التحرش الجنسي وغرف الفيس المظلمة
اتهامات تلقى في وجه المرأة لتفصح عن مخيال اجتماعي ما زال ينظر إليها باعتبارها حواء الآثمة
سوسان جرجيس
(28/09/2016)
بين المجال العام والخاص تقسيمٌ على أساس جندري، تقسيم أسّس لمسألة الفصل بين الجنسين المدعومة من البنى التقليدية البطركية والأيديولوجيات الدينية التي جعلت في مجملها من المرأة، بل من جسدها عورة، فتنة يجب درؤها وإلا سارت «لأمّة» برجالها نحو الهلاك! بين المجال العام والخاص برز الفيس: مجتمع افتراضي، موقع للتواصل الاجتماعي، مرآة مقعرة تعكس ملامح وجهنا الحقيقي دون زيف. هو مجال عام تلج إليه وأنت ضمن المجال الخاص، تفلت فيه من رقابة المجتمع التقليدي وضبطه، مجال يبيح الاختلاط بين الجنسين حتى لمن كان منهجه في الواقع الفصل ين الجنسين بصرامة. بين وجه الفيس المتلألئ بالأنوار ووجهه القابع في الظلام يعيش الكثير من أفراد المجتمع التقليدي ازدواجية وفصاما، كيف لا وهم ينتقلون من واقع الكبت الاجتماعي والسياسي والفكري والجنسي ليرموا بأنفسهم في مجتمع افتراضي معولم تُرفَع فيه شعارات الحرية والديمقراطية واحترام “الآخر” والمساواة بين الجنسين؟!
والنتيجة هي غرف فيسبوكية مظلمة يكشف فيها الكثيرون أقنعتهم ليظهر وجه الحقيقة: مجرد مسخ مشوه! على الصفحة الفيسبوكية لهذا الشخص (الرقم) أو ذاك بوستاتٌ، مشاركات، كتابات وصور تؤكد «نظافة» الإنتماء المزعوم دينياً كان أم فكرياً أم مناطقياً أم حزبيًا أم ثقافياً، أما في غرف الفيس السوداء حيث الدردشات والمراسلات الخاصة فأخبار تحكي قصة هوية مضطربة وازدواجية فكرية. إن كلامنا لا يشمل بالتأكيد تلك العلاقات والأحاديث وأنواع التواصل المتفق عليها برضا الطرفين، فهذه أمور تدخل في نطاق الحرية الشخصية لكل من الرجل والمرأة. إن كلامنا في هذا المقال يلقي الضوء على ظاهرة التحرش الجنسي الافتراضي حيث يستبيح طرفٌ ما الخصوصية الأكثر حميمية للطرف آخر. مما لا شك فيه أنّ التحرّش الجنسي الافتراضي متنوع الأطراف: من الرجل الى المرأة، من المرأة الى الرجل، بين الرجال أنفسهم أو بين النساء أنفسهن، ما يشير إلى تشوه في أنساق القيم الاجتماعية الناظمة للسلوكيات ولحركة التواصل بين الناس/ الأرقام. وإذا كنا على ثقة من أنّ التحرش الجنسي الافتراضي قد بات يطال النساء والرجال على حدٍ سواء بفعل هذا الانفتاح التكنولوجي المريب إلا أنّ المرأة هي الأكثر عرضة لهذا التعامل المهين الذي يكشف عن نظرة اجتماعية ذكورية تماهي بين المرأة وجسدها في عملية تشييء هي بمثابة عنف جنسي ضدّ المرأة. إن الفيس مجال عام كما ذكرنا سابقا، والرجل من خلال التحرش الجنسي يوجه رسالة للمرأة مفادها «مكانك هو المخدع، البيت، المجال الخاص، فإن قررتِ دخول ساحتي بوقاحةٍ فعليك أن تتحملي النتائج وتسيري وفق القواعد التي أضعها على مقاسي ولخدمة مصالحي أو بالأحرى غرائزي وشهواتي!» لقد بات التحرش الجنسي الافتراضي ظاهرة تؤرّق النساء خاصةً وأنّ الظاهر لم يعد يفصح عن المضمون، فالثوب ثوب الحداثة والروح جاهلية!
*تقول السيدة أ. و البالغة من العمر أربعًا وثلاثين عامًا «كنّا أصدقاء بحكم الهوايات الأدبية المشتركة، كنت أظنّ أنه رجل منفتح ومثقف ويحترم كرامتي وانسانيتي. لم أتخيل أن يفكر بي بتلك الطريقة الرخيصة لاسيما وأنّه يعرفني متزوجة وأما لولدين. كان يكرر إنّه يشتهي جسدي وأنّه لا ينام الليل وهو يفكر بي، شعرت بإهانة شديدة وسقط من نظري فحظرته وأنا ألعن الساعة التي فتحت بها حساب على الفيس».
