مقتطفات من مقال "مجتمع المعرفة... معالم رؤية تكنولوجية جديدة للعالم"
للدكتور عبد الرزاق الدّوّاي
عرض وتعقيب: المحرر العلمي للعرب اليوم
ظهر هذا المقال في مجلة عالم الفكر الكويتية، العدد 3 المجلد 40 (يناير – مارس 2012). يقع المقال في 17 صفحة، إضافة إلى هوامش في 6 صفحات. والدكتور الدوّاي هو أستاذ الفكر الفلسفي المعاصر وأخلاقيات العلوم – كلية الأداب والعلوم الإنسانية بالرباط – المملكة المغربية.
يبدأ الكاتب بتعريف المصطلحين : رؤية العالم، ومجتمع المعرفة، وهذا الأخير هو "مجتمع يفترض أن يجري فيه الانتشار والتشارك والتبادل والاستخدام الواسع للمعلومات وللمعرفة، إما مجانيا وإما بأقل قدر ممكن من التكاليف. إن العالم ينتقل من مجتمع مبني على انتاج السلع المادية المصنّعة إلى مجتمع جديد مبني على إنتاج العلم والمعرفة والذكاء، بهدف حل مشكلاته ودعم أنشطته وترشيد أدائه وتخطيط مستقبله".
ثم يستعرض الكاتب ثلاث تكنولوجيات رئيسية تميّز عالمنا المعاصر:
أولاها تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وتشمل الإنترنت وما يرتبط به كالبريد الإلكتروني والمدونات الخصوصية وشبكات المنتديات الاجتماعية، والحكومة الإلكترونية.
ثم تكنولوجيا النانو: رؤية مذهلة في عالم متناهي الصِّغَر (النانومتر يساوي جزءا من مليار من المتر)، وهي تكنولوجيا واعدة نشأت فعليا في التسعينيات وتبشر بتطبيقات رائعة في مختلف المجالات.
والثالثة هي التكنولوجيا الحيوية. وغاية الباحثين في هذا المجال هي، من حيث المبدأ، تحسين ظروف حياة البشرية، سواء من خلال إنتاج كائنات حية جديدة نافعة أو تعديل بعض خصائص أخرى معروفة أو تقديم خدمات نوعية كتطوير أنواع مستحدثة من الأدوية وإنتاج الأمصال، فضلا عن تحسين وتنويع المنتجات الغذائية ومعالجة بعض مظاهر التلوث البيئي. ومن إنجازات الهندسة الوراثية بالذات التحكم في عمليات الإخصاب والإنجاب البشري وفك دقائق شفرة الجينوم البشري.
وقد أثارت هذه التقنية قضايا خلافية، منها "نزعة" أو نزوع، تحسين النسل البشري Eugenics، التي كانت قد تبنتها أنظمة عنصرية، مثل النازية الألمانية، عبر سعيها للتخلّص من الأجناس "الأدنى"، حسب رأيهم. وحركة ما بعد النزعة "الانسانية" Transhumanism، التي تبشر بمستقبل مشرق للجنس البشري، حين يتخلص من الآلام والإعاقات، والأمراض المزمنة والوراثية، والشيخوخة والموت والفقر وسوء التغذية. إنه عهد ما بعد الدارْوِنية، إذ تصبح البشرية بفضل علومها ومعارفها وتكنولوجياتها قادرة على التحكم في سيرورة التطور البيولوجي ذاته، بهدف ظهور بشرية متفوقة. وبالطبع فإن هذه الرؤية الجديدة لإمكان تطوير جذري لطبيعة الإنسان تثير تساؤلات قلقة في الفكر الأخلاقي المعاصر. ومن ذلك "الاعلان العالمي لأخلاقيات البيولوجيا وحقوق الإنسان"، الصادر عن اليونسكو سنة 2005.
البيئة: ثم يناقش الكاتب الفكر البيئي باعتباره جزءا من الرؤية الجديدة للعالم. حيث تبين تقارير حديثة أن اختلال توازن نظام مناخ كوكبنا الأرضي ليس طبيعيا ولا عاديا في أغلب الأحيان، وإنما ينتج في معظمه عن النشاطات البشرية.
وقد ظهر تياران بيئيان رئيسيان، أولهما ذو فلسفة بيئية ذات توجه انساني، ويتبنى موقف الدفاع عن مبدأ ضرورة حماية البيئة من وجهة نظر المصلحة العامة للبشرية في المرتبة الأولى.
أما التيار الثاني فهو ذو فلسفة بيئية جذرية، فهو ينتقد الحداثة والنظام الرأسمالي، ويدعو إلى ضرورة توسيع مجال اهتمام الأخلاق البيئية ليشمل جميع الأجناس الحية وجميع المكونات الأخرى للطبيعة. ويجب التركيز على واجبات الانسان نحو الطبيعة والالتزام الأخلاقي نحو الأجيال المقبلة ونحو البيئة، ونحو عقلنة وترشيد استغلال البشر للطبيعة.
