الأثار النفسية والإجتماعية والإقتصادية للعنف الأسري على المرأة والمجتمع المحلي
الدكتور حلمي ساري
مقدمة
على الرغم من أن مشكلة العنف الذي تتعرض له النساء في المجتمع العربي ليس أمرا طارئا وجديدا، إلا أن ارتفاع نسبة وقوعه، وتعدد أشكاله التي تأخذها ويتمظهر بها في الوقت الحاضر، و الآثار السلبية التي يتركها على المرأة والأسرة والمجتمع، دفع بالباحثين من مختلف التخصصات لتحليل هذه المشكلة الاجتماعية. فإظهار العنف، بوصفه أحد أساليب الإيذاء (Abuse )، في وسائل الإعلام – مثلا – من خلال عشرات الأفلام التي تصوره أسلوبا أمثل في حل المشكلات، والتهديد بالحرب والإختطاف، والإعتداء على الاطفال، وضرب كبار السن، أو اهمالهم، وتزايد حالات الإغتصاب بأشكاله المختلفة – وبخاصة الجنسي–........، كلها علامات وشواهد ومظاهر جلية تدل على مدى استشراء وتفاقم هذه المشكلة في السنوات الأخيرة، حيث غدت تتمأسس في مؤسسات المجتمع كافة دون استثناء، وتتبدى في كافة سلوكاتنا اليومية.
وعليه، فإن العنف بشكل عام، العنف الأسري بشكل خاص، يعد مشكلة معقدة ترتبط بالعديد من العوامل والمتغيرات التي يسهم كل منها بدور واضح في وقوعها، كالمتغيرات الإقتصادية، الثقافية، الاجتماعية، والسياسية، ولكن تحديد هذه العوامل واسهاماتها في إحداث العنف، أمر لا يقع ضمن أهداف هذه الورقة، علما أن مثل هذا التحديد لا بد منه لتوضيح مفهوم العنف، وتحديد المظاهر التي يأخذها. لذا، سأقوم بالمقابل بتقديم تعريف مقتضب للعنف، وأقوم بتحديد أهم مظاهره لأنتقل بعدها إلى شرح وتحليل الآثار الناجمة عنه.
مفهوم العنف
يختلط مفهوم العنف بمفاهيم كثيرة لها دلالات ومعاني شبيهة به مثل الإساءة، والضرر، والإيذاء. ويعتبر الإيذاء أكثر هذه المفاهيم التصاقا وتداخلا معه. ومع ذلك، فالعنف غير الإيذاء. إذ يحمل الإيذاء معنى نسبيا يختلف باختلاف الأشخاص، والزمان، والثقافات والمجتمعات. ولهذا يمكن أن يفهمه الناس بطرق مختلفة، وينظروا إليه نظرات متباينة إلى درجة أن فعلا معينا يمكن أن يراه البعض عاديا ومقبولا (ضرب الأب لإبنه من أجل ارتكابه سلوكا خاطئا، أي أن نيّة الإيذاء غير موجودة عند الأب)، في حين قد يراه الآخرون فعلا مؤذيا وعدوانيا. هناك من لا يفرق بينهما، ويستخدمهما كمترادفين.
بمعنى آخر ، هناك العديد من الباحثين ممن يجمع بين العنف والإيذاء. ومع اقتناعنا بضرورة التمييز بينهما، إلا أننا لن نفعل ذلك هنا لأغراض تتسق مع أهداف هذه الورقة، لذا سنستخدمهما كمترادفين، علما أن "الإيذاء" هو مصطلح أعم وأشمل من العنف، وذلك أن اللجوء إلى العنف يترك أذى وضرر لتوافر عنصري القوة أو الضغط والنيّة. وأما الإيذاء فلا يشترط توافر عنصري النيّة في الإيذاء والقوة دائما. وبناءا عليه، فإنه يمكننا تقديم التعريف التالي للعنف الأسري: -
"هو أحد أنماط السلوك العدواني الذي ينتج عن وجود علاقات قوة غير متكافئة في إطار نظام تقسيم العمل بين المرأة والرجل داخل الأسرة مما يترتب على ذلك تحديد لأدوار ومكانة كل فرد من أفراد الأسرة، وفقا لما يمليه النظام الإقتصادي – الاجتماعي السائد في المجتمع".
ومن هذا المنطلق، وبشكل أكثر تحديدا فإن كل عنف يشتمل على ثلاثة أبعاد هي ...
