التنشئة الاجتماعية والتحديات المعاصرة
د. عبد الله محمد الفوزان
- أصبحت التنشئة الاجتماعية عاجزة عن تكريس المبادئ والقيم في النفوس بفعل التحديات الداخلية والخارجية.
- كل مجتمع له مجموعة من القيم والمبادئ التي يستمد منها تصوره وتصور أفراده عن الكون والحياة.
- من الطبيعي أن ينتج عن استعارة التجربة التنموية الغربية مشكلات كثيرة أثرت ولا زالت تؤثر سلبا على عمليات التنشئة الاجتماعية في مجتمعات بعض الدول.
- من مظاهر تدهور الأسرة العربية والإسلامية انتشار الكثير من الظواهر كظاهرة المخدرات بين المراهقين والشباب، العنوسة والطلاق، الخلافات الزوجية، والخلافات بين الآباء والأمهات والأبناء.
- البناء الأسري شهد دخول عناصر جديدة كالخدم والسائقين والمربيات.
- أصبح البحث عن الإنجاز الشخصي وتحقيق مستوى اقتصادي واجتماعي متميز من قبل الوالدين مماثلا في أهميته، إن لم يفق، أهمية رعاية الأبناء.
- تعددت وسائط التنشئة الاجتماعية لتتجاوز المؤسسات التربوية المحدودة سابقا كالأسرة وجماعة الحي والمسجد والجيرة ثم المدرسة.
- نجد اليوم أن المدرسة أخذت تنحى منحى تعليميا أكثر منه تربويا مما يهدد بتمرد على القيم الاجتماعية من قبل الدارسين بها.
- يتخلق الآن مجتمع معلوماتي عالمي لا تحده الجغرافيا ولا يتقيد بأبعاد التاريخ.
- لا شك أن المجتمعات البشرية تواجه إرهاصات واضحة نحو الذوبان الثقافي والسياسي والمعرفي والانطلاق نحو القرية الكونية الموعودة.
- إن التميز الذاتي للشخصية الإقليمية أو المحلية يشهد تحديا يعصف بالمعايير وقواعد السلوك والضبط الاجتماعي.
- خصوصية العالم العربي والإسلامي تواجه اليوم أكثر من غيرها أخطار العولمة ولا تستطيع المؤسسات السياسية والاجتماعية أن تصنع شيئا في مواجهة هذا الطوفان.
- إن الاندماج الثقافي في مجتمعات الغد يحمل في أبعاده نوعا من التقديس للثقافة العالمية مع تباعد عن الثقافة المحلية وإضفاء سمة المعاصرة والحداثة على السلوك الذي ينزع نحو العولمة ضد التقليدية والمحلية.
- إن المرجعيات الثقافية المتعددة تجعل الإنسان لا يشعر بالانتماء ولا يملك هوية متميزة.
- ما لم تتم مواجهة العولمة فإن الهوة قد تتسع بين المواطن العربي المسلم ومؤسسات التنشئة الاجتماعية القائمة في مجتمعه بصورة تخدم العولمة الثقافية وأهدافها.
---------------------------------
إذا كانت التنشئة الاجتماعية بمعناها العام تشير إلى نقل الخصوصية الثقافية للمجتمع من الجيل القديم إلى الجيل الجديد بهدف المحافظة على تلك الخصوصية أو أنها "العملية التي يكتسب الأفراد بواسطتها المعرفة والمهارات والإمكانيات التي تجعلهم بصوره عامه أعضاء قادرين في مجتمعهم" (الزغل: 9: 1402)، أو كما قال عنها شكور (29: 1998): "عمليات تعلم وتعليم وتربية تؤدي إلى تشكيل السلوك الاجتماعي للفرد وإدخال ثقافة المجتمع في بناء شخصيته وتحوّله من كائن بيولوجي إلى كائن اجتماعي وتكسبه صفه الإنسانية"، فإن الأسئلة الملحة التي تواجهنا اليوم وتحتاج إلى إجابة هي: هل المجتمعات العربية والإسلامية لا تزال إلى اليوم تقوم بهذه المهمة دون تحديات؟ وإذا كانت تلك المجتمعات فعلاً تواجه تحديات في سبيل قيامها بهذه المهمة فما هي طبيعة تلك التحديات؟ أهي تحديات ذاتية نابعة من ذات المجتمع، أم أنها تحديات خارجية آتية من الخارج، أم أنها تأتى من هذا وذاك؟ وما هي يا ترى سبل التغلب على تلك التحديات كي تحقق مجتمعاتنا تنشئة سليمة لأجيالها؟
هذه الأسئلة تمثل محور الاهتمام لهذه الورقة؛ إذ تسعى إلى الإجابة عن كل واحد منها بشي من التفصيل.
