باحث اجتماعي عضو زهبي
التخصص : علم اجتماع عدد المساهمات : 1494 نقاط : 3052 تاريخ التسجيل : 01/01/2010 العمر : 54
| موضوع: الأسس النظرية لما بعد الحداثة الإثنين أكتوبر 19, 2015 2:14 am | |
| الأسس النظرية لما بعد الحداثة فخري صالح (ناقد ومترجم من الأردن)
ليس هناك ما بعد حداثة واحدة، بل هناك ما بعد حداثات، لكنها تشترك جميعا في بعض الأسس النظرية وصلات النسب بأفكار عدد من ملهمي الفكر الغربي المعاصر في نهاية القرن العشرين، وعلى الرغم من أن تعبير ما بعد الحداثة استخدم في الثلاثينات من هذا القرن في نص كتبه الإسباني فردريكودي أونيس، إلا انه استخدم للمرة الأولى بصورة منهجية في حقل الدراسات النقدية في أمريكا: أي في كتابات كل من إرفنج ها ووهاري ليغين وليزلي فيدلر وايهاب حسن. فما بين 1963- 1967 بدأ الجدل حول ما بعد الحداثة يعلن عن نفسه في الأدب والفنون والعمارة فنشر ليونارد ماير دراسته "نهاية عصر النهضة" (في مجلة هد سون ريفيو، 1963)، ونشر إيهاب حسن مقالته "تقطيع اوصال أورفيوس" في مجلة "أمريكان سكولار"، (1963) كما نشر كتابه "أدب الصمت" (1967)، ونشرت سوزان سونتاج مقالتها الشهيرة "ضد التأويل" (1964)، ومقالة ثانية بعنوان "ثقافة واحدة وحساسية جديدة" (1965)، كما نشر ليزي فيدلر مقالته "السلالة الجديدة" (في مجلة البارتيزان ريفيو، 1965)، ونشر روبرت فينتوري مقالته "مبررات عمارة البوب" في مجلة "الفن والعمارة"، (1965). ويرى ليونارد عاير في مقالته التي ذكرناها سابقا أن علم جمال جديدا قد ولد في هذه الفترة، وهو يدعي أن هذا العلم يتضمن انكارا لمبدأ السببية والمعنى التقليدي، وتشجيعا لفن لا يهدف إلى غاية محددة، في علم الجمال الجديد، حسب ماير، لم يعد الإنسان هو المعيار الذي تقاس به الأشياء من حوله، لم يعد مركز الكون، ولهذا يدعونا إلى الاستمتاع بإحساسنا بالأشياء كما هو، من خلال إعادة اكتشاف الواقع والتمتع بالصوت كما هو، واللون كما هو، والوجود كما هو، أما ليزي فيدلر فقد تحدث عن ولادة فن ديمقراطي جديد يستطيع رأب الصدع بين الثقافة الرفيعة High Culture وثقافة الجماهيرMass Culture ويستطيع تفكيك "الاستقلالية" النخبوية للحداثة. وهكذا وفي سياق تطور فكرة ما بعد الحداثة في الستينات دعا كل من إيهاب حسن إلى فن غير شفاف يقاوم الاستهلاك والتأويل: فن يوجد في العالم كسطح حسي Sensuous Surface Sensuous Surface وذلك في إطار ما سماه "جماليات الصمت". ومع أن الجدل بشأن مفهوم ما بعد الحداثة بدأ في الستينات في النقدين الأدبي والثقافي في أمريكا، فقد امتد هذا الجدل إلى حقول معرفية أخرى، وقد أعلن تشارلزجينكس، وهو أحد المنظرين الأساسيين لما بعد الحداثة في العمارة، ان المصدر الأساسي الذي استقى منه فهمه النظري لفكرة ما بعد الحداثة هو النقد الأدبي. وحسب جينكس فان إيهاب حسن كان هو بالفعل من عمد مفهوم ما بعد الحداثة ووفر له نسبا. يصادق على كلام جينكس ما ذكره جان فرانسوا ليوتارفي كتابه "الوضع ما بعد الحداثي" (1979) من أن عمل إيهاب حسن هو المصدر الأساسي الذي نبهه إلى أهلية مفهوم ما بعد الحداثة. لكن مشروع ما بعد الحداثة بدأ منذ السبعينات يتطابق مع مشروع ما بعد البنيوية الفرنسية، من خلال أعمال رولان بارت، الأخير، وجاك دريدا وجاك لاكان، ويعد بعض مؤرخي ما بعد الحداثة أن ترجمة كتاب جان فرانسوا ليوتار "ا لوضع ما بعد الحداثي" على الانجليزية عام 1984 هو لحظة تطابق بين المشروعين ما بعد الحداثي وما بعد