إن الذي يعنينا هنا في هذه الورقة هو في الواقع البعد الثالث للعنف وهو النتيجة أو الآثار التي يتركها العنف على المعنّف أو المعنّفة. ولكن لا بأس قبل الانتقال إلى ذلك أن نتطرق بإيجار، إلى مظاهر التي يأخذها الفعل العنيف لأنها ستساعدنا في فهم الآثار التي سنوايها اهتمامنا لاحقا.
مظاهر العنف
1. العنف الجسدي: وهو أشد وأبرز مظاهر العنف، ويتراوح من أبسط الاشكال الى أخطرها واشدها: (الضرب، شد الشعر، الصفع، الدفع، المسك بعنف، لوي اليد، الرمي أرضا، اللكم، العض، الخنق، الحرق، الدهس، ... الخ).
2. الحصول على العمل، إجبارها على عمل ما لا تحبه، منعها من الاستمرار في عملها، عدم كفاية النقود التي تعطى لها، الاستيلاء على ممتلكاتها، تهديد ممتلكاتها الشخصية، عدم اعطائها مصروفها، الاستيلاء على راتبها، اجبارها على التنازل عن حقوقها في الميراث، ... الخ).
3. العنف التعليمي: ويعني بأبسط اشكاله حرمان الفتاة من التعليم، أو اجبارها على ترك مقاعد الدراسة، تهديدها بإيقاف تعليمها، اجبارها على تخصص معين.
4. العنف النفسي: وهو أي فعل مؤذ نفسيا لها ولعواطفها دون أن تكون له آثار جسدية (الشتم، الاهمال، المراقبة، عدم تقدير للذات، التحقير، النعت بألفاظ بذيئة، الاحراج، المعاملة كخادمة، توجيه اللوم، الاتهام بالسوء، اساءة الظن، التخويف، الشعور بالدنب اتجاه الاطفال).
5. العنف الجنسي: وهو لجوء "الآخر" الى الاستدراج بالقوة والتهديد، إما لتحقيق الاتصال الجنسي مع الفتاة، أو استخدام المجال الجنسي في إيذائها (التحرش الجنسي، الشتم بالفاظ نابية، الهجر من قبل الزوج، الاجبار على ممارسة الجنس، الاجبار على القيام بأفعال جنسية لا تحبها المرأة).
6. العنف الاجتماعي: وهو اكثر الانواع ممارسة ضد المرأة في المجتمع العربي، وهو أبسط معانيه... محاولة فرض حصار اجتماعي على الفتاة وتضييق الخناق على فرص تواصلها وتفاعلها مع العالم الاجتماعي الخارجي، وهو أيضا محاولة الحد من انخراطها في المجتمع وممارستها لادوارها: تقييد الحركة، التدخل في الشؤون الخاصة، تحديد أدوار المرأة، عدم السماح بزيارة الصديقات والاهل، عدم السماح باتخاذ القرارات، عدم الاستماع لها امام الاخرين، عدم دعم أهدافها في الحياة،...الخ).
الآثار النفسية للعنف على المرأة
قد يكون من الصعب حصر الاثار التي يتركها العنف على المرأة، وذلك لان المظاهر التي يأخذها هذا الجانب كثيرة ومتعددة. ومع ذلك نستطيع ان نضع أهم الآثار واكثرها وضوحا وبروزا على صحة المرأة النفسية والعقلية. (هذا بالطبع لا يعني أن المرأة تتعرض لها جميعها، بل قد تتعرض لواحد من هذه المظاهر حسب درجة العنف الممارس ضدها):
v فقدان المرأة لثقتها بنفسها، وكذلك احترامها لنفسها.
v شعور المرأة بالذنب إزاء الاعمال التي تقوم بها.
v إحساسها بالاتكالية والاعتمادية على الرجل.
v شعورها بالاحباط والكآبة.
v إحساسها بالعجز.
v إحساسها بالاذلال والمهانة.
v عدم الشعور بالاطمئنان والسلام النفسي والعقلي.
v اضطراب في الصحة النفسية.
v فقدانها الاحساس بالمبادرة والمبادئة واتخاذ القرار.
لا شك أن هذه الاثار النفسية، أو بعضها تفضي الى امراض نفسية أو نفسية – جسدية متنوعة كفقدان الشهية، اضطراب الدورة الدموية، اضطرابات المعدة أو البنكرياس، آلام وأوجاع وصداع في الرأس، ...الخ.
الآثار الإجتماعية للعنف
تعتبر هذه الآثار من أشد ما يتركه العنف على المرأة، ولا نبالغ اذا ما قلنا أنها الاخطر والابرز. ويمكن إبراز أهم واخطر هذه الآثار بما يلي:
الطلاق.
التفكك الأسري.
سوء واضطراب العلاقات بين اهل الزوج وأهل الزوجة.
