موضوع البحث وأهميته:
لا يسع المدقق في وضع الخدمة الاجتماعية في الوطن العربي إلا أن يشعر بالأسى، فالمهنة تعاني الكثير من المشاكل والصعوبات التي تعترض طريقها في أن تصبح مهنة ذات مكانة مرموقة بين بقية المهن، فلقد كثرت في الآونة الأخيرة الكتابات عن أن العلوم الاجتماعية بما فيها الخدمة الاجتماعية تعاني من أزمة في التنظير وفي التطبيق (رجب، 1991Fischer, 1973: 1978;). وما يهمنا في هذا البحث هو ما يتعلق بالشق الثاني والمرتبط بأزمة التطبيق في ممارسة الخدمة الاجتماعية، أو ما تم التعارف عليه في الغرب بمدى فاعلية الممارسة المهنية وبالتحديد فيما يخص الخدمة الاجتماعية.
إذ يبدو لأي متتبع لتلك الكتابات ازدياد النظرة الاستشرافيه إلى المهنة المتضمنة دعوة صريحة أو ضمنية لضرورة الإسراع بالتغيير والتعديل (رجب، 1991Fischer, 1981;). وفي الواقع فإن هنـاك خلافاً جدلياً حول فاعلية الممارسة practice effectiveness debate والذي يرتبط بدوره بالعديد من القضايا الأخرى. وحيث أن قضية فاعلية الممارسة أساساً ليست وليدة الثقافة العربية، وأنها نشأت في الغرب وبالتحديد في الولايات المتحدة الأمريكية، فقد يكون من الحكمة، في هذه المرحلة، التعرف على طبيعة ذلك الخلاف الجدلي حول فاعلية الممارسة وجذوره والقضايا المتعلقة به من وجهة نظر الغرب.
يهدف هذا البحث إلى عرض ومناقشة أهمية تراخيص الممارسة المهنية للخدمة الاجتماعية لزيادة فاعلية الممارسة المهنية ورفع مستوى المهنة مجتمعياً. وسيكون ذلك عن طريق (1) تحديد الجذور التاريخية لتراخيص الممارسة المهنية والمرتبطة بالخلاف الجدلي حول فاعلية الممارسة (2) القضايا التي أثارها الخلاف حول فاعلية الممارسة (3) التعرف على العوامـل المؤثرة في الخلاف حول فاعلية الممارسة المهنية والتي تتعلق بطبيعة مهنة الخدمة الاجتماعية. وسيستخدم الباحث المنهج التحليلي معتمداً في ذلك على مسح للمراجع والأبحاث الموجودة في أدبيات الخدمة الاجتماعية.
وتكمن أهمية هذا البحث في أنه يتضمن محاولة لطرح قضية فاعلية الممارسة والقضايا المتعلقة بها بهدف إلقاء الضوء على التجربة الغربية في هذا المجال، والتعرف على العقبات التي اعترضتها والقضايا التي لا تزال عالقة وما تم التوصل إليه بهذا الشأن، ومن ثم محاولة ربط ذلك كله بالسياق العربي والمحلي لاستخلاص لب التجربة الغربية والمتمثلة في تراخيص الممارسة المهنية ومحاولة الاستفادة منها محلياً وإقليمياً.
التطور التاريخي لتراخيص الممارسة المهنية في الخدمة الاجتماعية
تعود البداية الحقيقية لتراخيص الممارسة المهنية إلى النقطة الزمنية التي بدأ فيها الاهتمام بفاعلية الممارسة المهنية في الخدمة الاجتماعية، وتحديداً إلى بداية عام 1973م أي الوقت الذي نشر فيه جويل فيشر Joel Fischer مقالاً بعنوان “Is Casework Effective?” انتقد فيه وضع المهنة في ذلك الوقت وشكك في فاعلية ممارسة الخدمة الاجتماعية. فلقد قام فيشر بمراجعة لأكثر من 70 دراسـة في حقل الخدمة الاجتماعية والتي يعود تاريخ بعضها للثلاثينات من هذا القرن وذلك بغرض اختبار مدى فاعلية خدمة الفرد. ولقد كان أكثر ما آثار فيشر في هذه الدراسات وجود العينة الضابطة والتي كانت تستخدم بغرض التأكد من نتائج التدخل المهني في الدراسات التجريبية. فلقد أنتقد فيشر هذه الأبحاث لكونها تقدم تدخلاً مهنياً للجماعة التجريبية فقط ولكونها تستخدم جماعة ضابطة لا يُقدم لها تدخل مهني إلا عن طريق غير المتخصصين.
ولقد قيم فيشر الدراسات التي استخدمها في بحثه من خلال مشكلة البحث وتصميم البحث المستخدم ومنهجية جمع البيانات وتحليلها ونتائج الباحثين. وتوصل إلى أن عدم فاعلية الممارسة المهنيـة لخدمة الفرد تبدو وكأنها السائدة وفاعلية الممارسة هي الاستثناء. فلقد اكتشف أن كثيراً من العمـلاء الذين تلقوا خدمــات مهنية قد تدهورت حالتهم إلى الأسوأ، أما البقية الباقية فلم يطرأ عليهم تحسن ملموس مقارنة بالجماعات الضابطة المستخدمة.
ولقد أعترف فيشر أن أنواع التدخل المهني المستخدمة في تلك الدراسات قد لا تُمثل الاتجاه العـام للتدخلات المهنية المستخدمة في خدمة الفرد. فعلى الرغم من أن عدداً بسيطاً من تلك الدراسات تناولت الأطفال والمراهقين إلا أن معظم الدراسات التي استخدمها فيشر كانت حالات انحـراف أحداث ومشـاكل أسرية وأخرى ترتبط بالمسنين والذين كانوا معظمهم من الطبقات الفقيرة في المجتمع. كما أن أنواع التدخل المهني المستخدمة في تلك الدراسات قديمة ولم تعد تستخدم. كمـا نبه فيشر إلى دور العوامـل البيئية التي قد يكـون لها أثر في النتائج المتحصل عليها بما لم يسمح بظهور نتائج إيجابية من العلاج.
وفي كتب ومقالات لاحقة، استمر فيشر في إظهار عدم رضاه عن أوضاع الممارسة المهنية بصفة عامة، ولكنه توسع في التعليق فيما يختص بالقيم والمبادئ التي من شأنها أن تحسن من الممارسة. فلقد طـالب بإظهار الاحترام لفردية العميل واحترام كرامته وتعميق المسئولية الاجتماعية لديه. كما طـالب بأن يكون التدخل المهني موجها نحو تعزيز أحاسيس العميل واتجاهاته وسلوكه بما ينعكس على شخصيته وأداءه الاجتماعي بشكل مفيد ومرض (Fischer, 1978: 1981).
ولقد نبه إلى ضرورة استخدام لفظ "العميل" بدلا من "المريض" والذي كان شائعاً في ذلك الوقت، حيث أن الأخير يعكس أنماطا مرضية ويوحي بسلوك مرضي، بينما يحتوى الأول على قدر أكبر من احترام العميل مما يعكس نظرة أشمل للتدخل المهني (Fischer, 1973).
