إسهام بعض العلماء في تطور التفاعلية الرمزية :
يعد تشارلز كولي و جورج هربرت ميد و هربرت بلومر من أبرز ممثلي منظور التفاعلية الرمزية ، سنتعرض هنا لإسهامات جورج هربرت ميد من خلال هذا الملخص :
جورج هربرت ميد : 1863 ــ 1931م
ولد ميد في مشاشوتس و تعلم في كلية اوبران ثم جامعة هارفارد ثم جامعة لبيزج ثم جامعة برلين في ظل المثالية الألمانية التقليدية و العملية الأمريكية .
و لقد قدم ميد بحوثا ً عن أفكار كلا ً من سمل و دوي ، و أثناء عمل ميد مع دوي في جامعة شيكاغو ، ركز ميد على فهم التفاعل المتبادل و الذات الاجتماعية في داخل محتوى مجتمع يعايش أعلى مستويات التصنيع و التحضر و نزعات الإصلاح و النزعة العملية و المثالية و من ثم كان وعي الإنسانية بذاتها يتزايد تبعا ً لذلك .
و تتضمن أعمال ميد الرئيسية ما يشير إلى ذلك من قبيل ( العقل و الذات و المجتمع ) 1934 و فلسفة الفعل 1938 م (حجازي،1980م،ص 194)
أمضى ميد جانبا ً كبيرا ً من حياته الأكاديمية يتعلم في جامعة شيكاغو ، و قد أصبح أستاذا ً للفلسفة بها منذ عام 1894 حتى وفاته عام 1931 م .
و كان مقلا ً فيما نشره من أعمال خلال حياته ، و مع ذلك فاض تأثيره على معاصريه من خلال مجموعة من المحاضرات و المقالات المتفرقة ، و بعد وفاته جمعت هذه المحاضرات و المقالات المتفرقة و نشرت على هيئة كتب كان منها " حركات الفكر في القرن التاسع عشر " 1936 م ، بالإضافة لما سبق ذكره من مقالات .
و ترجع أهمية ميد إلى أنه استطاع أن يتحرر من الأفكار السلبية و الميكانيكية عن الذات و الشعور ، تلك الأفكار التي هيمنت على علم النفس و علم الاجتماع الأمريكي في البدايات الأولى من القرن العشرين .
حاول ميد أن يبحث في نشأة الذات في ضوء خبراتها و تجاربها الاجتماعية العملية ( مظاهرها الخارجية ) و أيضا ً في ضوء خبرتها كوعي أو شعور ( مظاهرها الداخلية ) و في هذا الصدد تأثر ميد فكريا ً بالعديد من الاتجاهات و التيارات الفكرية ، كان من أهمها الفلسفة البرجماتية عند جون ديوي و وليام جيمس و التطورية الداروينية و المثالية الألمانية ، و رومانسية القرن التاسع عشر ، على جانب علم الاجتماع الذي طوره تشارلز كولي .( جلبي ، 1998 م ، 159 ــ 160)
أهم إسهامات جورج هربرت ميد في التفاعلية الرمزية:
بدأ ميد منظوره بالتركيب بين المفهومات الثلاثة ( العقل و الذات و المجتمع ) بافتراضين أساسيين :
الفرض الأول : أجبر الضعف البيولوجي للكائنات الإنسانية على التفاعل سويا ً في سياق الجماعة ليحققوا البقاء على قيد الحياة .
الفرض الآخر : يحافظ البشر على استمرار تلك الأفعال التي تسهل التفاهم و التعاون و من ثم بقاءهم . •
و بناء على هذين الفرضين استطاع ميد إعادة تنظيم مفهومات العلماء الآخرين بحيث تدل على الكيفية التي منها ينبثق العقل و الذات الاجتماعية و المجتمع ، و كيف يستمر و تدعم كل منها أثناء التفاعل الاجتماعي .
أولاً: العقل
يرى ميد أن السمة المميزة للعقل الإنساني هي قدرته على :
1 ــ استخدام الرموز ليميز الموضوعات في البيئة.
2 ــ التدريب على تكرار مجموعة أساليب فعل بديلة في الخيال تجاه هذه الموضوعات .
3 ــ رفض أساليب العمل غير الملائمة ، و من ثم اختيار الفعل الواضح الصحيح .
