مشروعية تجديد الفكر الديني هواجس ومسوغات .
الشيخ حيدر حب الله
لا تكاد تحصى ألوان الخطاب التي مرّت بها الأمة الإسلامية منذ قرنين من الزمان، فمن خطاب النهضة مع الأفغاني (1897م) وعبده (1905م)، إلى الخطاب السلفي الاجتهادي مع محمد رشيد رضا (1935م)، إلى السلفية الجهادية القطبية، إلى الخطاب الثوري الإيراني، إلى الخطاب النقدي المعرفي الجديد.. أشكال من التجارب والإرهاصات والمخاضات التي تحكي عن ولادة كبرى تحضّرها قوانين التاريخ والاجتماع لعالمنا المسلم.
ومن بين ألوان الخطاب، خطاب التجديد الذي ظهر ـ فيما يبدو ـ منذ بداية القرن الماضي أو خمسينياته على رأيين في ذلك، وحال هذا الخطاب كحال سائر المفردات التي ظهرت في القرنين الأخيرين هو الالتباس والغموض، ففريق أخذ بالمفهوم مفسّراً له بتفسيرات عدّة، فيما رفضه فريق آخر، حذراً منه متوجساً تسكنه إزاءه الهواجس والمخاوف، فربط بالنهضة والتقدّم هنا فيما ربط بالبدعة والابتداع والاغتراب هناك، وبينما قبلته أغلب المعاهد والجامعات العلمية الجديدة بدعم من الدول العلمانية والقومية، ظلّت المؤسّسة الدينية ـ في الغالب ـ حذرةً منه أو رافضة له بشدّة، حتى ظهرت فكرة أنّ الإسلام إلهي لا يجدّد ولا يتجدد؛ وجاءت مقولة جاهليّة القرن العشرين مع سيد قطب (1966م) في (معالم في الطريق) و (الإسلام ومشكلات الحضارة) لترفض تطوير الدراسات الإسلامية واجتراح الفقه الإسلامي لقوانين تواكب العصر، وتستبدل ذلك بأوالية أخرى هي أسلمة المجتمع الذي عاد إلى الجاهلية؛ من هنا من الضروري ـ بدايةً ـ تحليل المفهوم باختصار شديد، أو لا أقلّ ما نقصده نحن من هذا المفهوم حتى لا نتوه في زواقب المصطلحات وأزقتها؛ تمهيداً للحديث عن المشروعية، وإلا فهذه الوريقات ليست معقودة لهذا الموضوع.
وقبل ذلك، نؤكّد أنّنا لن نتطرّق لأيّ دراسة تاريخية توصيفية أو نقدية أو.. لمدارس التجديد وحركاته، وإن كنّا نعتقد بأنّ النقد لها صار ضرورةً أيضاً؛ لإخراجها من النرجسية المَرَضية التي تعيشها على مستوى بعض مدارسها وتوجهاتها، لكنّ هذه الورقة لن تتناول إلا الدائرة التي حدّدت لها، إن شاء الله.
ما هو التجديد في الفكر الإسلامي؟ هل التجديد في المنهج أم في المضمون؟
التجديد ـ فيما نفهمه ـ محاولة جادّة لإضفاء عناصر لم تكن موجودة من قبل على كيان كان وما يزال له وجود، وبهذه الطريقة يكون هذا الكيان قد جدّد، سواء حصل التجديد في حذف بعض عناصر الكيان السابق أم في إضافة عناصر أخرى جديدة، أم في إعادة ترتيب العناصر نفسها، وسواء كان ذلك في الشكل أم المضمون أم في المنهج الذي يحكم مجمل العناصر أو الوصول إليها.. لكن لا يحصل التجديد بإحداث كيان جديد محلّ الكيان القائم القديم، وإذا حصل فهذا ليس تجديداً في ذلك الكيان وإنما استبدال واستعاضة، فتجديد الفقه الإسلامي ـ مثلاً ـ شيء والإتيان بفقه جديد، لا متجدّد، شيء آخر.
هذا هو تعريفنا للتجديد، وهو تعريف بسيط يستبطن أو يقوم على:
أ ـ افتراض وجود نقص أو خلل ما في القديم، لهذا انطلقنا لإجراء تعديل عليه أو استبدال؛ فلا معنى للتجديد عندما لا يكون هناك نقص في الوضع القائم، ولن يجدّد من لا يستشعر هذا النقص؛ من هنا فالدخول في خطاب التجديد يعني مسبقاً سقوط هيمنة التراث وهيبته، والشعور بالندّية معه، وهذه أولى الأثافي التي يقوم عليها التجديد.