واقترح فيشر استخدام نموذج انتقائي يتم فيه توظيف المهارات السلوكية والمنبثقة من المدرسة السلوكية بهدف جمع بيانات ثابتة وقابلة للقياس مما يساعد على إيجاد مناهج تتصف بالصدق والثبات. كما اقترح دمج البحث بالممـارسة، وذلك باستخدام تصميمات النسق المفرد بهدف تطوير مهارات تدخل مهني تساعد على حل المشكلات التي يتعامل معها الممارسون المهنيون (Fischer, 1973).
ويتضح من هذا السياق أن ما أثير من تساؤلات هو في الواقع حول محاسبية الخدمة الاجتماعية social work accountability تجاه عملائها وتجاه المهنة نفسها وتجاه العامة من الناس وكذلك تجـاه الأخصائيين الاجتماعيين أنفسهم. وهل الأخصائيون الاجتماعيون فعالون في أدائهم لما أوكل إليهم؟ وهل الأهداف التي وضعوها لأنفسهم معقولة وقابلة للقياس والتنفيذ والتقويم؟ وهل ستؤدي هذه الأهداف، إذا ما نفذت، إلى نتائج إيجابية فعالة وذات قيمة؟ وهل يحكم الأخصائيون الاجتماعيون العقل والمعرفة فيما يفعلون؟
ولقد ساهم العديد من العلماء بمقالات أبدوا فيها قلقهم الشديد حول وضع الممارسة المهنية. فلقد عبر براير (Briar, 1981)، عن عدم ارتياحه للانتقادات الموجهة لممارسة خدمة الفرد، إلا أنه اضطر للاعتراف بغالبيتها. وأرجـع الوضع الراهن، إلى أن خدمة الفرد، في بحثها عن نماذج نظرية جديدة للتدخل المهني لزيادة فعاليتها، تخوض تجارب غير مدروسة أو محسوبة بدقة. واقترح أن الحل الأمثل لخدمة الفرد هو وجود الباحث-الممارس والذي يملك مهارات الممارسة بالإضافة إلى المهارات والمعرفـة المنهجية البحثية. ونبه براير إلى أن خدمة الفرد قد انتقدت بطريقة غير عادلة، حيث قد تم مطالبتها بمسئوليات لم تعد في يوم من الأيام بتحقيقها مثل إزالة الفقر والقضاء على الانحراف وغيره مما يدخل تحت تصنيف الأهداف المثالية.
كما ذكر ريد وهانراهن (Reid & Hanrahn, 1981) بأن تأثير مدخل تعديل السلوك كان مبالغ فيه، وأن هناك زيادة في التركيز على نماذج العمل مع الجماعات بالرغم من أن التجارب الجديدة حولها لم تقدم بيانات تؤكد مدى فعاليتها. ولكنهما عبرا عن تفاؤلهما بأن بعض أنواع التدخل المهني إذا ما اقترنت بتصميمات بحث قويـة قد يكون لها أكبر الأثر في تحقيق نتائج إيجابية من التدخل المهني. وأكدا على ضرورة تحديد أهداف التدخل المهني بدقة وضرورة ترتيبها بما يضمن تحقيق فاعلية أكثر.
وقام ثوميلسون (Thomilson, 1984)، بمراجعة نتائج بعض الدراسات المنشورة في حقل الخدمة الاجتماعية والتي تضمنت تدخلات مهنيـة. وأشار إلى أن خدمة الفرد فعالة في مجالات العلاج النفسي والعلاج الأسري والمشاكل الزوجية والعلاج السلوكي .وتوصل إلى بعض النتائج والتي يمكن تلخيصها في الأتي: (1) أن النماذج السلوكية تحقق نتائج إيجابية فعالة أكثر من النماذج النظرية الأخرى (2) أن العلاج الفردي للمشاكل العائلية لم يكن فعالاً (3) أن التدخل المهني المحدد بإطار زمني معين يحقق أفضل النتائج (4) أن اتجاهات الأخصائيين الاجتماعيين والعملاء نحو العملية العلاجية ونحو بعضهما البعض وكذلك القيم التي يحملونها تؤثر (سلباً أو إيجاباً) على نتائج التدخل المهني. واقترح ثوميلسون بأن يكون التدخل المهني مُخطط له مسبقا وأن يتم تقديمه بطريقة منظمة بما يحقق الفاعلية.
كما ذكر روبين (Rubin, 1985) بأن هناك ما يبشر بالخير فيما يتعلق بتطوير نماذج ممارسة مهنية فعالة. ولكنه حذر من أنه بالرغم من أن بعض أنـواع التدخل المهني قد تكون مناسبة ومفيدة لبعض العملاء إلا أن البعض الأخر قد يكون ضاراً، إلا أن ذلك لا يقلل من قيمة تلك التدخلات المهنية (السلبية) إذا ما تم استخدامها مع عملاء آخرين وفي الأوقات المناسبة ومع نوعية معينة من المشاكل.
وعلق روك (Rock, 1987) إلى أنه لا يجب النظر إلى فاعلية الممارسة نظرة سطحية، إذ أن قياس فاعلية الممارسـة عملية معقدة وذلك لصعوبة تحديد الأهداف المثالية التي يمكن أن يحققها التدخل المهني، وكذلك لكون النتائج الإيجابية قد لا تظهر إلا بعد مرور فترة طويلة من الزمن من إنهاء عملية التدخل المهني.
مما لا شك فيه أن فاعلية الممارسة في الخدمة الاجتماعية قد تأثرت ولا تزال ببعض العوامل المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بطبيعة مهنة الخدمة الاجتماعية نفسها والتي يجب أن تدخل في أي معادلة يراد بها التحقق من فاعلية المهنة وليس أنواع تدخل مهني بعينها. وتشمل هذه العوامل ما يلي:
أولاً: عدم وجود حدود واضحة تمارس المهنة من خلالها:
لعل أهم ما يميز مهنة الخدمة الاجتماعية عن غيرها من المهن هو أنها مهنة بلا حدود، إذ تمارس الخدمة الاجتماعية تقريبا في كل مجال يحتاج فيه الأفراد إلى مساعدة نفسية أو اجتماعية. بالإضافة إلى ذلك، فإن الخدمة الاجتماعية لا تزال في مرحلة تمدد الأمر الذي يجعل الأخصائيين الاجتماعيين يجدون أنفسهم يمارسون المهنة متقمصين أدواراً لم يكونوا معدين لها من قبل. ومما لا شك فيه أن ممارسة الخدمة الاجتماعية ليست عشوائية، فهي مهنة لها ضوابطها والتي تقوم على فلسفتها ومبادئها وقيمها الخاصة بها. كما أن الممارسة الفعالة لها تتطلب بالضرورة الرجوع إلى الأدبيات الخاصة بها للاستزادة مما يستجد في الحقل ومحاولة التعرف على طرق تدخل مهني مناسبة مع عملاء المهنة (O’Hare, 1991: 220). لذا فإن ممارسة الخدمة الاجتماعية في مجالات جديدة يعد تقدما من ناحية الممارسة على الناحية البحثية، الأمر الذي يؤدي إلى عدم وجود دراسات تتناسب مع احتياجات الممارسين المهنيين في تلك المجالات المستحدثة. وهذا بدوره يجعل الممارسين المهنيين في تلك المجالات يسلكون طريق الصواب والخطأ trail and error إذ يجدون أنفسهم مضطرين لتوظيف ما يرونه مناسبـاً لهم أو لعملائهم من غير إثبات علمي قائم على الدراسة والبحث لذلك وهو ما يؤدي في النهاية إلى احتمال وجود ممارسة مهنية غير فعالة.