البنيوي. وفي سياق هذا التطابق يرفض منظرو المشروع ما بعد الحداثي تصور الفلسفة التجريبية للغة الذي يقول إن اللغة تمثل الواقع، ويرون، على النقيض من ذلك، أن اللغة لا تعكس العالم بل تقوم بتأليفه، إنها تعمل على تحريف المعرفة وتشويهها، وذلك من خلال الشروط التاريخية والبيئة التي يتم ضمنها استعمال اللغة. ضمن هذا التصور يدرس ليوتار في كتابه "الوضع ما بعد الحداثي" الذي عد بحق العمل الأساسي الذي رسخ مفهوم ما بعد الحداثة وآثار جدلا متواصلا حول التصورات النظرية لفكر ما بعد الحداثة، وضع المعرفة في المجتمعات المتقدمة تكنولوجيا، وحسب ليوتار فقد أصبحت المعرفة سلعة من بين سلع أخرى، وأجبر العلم على التخلي عن وظيفته الأصلية السابقة، التي اعطيت له في زمن الحداثة، ليصير أاة في يد القوة، لقد أصبح العلم ما بعد الحديث أداتيا، وتغير معنى كلمة "علم" ليقوم الأخير بإنتاج لا المعروف بل غير المعروف، لكن إذا كان العلم الحديث سعى إلى إنتاج تمثيلات ثابتة لا زمنية للعالم، فان العلم ما بعد الحديث يتخلى عن التمثيل، ويسعى إلى خرق الإجماع الذي يوهم به العلم الحديث، بهذا المعنى فان ليوتار يفكك أسطورة العلم وموضوعيته انطلاقا من شكه فيما يسميه الحكايات الكبرىMetanarratives أو Grand Narratives، أي تلك الحكايات التي يفترض أنها تمثل الحقائق الكونية التي تدعي الحضارة الغربية أنها تنطوي عليها، وتستند اليها في تحقيق مشروعيتها الموضوعية! وقد اتخذ ليوتار من تفكيك واحدة من هذه الحكايات الكبرى (أي العلم الغربي الحديث) سبيلا للتشكيك بأخوانها من الحكايات الكليانية التي روجت لها الحداثة الغربية. فما الحكايات الكبرى التي يعارضها ليوتار؟ انه يذكر عددا من هذه الحكايات مثل: ديالكتيك الروح، وعلم تأويل المعنى، ومبدأ تحرير العقل، ومفهوم خلق الثروة… الخ، وينبع رفضه لهذه الحكايات من كونها مجرد حكايات لا تكتسب أية أفضلية على غيرها من الحكايات، وخصوصا على الحكايات الصغري للأفراد، ولكونها لا توفر أية مشروعية للمعرفة، فالتقدم في حقل العلم والتكنولوجيا لم يعد يتطلب أية مشروعية من خارجه. إن ما تحققه العلوم والثورات التقنية على الصعيد العملي كاف بذاته ولا يحتاج لابتداع أية حكايات رمزية لإسباغ المشروعية عليه. وهكذا نرى كيف أن قبضة الحكايات الكبرى قد تراخت في عصر ثورة تكنولوجيا المعلومات. ومن ثم فان حكايات كبرى مثل الماركسية والتقدم والإجماع الحر، والعلم الموحد قد فقدت شرعيتها في مجتمع ما بعد الحداثة. وحسب ليوتار فإن مجتمع الكمبيوتر ليس محاطا بقفص حديدي يمنع التواصل بين أفراده، ولذلك لا ضرورة لنشر حكايات رمزية كبرى في مثل هذا النوع من المجتمعات المتقدمة تكنولوجيا. ان ليوتار لا يثق بالنظريات الكلية أو السلطات التي تحاصر البشر، وهو يفضل من ثم نوعا من المقاربات العملية (الاداتية) للفعاليات السياسية. بالمعنى الواسع لكلمة سياسة، ومن ثم فان نظريته السياسية قائمة على الاعتقاد بأن الحكايات الصغري للأفراد قادرة على تحدي الأنظمة السياسية المستبدة. ومع انه يعترف في كتابه "الوضع ما بعد الحداثي" بأن المعرفة ما بعد الحديثة هي أداة في يد القوة، إلا أنه يشير الى كونها تقوم بتهذيب حساسيتنا تجاه الاختلاف وتعزز قدرتنا على تقبل ما هو غير قابل للقياس. إن مبدأ هذه المعرفة يتمثل لا في وضعية التناظر التي يسعى الخبراء إلى الكشف عن وجودها، بل في "مغالطات المخترع" ..Inventors Para logy.. انطلاقا من التحليل السابق لوضعية المعرفة