تعد الطفولة المرحلة الأكثر حساسية في حياة الإنسان إذ من خلالها يمر الإنسان بسنوات تشكيل وبناء للشخصية.. وبحسب ما تشكله تلك المرحلة من ثقافة مكتسبة فإن مردودها ينعكس على الفرد نفسه ومن ثم الأسرة وبالتالي المجتمع ككل ..و كما يقال "إن خيراً فخير.. وإن شراً فمثله".
وما تعرضه الفضائيات من مضامين برامجية يتعرض لها الأطفال ـ بغض النظر عن هدفها ـ مثل الرسوم المتحركة والبرامج الدرامية والرياضية والموسيقية والغنائية وحتى الإعلانات، كذلك ما تخلفه ظروف المشاهدة من سلوك وعادات اجتماعية لدى الأطفال.. يساهم بدرجة رئيسية في التنشئة الاجتماعية وبناء الشخصية.
إن اهتمامنا بتأثير التلفزيون على الأطفال يأتي من واقع أن مشاهدة التلفزيون أصبحت تستهلك من وقت الأطفال بالذات أكثر من أي نشاط آخر، باستثناء النوم، ولا عجب أن يطلق عليه بعضهم اسم جليس الأطفال، ولا نعدو الحقيقة إذا قلنا أن أطفالاً عديدين في مجتمعاتنا اليوم يجلسون مع التلفزيون أكثر مما يجلسون مع والديهم.
ندرك بأن التلفزيون سلاح ذو حدين، فهو قد يؤدي إلى تزييف الوعي، ويؤدي إلى الإحباطات، ويعطل ملكة الخيال ويشجع الروح الاستهلاكية ـ من خلال الإعلانات ـ ويعزز الصور النمطية لديه، ويؤدي إلى النضج المبكر للأطفال، ويعزز روح العنف لديهم.
ولكنه في المقابل إذا أحسن استخدامه : يمكن أن يكون عاملاً مساعداً في التنشئة الاجتماعية، فهو يستطيع أن يغرس القيم الاجتماعية الإيجابية، وأن يعزز شعور الانتماء الوطني والقومي، ويمكن أن يزود الأطفال بالمعلومات الجديدة التي من الصعب معاينتها مباشرة، وكذلك يمكنه أن يزيد في ثروته اللغوية، ويعلمه بعض أنماط السلوك الجيد. أي أن بإمكانه المساهمة في تكوين شخصيته وبناء ثقافته.
من هنا.. كيف يؤثر التلفزيون في التنشئة الاجتماعية.. وإن كان شَّراً لا بد منه فكيف يمكن استغلاله الاستغلال الأمثل ليعود بالنفع والفائدة على أطفالنا ؟؟
غزو فگري
يحذر علي حسن - أستاذ بمدرسة ابتدائية - من الجانب المظلم الذي تحتوي عليه أفلام الكارتون "الموجهة للأطفال" خصوصا لما تشتمل عليه من مشاهد عنف تؤثر سلباً على الطفل، مؤكداً أن ذلك العنف أصبح بمثابة "الرسالة" في تلك البرامج، مما يسهم في توجيه خيال الطفل إلى عالم العنف والجريمة، ويأخذه بعيدا عن القيم المهمة التي ينبغي أن تزرع فيه خلال فترة الطفولة.
عبير سالم تقول: كثير من الأمهات يلجأن للتلفزيون كوسيلة يتخلصن فيها من متابعة الأطفال وإزعاجهم داخل البيت ، متجاهلات بذلك الضرر الذي قد تسببه كثرة لمشاهدة التلفزيون وحرمان الأطفال من اللعب والنشاط الحركي والذهني
ميسون السعيدي تشكو تراجع وضعف المستوى التعليمي لطفلتها في المرحلة الابتدائية حيث تقول: أصبحت طفلتي (روان) تقضي ساعات طوالاً أمام شاشة التلفاز بمشاهدة أفلام الكرتون لدرجة أنها كانت تهمل واجباتها المدرسية حتى أنها في الفترة الأخيرة أصبحت تتمارض حتى لا تذهب للمدرسة لتقضي وقتها أمام التلفاز وتضيف: تعاملت معها بعنف لدرجة الضرب ولكن بدون فائدة!!