ثانياً: افتقاد المهنة لنظرية موحدة:
تخلو مهنة الخدمة الاجتماعية من نظرية موحدة تحظى بقبول جميع المشتغلين بها (Trader, 1977: 10). فالخدمة الاجتماعية ترتكز على قاعدة معرفية عريضة (Yegidis & Weinbach, 1991)، حيث توظف نظرية التحليل النفسي والعلاج السلوكي والعلاج العائلي ومنهج حل المشكلة ومنهج التدخل في الأزمات والمدخل الوظيفي والنسق الإيكولوجي ونظرية الأنساق العامة وغيرها من النظريات والنماذج النظرية. ويجد الأخصائيون الاجتماعيون في كل من هذه الأطر النظرية شيئا مفيدا يقدموه لعملائهم، ومع ذلك فهم مستمرون في البحث عن المزيد من المداخل النظرية وعن المزيد من المهارات في محاولة لإضفاء بعدا جديدا على ما يقدموه.
وعلى الرغم من هذا الكم من النظريات والأطر النظرية فإن عدداً قليلاً من الأخصائيين الاجتماعيين يظهرون مـا يدل على أنهم يتبنون أو يوظفون أي معرفة نظرية في الممارسة (Thyer, 1987: 150). ومعظمهم، استنادا إلى ثاير(Thyer)، يصفون توجهاتهم النظرية على أنها انتقائية. ولقد تسبب افتقاد المهنة لنظرية موحدة إلى أحداث نوع من الحيرة بين الممارسين المهنيين، فهم يعرفـون القليل عن كل نظريـة أو إطار نظري مما لا يمكنهم من استخدام أي منها أو توظيفها توظيفـاً أمثل، مما يؤثر بالضرورة على فاعلية الممارسة المهنية للخدمة الاجتماعية (محمد، 1983: 50-53).
القضايا التي أثارها الخلاف حول فاعلية الممارسة
مما لا شك فيه أن الخلاف حول فاعلية الممارسة المهنية في خدمة الفرد بصفة خاصة والخدمة الاجتماعية بصفة عامة قد لمس أحد أكثر الجوانب حساسية وأهمية في الخدمة الاجتماعية. فلقد أثار ذلك الخلاف سلسلة مترابطة من القضايا الجدلية والتي يمكن حصرها فيما يلي:
أولاً: الفجوة بين الباحثين والممارسين:
يعتبر الخلاف بين الباحثين والممارسين في الخدمة الاجتماعية قضية شائكة، إذ أنه يمس قضايا بناء المعرفة كما أنه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمسئولية الخدمة الاجتماعية. ويعتقد الكثيرون في حقل الخدمة الاجتماعية بأن دمج دور الباحث بدور الممارس هو الحل لذلك الخلاف الجدلي. فعلى حد تعبير جويل فيشر (Joel Fischer) أن بإمكان الأخصائيين الاجتماعيين الاستفادة من التقنية الموجودة في العلوم الاجتماعية والطبيعية لبناء درجة أعلى من التنظيم والموضوعية والدقة في اختيارهم للمعرفة من أجل توظيفها خلال الممارسة المهنية للخدمة الاجتماعية(Fischer, 1981).
الأسباب الرئيسية للفجوة القائمة بين الباحثين والممارسين:
1- أن المؤسسات الاجتماعية لا تقدم الوقت ولا المال ولا أي موارد أخرى من تلك المطلوبة لعمل الأبحاث.
2- أن الممارسين المهنيين من الأخصائيين الاجتماعيين ليسوا معدين أساساً لربط البحث بالممارسة (Casselman, 1972; Kirk, 1979; Kirk, Osmalov & Fischer, 1976).
3- أن الأخصـائيين الاجتماعيين الممارسين قلما يرجعون إلى أدبيات الخدمة الاجتماعية للإطلاع ولمعرفة الجديد في الحقل (Penka & Kirk, 1991: 513).
4- أن الأبحاث والدراسات الميدانية في الخدمة الاجتماعية لا تقدم للممارس المهني طريقة تطبيق واضحة تمكنه من توظيفها أثناء الممارسة المهنية (Cowger & Kagel, 1981).
5- أن ممارسي الخدمة الاجتماعية لا يستوعبون ولا يطبقون نتائج الأبحاث خلال الممارسة المهنية للخدمة الاجتماعية (O’Hare, 1991: 220).
6- أن الممارسين المهنيين والباحثين يختلفون عن بعضهما البعض، إذ يهتمون بمشاكل مختلفة ولديهم مهارات مختلفة كما أن الثقة بينهم ضعيفة (Penka & Kirk, 1991: 513).
ثانياً: عدم الاستفادة من الدراسات والأبحاث وتطبيق نتائجها:
حظي توظيف البحث في الممارسة research utilization باهتمام الباحثين في مهنة الخدمة الاجتماعية لفترة طويلة من الزمن. ولقد كان للتركيز على مسئولية الخدمة الاجتماعية في السبعينات والناتج عن الخلاف حول فاعلية الممارسة في الخدمة الاجتماعية دور في زيادة هذا الاهتمام. فبقدر ما يتم توظيف أدوات البحث ونتائجه أثناء الممارسة، فإنه من المتوقع أن يكون لذلك أكبر الأثر في نمو وتطور المهنة.
ولكي يكون للأبحاث معنى ووظيفة في الخدمة الاجتماعية، يجب أن تطبق نتائج تلك الأبحاث والدراسات عن طريق الممارسين المهنيين أثناء ممارستهم للمهنة (Reid, 1987). وعلى الرغم من مصداقية ما ذهب إليه ريد (Reid)، إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو ما مدى توفر الأبحاث المفيدة والقابلة للتطبيق في الخدمة الاجتماعية؟
فمهنة الخدمة الاجتماعية والتخصصات وثيقة الصلة بها غنية بكم هائل من المعرفة العلمية، ولكن عند تطبيق معيار مدى ملائمة هذه الأبحاث لحاجات الممارسين المهنيين، نجد أن هذه العلوم بما فيها الخدمة الاجتماعية شحيحة لدرجة تدعو إلى الخجل (Bloom, 1969: 15).