و قد أطلق ميد على عملية استخدام اللغة أو الرموز عملية الممارسة الإبداعية في الخيال ، و من ثم يكشف طرح مفهومه للعقل باعتباره عملية لا باعتباره بناء ، و علاوة على ذلك يرى ميد أن وجود و استمرار المجتمع أو العمل الجمعي أو التعاون يعتمد على قدرة الكائنات الإنسانية على تبادل ممارسة تخيل أساليب الفعل تجاه بعضهم البعض و من ثم انتقاء أنماط السلوك التي تسهل التعاون و التكيف .
و من ثم لا يركز ميد على عقول تلك الكائنات الإنسانية الناضجة و إنما يحلل كيفية تطور و انبثاق تلك القدرة عند الكائنات الإنسانية ، و ما لم تتطور عقول الأطفال الرضع فلن يوجد المجتمع و لن تتكون الذات.
و يرى ميد أن العقل ينبثق من عمليات اختيارية انتقائية ، حيث تضيق المجموعة الواسعة الأساسية من الإيماءات الأولية العشوائية التي تصدر عن الطفل الرضيع ، لأن بعض الإيماءات تولد ردود فعل ملائمة من أولئك الذين يعتمد عليهم الطفل في بقائه على قيد الحياة ،فبكاء الطفل يدل على انزعاجه من أمر ما ، و ضحكه يدل على ارتياحه ، و لكن مع نمو هذا الطفل و تحوله إلى شاب فإن الأمر يصبح أكثر تعقيدا ً بحيث أن هذه الإيماءات قد لا تعطي المدلول الصادق ، فالبكاء أصبح لا يدل شرطا ً على الحزن و الانزعاج ، بل قد يرمز للفرح و على العكس الضحك كذلك .
و عندما تأخذ الإيماءات شكل معان عامة مشتركة يطلق عليها ميد الإيماءات الشائعة المقبولة ، و قد زادت هذه الإيماءات المقبولة الشائعة بين الأفراد من كفاءة التفاعل بين الأفراد ، إذ تتيح هذه الإيماءات مجالا ً للتواصل أكثر قدرة و أكثر تحديدا ً لتوصيل الرغبات و المطالب ، و كذلك تفسح الطريق لمجالات العمل المنشودة ، و من ثم من قدرة الكائنات الإنسانية على التوافق و من خلال قراءة ثم تفسير الإيماءات الشائعة المقبولة تفسيرا ً مدعما ً يستطيع الأفراد القيام بالتدريب على تخيل بدائل الأفعال التي تسهل توافقهم سويا ً و من ثم يرى ميد أن الكائن الحي قد يكتسب العقل عندما يطور قدرته على :
1 ــ فهم الإيماءات الشائعة المقبولة .
2 ــ استخدام هذه الإيماءات لاكتساب أدوار الغير .
3 ــ التدريب على تخيل مجموعة من الأفعال البديلة .
ثانياً: الذات
يرى ميد أنه كلما نضج الأفراد اتخذت صور الذات المؤقتة التي تتكون من خلال التفاعل مع الغير في مواقف التفاعل شكلا ً أكثر تحديدا ً ، و من ثم يصير مفهوم الذات أكثر استقرارا ً و أكثر وعيا ً باعتباره موضوعا ً محدداً و يرى ميد أن انبثاق مفهوم الذات يجعل الأفراد أكثر اتساقا ً لأنه يتحقق من خلال مجموعة الاتجاهات و الأحكام أو المعاني المستقرة و المتماسكة ، حول ذات المرء باعتبارها نمطا ً محددا ً للشخص .
و قد اختار ميد أن يركز على الانتباه على أطوار ثلاثة لنمو الذات و يدل كل طور على التغير الذي يطرأ على أنواع صور الذات الانتقالية التي يكونها الشخص عند اكتساب الأدوار، كما أن كل طور يعني تزايد تبلور و تحديد مفهوم الذات الأكثر استقرارا ً .
و يطلق ميد مصطلح طور اللعب على الطور الأول لاكتساب الأدوار حيث تنبثق صور الذات، و في طور اللعب يستطيع الأطفال افتراض رؤية عدد محدود من الأشخاص الآخرين ، ربما يكون في البداية شخصا ً أو شخصين .
و في الطور الثاني و بتأثير نضج الجسد ، و ممارسة اكتساب الأدوار يصبح الكائن الحي الناضج قادرا ً على لعب أدوار أشخاص آخرين كثيرين يسهمون معه في نشاط منظم .
