تكنولوجيا المعلومات تصنع رأس المال الإجتماعي

بفضل تداخل التقنية والسياسة والدين والاقتصاد... تكنولوجيا المعلومات تصنع رأس المال الإجتماعي




عبدالناصر عبدالعال الحياة - 30/09/08//




اختلفت آراء الباحثين في تفسير تفاوت التطوّر الحضاري ومعدلات النمو والقوة الاقتصادية بين الدول والمجتمعات وأسبابها. وركّز بعض الباحثين على العوامل المادية مثل التباين في امتلاك الموارد الطبيعة والفوارق الجغرافية والطبيعية. فيما ذهب فريق آخر الى التشديد على أهمية العوامل السياسية مثل دور الدولة وطبيعة النظام السياسي وأوضاع حقوق الانسان والحريات المدنية. وشدّد آخرون على المهارت البشرية التي يُشار إليها أيضاً باسم «رأس المال البشري» Human Capital. وتنبّهت الآراء الحديثة إلى أهمية عناصر مثل أداء المجتمع الأهلي، طبيعة الروابط الأسرية، العلاقات الاجتماعية، مدى التمسّك بالقيم الاجتماعية، درجة متانة النسيج الاجتماعي، تنوّع البنى الاجتماعية وما يشبهها من العوامل، التي يجمعها مفهوم «رأس المال الاجتماعي» Social Capital.


المعلوماتية تصنع رأس المال الاجتماعي

عَرّف الفيلسوف الفرنسي الراحل بيار بورديو رأس المال الاجتماعي social capital بأنه الموارد والطاقات الكامنة في الشبكات الاجتماعية المختلفة، والتي تؤدي الى تحقيق منافع جماعية بأثر من القِيَم التي تتحكّم في البُنى الاجتماعية.

وتشير الدراسات إلى أن الاستخدام الأمثل لتكنولوجيا المعلومات يؤدي إلى تراكم رأس المال الاجتماعي، من خلال تعميق التشابك الاجتماعي وتفعيل القيم الأخلاقية وزيادة العمل الخيري. وفي المجتمعات ما بعد الصناعية الراهنة، يُعتبر التَطوّع الالكتروني (أي تبرع الكادرات العلمية والتقنية للعب حلقة الوصل بين التكنولوجيا المتقدمة والمجتمع) نموذجاً قوياً منها. ومِثال ذلك تبرع الطلبة في «معهد ماساشوستس للتقنية» بنصب الأعمدة والأطباق المتصلة بالشبكات اللاسلكية التي تعمل بتكنولوجيا موجات «واي ماكس» WMx على أسطح المنازل في المدينة التي تستضيف معهدهم، من دون مقابل.

وبفضل خدمات الإنترنت والهاتف النقّال، نشأت المنتديات الالكترونية والجماعات الافتراضية والمُدوّنون الرقميون (بلوغرز – Bloggers) وغيرها من الشبكات الاجتماعية والسياسية والدينية المستندة الى الشبكات الرقمية المتطوّرة في المعلوماتية والاتصالات. وأدت تلك الأمور أيضاً إلى زيادة حيوية البُنى الاجتماعية والسياسية التقليدية وفاعليتها، ما أضاف زخماً قوياً وديناميكية معرفية إلى الحياة السياسية والاجتماعية.

كما ساهم ذلك النوع من رأس المال الاجتماعي المتصل بالتكنولوجيا في تنمية شبكات اللاسلكي الأهلية ونُظُم تشغيل الكومبيوتر المفتوحة المصدر Open Source Operating Systems (مثل «لينوكس») والمواقع الشبكية التي تتيح المعرفة بصورة مفتوحة مثل موسوعة «ويكيبديا» Wikipedia وغيرها. تَدلّ هذه الأمثلة على مساهمة رأس المال الاجتماعي المرتبط بالمعلوماتية في زيادة رأسي المال العيني والبشري.

وفي هذا السياق، أشارت دراسة حديثة إلى أن مُطوّري البرامج المفتوحة المصدر Open Source Applications في أوروبا ينتجون تطبيقات للكومبيوتر بنحو 800 مليون يورو سنوياً، وكذلك فإنها اتّصلت بنشاطات عَزّزت الاقتصاد الأوروبي بقرابة 263 مليون يورو.

وبفضل تكنولوجيا المعلومات برزت نافذة أخرى لاستغلال الطاقات الكامنة في الشبكات الاجتماعية المرتبطة بالإنترنت. وظهر نوع جديد من العطاء الإجتماعي يسمى «العطاء الاجتماعي الرقمي»، المتمثل في حض الأفراد على التبرع بالمعرفة والخبرات المتراكمة لديهم.

وفي المقابل، يدرج في أشكال رأس المال الاجتماعي السلبي الناتج من الشبكة والمعلوماتية، الاستخدام غير الرشيد للإنترنت وتخصيص الفرد جزءاً كبيراً من وقته لعالمها الافتراضي، على حساب المقربين منه.