ويؤكد ذلك ما توصل إليه كوقر وكاقل (Cowger & Kagel, 1980)، حيث اخضعا للدراسة والتحليل 280 مقالاً منشورة في أربـع دوريات علمية رئيسية في حقل الخدمة الاجتماعية. ولقد كانا يهدفان من خلال هذه الدراسة معرفة ما تقدمه البحوث والدراسات مما قد ينفع الممارسين المهنيين للخدمة الاجتماعية. وهذه الدوريات هي (1) Social Service Review (2) Social Work (3) Child Welfare (4) Social Casework قاما باستعراض المقالات التي نشرت بين عام 1974- وعام -1978م، وتوصلا إلى أنه من بين هذه المقالات كلها يوجد 81 مقالا فقط من الممكن أن يتم توظيفها في ممارسة الخدمة الاجتماعية، أي بمتوسط يقل عن 17 مقالا في السنة. وإذا أخذنا في الاعتبار المجالات المتعددة التي يتم ممارسة الخدمة الاجتماعية فيها يتبين لنا أن المهنة تعاني من بالفعل من أزمة في البحوث وثيقة الصلة بالممارسة.
ثالثاً: سوء إعداد الممارسين و ضعف البرامج الدراسية:
ترتبط عملية توظيف البحث في الممارسة بتعليم الخدمة الاجتماعية برابط قوي. ولقد أسس مجلس تعليم الخدمة الاجتماعية Council of Social Work Education في عام 1976م مشروعاً حول توظيف البحث في الممارسة وعلاقة ذلك بتدريس الخدمة الاجتماعية. ولقد كان أحد أهداف المشروع التعرف على الصعوبـات أو العقبات التي تعترض توظيف البحث في الممارسة فيما يختص بتعليم الخدمة الاجتماعية.
ومن الدراسـات التي تمخضت عن ذلك المشـروع تلك التي قام بها كيرك وروزمبليت (Kirk & Rosenblat, 1981) حيث جمعا بيانات عن الخبرة وحجم المعرفة واتجاهات الرأي نحو البحث من خلال عينة من طلاب البكالوريوس والماجستير والدكتوراه والمنخرطين بكليات ومدارس الخدمة الاجتماعية في الولايات المتحدة الأمريكية. ولقد وجدا أن هناك علاقة إيجابية بين عدد سنوات الدراسـة من البكالوريوس وحتى مرحلة الدكتوراه وبين مجموع مواد البحث والإحصاء التي درسـها الطالب. فلقد كان متوسط مـا درسه طلاب البكالوريوس هو 57, و 2.25 لطلاب الماجستير و 4,66 لطلاب الدكتوراه. كما وجدا أيضا أن الطلاب الذين أنهوا مواد بحث وإحصاء أكثر يعلقون قيمة أكبر على البحث ويعترفون بأهميته.
كما قام روبن وزمبالست (Rubin & Zimbalist, 1981) بمراجعة لتطور الخطط الدراسية فيما يتعلق بمواد البحث في عدد من مدارس الخدمة الاجتماعية في الولايات المتحدة الأمريكية من عام 1970م إلى عام 1979م. وقد كانت دراستهما بمثابة إعادة لدراسة سبق وأن قام بها مجلس تعليم الخدمة الاجتماعية في عام 1972م عن برامج الماجستير في الولايات المتحدة الأمريكية. ووجدا أنه بالرغم من أن مدارس الخدمة الاجتماعية تؤكد أنها تعطي أهمية للبحث أكثر مما كان الوضع عليه في عام1972م، إلا أنه من الناحية الفعلية فإن قليلاً من تلك المدارس تقدم مـواد بحث أكثر مما كانت تقدم في عام 1972م، بل أن بعضها قامت بتخفيض عدد مواد البحث التي كانت تقدمها في عام 1972م. وتثير هذه الدراسة بعض التساؤلات عن مدى جدية مدارس الخدمة الاجتماعية في هذا الشأن.
يتضح من خلال ما سبق أن قضية فاعلية الممارسة المهنية قد أثارت جدلاً في أوساط المتخصصين في مهنة الخدمة الاجتماعية وذلك لارتباطها بالعديد من القضايا الأخرى التي تؤثر وتتأثر بها، وأن قضية فاعلية الممارسة المهنية قضية شائكة تتعدد أطرافها. وعليه فمن غير المتوقع أن يكون هناك حلاً سهلاً وسريعاً لكيفية زيادة فاعلية الممارسة المهنية، وأن الأمر في واقعه يتطلب إيجـاد آلية عملية لزيادة فاعلية الممارسة المهنية بحيث تقدم أيضاً حلاً للقضايا الأخرى المرتبطة بفاعلية الممارسة المهنية.
لقد تمخضت الكتابات حول قضية فاعلية الممارسة المهنية في الولايات المتحدة الأمريكية عن وجـود طروحات وأخرى بديلة لزيادة فاعلية الممارسة المهنية للخدمة الاجتماعية، وكذلك لمعالجة القضايـا التي أثارها الخلاف حول فاعلية الممارسة المهنية. وكانت الطروحات الأكثر واقعية ومنطقية والتي تبنتها المهنة في الولايات المتحدة الأمريكية ما يلي:
أولاَ: تقديم تصميمات النسق المفرد لقياس فاعلية الممارسة المهنية بهدف التقويم المستمر لفاعلية الممارسة المهنية من ناحية، ولتجسير الفجوة بين الباحثين والممارسين من ناحية أخرى، حيث توفر آلية لإيجاد الباحث - الممارس. وهذا الطرح ليس محور ارتكاز هذا البحث.
ثانياً: اعتماد ترخيص الممارسة المهنية، بحيث لا تتم الممارسة المهنية للخدمة الاجتماعية إلا عن طريق المتخصصين (بدرجة بكالوريوس أو ماجستير أو دكتوراه) في الخدمة الاجتماعية الذين يجتـازون امتحانات تراخيص الممارسة المهنية الخاصة بالمهنة. وهذا الطرح هو محور ارتكاز هذا البحث وهو ما سنتناوله بالتفصيل في الصفحات القادمة.
تراخيص الممارسة المهنية في الخدمة الاجتماعية
تراخيص الممارسة المهنية هي آلية لتقنين الممارسة المهنية في حقل الخدمة الاجتماعية تهدف في أساسها إلى رفع مستوى الأخصائيين الاجتماعيين والمهنة وتحقق بالتالي ممارسة مهنية أكثر فاعلية. ويتم ذلك عن طريق ضبط عملية تعليم الخدمة الاجتماعية ومطالبة الأخصائيين الاجتماعيين سواء كانوا حديثي التخرج أو ممن يعملون في مؤسسات اجتماعية بالإطلاع والمتابعة المستمرة لأدبيات المهنة بحيث يكونوا دائما على إطلاع ودراية بما يدور وما يجد في الحقل من ناحيـة، وتوحيد الإطار المرجعي (المهنة بما فيها من مبادئ ومفاهيم وأسس نظرية وأدوات منهجية) لجميع الأخصائيين الاجتماعيين بغض النظر عن تاريخ التخرج من ناحية أخرى.