و قد أطلق ميد على هذا الطور مصطلح اللعبة لأنه يميز قدرة الأفراد على صياغة صور عديدة للذات و على التعاون مع جماعة من الأفراد يشاركون في نشاط تعاوني منظم، و قد أعطى ميد مثلا ً على هذه الصورة من مباراة كرة السلة ، حيث يفترض أن يلعب كل فرد من الأفراد الدور الذي يقوم الآخرون به في الفريق من أجل المشاركة الفعالة لكسب المباراة و تتحقق المرحلة الأخيرة من مراحل تطور الذات عندما يستطيع الفرد أن يأخذ دور الآخرين الذين يتوحدون بقيم مشتركة أو مجموعة الاتجاهات الاجتماعية التي يمكنها أن تزيد من طبيعة الموافقة على استجابات الآخرين الذين يتعين أن يتفاعل معهم و يتوحدون مع الاتجاهات المشتركة الواضحة داخل المجتمع الأكبر .
و يرى ميد أن الأفراد في هذا الطور قادرون على تصور منظور كلي للمجتمع أو المعتقدات و القيم العامة و المعايير في مجالات التفاعل المختلفة للفرد و هذا يعني أن الكائنات الإنسانية يمكنها :
1 ــ أن تزيد من طبيعة و مقدار موافقتها على استجاباتها للأفراد الذين يتعين التفاعل معهم .
2 ــ و توسيع مجال صور الذات التقويمية انطلاقا ً من توقعات الآخرين المحددين إلى مجال توقعات المجتمع الأكبر و هكذا فإن القدرة المتزايدة دوما ً على أخذ الأدوار و توسيع مفهوم الغير هو ما يحدد نمو الذات .
ثالثاً: المجتمع
يرى ميد أن المجتمع أو النظم كما يعبر عنه دائما ً، يمثل التفاعلات المنظمة و النمطية بين أفراد مختلفين، و يستند تنظيم التفاعلات على العقل و لا يستطيع الأفراد تنسيق أنشطتهم بغير قدرة العقل على لعب الأدوار .
و يعتمد المجتمع أيضا ً على قدرات الذات خاصة عملية تقويم المرء لنفسه من خلال الاتجاهات و القيم العامة التي يتوحد الآخرون بها ، و دون القدرة على رؤية و تقييم الذات كموضوع ضمن هذه المجموعة من الاتجاهات و التصرفات ، فإن الضبط الاجتماعي قد يعتمد فقط على تقييمات الذات المنبثقة من لعب الأدوار من خلال التفاعل مع الآخرين الحاضرين حضورا ً مباشرا ً و المعروفين ، و من ثم يصير التنسيق بين الأنشطة المختلفة المتنوعة داخل الجماعات الكبيرة أمرا ً بالغ الصعوبة .
و رغم أن ميد اهتم اهتماما ً حيويا ً بكيفية قيام المجتمع و نظمه و استمراره من خلال قدرات العقل و الذات ، فإن هذه المفهومات تسمح له أن ينظر إلى المجتمع في حالة مستمرة من المرونة و الصيرورة و التدفق و إمكانية التغير .
و علاوة على ذلك فإن الذات كموضوع في عملية التفاعل يقلل من حقيقة أن محصلة التفاعل تتأثر بالأساليب التي تغير بها مفهومات الذات الفهم الأولي للإيماءات و عملية تخيل مجموعة بدائل السلوك .
و هكذا يؤكد هذا المنظور أن المجتمع و الأنماط الأخرى للتنظيم الاجتماعي يستمران و ينتشران و يتغيران من خلال قدرات العقل على التوافق و التأثير المباشر للذات .
و يرى ميد أن المجتمع ظاهرة بنائية تنبثق من التفاعلات التي تتحقق خلالها التفاعل بين الأفراد ، و من ثم يمكن أن يتغير المجتمع و يعاد بناؤه من خلال العمليات التي حددتها مفهومات العقل و الذات .
بيد أن ميد يبدو غالبا ً قد خطا خطوة أبعد للتأكيد على أن التغير ممكن فقط و لكن لا يمكن التنبؤ به غالبا ً حتى من جانب هؤلاء الذين يحثون على حدوث التغير في السلوك .
و قد صاغ ميد مفهومين جديدين لتفسير عدم تحديد السلوك هما :
الأنا الفطرية التي تتميز بالفردية ( I ) و الأنا الاجتماعية ( Me ) و يرى ميد أن الأنا الفطرية ( I ) تشير إلى النزعات الغرائزية الدافعية للأفراد ، بينما تمثل الأنا الاجتماعية صورة الذات في السلوك بعد أداء الذات له .