تسرب الابناء من المدارس.
عدم التمكن من تربية الأبناء وتنشئتهم تنشئة نفسية واجتماعية متوازنة.
جنوح أبناء الاسرة التي يسودها العنف.
العدوانية والعنف لدى أبناء الاسرة التي يسودها العنف.
يحول العنف الاجتماعي ضد المرأة عن تنظيم الاسرة بطريقة علمية سليمة.
أي أنه يقف عائقا امام هذا التنظيم من جهة، ويبعثر دخولاتهم الاقتصادية ويششتها في أمور غير ضرورية من جهة اخرى.
الآثار الإقتصادية للعنف
يرى العديد من الباحثين في العلوم الاجتماعية أن الوضع اللاانساني الذي تعيشه المرأة في المجتمع، سواء المجتمعات العربية أم الغربية على حد سواء، ما هو الا نتائج لوضعها الاقتصادي السيء الذي لا يكاد يكون المسؤول عن جميع أوضاعها الاخرى (الاجتماعية والسياسية والنفسية). ونحن وإن كنا نتفق مع هذا الاتجاه في تحليل وضع المرأة العربية الراهن الى حد كبير، ومع ذلك نقول انه يصعب عزل هذه الأوضاع عن بعضها، وبالتالي يصعب عزل آثارها. فهي متداخلة إلى حد يكاد يكون من المتعذر فهمها منفردة، فعلى سبيل المثال فإن ظاهرة العنف الممارس على المرأة بشكل رئيسي، وعلى الأولاد بصفتهم الملحق داخل الأسرة، لا يعكس في الحقيقة حجم العنف المعنوي – والاجتماعي فحسب، بل أيضا حجم العنف الاقتصادي وبما يحدثه من خلل واضطرابات في البنية الاقتصادية. حيث يفوت هذا العنف على الأفراد فرص تدريبهم وإعدادهم لسد ثغرات العمل من جهة، واستيعباهم في سوق العمل بشروط أفضل من جهة ثانية.
ولعل أهم وأخطر الآثار السلبية التي يتركها العنف الإقتصادي على الأسرة والمجتمع هو إعاقة متطلبات التنمية الاقتصادية. حيث أن العنف مسؤول عن دفع أعداد من الأيدي العاملة غير الماهرة (ذكورا وإناثا) إلى سوق العمل وخضوعهم للظلم الاجتماعي والمعاملة المجحفة بحقهم. هذا في الواقع إن وجدوا أمامهم فرص عمل.
وبناءا على ما تقدم، ومع استمرار تدني نسبة مشاركة المرأة في العمل المنتج يمكن القول أن العنف الأسري يعيق اندماج المرأة في الحياة الإقتصادية – الإنتاجية، ويفوّت فرصة الدولة الإستفادة من الطاقة النسائية والشبابية الكامنة، وكذلك فرصة توظيف هذه الطاقات في عملية التنمية الاجتماعية والاقتصادية.
وأخيرا ... يمكن القول بدرجة عالية من الثقة واليقين أن آثار العنف ونتائجه سواء على المرأة أو الأسرة أو المجتمع متداخلة ومتشابكة وما الفصل الذي قمنا به هنا بينهما سوى عملية توضيحية فقط، فالنتائج التي يتركها العنف إنما تتداخل وتتفاعل معا ويفضي بعضها إلى البعض الآخر ليشكل خطرا فعليا وجسيما يهدد البنى الاجتماعية والاقتصادية للأسرة والمجتمع على حد سواء. ولعل أهم هذه الآثار يتمثل – كما أشرنا – في تهديد وإعاقة سياسات التنمية والتغير الاجتماعي. لذا، قد يتعثر تقدم المجتمع إلى الأمام، وتتعثر عملية التنمية الاجتماعية ما لم يتم مكافحة كافة أنواع التمييز ضد المرأة. وهذا التمييز الذي يقف إلى حد كبير وراء العديد من أشكال العنف الأسري، ولئن كنا غير معنيين، في نهاية هذه الورقة بتقديم استراتيجية خاصة لمكافحة التمييز الجنسوي، لأن ذلك لا بد من ذكر بعض الاجراءات السريعة التي تخفف أو تقلل من ممارسة التمييز أو العنف ضد المرأة وهي: -
1. إجراءات قانونية وبخاصة في مجال التشريعات وقوانين الأحوال الشخصية.
2. إجراءات ثقافية واجتماعية واعلامية تتعلق بالموروث الشعبي والعادات والصور النمطية المجحفة بحق المرأة.
3. إجراءات إقتصادية تسمح بدخول المرأة مجال العمل.