*أما السيدة م. ب البالغة من العمر أربعين عاماً « وافقت على طلب صداقته لأن منشوراته تكشف عن شخص ملتزم أخلاقياً ودينياً. لم أمانع بداية الاستجابة للحديث معه ظنّا مني أنه رجل محترم لكن بعد مرتين اضطررت لحظره لأنّه رجل معاق عقليا، غير طبيعي، يظنّ كل النساء عاهرات ولا يفكرن سوى بالجنس».
*من جهتها تقول السيدة خ. ف البالغة من العمر خمسًا وخمسين عامًا «أستحي في هذا العمر أن أقول أنّ رجلاً يحمل كل تلك الثقافة والمكانة الأدبية يترك لي رسائل بكل وقاحة يخبرني فيها أنّه يحبني وأنّ عليّ أن أعيش حياتي دون كبت وعقد».
*إذا أردنا أن نتكلم عن شهادات النساء كافة حول التحرش الجنسي الافتراضي فسوف نحتاج إلى مجلدات؛ الرسائل غير المتوقعة، طلب المكالمات الصوتية عبر الماسنجر أو فتح الكاميرا، إرسال الصور الإباحية والادّعاء الكاذب لاحقاً أنّ الحساب قد تم اختراقه كل هذه تحرشات جنسية يفرّغ فيها الرجل مكبوتاته التي تكشف حالة نفسية يتماهى فيها الجاني والضحية في شخص واحد. لما كان لكل ظاهرة إجتماعية أسباب موجبة، فإننا نميل إلى الرأي القائل بأن جذور التحرّش الجنسي الافتراضي تكمن في القيود المفروضة على الاختلاط بين الجنسين. إنّ كلا منهما يعيش نوعا من الازدواجية بين الحاجة الى اقامة اتصال طبيعي وبعيد عن الرقابة مع الاخر وبين عدم القدرة على فعل ذلك. وأعتقد أنّ التحرش والمضايقة في المجتمع الافتراضي تشكلان الى حدّ كبير تمظهرا لمشاعر الاحباط والاستياء والسخط التي يشعر بها الرجال تجاه القيود الصارمة التي فُرضت بموجب البناء الاجتماعي البطريركي. على الصعيد النظري تستوجب القيود وعياً لكسرها والوقوف في وجهها إلا أنّ ما يقوم به الرجل، الذي يختزل نفسه بهوية فحولية وقدرة تسجيل للفتوحات على أجساد النساء، هو المتابعة في سلسلة القيود بحيث تصبح تحرشاته حملاً ثقيلاً ترزح تحته النساء بغضّ النظر عن مستواهنّ الثقافي ومكانتهنّ الاجتماعية.
من المؤسف إنّ محاولة الكثير من النساء/ الضحايا فضح حالات التحرّش الجنسي التي يتعرضن لها في المجتمع الافتراضي لا تلبث أن تضعهنّ تحت هجوم أقسى وأعنف: «لم تضعين اسمك الصريح؟ هل تعتقدين أنّه من الضروري وضع صورة لك على الفيس؟ ألا تعتقدين أنّ ثيابك في الصورة كذا وكذا يلزمها المزيد من الحشمة؟ لم قبلت بالصداقة؟ لم رددتِ عليه السلام؟ مؤكّد أنّ حديثك اتسم بالغنج والدلال؟ أو بالممانعة المحمّلة بالاغراء والإثارة.
*حملة اتهامات تلقى في وجه المرأة لتفصح عن مخيال اجتماعي ما زال ينظر إليها باعتبارها حواء الآثمة صاحبة الخطيئة الأصلية أما الرجل فخطيئته عابرة مغفورة. أليست طبيعته البيولوجية والنفسية هي من تجعله عبداً للشهوة التي يفترض بالمرأة – ويا للسخف- أن تكبحها بأن تٌنفى من الوجود مختزلة ذاتها في رقم دون اسم وملامح وصوت يشي بالحضور!!
*إنّ الأسئلة التي تؤرقني عقب هذا التوصيف لمسألة التحرّش الجنسي الافتراضي هي: هل «الحظر» من لائحة الأصدقاء هو الحل الأمثل في مواجهة أزمة قيمية متمثلة في التحرش الجنسي؟؟ ألا يشكّل هذا الفعل هروباً من مواجهة المشكلة بدلاً من حلّها؟ أوَليس «الحظر» الفيسبوكي للمتحرش دون فضحه شكلاً من أشكال الفردية اللامسؤولة؟ ألا يماثل هذا «الحظر» تساهلًا مع الجاني، الذي لن يلبث أن يندفع في البحث عن ضحية أخرى يمارس في وجهها ساديته المريضة؟
*يبقى أن أقول أنّ التغيير الاجتماعي البنّاء يستدعي منا المواجهة لا التواري، فسكوت المرأة عن المتحرش (ولو كان مرفقاً بالحظر) سوف يضيع فرصة كبحه وردع المرتكبين المحتملين عبر التهديد بالعقاب الاجتماعي الذي ينتظرهم، كما أنّ هذا السكوت أشبه بجلد ذاتي يجعل النساء يتحملن وحدهنّ وزر هذا التحرش المهين.