الحداثة كما يراها مفكّرونا العرب
لقد مثل سؤال النهضة شاغلا رئيسيا من شواغل المفكرين المعاصرين وتمخَض عن ذلك جدال طويل حول العديد من القضايا مثل الحداثة والتَحديث والتَجديد والإصلاح وقد وقف المفكرون حيال هذه القضايا مواقف متباينة ولعلَ إختلاف المرجعيات كان أساسا لهذا التَباين الَذي تردَدت فيه الإشكاليات التالية , ما السبيل إلى النُهوض بالواقع العربي الإسلامي والخروج به من دائرة التخلُف ؟ هل أنَ الإسلام عاجز عن استيعاب مفاهيم الحداثة أم أنَ صبغته التاريخية تمنحه قدرة على الحسم بمواقف جريئة ومخترقة؟
إنَ الخوض في هذه الإشكاليات يقتضي منا أوَلا الوقوف عند مفهوم الحداثة بما هي منظومة أوروبية المنشأ والتحديث بما هو جلب لمنتجات الحداثة فإذا كان المفهوم الأول قائما بالأساس على القطع مع المنظومة المعرفية التقليدية المتأسِسة على الدِين فإنَ المفهوم الثاني بجلب الحداثة سيعلن ثورة على القديم وبناء على ذلك اختلفت المواقف إزاء عملية التحديث ووقف زعماء الإصلاح والإسلاميون في عصر النَهضة موقفا محترزا من الحداثة بمفهومها الغربيِ ودعوا إلى ضرورة التَمسُك بالموروث وتحصينه بالمقدَس وكثر الجدل في هذه المرحلة عن جدوى أو عدم جدوى الأخذ عن الغرب وعن الصُورة التي يجب أن تكون عليها المرأة وعن موقف الإسلام من المدنية الغربية واقتضى هذا الصَخب الجدلي إثارة مسألة الإجتهاد الحق في الإسلام ودعوة عند زعماء الإصلاح إلى ضرورة العودة إلى نصوص ابن خلدون والشاطبي والماوردي وابن مسكويه ودعاة العقل وتعالت أصوات المحافظين في هذه الفترة ممثلة في دعوة الشيخ محمد عبده ثم تلاه محمد رشيد رضا فحسن البنا راسمة معالم مشروع إسلامي يتضمن حلولا إسلامية لمشكلات الواقع الإسلامي وهو مشروع يعلن في احتمائه بالموروث عن تخوف من المد التغريبي الذي بات يروِج لمشروع حداثي يتأسَس على التَعامل المباشر مع قيم الحداثة المتأسِسة على القطع مع الدين وقد ورد على لسان بعض أعلامه مثل جمال الدين الأفغاني ما يلي "إن العلاج الناجع لصلاح الأمة الإسلامية إنما يكون برجوعها إلى قواعد دينها ومن طلب إصلاح الأمة بوسيلة أخرى فقد ركب شططا " وقد ورد على لسان محمد عبده " إذا كان الدين كافلا بتهذيب الأخلاق وصلاح الأعمال فلم العدول عنه إلى غيره ؟"وجاء كذلك على لسان مصطفى كامل " من المستحيل إحياء الأمة بغير الحقيقة الدينية "
وقد جاء مشروع الدكتور محمد سعيد العشماوي في نفس الإطار إلاَ أنه ربط بين الشريعة والتقدم واعتبر أحكام الشريعة تطبيقات للمناهج على وقائع محددة ورأى أن التطبيق السليم للشريعة يقتضي التجديد لمواجهة الواقع الجديد ومعاصرة الأحداث المستجدة وأكد أن لا اجتهاد مقدس ولا تفسير معصوم ولا حكم نهائي فكانت بذلك رؤيته للإسلام في روحه الجديدة رؤية متقدمة عن غيره من الإسلاميين