بداية إذا نحن أقررنا من حيث المبدأ أن لكل مجتمع خصوصيته الثقافية التي تشكل هويته الذاتية، ويسعى جاهدا إلى المحافظة عليها وصيانتها من الاندثار والاندحار تحت وطأة وهيمنة الخصوصيات الثقافية للمجتمعات الأخرى، جاز لنا القول بأن مجتمعاتنا العربية والإسلامية تتعرض اليوم لتحديات كثيرة تهدد خصوصيتها الثقافية. وعندما أشير إلى خطورة هيمنة الخصوصيات الثقافية للمجتمعات الأخرى على خصوصيتها الثقافية العربية والإسلامية فلست بذلك أدعو إلى الانغلاق أمام بقية الثقافات والتحصن ضدها، ذلك لأن مثل هذا الانغلاق لم يعد ممكنا اليوم، بالإضافة إلى أن مجرد محاولة الانغلاق والانعزال عن بقية الثقافات يعد مخالفة صريحة لحقيقة الاستخلاف الإنساني على الأرض وما يتطلبه هذا الاستخلاف من تفاعل وتعارف وتبادل منافع بين البشر كما في قول المولى عز وجل: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم". ما أود الإشارة إليه هنا هو أننا في خضم ما يحدث اليوم في العالم من عولمة ثقافية واقتصادية وسياسية واجتماعية ذات مرجعية غربية لا يمكن الفكاك من تأثيراتها، وأخذت تهدد الهوايات الثقافية المميزة لمعظم المجتمعات المعاصرة، يجب علينا البحث في كيفية المحافظة على هويتنا العربية والإسلامية التي تميزنا عن غيرنا.
ما هي يا ترى الخصوصية الثقافية؟ من المعلوم بطبيعة الحال أن "كل مجتمع قديم أو معاصر، متحضر أو متخلف، له مجموعة من القيم والمبادئ التي يستمد منها تصوره وتصور أفراده عن الكون والحياة. هذه القيم والمعتقدات تكون هي الضابط الأول لسلوك الأفراد نحو توجه اجتماعي معين، فما هو مقبول في عرف هذه المبادئ يكون مقبولا عند هذا المجتمع وما يكون مرفوضا في عرف هذه المبادئ يكون مرفوضا عند هذا المجتمع، وبين هذا وذاك أمور تدور بين الرفض والقبول" (الجوير، 1419 هـ). تلك هي الخصوصية الثقافية لأي مجتمع، لكن ما هي يا ترى الخصوصية الثقافية لمجتمعاتنا العربية والإسلامية التي يستوجب الأمر المحافظة عليها؟
إن ثقافتنا العربية والإسلامية تنطوي على العديد من المبادئ والقيم الموجهة لسلوكنا ونظرتنا للكون والحياة، هذه المبادئ والقيم تتعرض اليوم إلى جملة من التحديات تهدد وجودها وبقاءها، حيث أصبحت التنشئة الاجتماعية عاجزة عن تكريس تلك المبادئ والقيم في النفوس بفعل تلك التحديات الداخلية والخارجية (ستتم الإشارة إليها لاحقا) التي تواجهها مجتمعاتنا المعاصرة.
ومن المبادئ والقيم التي تشكل بعضا من ملامح الخصوصية الثقافية لمجتمعاتنا العربية والإسلامية ما يلي:
1ـ العقيدة الإسلامية الصحيحة والفهم الصحيح لها وممارسة شعائرها.
2ـ الإيثار والمحبة والتآزر والاحترام بين أفراد المجتمع المسلم (ذكوره وإناثه، صغاره وكباره، أبيضهم وأسودهم، فقيرهم وغنيهم، عالمهم وجاهلهم) أي بغض النظر عن الأدوار التي يؤدونها والمراكز التي يشغلونها.
