأن هناك أحياء سكنية من النوع الذي يرتبط بخلق الظروف الموضوعية لنشوء و نمو ظاهرة تعاطي المخدرات ، لأن الأحياء من هذا النوع تتميز بشدة الفقر و الكثافة السكانية و مظاهر أخرى من الفساد كالإتجار في المخدرات و البغاء ، و مثل هذه الأحياء تتواجد بكثرة في بعض البلدان النامية كأحياء واضعي اليد و سكنى المقابر ، و غالباً لا تضع خطط التنمية هذه الأحياء في إعتبارها مما يجعلها مرتعاً خصباً لنمو الجريمة والإنحراف .
و قد توصلت الدراسة إلى عدة نتائج تتلخص في النقاط التالية :
أولاً- المتغيرات الإجتماعية و الإقتصادية لمجتمع البحث :
1- أعلى نسبة للمتعاطين تقع في فئة العمر ما بين 20- 40 سنة ( 94,4 % ) ، و تقل نسبة التعاطي بإزدياد العمر .
2- غالبية المتعاطين من العزاب (90,3 % ) .
3- إنخفاض المستوى التعليمي لدى غالبية المتعاطين ، و تقل النسبة بإرتفاع المستوى التعليمي .
4- إنتشار تعاطي المخدرات بين مختلف الوظائف ، إلاَّ أنها ترتفع لدى ذوي البطالة .
5- أما من حيث مكان الإقامة فقد لوحظ أن غالبية المتعاطين هم من سكان المناطق الحضرية (المدن ) ، حيث بلغت نسبتهم ( 86,1 % ) .
ثانياً- متغيرات تتعلق بالتعاطي :
1- توصلت نتائج الدراسة إلى أن غالبية المتعاطين للمخدرات تعاطوا لأول مرة في مرحلة العمر من 15- 19 سنة و بلغت نسبتهم ( 83,3 % ) . و كان للأصدقاء دور كبير في التعرف على المخدرات و تعاطيها أول مرة ( 98,6 % ) . كما أشارت الدراسة إلى أن جميع المبحوثين يتعاطون ( الحشيش ) ( 100 % ) ، بينما نجد (29,2 %) من المبحوثين يتعاطون الأقراص المخدرة ( حبوب الهلوسة ) إضافة للحشيش .
2- أشار غالبية المبحوثين ( 97,2 % ) بعدم وجود صعوبة في الحصول على المخدر ، و يتم الحصول على المخدرات عن طريق الشراء إما من الأصدقاء أو التجار ، و توجد نسبة منهم تقوم ( بالتجارة بقصد التعاطي ) .
3- أما عن أماكن التعاطي فهو يتم في المنازل ، فقد أفاد المبحوثين بأن التعاطي يتم دورياً كل مرة في منزل أحد أفراد المجموعة .
4- أشارت النتائج إلى أن غالبية المتعاطين يتعاطون في فترات منتظمة ، و ترتبط هذه النتيجة مع سن بدء التعاطي المبكر الذي أشرنا إليه ، و تبلغ الميزانية التقريبية الشهرية التي تصرف على تعاطي المخدرات ما بين 50 - 100 ديناراً ليبياً و يتم الحصول عليه عن طريق الشراء .
5- يعتقد غالبية المتعاطين أن المخدرات منتشرة و يتعاطاها غالبية الشباب ، و يحاولون أن يجدوا تفسيرات تبرر تعاطيهم للمخدرات بدعوى أن الظروف هي التي تدفعهم للتعاطي ، محاولين تأسيس نسق عقلي يبرر التعاطي ، و تحييد موقف الدين من المخدرات .
الأسرة و ظاهرة تعاطي المخدرات :
أولاً : الخصائص الإقتصادية و الإجتماعية لأسر المتعاطين :
1 ـ الخصائص الإقتصادية للأسرة :
تتلخص النتائج في :
أولاً : الخصائص الإقتصادية و الإجتماعية لأسر المتعاطين :
1 ـ الخصائص الإقتصادية للأسرة :
أ ـ كبر حجم الأسرة لدى المتعاطين حيث بلغ متوسط حجم الأسرة 9,7 .
ب ـ يعيش المتعاطين في بيئة سكنية تتسم بالضيق و الإزدحام .
جـ ـ تدني المستوى الإقتصادي للأسرة .
