من المعروف أن الأسرة هي خلية اجتماعية هدفها تربية الأبناء والقيام بتنشئتهم اجتماعياً بما يتناسب مع قيم المجتمع وتقاليده وعاداته وموروثه الثقافي إضافة إلى تزويده بالمهارات والخبرات الضرورية التي تساعدهم على العيش.
إذاً يمكن القول بأن الأطفال يقضون فترةطويلة في كنف الأسرة وبخاصة في سنوات عمرهم الأولى، يتعلمون فيها مهارات ومعارف وقيم متعددة اللغة، احترام الآخرين، الصدق، الأمانة الخ.
وإذا ما قامت الأسرة بهذه العملية بشكل صحيح ووفق قواعد سليمة، فإن ذلك يؤثر إيجاباً على مهمة المدرسة، ويساعدها في أداء دور بشكل أكثر يسر وغنى وخصوبة، أما في حال وجود خلل أو نقص في هذه العملية فإن مهمة المدرسة ستكون صعبة جداً، وسيكون دورها مزدوجاً: فمن واجبها القيام بعملية التعليم من جهة، وتنشئة الأطفال اجتماعياً من جهة أخرى وربما لا تستطيع أداء هاتين المهمتين معاً، وبخاصة إذا لم تكن مهيأة لذلك.
هناك العديد من الدراسات والأبحاث التي تؤكد نتائجها أن دور الأسرة في عملية التنشئة الاجتماعية يمر بحالة من الكسوف، كما يلاحظ ازدياد شكاوى المعلمين وتذمرهم من أطفال يدخلون إلى المدرسة لا تتوافر لديهم النواة الأولى للتنشئة التي يمكن ان تساعدهم على المتعلم بشكل ناجح ومثمر، فتزداد جراء ذلك معاناة المعلمين نتيجة قصور وتراجع الاسرة في أداء مهامها، وتخليها عن هذه المهمات وتحميل أعبائها على عاتق المعلمين، رغم أنها تشكو منهم وتتهمهم بعدم القيام بمهامهم بالشكل المطلوب في أحيان كثيرة.
ربما تعود أسباب هذه الظاهرة، أي حالة الكسوف التي تمر بها الأسر في عملية التربية إلى عوامل عديدة: اقتصادية لازدياد متطلبات الأسرة المادية، واجتماعية نتيجة تغير نمط العلاقات الاجتماعية ودخول المرأة سوق العمل، وعدم قدرة الرجل على تفهم واجباته الجديدة في ظل هذه المتغيرات,,, الخ.
يمكن القول إذاً أنه نتيجة هذه التغيرات، تبدلت أنماط العلاقة داخل الأسرة، وأصبح الجو الأسري مفعماً بالتسامح والحرية، وتناست الأسرة أن إشاعة هذا النموذج من العلاقة لا يعني أبداً التخلي عن المهمة الرئيسة وهي تنشئة الأبناء وتربيتهم، ولعل أهم المقومات الأساسية لذلك هي اعتراف أحد أفرادها بالنضج، وتحديد هذا الفرد المناسب للقيام بهذا الدور لا يتم بالقرعة، بل من خلال نموذج السلوك الذي يمارسه الأب أو تؤديه الأم، ففي أحياناً كثيرة تحاول الأم أن تظهر ذاتها بسن يماثل سن بناتها حتى من ناحية التفكير، ويحاول الأب أن يكون قريناً لأبنائه ويمارس السلوك الذي يتناسب مع سنهم، وهنا تكمن الأزمة، فمن سيقوم بعملية التربية والتنشئة الاجتماعية إذاً في هذه الحالة تجبر المؤسسات الحكومية وبخاصة المدرسة على القيام بأعباء هذا الدور نتيجة تخلي الأسرة عن القيام به.
ينبغي أن تدرك الأسرة ان من أهم واجباتها هي تربية الأطفال ومساعدتهم على النمو المتكامل في ظل سلطتهم الحميمة، وإذا تخلت عن هذا الواجب ستقوم به مؤسسات أخرى وقد يتخذ طابعاً قسرياً أحيانا.
إن صورة الأب كنموذج للسلطة في الأسرة بدأت تتلاشى لعوامل مختلفة، ولم يعد النموذج المثالي نتيجة المعوقات الكثيرة التي تعترضه، لذلك ركزت الدراسات على نموذج سلطة الأب بأنماطها المتنوعة وأشكال السلوك المختلفة للأبناء، وتوصلت إحداها إلى وجود علاقة بين تدني تقدير الذات وزيادة حالات الجنوح لدى الأطفال وبين انحسار السلطة الأبوية.
