ما بعد الحداثة -تحديدات - محمد سبيلا و عبد السلام بنعبد العالي- الناشر: دار توبقال للنشر السلسلة: دفاتر فلسفية (نصوص مختارة)

وردت كلمة "ما بعد الحداثة Postmodern" لأول مرة لدى الألماني Pannwitz في كتابه الصادر عام 1917 بعنوان (أزمة الثقافة الأوروبية). وقد كان المؤلف طرح ذلك تحت وطأة اتجاهات السقوط والعدمية، التي جلبتها أحداث الحرب العالمية الأولى، وما تمخضت عنها من نتائج في طليعتها الصراع بين البلدان الرأسمالية وثورة أوكتوبر في روسيا؛ وكذلك تحت تأثير المشروع الذي قدمه نيتشه (مات عام 1900) لتجاوز الحداثة المحاصَرة من قِبَل اتجاهات السقوط والعدمية المذكورة من طرف، ولتقديم بديل عنها ممثَّلٍ بالـ "Vebermansch الإنسان الأعلى" من طرف آخر. أما الحداثة فقد أتت مشروعاً يؤسِّس فكرياً للطبقة البرجوازية الجديدة، خصوصاً منذ القرن الثامن عشر في أوروبا الغربية، واقترنت – من ثمَّ – بالنهضة وبالأنوار هناك. وهي ستجد بداية تفككها العظمى مع بداية هذا العِقد الأخير من القرن العشرين، يداً بيد مع تفكك "المنظومة الاشتراكية؟ السابقة ومحاولة استفراد العالم أميركياً. أما تجليات الحداثة، فتبرز التالية في مقدمتها: العقلانية، والعلمانية، والتاريخانية، والعِلموية، والنزعة الإنسانية، والديموقراطية، وفعل التقدم؛ في حين أفصح حقل الحداثة التاريخي المشخص عن نفسه في: المجتمع المدني والدولة الوطنية، والإنتاج الاقتصادي المتصاعد باطراد وبحوافز علمية هائلة. - 2 - يمكن تبيُّن التحديدات التالية في بنيتيْ الحداثة وما بعد الحداثة، وفي العلاقة الكامنة بينهما: 1)إنهما مفهومان متضايفان من طرف واحد، بحيث تشترط الثانية وجود الأولى، دون أن يكون العكس صحيحاً، وذلك بالمعنيين التاريخي والمنطقي. 2)انطلقت الحداثة من نشأتها من كونها بنية مفتوحة وانتهت إلى كونها بنية مغلقة؛ في حين انطلقت ما بعد الحداثة، وانتهت بوصفها بنية مغلقة، بحيث لا تفصح – في نسيجها الداخلي – عن آفاق مستقبلية. وبهذا، فهي دعوة إلى "نهاية التاريخ وإلى موت الإنسان". 3)تمثل الحداثة مفهوماً إيجابياً يتعزز بقناعة تقارب الإيمان الميتافيزيقي بـ "واقع الحال المباشر" وبثقة كلية بالمستقبل تتجنب ما أطلق عليه فوكو "حفريات المعرفة". أما ما بعد الحداثة فتنطلق من تشكيك كلي بالتاريخ والراهن واللاحق، أي بكل التجليات التي ظهرت فيها الحداثة وبنُجْعها عموماً، وذلك على نحو يتحول فيه هذا التشكيك إلى هدف في ذاته، وبالتالي إلى أداة للتقويض. وبحسب جان فرانسوا ليورنارد، فإن مفهوم ما بعد الحداثة يشير إلى الابتعاد عن الإنسان الفكرية الكلية وإلى رفض فكرة التقدم الذي تسيطر الأنساق على توجيهه. - 3 - طرحت الحداثة نفسها بوصفها المنظومة الفلسفية والسوسيوثقافية التي تسعى، عبر أقنية المجتمع المدني – وهو في حينه