كل رجال الباشا .. محمد علي و جيشه و بناء مصر الحديثة
ضع ردا ليظهر الرابط
على مدى ستة أشهر، حاصر جيش إبراهيم باشا قلعة عكار براً وبحراً، وقبل سقوط القلعة بقليل نجحت مدفعيته في فتح أربع ثغرات عميقة في الجدران الحصينة الصامدة. ومنها اقتحمت قوات مختارة من جيشه المدينة واستولت عليها. ففي مقابل فن بناء الحصون القوية والاستفادة من كل العوامل الطبيعية لحمايتها، ثمة حربي آخر تتجلى عبقريته في اقتحامها، وفتح وتوسيع الثغرات في دفاعاتها. هذا الكتاب ينتمي إلى النوع الأخير من الفن "الحربي"... فهدفه الأول ليس بناء تفسير محكم لتاريخ مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر، أو لجيش محمد علي وانتصاراته، أو حتى لبنية الجيش الداخلية وصراعاته الاجتماعية. هذا وغيره تناولته هذه الدراسة، ولكنها هدفه قبل كل شيء إلى إسقاط مجموعة متنوعة من الحصون التقليدية "المنيعة" في تقاليد الكتابة التاريخية، المصرية خصوصاً. فتحت قناع لطيف من الأسلوب السلس والنبرة الهادئة، وبغير أي انفعال زائد في معظم صفحات الكتاب، يتعرض خالد فهمي جدراناً بأكملها من صرح النمط الوطني السائد في الكتابة التاريخية المصرية ومسلماتها وضميرها وحججها، كما يثير المشكلات المنهجية ويفتح أفقاً جديداً في مناقشة مفهوم السلطة عند ميشيل فوكو، الذي أصبح يلعب دوراً متزايداً في مختلف العلوم الاجتماعية في هذا العصر، وإن كان الكاتب يهتم بالدرجة الأولى بمناقشة تفسير تيموتي ميتشل لهذا المفهوم، في دراسته "استعمار مصر"، التي كان لها سبق استخدام أفكار فوكو وديدرا في دراسة السلطة والخطاب في مجال تاريخ مصر الحديث.
وقد خطط المؤلف كتابه بحيث يتتبع في معظم فصوله حياة جندي ما، جندي مفترض، من جنود جيش محمد علي... من تجنيده إلى هربه، مروراً بتدريبه وحياته في المعسكر وسلوكه داخل المعركة، ورعايته صحياً. ومن خلال هذا الخيار الذي يبدو بريئاً جداً يقوم المؤلف في مواجهة الفخر الوطني السائد المتوارث بمحمد علي وعهده وجيشه وانتصاراته و"إصلاحاته"... الوجه الآخر للعملة: المهانة والعنف والاستقلال الذي وقع ضحية له الفلاح المصري، وهو ينتزع من أهله وقريته، التي كان يقاسي فيها بالفعل أهوال إدارة الباشا وضرائبه، ليخدم مخططات هذه الآلة الجهنمية المسماة "الجيش النظامي". وفي مواجهة الإعجاب المتجدد بالانتصارات المبهرة والتنويه الفخور بقلة عدد القتلى المصريين في المعارك.
يقدم الكتاب صورة بشعة للحياة اليومية للجندي في المعسكرات، والفلسفات السلطوية التي أتاحت تدريبه ليحقق لسادته هذه الانتصارات من واقع الوثائق التركية ذاتها... الوثائق التي حررها سادة هذا الجندي ومستعبدوه. يوافق خالد فهمي على أن الجيش النظامي الحديث الذي أنشأه الباشا لخدمة أطماعه الخاصة يشكل القوة الدافعة خلف إقامة الدولة البيروقراطية الحديثة واستحداث أدوات السلطة الانضباطية الحديثة، بمفهوم ميشيل فوكو، ويضيف أن إنشاء هذه السلطة وثيق الصلة بولادة الشعور القومي المصري. ولكن في ضوء هذه القصة التي يقدمها عن حياة الجندي. لا يملك المرء سوى استنتاج أن القومية المصرية قد ولدت، إذا حوّر قليلاً تعبير شهير لماركس، والدم ينضح من كل مسامها... ذلك أنها قد نشأت على وجه التحديد من خلال تقديم عشرات الآلاف من الأسر الفلاحية قرابين على مذبح "النهضة الوطنية"... وازدهرت برغم أنف المصريين المهافين المضطهدين، وليس أبداً تعبيراً عن وعيهم السموي و"إرادتهم في العيش معاً"... إلى آخر هذه الأقوال الوطنية الرومانتيكة الشائعة" من جانب آخر يصر خالد فهمي على تقديم إعادة قراءة لمجمل تاريخ مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر تصنعه، على خلاف المدرسة الوطنية المصرية في التاريخ، ضمن السياق العثماني العام، وتبين بالوقائع أن هذا التاريخ لا يمكن أن يفهم إلا كتاريخ ولاية عثمانية، ولا يمكن فهم سياسات محمد علي وحروبه، حتى مع السلطان، إذا تم تجاهل أنه كان من البداية للنهاية وال عثماني، بل ولا يمكن فهم إصلاحاته خارج سياق قضية إحياء قوة الدولة العثمانية، وإصلاحات السلطان سليم الثالث التي سبقته.