3ـ الابتعاد عن مظاهر الكبر والتكبر والخيلاء والعجب والغضب والحقد والحسد وسوء الظن وتضييع حقوق الآخرين.
4ـ الاتصاف بالتواضع والتراحم والحب ولين الجانب والتسامح وحب الخير للناس أجمعين، وحفظ حقوقهم وحسن الظن بهم والتعاون معهم على البر والتقوى والعمل الصالح.
5ـ البعد عن الظلم والغش والرشوة و"المحسوبية" وإيذاء الناس والغيبة والنميمة والكذب والسخرية والسب واللعن وقذف المحصنات وغيرها من آفات اللسان.
6 ـ الأخذ بالأخلاق الحسنة مثل: العدل والصدق ونصرة الضعيف المظلوم والجرأة في الحق، والشجاعة فيه، وعدم إيذاء الناس في شرفهم وأعراضهم.
7 ـ مراعاة حقوق الزوجة على زوجها والزوج على زوجته، وحقوق الأبناء على الآباء وحقوق الآباء على الأبناء وحقوق الجار، وحقوق الحاكم على المحكوم وحقوق المحكوم على الحاكم، وصلة الرحم.
8 ـ حب الخير للجميع ونصرة المظلوم وستر المسلم والسلام عليه وتهنئته في أفراحه ومواساته في أتراحه وإجابة دعوته وتشميته إذا عطس وعيادته إذا مرض والسير في جنازته إضافة إلى آداب الطعام وآداب السير في الطرقات وأدب المجلس وأدب العالم والمتعلم وطالب العلم (الجوير1419 هـ).
9- استخدام اللغة العربية والاعتزاز بها، ذلك لأنها لغة القرآن الكريم وأداة التواصل بين أفراد المجتمعات العربية والإسلامية.
من المؤكد بطبيعة الحال أن خصوصيتنا الثقافية أوسع من أن نحصرها في تلك النقاط التسع لكنها تمتد إلى جوانب شتي أبعد من ذلك، وقد حاولنا فقط تحديد بعض ملامح خصوصيتنا الثقافية في تلك النقاط حتى لا يظل هذا المفهوم مفهوما مجردا بحيث يستعصي على فهم البعض الذين قد يتساءلون بصورة مشروعة عن ماهية خصوصيتنا الثقافية التي أكثرنا الحديث عنها في هذه الورقة وتميز مجتمعاتنا العربية والإسلامية عن غيرها من المجتمعات.
ماهية التحديات المعاصرة للتنشئة الاجتماعية:
ذكرنا آنفا أن التنشئة الاجتماعية في عالمنا العربي والإسلامي تواجه اليوم نوعين من التحديات أحدهما داخلي (أي نابع من ذات المجتمع) والآخر خارجي (أي من خارج حدود المجتمع). وفي هذا الجزء من ورقتنا هذه سوف نتناول بشيء من التفاصيل كلا النوعين من التحديات.
أولا: التحديات الداخلية: ما أن تحررت معظم الدول العربية والإسلامية من ربقة الاستعمار وتأسس أو توحد بعضها الآخر حتى بدأت النخب السياسية والثقافية فيها رحلة البحث عن سبل تنمية مجتمعاتها. ولأن تجربة الدول المستعمرة كانت سابقة في هذا المضمار، ونتيجة للصورة المثلى التي رسمها الاستعمار عن تجاربه التحديثية، وانعكاسا لاتجاه النخبة المثقفة في الغرب إلى تقسيم العالم إلى دول متقدمة (إشارة إلى الدول الغربية) ودول متخلفة (إشارة إلى الدول الأفريقية والآسيوية) فقد سارعت النخب السياسية والثقافية في الدول المتحررة حديثا من الاستعمار (بما في ذلك الدول العربية والإسلامية) إلى تمثّل التجربة التنموية والتحديثية في الغرب لأن تكون نبراسا تهتدي بها للوصول إلى مرحلة التقدم كما هي بصورتها الغربية. وكان من الطبيعي أن ينتج عن مثل هذه الاستعارة للتجربة التنموية الغربية مشكلات كثيرة أثرت ولا زالت تؤثر سلبا على عمليات التنشئة الاجتماعية في مجتمعات تلك الدول. وإذا كان هذا يمثل مؤثرا خارجيا إلا أنه أدى إلى انعكاسات سلبية على الواقع الاجتماعي المحلي.