ويحق لمن يحمل مؤهل علمي في الخدمة الاجتماعية (بكالوريوس أو ماجستير أو دكتوراه) في الحصول على ترخيص لممارسة المهنة. ويتم منح تراخيص الممارسة المهنية لمن اجتازوا امتحان التراخيص المقرر والذي يعكس مبادئ المهنة ومهاراتها وأطرها النظرية والمعرفية بالإضافة إلى التراكم العلمي المعرفي والناتج من الدراسات والبحوث المنشورة والرسائل العلمية المحكمة بالإضافة إلى الكتب. وامتحانات تراخيص الممارسة المهنية هي امتحانات مقننة تعتمد على طريقة اختيار الإجابة الصحيحة من مجموعة من الإجابات على سؤال أو جملة multiple choice exams، والتي تقلل من فرصة اختيار الإجابة الصحيحة عشوائياً من قبل الممتحنين (Internet, 1997).
الضوابط التي يجب مراعاتها في امتحانات التراخيص
حتى يتسنى لتراخيص الممارسة المهنية أن تحقق الغرض المنشود منها، يجب أن يكون هناك مجموعة من الضوابط لامتحانات التراخيص المهنية في الخدمة الاجتماعية يجب مراعاتها وهي كما يلي:
1. المدة الـزمنيـة:
إن أحد أهداف تراخيص الممارسة المهنية ضمان حداثة المعلومات وجدتها عند المتقدم للحصول على الترخيص، وهذا بطبيعة الحال لن يتسنى إذا كانت مدة التراخيص مفتوحة، إذْ أن هذا الأمر كفيل فقط بضمـان أن معلومات المتقدم حديثة وقت الحصول على الترخيص، ولكن لا يُقَدم ضمانات مستقبلية على الإطلاق. لذا يفترض ألا تتجاوز مدة التراخيص المهنية سنة واحدة فقط، يطالب بعدها حامل الترخيص بتجديده، وذلك عن طريق اجتيـاز امتحان التراخيص المهنية بما سيضمن جدة المعلومات لحامل الترخيص.
2. التحديث المستمر للامتحانات:
تهدف تراخيص الممارسة المهنية إلى التأكد من حداثة وجدة معلومات المتقدمين للحصول على الترخيص. وهذا الأمر يتطلب أن تعكس امتحانات ترخيص الممارسة نفسها الجديدة والحديث في المهنـة، والذي يفترض أن يكون نابعاً من أدبيات المهنة وما ينشر فيها من كتب ومقالات علمية في الدوريـات المحكمة. لذا فإن امتحانات ترخيص الممارسة المهنية يفترض أن يتم تحديثها سنوياً لتشمل الجديد في الحقل، إن وجد، حتى تؤدي الغرض المرجو منها.
3. تعدد أوقات إجراء الامتحانات السنوية:
حتى لا تكون تراخيص الممارسة المهنية عقبة أمام توظيف الأخصائيين الاجتماعيين فإنه من الضرورة بمكان توفير أوقات مختلفـة لامتحانات ترخيص الممارسة المهنية، وذلك حتى يستطيع الراغب في دخـول الامتحان دخوله في أوقات مختلفة غير مرتبطة بوقت سنوي محدد مما يسهل الأمر للطلاب المتخرجين في الفصل الأول أو الثاني أو الفصل الصيفي. الأمر الآخر، أن توفر الامتحانات في أوقات مختلفة يتيح الفرصة أيضاً لمن لم يجتازوا الامتحان من أول مرة أخذه مرة أخرى بدون أن يترتب على ذلك ضياعاً في الوقت عليه. خلاصة القول، أنه من الضرورة أن تكون عملية ترخيص الممارسة المهنية عملية مقرونة بالمرونة وإلا تستخدم كعائق أمام الأخصائيين الاجتماعيين لأن ذلك ليس الهدف منها.
4. سهولة التقديم للدخول في امتحانات التراخيص:
يظل عامل التنظيم والمرونة من العوامل المهمة لنجاح تراخيص الممارسة المهنية، حيث يمثل جزء من آلية تنفيذها. وتسهيلاً للأمر، وجعله أكثر تنظيماً، من الضرورة بمكان إيجاد آلية يتم فيها تسهيل التقديم للدخول في امتحانات تراخيص الممارسة المهنية. ونرى أن الطريقة المتبعة في امتحانات اللغة الإنجليزية لغير الناطقين بها TOEFL مثالية لتحقيق هذا الغرض. فمن الممكن عمل نماذج لطلبات إجراء امتحانات تراخيص الممارسة المهنية وتوزيعها على المؤسسات الاجتماعية والمؤسسات والأجهزة التي بها أقسام خدمة اجتماعية وكذلك على أقسام وكليات الخدمة الاجتماعية، بحيث يقوم الراغب في إجراء الامتحان بتعبئة النموذج الخاص بذلك وإرساله بالبريد بحيث يحوي البيانات المطلوبة ويتم تحديد الوقت والمكان الذي يرغب في إجراء الامتحان فيه (حسب جدول مسبق يتم اعتماده من قبل الهيئة المناط بها ترخيص الممارسة المهنية) ويتم إرساله مع شيك أو حوالة مالية تمثل رسوم الدخول في الامتحان.
5. اعتماد طريقة التصحيح الآلي:
لضبط عملية تراخيص الممارسة المهنة وضمان خلوها من التحيز والمجاملات، يفترض أن يتم اعتمـاد طريقة التصحيح الآلـي وذلك باستخدام جهـاز السكـانر Scanner (والمستخدم في امتحانات اللغة الإنجليزية لغير الناطقين بها TOEFL وغيرها من الامتحانات مثل GRE و GýMAT) والذي يقوم بتصحيح من 1000 - 2500 ورقة في الساعة تبعاً لقدرة الجهاز المستخدم. هذه الطريقة بالإضـافة إلى خلـوها من التحيز، توفر مبالغـاً كبيرة كان من الممكن أن تصرف على عمليـة التصحيح اليدويـة والتي بطبيعـة الحـال لا تخلـو من إمكانات الخطأ، والأمر الذي لا وجود له باعتماد الطريقة الآلية.
6. إيجاد هيئة تحقيق من المتخصصين في المهنة:
من الضرورة في رأينا إيجاد هيئة تكون مسئولة عن التحقيق في التجاوزات التي قد تحدث أثناء ممارسة المهنة. فبالرغم من أن الكثير من هذه التجاوزات قد تكون تجاوزات لا يقبلها المجتمع وتعاقب عليها قوانينه المحلية في الدول العربية كل بطريقته الخاصة، إلا أنه يبقى هناك العديد من التجاوزات التي لا تعاقب عليها القوانين أو التشريعات السائدة في الدول العربية. ويجب التعامل مع التجاوزات المهنية عن طريق مهنيين يعرفون مبادئ المهنة بحيث تكون معياراً لهم في الحكم على الحالات التي تحوي مخالفات أو تجاوزات.
