ماذا عن مجانية «التبول» فى الجامعة؟
بقلم: عزت القمحاوى
المبصر الكبير طه حسين سبق ضباط يوليو بدعوته إلى حق التعليم لكل مصرى، كالحق فى الماء والهواء تماماً. لكن هذا الحق تسرب من أيدى المصريين، إما من خلال الدروس الخصوصية التى جعلت المجانية فى الجامعة مسألة شكلية كالمجانية فى المدارس تماماً، أو بالسلخ المتوالى لكثير من الكليات والأقسام التى صارت تسابق فى مصروفاتها الجامعات الخاصة، التى تتكاثر بسرعة مريبة.
ولنتخيل بقليل من خيال أن الزمن امتد بعميد الأدب العربى حتى اليوم، وهذا ليس بغريب، فالمفكر الفرنسى كلود ليفى شتراوس احتفل مع فرنسا بعيد ميلاده المائة الأسبوع الماضى. ولنتخيل أيضاً أن طه حسين ترك الجامعة بسبب معايير وموازين الدكتور هانى هلال التى يطبقها على أداء الأساتذة، وأن تلامذته دعوه بمناسبة عيد ميلاده المائة إلى إلقاء محاضرة، وأنه أراد أن يفعل كما يفعل الناس والأساتذة والطلاب، ولم يكن عميد الكلية الذى لا يعرف طه حسين حاضراً ليمنحه مفتاح حمّامه الخاص، فاضطر طه حسين لقضاء حاجته كما يفعل الطلاب فى دورات مياه أكلتها الرطوبة ومباول مخرومة لا تحتفظ بما تستقبل!
ليس فى الأمر نكتة، بل هى الحقيقة التى كانت ستقتضى من طه حسين (لو كان بيننا الآن) إطلاق دعوة جديدة عن حق التبول فى الجامعة. وإن كانت دعوته الأولى تتضمن هذا الحق من دون أن ينص عليه صراحة، تحرجاً أو ثقة فى ذكائنا ربما.
من الطبيعى إذا كان استقبال جسد الإنسان للماء والهواء حقاً من حقوق الإنسان، فبالضرورة يكون حق التبول والزفير من الحقوق التى لا تخضع لأصل الإنسان أو لونه أو طبقته الاجتماعية، وألا يكون الطالب - أو الطالبة - مضطراً لمصادقة أحد من أعضاء هيئة التدريس لكى يمنحه مفتاح دورة المياه الخاصة بهيئة التدريس، أو يدفع لفرّاش العميد كى يبول فى غيابه، تحت تهديد عودة مفاجئة للسيد العميد.
دورات المياه، مأساة حقيقية فى جامعاتنا ومنشآتنا العامة، وهى أهم وأكبر مظاهر الشيخوخة والفوضى فى هذه المؤسسات. وعندما تكون المؤسسة تعليمية فإن نظافة المنشأة، عامل مهم من عوامل تعليم معنى الانتماء، ورفض التآلف مع الوساخة التى يتآلف معها المصريون فى الشوارع والمطاعم والمقاهى ويؤاخونها كما لا يؤاخيها شعب آخر.
وإذا مددنا حبل إهمال المنشأة التعليمية وفى القلب منها بيت الضرورة الحمام سنجد أن هذا الإهمال هو أحد الأسباب الكبرى فى افتقادنا ثقافة الإتقان فى كل ما نفعل.
وقد انتبه صاحب البصيرة الفذة إلى أهمية البيئة التعليمية فى حياة وفكر ووجدان الطالب، فحدد فى كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر» الذى أصدره عام ١٩٣٨ شكل المدرسة (لم تكن نظافة الجامعة محل شك فى ذلك الوقت) وأوصى بضرورة أن تكون المدرسة نظيفة، وصحية وجميلة من دون أن تكون متعالية على بيئة التلميذ، أو تجعله يشعر بوضاعة بيته إذا ما انصرف فى نهاية اليوم المدرسى!
الآن تنعم غالبية مدارسنا وجامعاتنا بالقذارة، خصوصاً فى تفاصيلها السرية والحميمة، وفى الوقت نفسه يتوفر أحياناً التمويل الكافى لإنشاء مدرسة أو مبنى تكميلى داخل جامعة بفخامة مذلة للطلاب، ومتنافرة فى الوقت نفسه مع الأبنية التاريخية للجامعة، من خلال كميات الزجاج المعتم والرخام السفيه.
المدارس التى من هذا النوع تفقد التلميذ الفقير الذى يلتحق بها سلامه مع بيته، أما من يمر عليها، دون أن ينال شرف دخولها، فإنه يفقد حماسه لبيته ولمدرسته الرثة أيضاً!
أما التدبير السيئ فى الجامعات، فتكفى جولة بجامعة القاهرة لفضح هذه الحقيقة التى تدعو للأسف مرتين: مرة لتشويه التناسق المعمارى للجامعة، ومرة بسبب الفرق الفظيع بين جمال واجهات الأبنية التاريخية بالحرم الجامعى وتداعى داخلها وقذارة ممراتها، وفى الوقت نفسه التناقض بين تفاهة التصميم الخارجى للمبنى الجديد، ونظافته الداخلية، التى لا يمكن لأحد أن يضمن استمرارها، حيث ستسير هذه المبانى على طريق التداعى نفسه، بينما يبقى المبنى القرد على حاله يفضح بناته.
ولو أن الجامعة خصصت ميزانية احتفالها بعيدها المئوى الذى لم يشعر به أحد لتجديد عفشة المياه بها، لكان أفضل احتفال يمكن أن تقيمه مؤسسة تعليمية على الإطلاق.
والجامعة ليست استثناء فى قانون العمولات الحكومية الذى يقود هوس البنيان؛ فعمولات مقاولات الترميم لا تسمن ولا تغنى من شراهة، بعكس عمولات الإنشاء الرهيبة، وهى السر الذى جعل المبانى الجديدة تتكاثر كالفطر السام فى أفنية المؤسسات العامة والوزارات بأكبر كمية ممكنة من الرخام على حوائطها.
لكن الجامعة تختلف عن غيرها من مؤسسات الدولة بكونها مكانا للتوجيه وقيادة المجتمع. وإذا كان لنا أن نهنئ جماعة ٩ مارس بالحكم القضائى بإبعاد الحرس عن حرم الجامعة، وإذا كان حق مجانية التعليم قد صار أحد المستحيلات الكبرى، فإننا نتمنى عليهم أن يناضلوا من أجل إقرار مجانية التبول فى الجامعة.
نشرت بجريدة المصرى اليوم عدد ٢/ ١٢/ ٢٠٠٨