وكخلاصة، يمكن القول ان تحقيق التنمية والتوصّل إلى دولة الرعاية والعدالة الاجتماعية، يتطلّب توظيف المعلوماتية لتعميق التشابك بين الأفراد وتفعيل القيم وزيادة العطاء الاجتماعي الرقمي واستغلال الطاقات المعرفية لدى العموم.


ردم الفجوة الاجتماعية

ويساهم رأس المال الاجتماعي في تحقيق التنمية الاقتصادية من خلال زيادة الإنتاج وتحسين القدرة التنافسية للمشروعات وتنمية رأس المال البشري وخفض تكلفة المعاملات وردم الفجوة الطبقية. وتدلّ الخدمات الصحية والتعليمية التي يقدمها المجتمع الأهلي على مساهمته في زيادة رأس المال البشري. كما تساهم نشاطات الجمعيات الدينية في زيادة التواصل بين الأفراد وتأصيل الفضائل الحميدة ولا سيما التعاون والتكافل بينهم. ومثلاً، تؤدي الزكاة والصدقات وغيرها دورها في تخفيف الفقر في العالم الإسلامي.

ومن الأمثلة التي تدلّ على مساهمة رأس المال الاجتماعي في الإنتاج، ذلك التعاون الذي ساد بين قدماء المصريين عند حصاد المحاصيل. وهناك أدلة تشير إلى أن دعم الأسرة والمعارف والجيران يعتبر من أهم عوامل نجاح المشروعات الصغيرة.

وكذلك شكّل رأس المال الاجتماعي مظلة أمان عند غياب الدولة (الصومال)، وفي حال الاحتلال (فلسطين والعراق)، وعند فساد السلطة (مصر). ويلعب دوراً أساسياً في المجتمعات الرعوية وبالنسبة الى قاطني المناطق المهمشة اذ تضعف سلطة الدولة ويسود العُرف والعصبية القبلية.

ففي المناطق النائية في باكستان وأفغانستان واليمن والسودان والمجتمعات القبلية عموماً، توفّر القبيلة الخدمات الصحية والتعليميـة، وتحفظ الأمن وتنهض بالكثير من وظائف الدولة العصرية. ولذا، اهتم البنك الدولي بمفهوم رأس المال الاجتماعي. ودعم الدراسات التي تهدف إلى كيفية توظيفه لتحقيق التنمية بأبعادها المختلفة، مُفترضاً أن زيادة التماسك الإجتماعي وتفعيل القِيم بين الناس يؤديان إلى زيادة التكافل والتعاون بينهم، ويرفع تبادل المعرفة. ومن المستطاع الإشارة إلى التجربة الماليزية التي تؤكد أهمية الأبعاد الاجتماعية والأخلاقية والثقافية في التنمية.

وتساهم نشاطات الأحزاب والمجتمع المدني والمُدوّنون الإلكترونيون، في زيادة اندماج الأفراد في الحياة العامة وتفعيل الديموقراطية وزيادة التنوّع في الخيارات السياسية. وتُفَعّل النقابات ومنظمات المجتمع الأهلي والجمعيات الدينية والمهنية، التكافل الاجتماعي والاستثمار في المجتمع والعمل من أجل المجموع.

وظلّت الأصولية والتعصب الديني والعرقي من أهم مسببات الحروب، فضلاً عن مساهمتها في إضعاف الدول. فمثلاً، يتمثّل رأس المال الاجتماعي في المجتمع اليهودي في المعتقد الديني والمنظمات اليهودية، وقد تآزرا في عمليات تهجير الشعب الفلسطيني وإحلال الدولة الصهيونية محله.

وفي مثال مُغاير، ترافقت الزيادة في رأس المال الاجتماعي السلبي في مصر مع انعدام الثقة بين أفراد المجتمع من جهة، وبين هؤلاء والسلطة الحاكمة من الجهة الأخرى. بل ذهب البعض إلى أن ديكتاتوريات هذا العصر مثل أنظمة هتلر وستالين وموسوليني ترجع إلى أساليب التنشئة الخطأ ومعاناة الطفولة. ويسود قول مؤداه "]«الطفولة الجريحة تصنع الطُغاة»[/.

وتدلّ هذه الأمثلة على مدى الترابط بين رأس المال الاجتماعي وطبائع النُظُم السياسية. وفي سياق متصل، يشير مستوى رأس المال الاجتماعي إلى مدى نضج المجتمع المدني فيه، فيُعتبر شرطاً أساسياً لإرساء الديموقراطية.

ويُمثل مفهوم رأس المال الإجتماعي بُعداً أخلاقياً واجتماعياً في التنمية. وتكمن عبقريته في كونه نقطة التقاء بين أطر فكرية متنوّعة مثل الإسلام والرأسمالية والاشتراكية. وتُعتبر زيادته عاملاً مهماً في الاقتصادات الحديثة، وفي انتشار الديموقراطية والحرية والعدالة.



فوكوياما: فضائل متجذّرة

وَصَفَ المُفكر الأميركي الشهير فرانسيس فوكوياما رأس المال الاجتماعي بأنه الفضائل المتجذرة في سلوك الأفراد والتي تدفعهم إلى التعاون والتكافل بينهم. وعرّفه آخرون بأنه مدى اندماج الأفراد في الحياة العامة واهتمامهم بالشأن العام، ما يعني أن مجرد انتماء الفرد لمنظمة معينة أو لـ «جماعة أم» يولد نفعاً.