ب ـ عدم قدسية (التجديد) بوصفه مضموناً، لأن مجرّد كون الشيء جديداً لا يعني صوابه أو تعاليه عن النقد، فالحديث عن التجديد يستدعي التجديد دائماً، على حدّ تعبير بعض الباحثين( )، إضافة إلى لا تناهي التجديد؛ فتجديدنا اليوم ليس بالضرورة تجديداً لأبناء المستقبل؛ ولهذا كلّه لا يمكن اعتبار التجديد مدرسة واحدة؛ فهناك مدارس تجديدية لا يصحّ محاكمتها محاكمة واحدة، ولهذا نجد تجديديين مختلفين كاليسار الإسلامي وإسلامية المعرفة والإسلامية العالمية الثانية والإسلاميون التقدّميون وغيرهم.
على هذا الأساس، تولد ثانية الأثافي، وهي التحرّر من الاستلاب الفكري للمرجعيات الجديدة، سواء كانت غربية أم شرقية أم محليّة، فليس في التجديد مرجعية مقدّسة تتعالى عن النقد والمساءلة، إلا ما سوف تجري الإشارة إليه قريباً بعون الله.
ج ـ إنّ التجديد مشروع يركّز على فهمنا الديني وقراءتنا له وليس على الدين نفسه، فالدّين فوق أن يتجدّد إلا في مساحات محدودة قبل فيها الدّين نفسه ـ إيماناً بالدينامية اللازمة ـ بحدوث تحوّلات فيه نفسه، وما دام التجديد في القراءة فلا ضير ولا حرج، حتى نخاف من هذا المصطلح كما فعل الدكتور محمد البهي وآخرون، ليستبدله بمصطلح الإصلاح الديني مقدّماً تفسيراً خاصّاً لهذا المصطلح أيضاً لا يتصل بموضوعنا هنا؛ لأنّه لا يجعل الفكر الديني مادّة الإصلاح، وإنّما يجعله المصلِح لا المصلَح( ).
هذه هي ثالثة الأثافي التي يقوم عليها التجديد، وهي المجال التداولي له، تجديد تحت مظلّة النص وليس فوقه، نعم تجديدٌ قبله وبعده، لكن ليس فوقه، قبله لإثباته وتحديد منهاجيات التعامل معه، كما في أصول الفقه الإسلامي ومجموعة من موضوعات علم الكلام وموضوعات الحديث الشريف، وبعده في آليات تنشيطه في الزمان والمكان وكيفيات توظيفه والتعامل بين عناصره المتواشجة.
د ـ إن التجديد لا يتخذ شكلاً واحداً، وإنّما تتعدّد أشكاله:
1 ـ تغيير في المنهج المعرفي الذي يحكم فهم الدين.
2 ـ حذف جزئي لبعض عناصر النظام القديم؛ فهدم بعض المفاهيم المنسوبة إلى الدين قد يكون تجديداً حتى لو لم أقدّم بدائل، وأحياناً لا أكون مجدّداً إذا لم أقدّم البديل واكتفيت بالنقد.
3 ـ إضافة عناصر جديدة، بصرف النظر عن حصول تعويض في العناصر السابقة.
4 ـ إعادة هيكلة العناصر السابقة نفسها.
إلى أن نصل إلى التغييرات الشكلانية للخطاب الديني.
أمّا الاستبدال الراديكالي التام للمنظومة القديمة بمنظومة جديدة، وهذا هو التجديد بالحدّ الأعلى، فهو تجديد في الواقع وليس تجديداً في المستبدَل، لهذا كان من حقّ دعاة التجديد في الدين أن يطالبوا بتجديد لا يكون على حساب الدين وإنّما له، بتجديد لا يحدث قطيعة مع الدين والتراث وإنما تواصل واتصال، بتجديد لا يعني ـ كما يقول العلامة فضل الله وآخرون ـ إسقاط القديم كلّه واستبداله بفكر جديد لا علاقة له به ليكون ذلك خروجاً من الإسلام ومصادر الشريعة إلى غيره( )، بتجديد لا يسوق إلى الاستلاب وإنّما إلى الوجود والتحقّق، بتجديد لا يعيش عقدة الأب ليقتله بل يهتم بالنص كما يقول العلامة الأمين( )، بتجديد لا يستخدم الدين لنقض الدين والإطاحة به، كما هي حالة تيّار لا يستهان به في الساحة العربية والإسلامية ظهر بشكل بارز وواضح بعد سقوط المعسكر الاشتراكي، وربما مثّلت بعض شخصياته بقايا اليسار القديم، وأخيراً بتجديد لا يخلط ـ حسب تعبير محمد عمارة ـ بين التنوير والتزوير، وإن كنّا نختلف مع عمارة في بعض مصاديق التنوير والتزوير( ).