المجتمع الرأسمالي الفتي – إلى فتح إمكانات التطور والتفتح والازدهار لكل مَنْ ينتمي إلى هذا المجتمع. وهي، بهذا، تعني تقدماً مطرداً لقوى الإنتاج، وللوعي الذاتي الإنساني بهذا التقدم. ومن ثمَّ، فهي تجسد وحدة الذات بالموضوع على نحو جدلي. ولما كانت الحداثة قد انتهت إلى الإخفاق بسبب نكوص المجتمع الرأسمالي الغربي عن مطالبها وإلزاماتها، فقد مرت بـ "زفراتها الأخيرة"، التي أفصحت عن نفسها بوصفها "الحداثة الأخيرة". ويعرف (جان شينو) هذه الحداثة بأنها مرحلة تهيمن فيها عمليات حاسمة، من أهمها التنميط، والنمذجة، والتسليع، وتعاظم الإنتاج، والدوران المستمر مع المراوحة التاريخية، والترميز والاختزال المطرد، والبدائل "اللاذاتية- التشييئية"، وإحالة البشر إلى أشباح تتباعد، بقدر ما تتعاظم إمكانات التقدم الصناعي والتكنولوجي، وتواري صنَّاع المجتمع ومنتجيه، وتحول علاقة الإنسان بالإنسان إلى علاقة مباشرة مع الطبيعة المصنَّعة (المسلَّعة). ونُجمل نحن مرحلة "الحداثة الأخيرة" بالقول بأنها تجسيد لعلاقة أحادية البُعد بين موضوع وموضوع، بعد أن تكون "الذات" قد أُقصيتْ من الحلبة. إنها، إذاً، كما يرى ترلنك عام 1966: العدمية والموقف المعادي للحضارة؛ بعد أن كانت الحداثة الأولى قد عنت لـ (ماثيو أرنولد عام 1856): الانفتاح والتفتح والتسامح والازدهار لذواتٍ تلتقي فيما بينها وليس عبر مواضيع Objects مشيِّئة ومشيأة. وإذا كانت "الحداثة الأخيرة" كذلك، فإن ما بعد الحداثة، في أحد تعريفاتها، هي القطيعة الأبستيمولوجية التامة مع مرحلة التأسيس للعصر البرجوازي، ومن ثم مع "الحداثة الأولى" في طزاجتها وفتوتها، أولاً؛ وهي ثانياً استمرارية ما مع "الحداثة الأخيرة" بعد تفكيكها لصالح تقويض الحداثة عموماً. وهي بهذا الاعتبار، أيديولوجياً شيخوخة ذلك العصر، وتعبير دلالي مباشر عنه، و دعوة إلى تجاوزه عبر بديل مُضمر فيه – أساساً – وهو العدمية. وبهذا وبذاك، نعرف ما بعد الحداثة، بأنها الوجه الأيديولوجي التوهيمي لمرحلة (العولمة) الجديدة القائمة على العمل على ابتلاع الأشياء والناس في سبيل تقيُّئها لمرحلتيْ الليبرالية والإمبريالية في إطار النظام الرأسمالي. وإذا كان هذا القول الأخير تعريفاً لما بعد الحداثة بـ "السلب"، فإن تعريفها بـ "الإيجاب" يتحدد بالقول بأنها احتجاج صخَّاب على ابتلاع البشر - مُنتجين وغير مُنتجين – باسم عالم من التسليع والتشيؤ، خصوصاً بدءاً بعهد "الحداثة الأخيرة" وانتهاء بالمرحلة المعيوشة. وبهذا الاعتبار "العدمي التاريخي" تلتقي ما بعد الحداثة مع الفوكويامية في الإعلان عن موت التاريخ والإنسان، وعن "البقاء للإله الجديد وحده"، السوق وحده بكل توحشه وعبثه، أي عبر آلية الابتلاع لكل شيء وتقيُّئه سِلَعاً.‏

ضع ردا ليظهر الرابط


وهذا رابط أخر لتأكيد وجود الكتاب