مشاعر مرعبة
ويقول وليد الطويلي: أصيب طفلي (شهاب) وعمره ثمان سنوات بحالات خوف وتقطع في النوم وبكاء بشكل يومي تقريباً ، لم نعرف السبب مما اضطررنا لنقله للمستشفى لمعرفة حالته، حيث اخبرنا دكتور في الطب النفسي وطب الأطفال بأن السبب يكون من المشاهد المرعبة سواء في التلفزيون أو أفلام الفيديو أو ألعاب الفيديو.. وأن نسبة كبيرة من الأطفال مرتادي العيادات النفسية يعانون من الخوف الشديد ونوبات الفزع والأحلام المخيفة والقلق الشديد واضطرا بات في النوم تنعكس على سلوكهم، وأن بعض البرامج وإن كانت مخصصة للأطفال قد تحمل مشاهد مرعبة وغير مناسبة لكل الأعمار، والطفل عندما يعيش في الخرافة المقروءة أو المرئية تؤثر على نفسيته بالسلب، وعلى محتوى وطريقة التفكير بشكل ينعكس على سلوكه وتصرفاته ، وقال إن ذلك لا يعني منع الطفل من مشاهدة التلفزيون، فبعض أفلام الخيال العلمي لها بعض الإيجابيات، و فيها نوع من شحذ وتنشيط فكر الطفل، مثلا برامج الكواكب والنجوم التي تستند على حقائق علمية، بشرط ألا يكون محتواها مؤثراً على القيم الدينية والمعتقدات.
أفكار خاطئة
وقالت فدوى حسان (معلمة بروضة للأطفال بإحدى المدارس الأهلية بالعاصمة) إن تأثير كثرة الجلوس امام التلفزيون- وإن كانت القنوات مخصصة للأطفال - مضر لهم من الناحية السلوكية والفكرية، ففي بعض الأفلام الكرتونية تقديس لبعض الأشياء مثلاً : (إله الخير، والشر، والسحر وغيرها) مما تؤصل بعض الأفكار الخاطئة لديهم، بالإضافة لتأثيرها على ملكة الخيال، وحصرها في ما يشاهدونه.
وأشارت إلى أن دراسة سابقة أثبتت أن الأطفال الذين لم يعتادوا على مشاهدة الأفلام الكرتونية الخيالية لديهم قوة واسعة في ملكة الخيال أكثر من أقرانهم الذين اعتادوا على مشاهدتها..
مشكلات التركيز
بالمقابل حذرت دراسة طبية في الولايات المتحدة الأمريكية، شملت أكثر من 2500 طفل من عمر عام إلى ثلاثة أعوام، من أن قضاء الأطفال الصغار ساعتين على الأقل يوميا أمام التلفزيون قد يزيد احتمالات إصابتهم بمشكلات في التركيز والانتباه، وشخصت حالات ما بين 3٪ و5٪ من الأطفال في الولايات المتحدة يعانون من خلل في الانتباه يظهر في ضعف القدرة على التركيز وصعوبة التنظيم والسلوك المتهور، ولا تظهر هذه الأعراض إلاَّ بعد تقدم الأطفال في السن أو عند سن السابعة تقريبا.
كما توصلت الدراسة إلى أول إثبات علمي يربط التعرض للتلفزيون بمشكلات عجز الانتباه، حيث بينت أن الطفل في الثالثة من عمره والذي يشاهد التلفزيون لساعتين يوميا يتعرض لخطر أعلى للإصابة باضطرابات التركيز والانتباه عند وصوله إلى سن السابعة بحوالي 20 ٪، مقارنة بالطفل الذي لا يشاهد التلفزيون، كما أن 12 ساعة أو أكثر من المشاهدة يعد خطراً بسبب تغير الصور التلفزيونية بسرعة تتنافى مع الواقع.
وبينت الدراسة أنه من المستحيل تحديد مستوى "الأمن" لمشاهدة التلفزيون بالنسبة للأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين عام وثلاثة أعوام، وأوصت الدراسة الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال بتوعية الوالدين بضرورة الحد من مشاهدة الصغار للتلفزيون.
كما اجرت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونيسكو) دراسة علمية حول معدل مشاهدة الأطفال العرب للتلفزيون: أن الطفل وقبل أن يبلغ ال18 من عمره يقضي أمام شاشة التلفاز 22 ألف ساعة مقابل 14 ألف ساعة يقضيها في المدرسة خلال المرحلة نفسها مشيرة إلى انه مع بدء القرن ال21 زاد المعدل العالمي لمشاهدة الطفل للتلفزيون من ثلاث ساعات و20 دقيقة يوميا إلى خمس ساعات و50 دقيقة نتيجة الانتشار الواسع للفضائيات التلفزيونية.
وتؤكد الدراسة أن مشاهدة الأطفال لبرامج التلفزيون لفترات غير محددة ودون رقابة وانتقائية "تفرز سلوكيات أبرزها السلبية والأنانية وعدم التعاون مع الآخرين وعدم الإحساس بمشاعرهم بل والسخرية منهم إلى جانب التقليد الأعمى للآخرين في الملبس والمأكل والمشرب والسلوك الاجتماعي وتطوير نمط حياة استهلاكي".