الجوانب الإيجابية لتراخيص الممارسة المهنية
من المتوقع أن يكون لتطبيق تراخيص الممارسة المهنية وتقنينها في مهنة الخدمة الاجتماعية العديد من الجوانب الإيجابية والتي يمكن حصرها فيما يلي:
أولاً: حماية العميـل:
توفر مهنة الخدمة الاجتماعية بيئة خصبة للتفاعل المباشر بين الأخصائي الاجتماعي والعميل وفي "خلوة مهنية". كما أنها تمكن للأخصائيين الاجتماعيين، بحكم طبيعة عملهم، من التعرف على المشاكل التي يعاني منها العميل والتعرف كذلك على كافة الظروف المحيطة بالعميل (Dean & Rhodes, 1992: 128)، وهذا ما يجعل العميل عرضة لضعف الأخصائي الاجتماعي أو نزواته وشهواته، أو يسمح بالتمادي في العلاقة بين الأخصائي الاجتماعي والعميل لتصبح علاقة مزدوجة متجاوزة بذلك حدود العلاقة المهنية (Kagel & Giebelhausen, 1994: 213).
ونرى أن تراخيص الممارسة المهنية ستحقق العديد من الفوائد للعميل الذي يلجأ لمهنة الخدمة الاجتماعية، فسيضمن أنه في أيد أمينة أولا، بحيث يعرف وهو يكشف أسراره ويناقش مشاكله مع الأخصائي أن هذا الأخصائي مؤهل لذلك وقادر على حلها، إذا كانت إمكانيات المؤسسة تسمح بذلك.
الأمر الآخر وهو لا يقل أهمية عن الأول، أن وجود تراخيص الممارسة المهنية سيكون سلاحاً بيد العميل يستخدمه متى ما شعر أن هناك تجاوزات لا أخلاقية أو لا مهنية صدرت أو تصدر من الأخصائي الاجتماعي، الأمر الذي سيجعل الأخصائي الاجتماعي حذراً في التعامل مع العميل، بحيث لا يستغل سلطة المؤسسة أو ضعف العميل للنيل منه أو تجريحه أو الإساءة إليه (Kagel & Giebelhausen, 1994: 216).
فبدون تراخيص الممارسة المهنية، تبقى مبادئ التقبل والسرية والعلاقة المهنية مطلب من الأخصائي الاجتماعي أثناء ممارسة المهنة ولكن بدون ردع مهني له في حالة تجاوزه لذلك.
ثانياً: رفع مستوى الأخصائيين الاجتماعيين:
من المتوقع أن يكون لتراخيص الممارسة المهنية العديد من الآثار الإيجابية والتي تنعكس بشكل مباشر على مستوى الأخصائيين الاجتماعيين. فتراخيص الممارسة المهنية ستكون بمثابة حافز يدفع الأخصائيين الاجتماعيين إلى متابعة الجديد في تخصصهم بصفة مستمرة من خلال ما ينشر في الدوريات العلمية وثيقة الصلة بالمهنة أو من خلال الكتب والندوات والمؤتمرات العلمية. فالأخصائي الاجتماعي سيكون مطالبا بمعرفة تخصصه معرفة جيدة ولا سيما ما يطرأ عليه من تطورات وتغيرات. وهذا لن يتحقق ما لم يثابر الأخصائي الاجتماعي على المتابعة والقراءة وربط نفسه بالدائرة العلميـة لتخصصه، وهو أمر يصعب تحقيقه والمطالبة به بدون فرض قانون تراخيص الممارسة المهنية. فالدعوة للقراءة للإطلاع ومتابعة الجديد للأخصائيين الاجتماعين يبقى اجتهاد لا جدوى منه ما لم يدعم ذلك ضوابط تطالب الأخصائيين برفع مستواهم العلمي وهو الأمر الذي تحققه تراخيص الممارسة المهنية.
ثالثاً: رفع مستوى طلاب الخدمة الاجتماعية:
تتأثر الخدمة الاجتماعية بسياسة التعليم في المجتمع الذي تمارس فيه، فمع تزايد أعداد خريجي المرحلة الثانوية، يتزايد الإقبال على الجامعات والمعاهد. إلا أن ذلك لا يتواكب دائما بتزايد مماثل في المقاعد المتاحة في المرحلة الجامعية. وتبقى حقيقة أن هناك نسبة مخصصة ومقاعد محدودة لكل كلية ولكل قسم (بغض النظر عن التجاوزات التي قد تحدث في عملية القبول) في الجـامعات بصفة عامة. ويقترن ذلك مع المتطلبات العالية من النسب المئوية لخريجي الثانوية العـامة والتي تشترطها الأقسام العلمية مثل الطب بأنواعه والهندسة والحاسب الآلي. وتقل المتطلبات عادة في الكليات الأدبية بأقسامها المختلفة. وبطبيعة الحال يسعى الطلبة المتفوقون في المرحلة الثـانوية إلى الانخراط في الأقسام العلمية والتي تحقق لهم طموحاتهم بعد التخرج من مكانة مرموقة وعائد مادي مجزي، الأمر الذي يجعل أقل الطلبة مستوى علمياً ( بناءاً على معدلات الثانوية العامة) يتوجهون في معظم الأحيان مجبرين نحو الكليات الأدبية والتي تقع أقسام الخدمة الاجتماعية عادة فيها.
وعليه فإن مهنة الخدمة الاجتماعية تقبل نوعيات متدنية من الطلاب في غالب الأحيان (وإن هناك نوعيات ممتازة من هؤلاء الطلاب والذين قد يكونوا اختاروا المهنة طوعاً، ولم يجبروا عليها بناءاً على مُـعدلاتهم في الثانوية العامة). هذه النوعية من الطلاب هم أخصائيوا المستقبل، ومن ستكون المهنة مرتبطة بهم.
لذا فإن تقنين الممارسة المهنية للخدمة الاجتماعية وفق تراخيص سيمثل عملية ضبط لهؤلاء الخريجين، وعدم السماح لغير المؤهل منهم بممارسة المهنة. ومن المتوقع أن ينعكس ذلك على أداء الطلاب في المرحلة الجامعية إيجابياً، حيث سيكون لديهم علم مسبق بأن الحصول على الدرجة العلمية وحدها لا يؤمن وظيفة، وأن الأمر يتطلب اجتياز امتحان خاص بالمهنة، الأمر الذي سينعكس على طريقة تحصيلهم وحرصهم الذاتي على اكتساب المعرفة والمهارات اللازمة لذلك.
رابعاً: حماية مسمى "الأخصائي الاجتماعي":
يوجد في المؤسسات الاجتماعية من يشغلون وظيفة "أخصائي اجتماعي" من غير المتخصصين والمنتمين للمهنة مثل خريجي قسم الاجتماع وعلم النفس والجغرافيا والتاريخ. ولقد كان السبب في وجود مثل هؤلاء في أوساط المهنة عدم وجود الأعداد الكافية من الأخصائيين الاجتماعيين في بعض الدول العربية في فترات زمنية مضت كان فيها الإقبال على المهنة قليلاً نسبيـاً. ولكن في الوقت الحـاضر، وفي ظل وجود أعداد "فائضة" من الأخصائيين الاجتماعيين ممن لا يجدون الأعمال التي أعدوا لها أساساً (بسبب شغلها بغير المتخصصين) فإن الأمر يتطلب وقفة من المهنة نفسها لنصرة المنتمين لها وحماية حقوقهم. وأبسط هذه الحقوق توفير الوظائف لهم والذي يرتبط بحماية مسمى "الأخصائي الاجتماعي" بحيث لا يتم شغله بغير المتخصصين.