إحذر! أنت مراقَب: ثم يقدم الكاتب فصلا بعنوان من "المعرفة للجميع" إلى "المعرفة حول الجميع" أو المعرفة عن الجميع. ويعني بذلك ما نشهده من تطور في وسائل الرقابة على أنشطة الناس، والمعلومات الهائلة التي تجمعها السلطات عن الأفراد، من خلال الانترنت والهواتف الأرضية والخلوية. وحتى بعض المؤسسات الخاصة أصبحت تجمع المعلومات عن الناس بقصد تسويق منتجاتها بأفضل الطرق.
ويبدو أن العالم الجديد يتحول بالتدريج إلى عالم شمولي تهيمن فيه هواجس الأمن والمراقبة على القيم والمبادىء الانسانية". ويكفي أن نشير إلى "نظام المراقبة الشاملة للمعلومات (TIA)" الذي يحضّر حاليا في دهاليز البنتاغون، ومن أهدافه تجميع حوالي اربعين صفحة (؟) من المعلومات عن كل ساكن من سكان الأرض.
والخلاصة أن تاريخ مجتمع المعرفة لم تكتب فيه حتى اليوم سوى الصفحات الأولى. وهذا يعني أنه ليس بمقدور أي متخصص في المستقبليات أن يتكهّن بما يمكن اعتباره أجوبة نهائية وجاهزة عن تساؤلات من قبيل: ما مستقبل الإنسانيّة من منظور هذه الرؤية الجديدة للعالم؟ وهل ستقود الطفرات العلمية والتكنولوجية الجديدة الى مجتمعات بشرية أكثر انفتاحا وعدالة وحرية؟ وهل نتجه نحو إحياء فكرة التفوّق العرقي، أو التمييز العنصري؟
إن المجتمعات البشرية قلّما نظرت بعين الرضا والارتياح الى الفتوحات العلمية الكبرى في عصرها، بيد أن المطاف كان ينتهي بها غالبا إلى قبولها تدريجيا وإدماجها كجزء من حياتها واقتصادها ومنظومة قيمها.
تعقيبان:
أولا، اختار الكاتب عن حقّ ثلاثة مجالات للرؤية التكنولوجية الجديدة للعالم، وهي الاتصالات والنانو والتكنولوجيا الحيوية. وبعضها مازالت تخطو أولى خطواتها. فهل هذا ينفي وجود مجالات أخرى ممكنة ومهمة، مثل التطويرات المتوقعة في مصادر الطاقة البديلة، خاصة استغلال الطاقة الشمسية؛ وأبحاث الفضاء التي قدمت تطبيقات مهمة في مجال الاتصالات، وتحديد المواقع وكشف الموارد الطبيعية.
ثانيا، لا نخالف الكاتب في قلقه من تنامي قدرات الحكومات، وجهات أخرى غيرها، على مراقبة البشر وتسجيل مختلف المعلومات عنهم. لكننا نود أن نثير نقطة مهمة أغفلها الكاتب على ما نعتقد. إن القدرات الهائلة التي تملكها بعض القوى في عالم اليوم، عبر وسائل الإعلام المرئي، كالتلفزة، والصحف والانترنت وغيرها، قد مكّنت هذه القوى من تشكيل العقل الجمعي لشعوب الأرض وتحريكها عندما ترغب في الاتجاه الذي تريد.
إن ما يحصل غالبا هو تجهيل أكثر منه تثقيفا، خاصة في المجتمعات النامية. إن ظهور آلاف محطات التلفزة الفضائية وآلاف مواقع الانترنت والمدوّنات، التي تبثّ وتعمل على مدار الساعة، قد كان لصالح الكمية على حساب النوعية. لم يعد لمحطات التلفزة وقت أو مبرر لإنتاج اية برامج ذات قيمة، فأغرقت البشر في طوفان من الغثاثة والتفاهة، والتي اصبحت هي المعيار الذي نشأت عليه الأجيال الجديدة. أصبح عدد من يكتبون في الصحف والمدونات أكثر من عدد من يقرؤون. ويكفي أن نلاحظ ما تروّج له بعض محطات التلفزة الفضائية والصحف الالكترونية من مزايدات وعنصرية وأحقاد، وما تسمم به أفكار قرائها، سواء بمقالاتها، أو بما تختار أن تنشره من تعليقات قرائها ومشاهديها.
الخلاصة أن من يسيطر على عقول البشر وأفكارهم وسلوكهم، ويملك القدرة على تحريكهم بالاتجاه الذي يريد، لا يحتاج أن يجمع معلومات مفصلة عنهم، رغم أنه يفعل ذلك على أية حال.