كما تؤدي مشاهدة الأطفال برامج التلفزيون بإفراط ودون ضوابط إلى تأثيرات سلبية عليهم تتمثل بالعجز عن ضبط النفس واللجوء إلى العنف بدل التفاوض والافتقار إلى الأمان والشعور الدائم بالخوف والقلق وترسيخ صور نمطية في عقل الطفل حول المرأة والرجل والمسنين والطفل وأصحاب المهن والمسؤولين ورجال الأمن وغيرهم إضافة إلى قتل روح الإنتاج والإبداع لدى الأطفال. لكن الدراسة لا تغفل أثار التلفزيون الإيجابية على الأطفال باعتباره "ثنائي التأثير" فهو من جهة أخرى يحفز الطفل لإدراك مفاهيمه وتصوراته وطموحاته ويعزز لديه قيم الاستقلال في الرأي والرغبة في الحوار والميل إلى التفكير النقدي وانتهاز فرص التعلم الذاتي كما يوسع مدارك الطفل وينمي خياله ويرفع مستواه الثقافي والعلمي.
كما أن مشاهدة التلفزيون باعتدال "تزيد قدرة الأطفال على الاستيعاب والتذكر لاعتمادها على حاستي السمع والبصر ولجاذبيتها في الحركة والصورة" طبقا للدراسة. وتضمنت الدراسة تحليلا لفرضية تأثيرات التلفاز على نمو دماغ الطفل وأولها تخفيف حفز نصف الدماغ الأيسر المسؤول عن نظام اللغة والقراءة والتفكير التحليلي وثانيها تقليل الأهلية الذهنية وقوة الانتباه عبر خفض مستوى التواصل بين نصفي الدماغ وثالثها إعاقة نمو النظام الضابط للانتباه والتنظيم والدوافع السلوكية.
وحول تأثير التلفزيون في التنشئة الاجتماعية يقول الدكتور طارق الشرقي - طبيب صحة نفسية - بأنه لا يمكن أن يستبدل التلفزيون باللقاءات والتفاعلات مع الناس الحقيقيين في ظرف واقعي، ولا يمكن تنمية ثقة الطفل بنفسه في غياب الاتصال مع الآخرين. ولا يمكن للطفل ممارسة كسب العلاقة مع الآخرين وحل مشاكله الشخصية وما نريد التأكيد عليه أن التلفزيون وسيلة لابد أن ننظر إليها باعتبارها عاملاً ضمن عوامل أخرى تشكل حياة الأفراد والمجتمعات سلباً وإيجاباً. فأسلوب توظيف التلفزيون والسيطرة عليه يحددان دوره وفاعليته، إلى جانب الأسرة والمدرسة ومؤسسات التنشئة الدينية والاجتماعية والسياسية.
وتماماً مثلما يمكن للأسرة الفاضلة التي تعنى بتربية ابنها عناية خاصة تتوقع أن يكون الطفل فاضلا كنتاج لهذه البيئة الصالحة. كذلك يمكن القول عن التلفزيون.. فإن ما يقدمه من برامج ـ وخاصة تلك الموجهة للطفل والتي يتوقع أن يشاهدها ـ يمكن أن تترك أثرها على الأطفال بناء على محتواها ، وهكذا ننظر إلى التلفزيون على أنه عامل ضمن عوامل أخرى عديدة تؤثر على الأفراد والجماعات والمجتمعات، وعلى أنه وسيلة لها آثارها النافعة والضارة.
لذلك يجب مراعاة أن يتم وضع فلسفة واضحة للتلفزيون في ما يتعلق ببرامج الأطفال ومراحله المختلفة، والتي تأخذ في الاعتبار فلسفة المجتمع والحرص على تنشئة الأطفال تنشئة سليمة نفسياً وفكرياً، وإعداده ليكون مهيأ للاندماج في المؤسسات المجتمعية المختلفة ومن بينها المدرسة.
وأضاف قائلاً: يجب أن يتم السيطرة على ساعات المشاهدة وبحيث لا تصبح المشاهدة إدماناً يؤثر على أنشطة حيوية أخرى يحتاجها الأطفال مثل اللعب أو الجلوس مع الأشقاء والوالدين، والمسامرة ومثل رواية الحكايات التي يمكن أن تثير خيال الأطفال وتنميه وكما قال إينشتاين : ( إذا أردت أن يكون أطفالك ألمعيين احك لهم الحكايات الخرافية، وإذا أردت أن يكونوا أكثر ألمعية احك لهم أيضاً حكايات أكثر)
وركز بقوله: كما أن إنتاج برامج متخصصة للأطفال يراعى فيها التنويع والتشويق وذلك باستخدام مضامين مختلفة تخدم تنمية شخصية الأطفال عقلياً، وتربوياً ولغوياً، ونفسياً، وباستخدام أساليب فنية تشد انتباه. على أن يتم إعداد برامج الأطفال المشوقة هذه خبراء من مجالات مختلفة كعلم النفس والتربية والاتصال والاجتماع، مراعين المستويات العمرية لهم وحاجاتهم النفسية والعقلية، وتأخذ هذه البرامج في حسبانها تطور تكنولوجيا الاتصال، والاستفادة من إمكانياتها في إعداد برامج جذابة للأطفال..