ما بعد الحديثة يشير ليوتار إلى أن ما بعد الحداثة هي ما بعد ميتافيزيقا، ما بعد صناعية، وهي ذات سمات تعددية، وهو يضع من ثم برنامجا لما بعد الحداثة يأخذ في الحسبان ثورة تكنولوجيا المعلومات داعيا إلى خلخلة الاستقرار الذي تتمتع به المؤسسات والشركات المتعددة الجنسية، مناديا بفتح بنوك المعلومات لكل من يريد استخدامها. نستنتج مما سبق ان المعاني السياسية الضمنية، التي يقود اليها تحليل ليوتار لوضعية العلم ما بعد الحديث، تتمثل في القول بأن الإجماع Consensus هو نهاية الحرية ونهاية الفكر، فيما يؤدي خرق الإجماع Desensus إلى ممارسة الحرية والتمتع بحرية الفكر، وكذلك إلى توسيع آفاق الإمكانات والطاقات التي ينطوي عليها الكائن. إلى هنا يبدو مشروع ليوتار ما بعد الحداثي ذا طابع تقدمي. إنه يدعو إلى ديمقراطية الحصول على المعرفة، لكن الأسئلة التي تطرح نفسها على تصورات ليوتار النظرية هي من قبيل: هل يتأثر المجتمع الرأسمالي الغربي المعاصر بتغير أنماط المعرفة وأنماط الإنتاج والاستهلاك؟ الا نرى في العالم المعاصر تغول ظواهر عدم المساواة الاجتماعية والتضخم الاقتصادي وازدياد البطالة وفساد الديمقراطيات ومحاولات الهيمنة الاقتصادية والثقافية ؟ إن أسئلة مثل هذه تضع بين قوسين دعوة ليوتار إلى ديمقراطية الوصول إلى المعرفة. مع بداية الثمانينات أخذ مفهوم ما بعد الحداثة يستخدم بثلاثة معان: للاشارة إلى المرحلة الثقافية التي نعيشها والتي توصف بتعبيرات قيامية Apocalyptic؛ وبوصفها ممارسة جمالية تمزق فرضيات تسليع الثقافة Commodification of Clture من خلال ما يسمى "سياسات الرغبة"؛ وأخيرا بوصفها نقدا لفرضيات عصر التنوير أو خطاب الحداثة وأسسه المتمثلة في الإيمان بالعقلانية الكونية الطابع. ومن الواضح أن التصورات السابقة نابعة من الإحساس بعدم كفاية نظريات التنوير الخاصة بالمعرفة والمنهجيات العقلانية التقليدية أو التجريبية. هناك بالطبع ما بعد حداثات لكنها تنطلق من فهم معين يرى أن أشكال المعرفة والتمثيل Representation التي ورثها الغرب الحديث عن عصر التنوير، تمر بتحول أساسي. إن الحداثة تلفظ أنفاسها في الغرب بسبب التحولات الاقتصادية العنيفة التي تدخلنا في عصر جديد من التطور السريع لثورة تكنولوجيا المعلومات، ومن أشكال الاستهلاك والاقتصاد المعولم. وتهز هذه التطورات الاستقرار العتيق لمفاهيم مثل "الأمة" و"الدولة" و"ا لطبيعة الإنسانية". وكما عبر المؤرخ البريطاني الشهير أرنولد توينبي في كتابه "دراسة في التاريخ" فان عصر ما بعد الحداثة في الغرب سيهيمن عليه القلق واللاعقلانية وفقدان الأمل والعجز، في عالم ما بعد الحداثة إذن سيضل الوعي ويصبح عاجزا عن التمسك بمفاهيم العدالة والحقيقة والعقلانية التي تقوم عليها الحداثة الغربية، إن الوعي نفسه يصبح بلا مركز، ويصير مجرد وظيفة تتقاطع عبرها القوى غير الشخصية. أما الفن فيصير لا تعبيرا عن الروح الإنسانية بل مجرد سلعة، فيما تفقد المعرفة مهمتها النقدية، وتصبح مجرد وظيفة. بمثل هذه القدرة على التنبؤ يتوصل تويني إلى مصير الوعي في عالم ما بعد الحداثة قبل أكثر من ثلاثين عاما من انتشار المفهوم وشيوعه على الألسنة. ردا على انهيار ما يسميه جان فرانسوا ليوتار "الحكايات الكبرى" يعلي الكثيرون من دعاة ما بعد الحداثة من شأن الجمالي The Aesthetic بوصفه بديلا للعقلانية الديكارتية والكانطية، لكنهم يفعلون ذلك بطرق مختلفة، ان بعضهم ينادي بتطوير ما يسميه "سياسات الرغبة" politic