ولكن من المفيد القول أن أسباب هذا الانحسار لا تعود إلى التغيرات التي طرأت على عالم الأسرة فقط وإنما ربما تعود إلى التغيرات التي حدثت لدى الأطفال أيضاً، ويعتقد البعض أن العامل الأهم الذي أحدث هذه التغييرات هو التلفاز، الذي أثر على عالم الكبار والصغار على حد سواء.
لعل من الصحيح القول إن التلفاز يقوم بوظيفة مزدوجة، فهو ينقل على شاشته أوهاماً وأساطير مزيفة أحياناً من جهة ويزيل الأوهام والألغاز التي نحيط الأطفال بها للمحافظة على طفولتهم من جهة أخرى، وسنحاول توضيح ذلك ما أمكن.
لقد كانت مصادر المعرفة بالنسبة للأطفال سابقا تقتصر على الكتب، وتحتاج المعرفة الناتجة عن هذه الوسيلة إلى جهد كبير وفترة زمنية طويلة لاكتسابها لصعوبة ما تحتويه الكتب من رموز، أما بالنسبة للمصدر الآخر فقد كان تعاليم الآباء والمعلمين وإرشاداتهم التي تتخذ شكلاً نظامياً متدرجاً، إضافة إلى كونها قسرية لا يسمح باختيار بديل عنها لعدم توافره، ولم يقدم هذان المصدران السابقان أجوبة عن تساؤلات الأطفال التي تراودهم، فبقيت جوانب كثيرة غامضة لا يدرك الأطفال كنهها، فتركت للتلفاز الذي أصبح فيما بعد مصدراً رئيسيا للمعلومات مهمة القضاء على تدرج اكتشاف الأشياء، وكشف أمور كانت تعد سابقا سراً من أسرار الأسرة تديرها كما تشاء، وتتهرب من تقديم اجابات واضحة عن التساؤلات بذرائع مختلفة مما جعل الأطفال تتملكهم الرغبة بالوصول إلى البلوغ بأسرع ما يمكن للحصول على المعلومات التي تقدم لهم وإجابات مرضية لتساؤلاتهم.
إذاً، تجاوز التلفاز الحواجز المحرمة، وبدأ يكشف الأسرار بطريقة مباشرة وواضحة، وقام بعرض نماذج سلبية وإيجابية، وزود الأطفال بمعلومات كثيرةوأحيانا متناقضة مما غرس في نفوسهم الشك الذي يعد خطوة مهمة للاختيار، بمعنى آخر بدأ التلفاز يقوم بالدور الذي كانت تؤديه الأسرة فيما يتعلق بالتنشئة الاجتماعية للأطفال، ولكن بشكل فوضوي في أحيان كثيرة، ونتج عن هذا الازدواج في عملية التنشئة غياب تكون الوعي الاجتماعي والأخلاقي بصورة سليمة لدى الأطفال، مما شكل عقبة أمام المدرسة ودورها التعليمي والتربوي.
ويمكن لمعالجة هذه المسألة التركيز على نقطتين: الأولى تتعلق بالمعلم والثانية بالآباء.
فيما يتعلق بالنقطة الأولى، ينبغي على المعلمين أن يدركوا أن مهمتهم لا يمكن القيام بها كبديل عن الأسرة أو أن يعدوا أنفسهم منافسين لها بل أن يكون هدفهم إصلاح الخلل الناتج عن إهمال الأسرة في أداء واجباتها وإكمال دورها، بالإضافة إلى ضرورة إدراكهم ان طبيعة مهمتهم قد تغيرت كثيراً فلم يعد بإمكانهم التلاعب بفضول الأطفال نحو اكتشاف المعارف والتعرف على الأشياء المحيطة، ولو كانت تعد سراً أو ينظر إليها كذلك، عن طريق تقديم معارف قد لا يقتنع بها الأطفال، بل يفضل أن ينظموا الكم الهائل من المعارف التي تلقاها الأطفال دون جهد، وتدريبهم على الاستفادة منها، وتقديم بدائل عنها، بعيداً عن ممارسة الإكراه والإجبار والنظر إلى ما يقدمونه على أنه مسلمات لا يمكن المساس بها، وتدريبهم على النقد والتعلم الذاتي، وتعرف طبيعة العراقيل والتغيرات الجديدة التي تواجههم عند قيامهم بمهمة تكوين وعي الأطفال.
أما فيما يتعلق بالنقطة الثانية، فيفضل أن لا ينظر الأهل إلى التنشئة الاجتماعية على أنها تخليد لأفكار مسبقة، أو أنها تكوين للأطفال وفق نموذجهم أو النموذج الذين حلموا بتحقيقه، أو محاولة تعويض خيبات أملهم من خلال أطفالهم.