أما مهدي المنجرة فقد بنى مشروعه على التنوع الثقافي باعتباره مفتاح البقاء في المستقبل وأكد على ضرورة الإعتماد على النفس وهو أول شروط تحقيق التقدم على المستوى الإقتصادي وهو يقول "يجب أن يعي العرب أنه لا يمكن أن يتحقق النهوض المنشود إلاَ في ظلِ تكتلات لا تقلُ عن ثلاث مائة مليون نسمة لأن التكنولوجيات الجديدة تحتاج إلى مصاريف كبيرة على صعيد البحث العلمي والمردودية لا تأتي إلاَ بعد سنوات وفي غياب ذلك ليس هناك خيار غير تقليد الغرب والبقاء في خدمته " وهو يستشهد بالتجربة اليابانية التي كان يشيد بها قائلا إنَ سرَ الوصفة اليابانية هو محو الأمية ثم الإهتمام باللغة والترجمة وبعد ذلك الدخول في مغامرة البحث العلمي لأن العلم لا يمكن أن يكون فعلا ما لم يكن منتوجا ذاتيا خالصا
إلاَ أن مسألة التحديث والتجديد تجد في المقابل ردود فعل ايجابية من المفكرين الحداثيين وعلى رأسهم الدكتور عبد المجيد الشرفي الذي دعا إى ضرورة إعادة النظر في النص الديني من أجل أن يكون ملائما لما يحدث من تحولات في الواقع مركزاعلى قضية الحكم في المجال السياسي داعيا إلى ضرورة الفصل بين الدين والسياسة مشيدا بجهود علي عبد الرازق وتوجهه العلماني في كتابه الإسلام وأصول الحكم أما في المستوى الإجتماعي فقد ركز على قضية المرأة ودعا الى مزيد إشراك المرأة في المجال التنموي مستندا إلى جهود كل من الطاهر الحداد في كتابه امرأتنا في الشريعة والمجتمع وقاسم أمين في كتابيه تحرير المرأة والمرأة الجديدة الذين اعتبرا أن الخروج بالمرأة من الوضع الدوني الذي طالما شد المجتمع العربي الإسلامي إلى الوراء هو الكفيل بتحقيق التقدم ولئن كانت المدنية الغربية محفزا لهما فإن منطلقاتهما كانت تطبيق الشريعة تطبيقا يجنب المتلقي الهوة بين الشريعة والمسلم ويلائم بين الأحكام الشرعية وما يحدث في الواقع من تغييرات وهو ما جعل الطاهر الحداد ينقد واقع الفقه في البلاد العربية الإسلامية قائلا " إن عامة فقهاء الإسلام من سائر القرون إلا ما شذ ّيجنحون إلى العمل بأقوال من تقدمهم في العصر ولو بمئات السنين ويحكمون بأحكامهم وهم يميلون إلى تفهم ألفاظ النصوص وما تحمل من معنى أكثر بكثير مما يميلون الى معرفة أوجه انطباق تلك النصوص على حاجات العصر وما تقتضيه مصلحة المجتمع الحاضر الذي يعيشون فيه " ومن هذا المنطلق يلوّح الحداد بضرورة الإجتهاد وهو ما تبناه محمد الطاهر بن عاشور في مشروعه الذي يشيد فيه بدور العقل في الإصلاح والتنوير إذ دعا إلى ضرورة الإجتهاد والإستنباط والنّظر والإستدلال وسعى إلى تنبيه المسلمين إلى ضرورة استعادة نهضتهم من خلال تحليل مقاصد الشريعة و أهدافها وسلط الضوء على النظام الإجتماعي في الإسلام وأصوله وكان نزوعه إلى التنوير مقترنا بدعوته إلى إصلاح العقيدة وبناء إنسان جديد يتخذ التربية والتعليم وسيلة لتحقيق ذلك ومن الوسائل التي دعا إليها إصلاح الوازع النفسي لدى المسلمين وقد اعتبر مسألة إصلاح المجتمع مسألة جوهرية وهي متوقفة على إصلاح الأفراد ويذهب إلى وجوب الإجتهاد لحاجة المسلمين إلى علماء فقه الشريعة للإمداد بالمعالجة الشرعية كما دعا إلى ضرورة التثاقف باعتباره سنة حضارية وأكد أن إعلاء صرح الإنسانية هو مسؤولية مشتركة وإنجاز جماعي عبر عن ضرورة الوعي بأن المرحلة التاريخية تقتضي من المسلمين الدخول في معترك العصر دونما قطيعة أو صراع مع الآخر الديني والثقافي فتحا لبوابات المستقبل الواعد أمام المجتمعات العربية الإسلامية لا عودة فيها إلى الماضي إلا أنّ الدكتور محمد عابد الجابري رأى أنّ الحداثة لا تعني أبدا القطع مع التراث بقدر ما تعني الإرتفاع