of Desire قائلين بأن العقلانية فشلت ومن،ثم ينبغي العودة إلى الجسد. أما البعض الآخر فيفضل الرد على انهيار الحكايات الكبرى في التاريخ، وانهيار مفهومي العدالة والمساواة، اللذين يستندان إلى فكرة العقلانية الكونية، من خلال تطوير استراتيجيات محددة متصلة بسياق التجربة، أو الاعتماد على معالجات موضعية تستند إلى مفهوم "ألعاب اللغة". وفي النسخة الأخيرة من نسخ ما بعد الحداثة يجري إهمال مفهوم الحقيقة والنتائج المترتبة على هذا المفهوم، وفي هذا السياق من التفكير ما بعد الحداثي يحل مفهوم خرق الإجماع محل مفهوم الإجماع، وتقوم المقاربة الجمالية للعالم بتحريرنا من عنف المفهومات الكلية "منطق الشبيه" الحداثي مقابل "منطق المختلف" ما بعد الحداثي. يتطابق مشروع ما بعد الحداثة، في بعض جوانبه، مع ما تسعي اليه النظرية الأدبية والفلسفة والعلوم الاجتماعية في الوقت الراهن، وتشترك هذه الحقول المعرفية مع ما بعد الحداثة فيما يمكن تسميته بـ"أزمة التمثيل" حيث لم تعد الأشكال القديمة للتعريف والتنسيب واعادة تمثيل اللغات الفنية والفلسفية والأدبية، وكذلك لغة العلوم الاجتماعية، صالحة، كما انها تنبه كذلك الى مسألة تحلل الفواصل بين اللغة وموضوعها، وانحلال الثنائيات التقليدية بين الشعبي/ النخبوي، والذات / الموضوع، وكذلك سقوط الجدران التي تعزل حقولا معرفية، مثل الفلسفة وعلم الاجتماع والتاريخ والتحليل النفسي، عن بعضها بعضا. يعيدنا الكلام السابق على مشروع ما بعد الحداثة إلى الجذور المعرفية التي يتردد صداها في الأسطر السابقة، إنه يعيدنا إلى فكر الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر الذي ينتقد الديكارتية بوصفها المنهجية المؤسسة للحداثة والتي يرى أنها انتجت عنف الفوب كله، ويشير إلى أنها غير كافية لتكون أساسا للمعرفة. ويستنتج هايدجر أن الفرضية الديكارتية التي تقول بالفصل الحاد بين الذات العارفة والموضوع غير الفعال Object Inert الذي هو موضوع المعرفة، قاد إلى عالم أصبح فيه نموذج العالم المتعالي المنفصل، الذي يتأمل موضوع سعرفته من عل، هو النموذج الممثل للوجود، وهكذا بدلا من أن نختبر نسيج العالم، الذي نوجد فيه، نقوم بمراقبته بوصفه مادة خاملة نتعامل معها كسلسلة من الثنائيات التي يولدها الانقسام الحاصل بين الذات والموضوع (والعقل – الجسد، الروح – المادة، العقلانية – العاطفة، الذ كورة – الأنوثة، الخ هذه الثنائيات). ان الحداثة، بهذا المعنى، تصبح انكارا لمعنى وجودنا في العالم ؟ ومن ثم تصبح جميع العلاقات أداتية الطابع. بديلا عن منطق الثنائيات الديكارتية يقترح هايدجر شكلا من أشكال الوجود في العالم يعتمد على التموضع فيه Situatedness. ومن ثم توفر العلاقة الجمالية، بالنسبة لهايدجر، بديلا للمنطق، أو المنهج، الديكارتي، ان الشعر يسمح لنا بنوع من "استعراض الوجود" بصورة ترفض الصيغ المفاهيمية التي تفصلنا عن العالم، انه يذكرنا بضرورة ان نكون آخرين، وأن نكون في اللغة، إنه يعلمنا التواضع، ويدعونا إلى الانصات. هناك جانب آخر من جوانب ما بعد الحداثة ينبغي إلقاء بعض الضوء عليه، وهو التشديد على ضرورة تذويب الفواصل بين الثقافة الرفيعة High Culture والثقافة الجماهيرية Mass Culture وهي دعوة تتطابق مع الهجوم على نخبوية الحداثة في الأدب والفن وتحول الحداثة الى مؤسسة جامدة. ينقل فراريك جيسون عن تشارلز جينكس قوله ان العمارة ما بعد الحداثية تميز نفسها عن العمارة الحداثية الرفيعة من خلال التشديد