الأمر الآخر المرتبط بذلك أن وجود غير المتخصصين في أوساط المهنة يعتبر نقطة ضعف في المهنة نفسها، حيث أنه من غير المتوقع أن يؤدي غير المتخصصين عمل الأخصـائي الاجتماعي المعد إعداداً نظرياً وعملياً لشغل وظيفة "أخصائي اجتماعي" وإلا أصبح وجود أقسام الخدمة الاجتماعية غير مبرر أساساً. فوجود غير المتخصصين يضعف بالضرورة من أداء المهنة ويؤثر قطعاً على فاعلية الممارسة المهنية، الأمر الذي تكفل تراخيص الممارسة المهنيـة التصدي له، حيث لا يجوز ممارسـة مهنـة الخدمـة الاجتماعية إلا لمن يشغل وظيفة "أخصائي اجتماعي"، ولا يجوز أن يشغل وظيفة "أخصائي اجتماعي إلا من يحمل ترخيصاً لذلك، ولا يجوز أن يحمل ترخيصاً لممارسة مهنة الخدمة الاجتماعية إلا من لديه شهادة (بكالوريـوس أو ماجستير أو دكتوراه) في الخدمة الاجتماعية.
خامساً: رفع مستوى المهنة:
سيحقق تطبيق تراخيص الممارسة المهنية هدف رئيس طالما سعى إليه المهتمون بالمهنة والقائمون عليها والمنتمون لها، ألا وهو رفع مستوى المهنة مجتمعيا وبين بقية المهن. فالخدمة الاجتماعية لا تزال مهنة حديثة نسبياً في مجتمعاتنا العربية، بل أن بعض الدول العربية لا توفر تخصص الخدمة الاجتماعية في جامعاتها حتى الرئيسية منها، الأمر الذي يجعل المهنة لا تحظى بالاعتراف المجتمعي اللازم لتحقيق أهدافها. ويتضح ذلك من خلال توظيف الأخصائيين الاجتماعيين في غير ما تم تهيئتهم له، وتعيين غير المتخصصين في مواقع يفترض أن يشغلها أخصائيون اجتماعيون.
الأمر الأخر والذي يرتبط بسابقه أن مهنة الخدمة الاجتماعية لا تحظى باحترام بقية المهن وثيقة الصلة بها كالطب وعلم النفس والتدريس (بغض النظر عن التخصص)، وربما يعود ذلك لسبب يرتبط بطريقة الممارسة المهنية للخدمة الاجتماعية والتي يتبعها معظم الأخصائيون الاجتماعيون والتي لا تدل على قدرتهم على تقديم عمل متميز لا يستطيع تقديمه إلا هم. إذ ينظر كثير من المهنيين غير المتخصصين في الخدمة الاجتماعية أن عمل الأخصائي الاجتماعي سهل ومن الممكن للكثير أن يقوموا به بدون خبرة سابقة أو معرفة علمية مما جعلهم يقللون من قيمة الأخصائيين الاجتماعيين، بحيث أصبحت تسند إليهم أدواراً لا تمت بصلة لدورهم الأساسي المناط بهم.
وفي رأينا، أن تراخيص الممارسة المهنية (كما أشرنا سابقاً) كفيلة بزيادة فاعلية الممارسة المهنية ورفع مستوى الطلاب وبالتالي الخريجين وكذلك رفع مستوى الأخصائيين الاجتماعيين العاملين وزيادة حصيلتهم العلمية بشكل مستمر، الأمر الذي سينعكس على أداءهم ومن ثم احترام الآخرين من المهنيين لهم وتغيير النظرة المجتمعية لهم مما سيرفع من مستوى المهنة.
سادساً: زيادة فاعلية الممارسة المهنية:
إن فاعلية الممارسة المهنية في الخدمة الاجتماعية هي في واقع أمرها محصلة تضافر مجموعة من العوامل والتي سبق الإشارة إليها أعلاه (حماية العميل ورفع مستوى الأخصائيين الاجتماعيين ورفع مستوى طلاب الخدمة الاجتماعية وحماية مسمى "الأخصائي الاجتماعي ورفع مستوى المهنة) والتي نرى أن تراخيص الممارسة المهنية متى ما طبقت وقننت كفيلة بتحقيقها. وتجدر الإشارة هنا أن النتائج الفعلية لتراخيص الممارسة المهنية لن تكون سريعة الحدوث أو ملموسة في الحال، بل أنها تتطلب وقتاً حتى تؤتي ثمارها الفعلية وتحقق الأهداف المرجوة منها والتي ستؤدي في النهاية إلى تحقيق ممارسة مهنية فعالة في حقل الخدمة الاجتماعية.
الجوانب السلبية لتراخيص الممارسة المهنية
هناك بالطبع جوانب سلبية محتملة قد تحدث نتيجة تطبيق تراخيص الممارسة المهنية، وهذه الجوانب يمكن حصرها فيما يلي:
1. الأعباء الاقتصادية المرتبطة بتطبيق تراخيص الممارسة المهنية:
سيترتب بطبيعة الحال على تطبيق تراخيص الممارسة المهنية إيجاد هيئة خاصة بذلك أو تنظيم يكون مناطاً به إصدار تراخيص الممارسة المهنية وتصميم امتحانات التراخيص وتصحيحها والتحقيق في المخالفات المهنية وسحب التراخيص ممن لا يلتزمون بأخلاقيات المهنة ومبادئها. وسيتطلب إيجاد مثل هذه الهيئة أعباء اقتصادية قد تعيق عملية تراخيص الممارسة المهنية نفسها. إلا أننا نرى أن ذلك أمر يسهل التعامل معه، حيث يمكن فرض رسوم امتحانات ورسوم إصدار للتراخيص ورسوم تجديد لها بحيث تغطي التكاليف المالية المتوقعة لها.
2. إلغاء دور المتطوعين والمتحمسين للمهنة:
إذا ما تم تقنين الممارسة المهنية للخدمة الاجتماعية وضبطها عن طريق تراخيص تعطى فقط للمنتمين للمهنة الذين يجتازون امتحانات تراخيص الممارسة المهنية، فإن ذلك كفيل بحجب الممارسة المهنية عن غير المتخصصين و المتحمسين للعمل الإنساني بصفة عامة والخدمة الاجتماعية بصفة خاصة، وكذلك الحال بالنسبة للمتطوعين الذين يمارسون العمل الإنساني من خلال المؤسسات الاجتماعية في أوقات فراغهم. ونحن هنا لا ننكر الدور الإيجابي الذي يقوم به بعض المتحمسين والمتطوعين، إلا أن ذلك لا يعطيهم الحق في ممارسة الخدمة الاجتماعية. ونعتقد أن المهنة قادرة على استيعابهم بفرض بعض الضوابط كأن يعملوا تحت إشراف أخصائي اجتماعي مرخص.