تكشف هذه البيانات عن إنخفاض المستوى الإقتصادي للأسرة مما يسبب الإحباط و الضيق لدى الأبناء .
2 ـ الخصائص الإجتماعية للأسرة :
أ ـ تدني المستوى التعليمي للوالدين ، و هذا له تأثيره على إتباع أساليب المعاملة الصحيحة .
ب ـ بالنسبة للمهنة نجد أن الأم ربة بيت ، بينما مهنة الأب لدى الغالبية موظفاً ، و مع تدني المستوى التعليمي للأب نخرج بنتيجة مؤداها إنخفاض الدخل ، خصوصاً مع عدم وجود مصادر أخرى للدخل .
جـ ـ وجود الوالدين على رأس الأسرة ، فالوالدان يعيشان معاً ،كما أنه لا يوجد تعدد زوجات في الأسرة فقد بلغت نسبة تعدد الزوجات 9,7 % من إجمالي المبحوثين ، و هي نسبة ضئيلة ، وبالتالي ليس هناك علاقة بين الحالة الإجتماعية للوالدين و بين تعاطي المخدرات .
ثانياُ : العلاقات داخل الأسرة :
1 – نوع العلاقات بين أفراد الأسرة :
أ - كشفت البيانات عن وجود علاقات توتر بين أفراد الأسرة ، و هذا التوتر راجع لأسباب تتعلق بالإزدحام و ضيق السكن و تدني المستوى الإقتصادي للأسرة .
ب – كشفت الدراسة عن عدم وجود حالات تعاطي للمخدرات داخل الأسرة بإستثناء المبحوثين ( 93,1 % ) .
2 – أساليب المعاملة المتبعة داخل الأسرة :
أ – تبين من بيانات الدراسة ضعف رقابة الوالد بصفة عامة .
ب – شيوع إستخدام أساليب خاطئة في معالجة بعض الأخطاء التي يرتكبها الأبناء تتراوح ما بين الضرب و التوبيخ و اللامبالاة .
جماعة الأصدقاء و ظاهرة تعاطي المخدرات :
يمكن تلخيص النتائج في النقاط التالية :
1 – تعرف غالبية المبحوثين ( 91,7 % ) على أصدقائهم من خلال الجيرة ، و هؤلاء الأصدقاء ممن يتجانسون معهم في السن ( 97,2 % ) و المستوى التعليمي ( 95,8 % ) ، وهذه الجماعة تتسم بصغر الحجم ( متوسط 4 أفراد ) .
2 – إتسام العلاقات بين أعضاء جماعة الأصدقاء بالتوتر و الصراع ، و هذا التوتر راجع لأسباب تتعلق بالتعاطي .
3 – إن تعاطي المخدرات شائع بين جماعة الأصدقاء التي يخالطها المبحوثين ، و أنهم يتعاطون نفس النوع من المخدرات .
4 – إن إكتساب المبحوثين لتعاطي المخدرات تم بعد إتصالهم بأصدقائهم ( 90,3 % ) ، وهذا الإتصال والمخالطة تتم بدرجة عالية من الكثافة .
5 – تحاول جماعة الأصدقاء دفع الفرد إلى تعاطي المخدرات إلى درجة رفض من لا يتعاطى الجلوس معها .
الحي السكني و ظاهرة تعاطي المخدرات :
يمكن تلخيص النتائج في النقاط التالية :
1 – يعيش غالبية المتعاطين في الأحياء الشعبية ( 83,3 % ) ، و تتصف هذه الأحياء بتدني المستوى الإقتصادي لساكنيها .
2 – إنعدام وجود أماكن الترفيه ، و سوء حالة الشوارع و إنعدام الإنارة داخل الأحياء .
3 ــ إنتشار تعاطي المخدرات و بعض مظاهر الإنحراف داخل الحي السكني .
4 – هناك مؤشر إلى ظهور ثقافة فرعية خاصة بالشباب لتبرير تعاطي المخدرات ، حيث لاحظنا بالرغم من إستهجان سكان الحي لتعاطي المخدرات ، إلاَّ أنه منتشر داخل الحي السكني .
5 – أفاد نسبة كبيرة من المتعاطين ( 84,7 % ) بأنهم غير راضين عن السكن في مثل هذه الأحياء .
[u]