على أولويات الشعبوية، ويستنتج جيسون ان ما يعنيه "هذا الكلام، في سياق العمارة بخاصة، هو انه في الوقت الذي تسعي الحداثة الكلاسيكية الرفيعة في عمل كوربوزييه ورايت، الى تمييز نفسها، بصورة جذرية، عن نسيج المدينة الأرضي الذي تظهر ضمنه (…) فان البنايات ما بعد الحداثية تحتفل، على العكس من ذلك، بإدراج نفسها ضمن النسيج المتغاير الذي تشكل عناصره الأحزمة التجارية والفنادق الصغيرة ومطاعم الوجبات السريعة المنتشرة على الطرقات السريعة في المدن الأمريكية". لا يقتصر الطابع السابق على فن العمارة فقط بل انه يفرض نفسه في الأشكال الجديدة الطالقة من الثقافة التجارية والسلع الفنية المختلفة مثل برامج التليفزيون والأفلام السينمائية والكتب الأكثر مبيعا وفي موسيقى شونبيرج وكيج، وفي فن التصوير والفن التشكيلي… الخ. ويرى جيسون أن "الفنانين الجدد لم يعودوا يقتبسون مواد او كسرا او موتيفات من ثقافة الجماهير أو الثقافة الشعبية ليطعموا بها عملهم (….) بل إنهم يمتصون هذه المواد في عملهم الى الحد الذي لم تعد فيه المقولات النقدية والتقييمية (التي تأسست بدقة وحرص على التمييز بين ثقافة الحداثة والثقافة الجماهيرية ) قادرة على أداء وظيفتها". إن هدف ما بعد الحداثة، في وجه من وجوهها، هو مزج "الفن" بـ"الحياة". مزج الاشارات والأساليب المختلفة في الفن والأدب والعمارة. وسوف يعيدنا هذا الى ايهاب حسن مرة أخرى الذي يجمل في كتابه "الانعطافة ما بعد الحداثية" (1987) السمات الملازمة لما بمد الحداثة. يقول إيهاب حسن إن سمات الحداثة هي "اللاتوجه Indeterminacy أو بالأحرى ملازمة اللاتوجه، أعني الاشارة المعقدة التي تساعد هذه المفاهيم على تقليبها وتدويرها: الالتباس، الانقطاع، هرطقة الخروج على المألوف، التعددية، العشوائية، التمرد، الشذوذ، التحويل التشويهي، والمفهوم الاخير يدل وحده على دزينة من المصطلحات الواهنة حول التهديم : اللا-إبداع، التحلل، التفكيك، اللامركزة، الانزياح، الانقطاع، التقطع، الاختفاء، الانحلال، اللاتعريف، اللاكليانية، اللاشرعنة – إذا وضعنا جانبا مصطلحات تقنية أخرى تشير الى بلاغة المفارقة، والشرخ والصمت، وفي القرار من جميع هذه العلامات تتحرك إرادة واسعة باتجاه التهديم، فتؤثر على كتلة السياسة، وكتلة المعرفة، وكتلة الايروتيك، والباطن النفسي الفردي، أي كامل الكون الخطابي في الغرب". إن إيهاب حسن يجمل في الترصيف السابق جميع المعاي الدارجة في الخطاب الغربي لما بعد الحداثة التي تبدو، كما هو ظاهر في السمات الملازمة لهذه الظاهرة الفنية – الفلسفية – الاجتماعية، محتشدة بـ"المفارقات والتشظيات (…) والغيابات والتمزقات (…) والنزوع الى أشكال معقدة من الصمت". بتعبير إيهاب حسن. المراجع 1- Hans Bertene, The Idea of the Postmodern: a history, Routledge, London. 1995. 2- Roy Boyne and Ali Rattansi (editors), Postmodernism and Scociety, Macmillan, London, 1990. 3- Patricia Waugh, Postmodernism: A Reader, Edward Arnold, London, 1992. 4- Stuart Sim (editor). The Az Guid to Modren Literary and Cultural Theorists, Prentice Hall/ Harvester Wheatsheaf, London, 1995. 5- إيهاب حسن، نحو مفهوم لـ "ما بعد الحداثة"، ترجمة : صبحي حديدي، مجلة الكرمل (رام الله). العدد 51، ربيع 1997. 6- فريد ريك جيسون، "سياسات النظرية: المواقف الأيديولوجية في جدل ما بعد الحداثة"، ترجمة: فخري صالح، مجلة الكرمل، العدد 51. | |
|