فالأسرة العربية والإسلامية التقليدية تعرضت لآثار عكسية نتيجة عمليات التحديث والتغير الاجتماعي، حيث لم يرافق العمليات التنموية اهتماما كافيا بسبل رعايتها وزيادة فعاليتها أو وضع الاحتياطات الكفيلة بتفادي تلك الآثار السلبية عليها، فكادت الأسرة أن تفقد هويتها ووظائفها الحيوية. ومن مظاهر تدهور الأسرة العربية والإسلامية انتشار الكثير من الظواهر التي يجب تلافي حدوثها ومنها: ظاهرة المخدرات بين المراهقين والشباب، ظاهرة العنوسة والطلاق، الخلافات الزوجية والخلافات بين الآباء والأمهات والأبناء، انفصال المتزوجين حديثا عن الآباء والأمهات وعدم الرعاية الواجبة من قبل الأسرة لكبار السن فيها، تدهور التحصيل الدراسي للأبناء وانقطاعهم عن الدراسة، الاستعانة بالخدم والسائقين في العملية التربوية، وانتشار أجهزة الفيديو والفضائيات، والاعتماد على المطاعم وبوفيهات الأطعمة السريعة (بن مانع، 1410: 7- 10).
إننا نشهد اليوم تخلخلا مثيرا ومقلقا في واقع الأسرية العربية والإسلامية وتمزقا في بنيتها نتيجة الهجرة من الريف إلى الحضر فانقسمت إلى أكثر من أسرة نووية (أسرة نووية ريفية وأسرة نووية حضرية). وهذا التمزق في بنية الأسرة التقليدية أدى بدوره إلى انعكاسات سلبية على مجمل وظائفها ونشاطاتها ومن بينها وظيفة التنشئة الاجتماعية؛ إذ نتج عن الانتقال من الريف إلى الحضر والحراك المادي والاجتماعي تحول جذري في علاقات الأسرة وأدوارها ووظائفها وبناءاتها، فعلاقاتها أصبحت محدودة، ورقابتها على أفرادها أضحت ضعيفة، وأدوارها تغيرت لمجابهة متطلبات الحياة الحضرية (غياب كلا الوالدين عن المنزل في نفس الوقت، الأب في العمل، والأم في التعليم أو العمل)، ووظائفها انحسرت لقيام مؤسسات تربوية بديلة سحبت منها معظم تلك الوظائف، وبناءاتها شهدت دخول عناصر جديدة كالخدم والسائقين والمربيات.
في مثل هذه الظروف الحياتية في ظل الحضر والمغايرة تماما لطبيعة الحياة الريفية أصبح البحث عن الإنجاز الشخصي وتحقيق مستوى اقتصادي واجتماعي متميز من قبل الوالدين مماثلا في أهميته، إن لم يفق، أهمية رعاية الأبناء والقيام على تنشئتهم التنشئة السليمة. وكان من الطبيعي أن ينحسر دور الأسرة في التنشئة الاجتماعية للأبناء، فقدوم المولود يعني التفكير في الخادمة، ووجود المراهق يعني التذمر والتنافر. وهكذا حلت دور الحضانة والمربيات الأجنبيات والشوارع ودور الرعاية والملاحظة وحتى السجون كبدائل للأسرة تقوم نيابة عنها في تنفيذ هذه المهمة التربوية الجسيمة.
لقد كانت التنشئة الاجتماعية في المجتمع التقليدي محصورة في عدد محدود من المؤسسات التربوية كالأسرة وجماعة الحي والمسجد والجيرة ثم المدرسة بحيث تتساند تلك المؤسسات وتتآزر وتتكامل فيما بينها لتحقيق تنشئة متوازنة وسليمة وخالية من التناقضات والمضاعفات السلبية للفرد، ولكن مع تطور المجتمعات وهجرة الأسر من الريف إلى الحضر تعددت وسائط التنشئة الاجتماعية لتشمل، إضافة إلى ما هو موجود في الماضي، الفيديو والتليفزيون والإذاعة والسينما والصحافة والمكتبة والكمبيوتر وجماعة النادي وجماعة العمل والقنوات الفضائية، التي تتعارض فيما بينها بما تقدمه من رسائل وتعمل دون تنسيق لتأتي التنشئة الاجتماعية مشوشة وتؤدي إلى الارتباك والاضطراب والازدواجية في شخصية الفرد.
