يعد كتاب «ما وراء تأسيس الأصول» لمؤلفه د. علي مبروك مساهمة غير تقليدية لنزع أقنعة المقدس في الثقافة العربية الإسلامية
إذ يتخذ المؤلف من مفهوم «الأصل» نموذجاً للكشف عن آليات التقديس والتقليد والاتباع التي يعاني منها الخطاب العربي الإسلامي عبر تاريخه الطويل. فمفهوم «الأصل» وبما يحمل داخله من سلطة الاتباع والانصياع، لعب دوراً كبيراً في تحويل العقلية الإسلامية إلى عقلية اتباعية، لدرجة أنه أعاد تأسيس البنية الثقافية للمجتمع العربي، وتسيَّد على كل أشكال الوعي السياسي والديني والتاريخي. ذلك أن خطورة مفهوم الأصل، بحسب المؤلف، تعود إلى أنه يشكل نظاماً في التفكير وينتج المعرفة بحيث يعيد تركيب العقل العربي الإسلامي عندما يحوله إلى عقل يفكر بالأصل ويقدسه، ولذلك نجد أن الكاتب يتصدى للبحث في المكانة المركزية التي أخذ مفهوم الأصل يحتلها، للكشف عن كيفية حضوره واشتغاله ضمن ثقافتنا، ولماذا برزت علوم الأصول (أصول الدين، أصول الفقه،....) بوصفها العلوم الأكثر تأسيساً داخل الثقافة الإسلامية؟
وانطلاقاً من هذه العلاقة الوثيقة بين ثقافة الأصول وثقافة التقديس يحلل المؤلف دور كل من الشافعي والأشعري في التأسيس لثقافة الأصول والتقديس، والأثر الذي تركاه على الثقافة العربية الإسلامية من خلال تحويلهما النص القرآني من نص للإبداع يجمل إمكانات متعددة إلى نص للاتباع والتكرار وتكريس المقدس، وذلك من خلال التأسيس والترسيخ لآلية تفكير في النص تستبعد كل «استدلال عقلي» وتكتفي باستدلال الأخبار والاجترار. يضاف إلى ذلك أن سيادة ثقافة التقديس للأصل هي التي ولدّت ظاهرة تقديس الأئمة والرموز الدينية والسياسية في الثقافة العربية الإسلامية، وذلك من خلال تأكيد المأثورات التاريخية على لزوم الطاعة لكل سلطة موجودة، بل وإضفاء صفات التقديس على السلاطين والزعماء الدينيين من خلال جعلهم ممثلين الله على الأرض وطاعتهم من طاعته.
وبالمقابل فإن السلطان تسلح بسلاح «القضاء من الله» لفرض مصالحه السياسية وتنظيم أمور دولته بما يتناسب ورؤيته. أما أهم نتيجة للتسَّيد ثقافة الأصل والتقديس فهي انتصار «النقلي» على «العقلي» بحيث أصبح النقل هو الفاعل الأساسي في الثقافة العربية. ولذلك نجد المؤلف يشدد على ضرورة التنبيه لما أسماه تجذر «التمركز النقلي» في قلب الثقافة العربية وترسخه في التجاويف العميقة لنظام لاوعيها المعرفي، والذي لم يزل يحدد ويتحكم في وعيها حتى الآن. ويفسر المؤلف ترسخ ثقافة النقل والأصل في الثقافة العربية بعدة عوامل يمكن إيجازها بالتالي: 1-كتابات عصر التابعين التي رسخت تقاليد النقل والتقديس. 2-ثقافة القبلية التي بقيت حاضرة في التقاليد الثقافية العربية. 3-الفئات السياسية المستفيدة من انتشار ثقافة التقليد والتقديس. 4-البنى الاجتماعية التقليدية للعائلة العربية حيث الطاعة العمياء للأب.
ويبدو أن تلك العوامل السابقة لم تلعب دورها في التاريخ العربي الإسلامي لتشكيل آلية عمل الخطاب العربي التراثي والحديث وحسب، بل انها أثرت في كامل وجود الإنسان العربي، بحيث أصبحت تتحكم بممارساته السياسية والاجتماعية والمعرفية والنفسية والتاريخية. هكذا أصبح الإنسان العربي ينظر إلى الأصل بوصفه سلطة متعالية لا تقبل التجاوز، بحيث حوّلت «سيكولوجيا الإعلاء» هذه الإنسان إلى «ذات منسحقة» تعيش تحت هيمنة المقدسات التي لا تقبل المساءلة ولا الاعتراض. أما المقدس الذي يقود كل تلك المقدسات ويعطيها مبررات وجودها وهيمنتها على المجال الثقافي العربي فهو المقدس الديني، حيث لبست كل الأنساق السياسية والمعرفية والاجتماعية التي تريد الهيمنة على المجتمع، لبست عباءة المقدس الديني وأصبحت تتحدث باسمه.
ولا يكتفي المؤلف بالبحث عن جذر ثقافة الأصل والتقديس في التراث العربي بل أنه يؤكد أن هذه الثقافة حاضرة حتى في طريقة تعاملنا مع الحداثة الغربية. فنحن نظرنا إلى الحداثة على أنها «نموذج جاهز»، حاولنا فرضه قسرياً على الواقع العربي «البائس». فالثقافة العربية تفتقد إلى النظرة النقدية في ذهنيتها، ويبدو أن هذا هو سبب «معضلة الاستبداد العربي». ولذلك تؤكد خاتمة الكتاب ضرورة تحرير فضاء الثقافة والسياسة من التقديس والتقليد، الذي يكاد يكون الشرط اللازم لانبثاق خطاب جديد، يتمكن به العرب من تحرير تراثهم والتأثير في مستقبلهم، بل والعالم كله.
http://www.4shared.com/document/Et_XTyAi/___.html?