وقسّمته غالبية العلماء إلى إيجابي وسلبي. وينشأ السلبي منه عن العلاقات الاجتماعية غير الحميدة والمنظمات غير الشرعية التي يرفضها الوعي الجمعي. ومن أمثلته الفساد والمحسوبية وتوريث السلطة والتمييز بين الأفراد على أساس الدين أو العرق أو النوع وغيرها.

وبخلاف رأس المال العيني الذي يتمثّل في أدوات الانتاج، يتميز رأس المال الاجتماعي بأنه غير ملموس، ومملوك للجماعة ككل وليس الفرد، ويتزايد مع الاستخدام، كما أنه يحدد الخصائص البنيوية والوظيفية للجماعة.

ويلعب المعتقد الديني دوراً أساسياً في تأصيل القيم الجماعية وترسيخها بغض النظر عن المنفعة الدنيوية والتضحيات المترتبة على اعتناقها.

وأضحى نشاط المساجد والكنائس والجماعات الدينية عموماً في عمق التداخل بين النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المختلفة.

ومن القيم الجماعية الحاضنة لرأس المال الإجتماعي، تأتي الأخوة الإيمانية والمواطنة والأمانة والثقة والتكافل الاجتماعي والتعاون والوفاء بالعهد والعرفان بالجميل وحسن الجيرة وصلة الرحم وغيرها.

واحتلت قيمة «الثقة» مكانة خاصة بين القيم الجماعية المولّدة لرأس المال الاجتماعي. وأشار فوكوياما إلى أن نسبة الثقة بين أفراد المجتمع تعد عاملاً أساسياً في تحديد مستوى رخائه ومقدرتة على منافسة المجتمعات الأخرى، ومدى ممارسة الديموقراطية والتمتع بالحقوق المدنية فيه. كما أكد علماء اجتماع أخرون أن الجماعة التي يوجد بينها ثقة تكون أكثر إنتاجية من غيرها.

وخلصت الدراسات المتعلقة بهذا المفهوم إلى أهمية دور الأسرة، ولا سيما الكبيرة، والمجتمع الأهلي وشبكات المعارف والجيران في تنمية رأس المال الاجتماعي، وذلك كونهم أكثر تواصلاً مع أفراد المجتمع، وبالتالي أكثر انخراطاً في نسيجه وادراكاً للحاجات الأساسية لمكوناته المختلفة، خصوصاً بالمقارنة بالمنظمات الحكومية.

وكذلك أشار العالمان كولمان وإدورادز إلى أهمية دور الأسرة في تكوين رأس المال الاجتماعي اذ يقوم الآباء بتعزيز القيم الحميدة عند الأطفال. كما أكدّا التاثير السلبي للتفكّك الأسري.

وزاد الاهتمام أخيراً بالعلاقة بين رأس المال الاجتماعي وتكنولوجيا المعلومات للأسباب الآتية:

1- تنامي التحوّلات الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية الناتجة من تكنولوجيا المعلومات.

2- تدني المشاركة السياسية والاندماج في الحياة العامة حتى في الدول الليبرالية العريقة مثل الولايات المتحدة، على رغم التطور الهائل في وسائل الاتصالات.

3- زيادة الاحتكارات، ولا سيما المتعلقة بالمعلوماتية، وتعاظم الفجوة بين الفقراء والأغنياء. ولذا ظهرت الحاجة إلى تفعيل دور منظمات المجتمع المدني والجهود الطوعية في الفضاء الإلكتروني، للتقليل من حدّة هذه المشاكل.

4- ظهور أزمات كبرى تهدّد المجموع البشري ككل مثل الاحتباس الحراري وتآكل طبقة الأوزون والأعاصير الضخمة والإرهاب وغيرها. وتالياً، فرضت تلك الأمور تعاون النوع الاجتماعي لمجابهتها، مع التشديد على أهمية استخدام المعلوماتية في تحقيق التعاون.

5- زيادة النزعة الفردية والفساد الأخلاقي وتشوّه البنى الاجتماعية ولا سيما الأسرة بمفهومها التقليدي. وتالياً، توجّب البحث عن وسائل مبتكرة لترسيخ القيم الحميدة بين الأفراد وتعزيز التواصل بينهم وتمكينهم من التمتع بمزايا الاجتماع وفوائد العيش الجماعي المتكافل.


وأخيراً، تثير المواضيع الواردة أعلاه جملة أسئلة مثل ما هي الموارد والطاقات الجمعية التي تكمن في البنى الاجتماعية المختلفة وكيفة توظيفها لتحقيق التنمية؟ وكيف يمكن تقدير رأس المال الاجتماعي الموجود في البنى الاجتماعية المختلفة؟ ما هو دور تكنولوجيا المعلومات في تنمية رأس المال الاجتماعي ببعديه التشابكي والقيمي؟



* أكاديمي من جامعة نبراسكا الأميركية