تعيش الأمم حاضرها باحثة ًعن مستقبل أكثر سهولة وأكثر سعادة ، فالمستقبل ملك لأجيال قادمة، لكنه في الوقت نفسه جهد علمي موجه لأجيال تعيش الآن ، فالثروة البشرية هي الثروة الحقيقية لأي مجتمع من المجتمعات وعليها تراهن الدول في سباقها للحاق بركب التقدم، والفائقين في المجالات المختلفة يكونوا على رأس تلك الثروة نظرا ً لأهمية دورهم المنتظر في مواجهة تحديات المستقبل، الأمر الذي يتطلب بذل الجهود المهنية المتخصصة لرعايتهم والعناية بهم وتحقيق أفضل الوسائل المجتمعية والبيئية الممكنة لاستثمار تفوقهم ، لأنهم كوادر المستقبل لقيادة بلادهم في جميع المجالات العلمية والتقنية، الرياضية، السياسية، الانتاجية، الاجتماعية، الثقافية .... الخ.
كما أن التنمية الحقيقية هي التي تتوافر لها القدرة على التجدد الذاتي ومن ثم الاطراد والتواصل، معنى ذلك أن التنمية المنشودة هي بالضرورة التنمية المعتمدة على استثمار وتوظيف العنصر البشري والقوة الذاتية للمجتمع في المقام الأول، وهي التنمية التي تقوم على الابتكار والإبداع والتي تراعي الاعتبارات البيئية وحقوق الأجيال القادمة، وهي التي تتحقق في ظل توافر مناخ مشجع على حرية التفكير والحوار وتوافر قدر معقول من الرعاية والأمان والثقة بالنفس لدى من يراد منهم التفكير الإبداعي(1)
والواقع المعاصر يشير إلى أن مجتمعاتنا تعاني من قصور واضح في اكتساب المعرفة فضلا عن القدرة على انتاجها، وأن جمود المعرفة وعدم تطورها يؤديان إلى ضعف القدرة الانتاجية وتضاؤل فرص التنمية (2) ، فرغم ما حققه العرب والمسلمون من إنجازات في علوم وفنون مختلفة فقد برعوا وأبدعوا في الآداب واللغة والفنون والعمارة والعلوم الطبيعية والطب والصيدلة والفلسفة وغيرها من العلوم السائدة بعد أن استفادوا من تجارب وعلوم الأمم الأخرى، رغم ذلك فإن هذه الإنجازات وهذا التطور والنهوض لم يستمر بل انقطع جريان النهر وحل التدهور محل الازدهار الذي استمر ثلاثة قرون فقط.
لذلك فلابد من نشوء حركة مجتمعية تقوم على اطلاق الطاقات البشرية الخلاقة في المجتمع ورعايتها في ضوء استراتيجية مجتمعية تشمل كافة مجالات الخدمات والرعاية بالمجتمع، عن طريق تقديم أنواع الخدمات الموجهة لمقابلة الحاجات وتحسين مستوى الرعاية ومعيشة أفراد المجتمع وتحسين الأداء الاجتماعي وبناء ثروة بشرية على درجة عالية من العلم والثقافة، وقادرة في الوقت نفسه على الإنتاج والإبداع وتحقيق أفضل معدلات التنمية البشرية.
فقضية استثمار الطاقات العقلية المبدعة والمحافظة عليها ورعايتها، أصبحت من القضايا الملحة في مجتمعنا المعاصر ، فبلادا ًعديدة وفي مقدمتها سويسرا واليابان وتايوان وكوريا الجنوبية وماليزيا .... وغيرها، لا تملك ثروات مادية تذكر ومع ذلك فإنها تقف في مصاف الدول الصناعية التي يعتد بها ، وقد وصلت لذلك لما تقوم به من حسن رعاية لمواهبها وفائقيها في المراحل العمرية المختلفة، والاستخدام الأمثل للقدرات الإبداعية لدى أفرادها بما يحقق ازدهار وتنمية المجتمع (3).