3. العيوب المرتبطة بالامتحانات:
وفي دراسة أجراها جونسون وهوف (Johnson & Huff, 1987) حول تراخيص الممارسة المهنية في الخدمة الاجتماعية في ولاية أيداهو Idaho بالولايات المتحدة الأمريكية شملت الفترة ما بين عام 1978م (أول سنة تم فيها تطبيق امتحانات تراخيص الممارسة المهنية في ولاية أيداهو) وعام 1982م. ولقد شمـلت الدراسة 257 فرداً ممن أخذوا اختبارات تراخيص الممارسة المهنية في ولاية أيداهو. وكان متوسط أعمارهم 30 سنة وتتراوح بين 21- و-58 سنة، وكان معظمهم من البيض بنسبة 94%، وشكلت نسبة النساء 79% وكان 95% منهم من سكان ولاية أيداهو. وبالرغم من أن الممتحنين كانـوا متخرجين من جامعات مختلفة، إلا أن معظمهم 63% كانوا من خريجي قسم الخدمة الاجتماعية بجامعة أيداهو.
وكان أبرز نتائج هذه الدراسة أن امتحانات تراخيص الممارسة المهنية غير دقيقة حيث تبين من واقع هذه الدراسة أن المتخصصين وغير المتخصصين في الخدمة الاجتماعية بإمكانهم اجتياز الامتحانات الخاصة بترخيص الممارسة المهنية وأن الممارسة المهنية والخبرة لم تكن عاملاً مؤثراً في عملية اجتياز الامتحان وأن المؤشر الوحيد والدال إحصائياً هو عملية ارتباط المعدل التراكمي للخريج بدرجة نجاحه (اجتيازه) لامتحان ترخيص الممارسة المهنية.
إلا أن المتفحص لدراسـة جونسـون وهوف بإمكانه تحديد عدد من المشاكل المنهجية، فلقد شمـلت دراستهما أخصائيين اجتماعيين غالبيتهم 63% من خريجي جامعة أيداهو. وقسم الخدمة الاجتمـاعية في تلك الجـامعة ليس له سمعة تذكر. فبغض النظر عن أن معظم الجامعات العريقة ذات السمعـة القوية والتي تدرس الخدمة الاجتماعية تكون للخدمة الاجتماعية كليـة مستقلة School of Social Work فقسم الخدمة الاجتماعية بجامعة أيداهو ليس فقط غير موجود في المواقع المتقدمة في ترتيب مدارس وأقسام الخدمة الاجتماعية فحسب، بل ليس له وجـود في القائمة مما يدل على ضعف سمعته الأكاديمية مما ينعكس بطبيعة الحال على خريجي هذا القسـم. لذا فمن غير المقبول منهجياً تعميم نتائج مأخوذة معظمها من قسم خدمة اجتماعية ضعيف على بقية خريجي الجامعات الأمريكية العريقة في مجال الخدمة الاجتماعية.
ومن ناحية أخرى، فالنقد الموجه في دراسة جونسون وهوف هو ليس موجهاً في الأساس للتراخيص وفكرتها وفلسفتها والأهداف التي من الممكن أن تحققها، بل هو موجه للامتحانات المعمول بها لترخيص الممارسة المهنية وبالتحديد لصدقها ( هل تقيس ما يفترض بها أن تقيس ؟). القضيـة الأخرى، وإن كانت شبيهة بسابقتها، أن دراسة جونسون وهوف أجريت على عينة محدودة وفي ولاية واحدة، لذا فهي بكل المقاييس المنهجية غير معبرة عن تجربة الولايات المتحدة الأمريكية في مجال تراخيص الممارسة المهنية.
تعليق
على الرغم من أن قضية فاعلية الممارسة والجدل الذي دار حولها شكل عبأ ثقيلا على المهنة ولمس جانباً موجعاً فيها، إلا أنه مع ذلك له جوانبه الإيجابية والتي لا يمكن إغفالها. فلقد كان الجدل حول فاعلية الممارسة بمثابة وقفة للمهنة مع النفس يتم فيها مراجعة الأوراق وتقويم الأداء وتصحيح المسار بما ينعكس إيجابيا على المهنة نفسها.
ولقد اتخذ الجدل حول فاعلية الممارسة كما عرضنا لذلك منحنيات مختلفة، فلقد ابتدأ بجدل حول ما إذا كانت الخدمة الاجتماعية فعالة أم لا والذي يعتبر أساسا للجدل. ومن ثم انتقل بعد ذلك قضايا أخرى جدلية منها مدى جدية الأبحاث التي تجرى في حقـل الخدمة الاجتماعية ومدى ملاءمتها مع احتياجات الممارسين المهنيين. وانتقل الجدل في مرحلة لاحقة إلى قضية الفجوة بين الباحثين والممـارسين والسبل التي يمكن بها تجسير تلك الفجوة وإلى عملية تعليم الخدمة الاجتماعية.
إذا كان لمهنة الخدمة الاجتماعية أن تتقدم وترقى بين بقية المهن الأخرى، فلا بد أن يتم اتخاذ من الإجراءات والضوابط ما يكفل لها ذلك. وهذا في رأينا لن يتم إلا عن طريق المنتمين للمهنة. إذ أن الأمر يتطلب بطبيعة الحال وقفة تأمل في الاتجاه الذي تسلكه المهنة. في الوقت الحاضر وجدوى الممارسة المهنية فيها.
ونرى أن السماح بممارسة مهنة الخدمة الاجتماعية وفق تراخيص مهنية، سيدعم موقف المهنة مجتمعياً وبين بقية المهن الأخرى ويعطيها مكانة مرموقة. كما أنه سيحقق فاعلية أكثر في الممارسة المهنة للخدمة الاجتماعية.
فالتراخيص ستحقق المساواة بين الأخصائيين الاجتماعيين، بحيث يحصل على الترخيص المؤهل بالفعل لممارسة المهنة وليس من حصل فقط على درجة علمية.
وإن كان هناك بعض الصعوبات التي تعترض طريق المهنة في الوقت الحاضر في المجتمعات العربية، إلا أنها، في رأينا، صعوبات مرحلية بإمكان المهنة تجاوزها بوضع مزيد من التقنين والضوابط للممارسة المهنية فيها. أما الصعوبات التي قد تعترض تراخيص الممارسة المهنية نفسها فهي قابلة للحل متى ما توفرت الإرادة المجتمعية أولاً والإرادة المهنية ثانياً.
ونرى أنه متى ما تحقق تقنين الممارسة المهنية للخدمة الاجتماعية وفق تراخيص ممارسة مهنية، فإن المهنة ستشهد تطوراً نوعياً داخلها، سينعكس بطبيعة الحال خارج إطارها ويحقق لها مكانةً هي أهل لها في القرن الواحد والعشرون.