و من خلال هذين المفهومين أكد ميد أن سلوك الأنا الفطرية أو السلوك الغرائزي لا يمكن التنبؤ به، لأن الفرد لا يمكن أن يعرف إلا من خلال التجربة ( الأنا الاجتماعية ) و ما حدث فعلا ً و ما يترتب على ذلك من نتائج تؤثر على الأنا الفطرية أثناء التفاعل .
بإيجاز يمثل المجتمع عند ميد تلك الأنماط البنائية للنشاط المنسق التي تستمر و تتغير من خلال التفاعل الرمزي بين الفاعلين و خلالهم و من ثم يتحقق استمرار المجتمع و تغيره من خلال عمليات القعل و الذات ، و بينما يعتقد ميد أن معظم التفاعلات التي تؤدي إلى التغير و الاستقرار على حد سواء في الجماعات يمكن التنبؤ بها ، فما تزال ثمة إمكانية قائمة لحدوث أفعال تلقائية لا يمكن التنبؤ بها ، يمكنها أن تغير أنماط التفاعل الموجودة فعلاً.( تيرنر ، 1999 م ، ص 203 ــ ص 208 ) .
نقد إسهامات جورج هربرت ميد :
يذهب العالم ميلتزر إلى أن الإطار الذي استخدمه هربرت ميد إطارا ً يتسم بالغموض و عدم التحديد ، و يبدو ذلك واضحا ً من مجموعة المفاهيم التي طورها مثل : الدافع و المعنى و العقل و اكتساب الدور ، و الذات و الأنا الداخلية ، و الأنا الخارجية ، و الوعي الذاتي ، و الآخر المعمم ، و الموضوع ، و الصورة ، و الاتجاه ، و الإيماءة ، و الرمز .
و تتطلب هذه المفاهيم إدراكا ً حدسيا ً ، الأمر الذي لا يجعل منها أدوات تصورية واضحة و دقيقة لتفسير السلوك الإنساني ، و هذا الحشد من المفاهيم الغامضة قد جعل إطار ميد خاليا ً من أية مضمون حقيقي ، مثال ذلك أنه كان ينبغي أن يهتم هذا الإطار مثلا ً بالعناصر العاطفية و اللاشعورية في السلوك الإنساني و من الملاحظ أيضا ً أن تصورات ميد يتعذر دراستها واقعيا ً ، فقابلية الإطار للبحث محدودة بحيث يتعذر التحقق من صحته امبيريقيا ً .
و يرجع العالم كون هذا الغموض الذي اتسمت به أعمال ميد إلى مفهومه عن الذات و عنصريها المكونين و هما : الأنا الداخلية ، و الأنا الخارجية .
فالمتأمل لتعريفات ميد لا يستطيع أن يقع على تعريف محدد و متفق عليه حول هذه المفاهيم و دورها في تحديد لأنماط التفاعل الاجتماعي ، وقد انعكس ذلك على التراث المعاصر ، حيث نجد نحو تسع تعريفات ممكنة لمفهوم الذات ، و تكشف هذه التعريفات عن مبلغ التباين و الاقتران بين مختلف اتجاهات التفاعلية الرمزية . ( غيث و آخرون ، 1997 م ، ص 135 ــ 136 )
المراجع :
• تيرنر، جوناثان، بناء نظرية في علم الاجتماع، ترجمة دكتور محمد سعيد فرح، الإسكندرية، منشأة المعارف، 1999 م.
• جلبي، عبد الرزاق و آخرون، نظرية علم الاجتماع الاتجاهات الحديثة المعاصرة، الإسكندرية، دار المعرفة الجامعية، 1998 م.
• حجازي، محمد فؤاد، النظريات الاجتماعية، القاهرة، دار غريب للطباعة، 1980 م.
• عمر ، معن خليل، نظريات معاصرة في علم الاجتماع ، عمان ، دار الشروق ،1997م .
• غيث ، محمد عاطف و آخرون ، مجالات علم الاجتماع المعاصر ، الإسكندرية ، دار المعرفة الجامعية ،1997 م.
• لطفي، طلعت و كمال الزيات، النظرية المعاصرة في علم الاجتماع، القاهرة، دار غريب للطباعة، 1999 م .
الروابط الالكترونية :
•
http://nounou1982.maktoobblog.com•
www.maktoobblog.com•
http://www.ejtemay.comمن إعدادي و آمل للجميع الفائدة مما كتبت