ويشير تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2003م (4)، إلى أن النشاط الإنساني الأساسي لتنمية القدرات الابتكارية ورعايتها على مستوى الفرد أو المنظومة المجتمعية هو التعلم، لذا فإن المدرسة هي من أهم قنوات اكتشاف ورعاية الفائقين في المجتمع، ليكونوا على مستوى عالي من التأهيل والكفاءة والخبرة فهم من أهم مدخلات ومقومات التنمية والتقدم، ويجب أن تبدأ تلك الجهود من خلال مراحل التعليم الأولى لإعداد وتدريب باحثي المستقبل ومبدعيه في المجالات المختلفة.
لذا فإن الاهتمام بالطلبة الفائقين والمتميزين يعد أحد الموضوعات الهامة التي تضعها المناطق التعليمية - في الدولة المختلفة - نصب أعينها وتتنافس فيما بينها للوصول للأفضل في هذا الجانب، حيث يوجد اهتمام بتكامل الرعاية الصحية والنفسية والاجتماعية والتربوية، والاهتمام بالأنشطة المدرسية التي تبرز قدراتهم وميولهم وملكاتهم الخاصة وإعطائهم الحرية في اختيار النشاط الذي يرغبون فيه، وتوفير فرص لعمل أنشطة مصاحبة للمواد الدراسية والعلمية، وتكريم تلك الفئة لتحفيزها على مزيد من التقدم والابتكار وحث زملائهم على الاقتداء بهم.
ولما كانت الخدمة الاجتماعية مهنة إنسانية يتمحور اهتمامها في العنصر الأساسي والمورد الهام لتنمية المجتمع وهو الإنسان، الذي قيض الله أن يوجد على هذا الكوكب وأن يستمر في العيش وينشر معه العمران (5). وتهتم الممارسة المهنية في الخدمة الاجتماعية بالإنسان كفرد، وكعضو في جماعة، وكمواطن في مجتمعه المحلي والعام، في إطار عملها بمجالات الرعاية الاجتماعية المختلفة، فمن المتعارف عليه أن مهنة الخدمة الاجتماعية تحتل مركزا ً متميزا ً بالنسبة لغيرها من المهن العاملة في نطاق الرعاية الاجتماعية (6)، فالمهنة لها اسهاما ً واضحا ً في تطوير وتقديم خدمات الرعاية، حيث تساهم الخدمة الاجتماعية في صياغة سياسة الرعاية الاجتماعية والتخطيط لتنفيذها (7).
والمدرسة كمؤسسة اجتماعية من أهم مجالات الممارسة المهنية للخدمة الاجتماعية، وتعود أهمية المدرسة في أنها الأداة الأساسية لدفع عمليات التغيير الاجتماعي والاقتصادي وبالتالي تمثل إحدى أدوات المجتمع في التنمية (8). ويعتبر الأخصائي الاجتماعي المدرسي ركيزة أساسية في تنفيذ برامج الرعاية الاجتماعية المدرسية، سواء تولى هذه المسئولية بطريق مباشر أو بالتعاون مع غيره من الزملاء والمدرسين بالمدرسة، وتهتم الخدمة الاجتماعية المدرسية بالعناية وتقديم خدمات الرعاية للمتفوقين والموهوبين من الطلاب (9).
وتعتبر عملية تقديم أوجه الرعاية الاجتماعية بمجتمع المدرسة – كنسق مفتوح – في إطار إنفتاحه وتفاعله مع الأنساق المحيطة، من ألزم الأمور لمجتمع الطلاب ولنمو حياتهم واستقرارهم، ويشير الباحث إلى أنه إذا كانت خدمات وأوجه الرعاية المقدمة لمجتمع الطلاب المدرسي يجب أن تكون قائمة على أسس علمية ومهنية متخصصة ومدروسة، فإن تخطيطها وتنظيمها إلى فئة الفائقين منهم على وجه الخصوص يجب أن تكون قائمة على جهود مهنية متخصصة تراعي خصائص واحتياجات ومشكلات هذه الفئة، فهؤلاء الفائقون هم علماء المستقبل وبناء النهضة وقادة المجتمع ، والاهتمام العلمي والمهني بهم هو اهتمام بالثروة البشرية التي يحتاجها المجتمع لبناء نفسه والنهوض بمجالات العمل المختلفة.