بطريقة التّعامل مع التراث إلى ما يسمى بالمعاصرة أي مواكبة التقدم الحاصل على الصعيد العالمي وقال " ما لم نمارس العقلانية في تراثنا وما لم نفضح أصول الإستبداد ومظاهره في هذا التراث فإننا لن ننجح في تأسيس حداثة خاصة بنا حداثة ننخرط بها ومن خلالها في الحداثة المعاصرة العالمية كفاعلين وليس كمجرّد منفعلين " ولعله بذلك يحيلنا على تصور المفكر الجزائري مالك بن نبي الذي أكد على الفاعلية باعتبارها شرطا أساسيا من شروط التقدم وحصر بالتالي مشكلة التأخر في الأفكار المميتة التي جعلت جسد الأمّة العربية الإسلامية جسدا مريضا والسعي إلى الشفاء بالنسبة إليه هوبضرب آخرمن الأفكار ويرى أنه لا تغيير للمجتمع حتّى تتغيّر النفس وهو أمر غفلت عنه المناهج الإصلاحية التي انخدعت بمظاهر الحضارة الغربية ورأت أن الحلّ في استجلاب هذه المظاهر من أجل تحقيق التقدم وتناسوا أنّ حلَ المشكل لا يمكن أن يكون بتقليد الآخر ويتخذ مالك بن نبي من تجربة اليابان مثالا حيّا عن البناء الذاتي الذي يعكس إرادة الأفراد لتحقيق التقدم وفق مخطط ومراحل مدروسة تنطلق من المشكل في حدّ ذاته وتعالجه بوضع الإصبع على الدّاء لا بجلب الحلول الفوقية وهو يقول في هذا الإطار " يجب علينا حين نضع قضية النهضة نصب أعيننا أن نعتبر مقتضياتها من جانبين بنظرة إلى الخارج لنحدد واجباتها نحو العالم أي لنحدد شروط انسجامها مع ضرورات السير العامّ ثمّ بنظرة إلى الدّاخل لنحدد الطاقات التي يمكن توظيفها من أجل المحافظة على الإتجاه الصّحيح في الخارج "
بذلك يكون مالك بن نبي قد أمعن في الحفر حول مشكلات التخلُف المزمنة متجاوزا الظواهر الطّافية على السطوح إلى الجذور المتغلغلة في الأعماق وباحثا عن السنن والقوانين الكفيلة بتحول الشعوب من حالة العجز إلى القدرة والفاعلية ومن مشكلات الإستعمار إلى فرض القابلية للاستعمار ومن حالة تكديس الأشياء إلى حالة البناء ومن المطالبة بالحقوق إلى القيام بالواجب أوّلا والإنتقال من عالم الأشياء والأشخاص إلى عالم الأفكار التي بها نبدأ بحلّ مشكلة التّخلّف ويجب أن نصل إلى قناعة حتمية بأنّ مفاتيح حلّ المشكلات هي في الذات لا عند الآخر
هكذا يلقى سؤال الحداثة والتحديث الإجابة بالرّفض مع جماعة المحافظين والقبول مع الحداثيين والموازاة مع الوسطيين دعاة الأصالة والمعاصرة إلاّ أن الجدير بالذكر أن كل هذه التيارات على اختلافها تجتمع حول مسألة واحدة وهي المفهوم الخاطئ للتقدم الذي يسميه مالك بن نبي البناء الجديد
وفي اعتقادي أنّ مثل هذا الجدل الحي هو أكبر دليل على وعي فعليّ بالمشكل الحضاري ولو خضع مثل هذا الجدل لتقاليد الحوار البنّاء لأفرز منظومة حداثية جديدة تجمع كلّ المفكرين الذين همهم واقع المجتمع العربي الإسلامي في دائرة فكرية واحدة تؤسس لمستقبل أفضل يضمن للعرب المسلمين وجودا حقيقيا ويخرج بهم من دائرة التّهميش حينئذ يصبح بإمكانهم دخول معترك الحضارة دخول الفاعل المنتج المبدع لا دخول الراكب على سلم قدّ من خشب لا منبت له في أراضيهم فهل يمكن أن يرقى الخطاب العربي الإسلامي إلى نقطة الإلتقاء بين مختلف التيارات أم يعدّ هذا حلما طوباويّا لا يمكن أن يتحقّق إلاّ في مدينة أفلاطون الفاضلة
الكاتبة : نزيهة جبر