الحياة الحضرية أدت إلى اضطرابات أسرية انعكست سلبا على التنشئة الاجتماعية، وتتجسد تلك الاضطرابات أولا في علاقة الوالدين ببعضهما ومنها: الخلافات، الزواج غير الموفق، الخيانة الزوجية، عدم التكافؤ بينهما ثقافيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا، الانفصال أو الطلاق أو الهجر أو الزواج الثاني الذي ينتج عنه مشكلات متعلقة بأسلوب التربية ومشكلات أخلاقية ناشئة عن التغير المفاجئ الذي يصيب حياة الأطفال، التضارب في الاهتمامات، الغياب الطويل عن البيت وبخاصة عمل الأم الذي يشجعه مجتمعنا الحديث ويعتبره ضرورة لتدعيم الأسرة ماديا مما يترتب عنه غياب مصدر العطف والتوجيه والتدبير لفترة طويلة ويضاف إلى ذلك تبعات العمل التي تحملها الأم إلى بيتها (تعب، تعصيب، نرفزة، مشكلات المهنة...إلخ)، إعطاء النموذج السئ للطفل، التدخل السلبي لأهل الوالدين بشؤون الأسرة، الذي يفقد الزوجين أو أحدهما إدراك مسؤوليات الأسرة الجديدة.
هذا الواقع الجديد للحياة الأسرية إضافة إلى تدني المستوي الاقتصادي، وانحراف معايير الأسرة الاجتماعية، وعدم الاستقرار والتنقل المستمر سعيا وراء لقمة العيش، كلها أسهمت في تقليص دور الأسرة في التنشئة الاجتماعية وأصبحت تشكل تهديدا لها (شكور: 1998: 30 -31).
وفيما يتعلق بجماعة الرفاق كأحد وسائط التنشئة الاجتماعية أصبحت الأسرة الحضرية عاجزة عن تحديد طبيعة رفقة أفرادها نظرا لاتساع نطاق المدينة وقدرة الأبناء على التحرر من رقابتها وانشغال الوالدين في مجاراة السلوك الاستهلاكي المستعر لأهل المدينة والبحث في سبل تحقيق المتطلبات المعيشية للأسرة من خلال العمل الوظيفي. هذا الضعف في قدرة الأسرة على الضبط الاجتماعي جعل من الرفقة مصدر التنشئة الاجتماعية السليمة خاصة إذا ما وقع الأبناء في شرك صحبة السوء.
أما المسجد فقد انحسر دوره في التنشئة الاجتماعية نتيجة انشغال الأب عن الأسرة في أغلب الأوقات، حيث كان في الماضي قدوة حسنة لأبنائه في ارتياد المسجد ويصحبهم إليه. وهذا الانحسار في الدور التربوي للمسجد يعد واحدا من أهم التحديات المعاصرة لعملية التنشئة الاجتماعية.
وبالنسبة للمدرسة نجد أنها أخذت تنحى اليوم منحى تعليميا أكثر منه تربويا مما يهدد بتمرد على القيم الاجتماعية من قبل الدارسين بها. كذلك أدى انعدام التواصل والتعاون بين المدرسة والأهل إلى سوء التوافق المدرسي للطالب، الأمر الذي قد يكون مصدرا للانحراف والسلوك السلبي.
كذلك أخذت وسائل الإعلام تلعب دورا بارزا في عملية التنشئة الاجتماعية في وقتنا الراهن. ومع أهمية دورها التربوي هذا إلا أنها كثيرا ما تبث رسائل مناقضة لتلك التي يتلقاها الطفل في أسرته فتضطرب المعايير أمام الطفل لتشكل بذلك مصدر تهديد للتنشئة الاجتماعية السوية.
وأخيرا تلعب الأوضاع الاقتصادية السيئة، والظروف السياسية غير المستقرة، إضافة إلى الكوارث الطبيعية من فيضانات وزلازل وحرائق، والكوارث الاجتماعية من مجاعة وبطالة وتفشي الأمراض تحديات أخرى للتنشئة الاجتماعية.