من هنا، فاستغلال مفهوم التجديد من جانب تيارات نلتقي أو لا نلتقي معها، بل شعورنا بخيبة أمل من بعض الممارسات الفكرية والعملية المحسوبة على حركة تجديد الفكر الإسلامي، لا يفرض علينا التخلّي عن المصطلح دوماً ما دام مصطلحاً منطقياً غير ملتبس في نفسه، بل قد أشارك بعض الباحثين في أنّنا لسنا بحاجة ماسّة إلى خوض مجال التعريف في هذا الموضوع؛ لإمكانية اكتشافه دون القبض عليه( )، فعلى نقّاد بعض مظاهر التجديد أن يميّزوا بين مدارسه واتجاهاته، وإذا كان المصطلح بات يشكل أزمة فليس لأنّه يستبطنها على الدوام، لأنّ مشكلتنا على غير صعيد ليست في المادة التي نختلف حولها وإنما في طريقة الاختلاف، ونحن لا نجد مصطلح التجديد ملتبساً في نفسه، على خلاف مصطلح التحديث الذي ترافقه مقولة الحداثة ذات المنشأ والتاريخ الغربيّين.
من هذا كلّه، نتحفّظ على تعريف احميدة النيفر للتجديد، بوصفه رفض التقليد التحديثي والتراثي، فرفض التقليد ليس جزءاً من بنية التجديد وإنّما هو الأساس الذي يقوم عليه التجديد نفسه، كما ألمحنا، كما نتحفظ على حصر بعض الباحثين التجديد بالمجال المنهجي( )، فإنّ المنهج وإن كان أهم نواحي التجديد الذي تحتاجه الأمّة اليوم، لكنّ هذا لا يلغي صفة التجديد عن المحاولات التي تطال جزئيات أو محاور أو ملفات خاصّة في الفكر الديني، كذلك نتحفظ على التفسير الذي قدّمه باحثون آخرون للتجديد من أنّه البحث عما هو جديد لكي نلبّس به الفكر الإسلامي عبر محاولات التوفيق التي تحافظ على إبقاء الجهاز المعرفي المعتمد عليه من قبل( )؛ وسبب تحفظنا أنّ تجديد شيء ما لا يعني التلبيس دوماً، حتى لو فعل ذلك بعض التجديديين، فالتجديد كما سوف نرى سنّة كونية، ولكن الذي يحصل تحوّلات جادّة في المجدَّد يتقدّمها نقد وإصلاح.
التجديد بين المشروعية والضرورة، هل التجديد ضرورة أم خيار؟
رغم الاعتقاد بأنّ مشروع التجديد والإصلاح لن يكتب له ـ في مناخه ـ النجاح إلا بتحقيق مشروعيّته الداخلية والخارجية الموضوعية، لكنّني أعتقد أنّه من تضييع الوقت أن نتحدث ـ كما كان سؤال النهضة في نهايات وبدايات القرنين التاسع عشر والعشرين ـ عن مشروعية التجديد فقط؛ لأن المشروعية هنا تساوي الضرورة، فنحن أمام ضرورة التجديد وليس مشروعيته فحسب، وإذا كان المستنيرون في الأمة يواجهون سؤال مشروعية التجديد والاستنارة، فهذا لا يعني تموضعنا اليوم في سؤال المشروعية؛ لأنّ هناك فرقاً بين التموضع في ذاته بحسب معطيات الواقع، وبين التموضع بحسب وضعية الطرف الآخر المختلف معي، فأنا اليوم أواجه سؤال المشروعية أمام الذين لا يؤمنون في الأمة بشرعية التنوير الإسلامي، لكنّ واقع الأمة ـ بصرف النظر عن السجال الذي يقع بيني وبين الطرف الآخر ـ يطالبني بسؤال الضرورة الملحّة، وبقدر ما أطالب بالجواب عن سؤال المشروعية الذي طرحه عليّ نقاد التنوير، بقدر ما يلحّ الواقع عليّ بسؤال الضرورة، والمطلوب من النهضويين أن يبلوروا هم قضايا الواقع ويلقوا الأفكار والمقولات التي تشغل الفريق المتحفظ في الأمة، بدل أن يظلّوا مشغولين بما يثيره أمامهم هذا الفريق على الدوام، فهو ينتج الإشكاليات وهم يبحثون عن حلّ لها، ومن هذه الإشكاليات ـ في تقديري ـ إشكالية مشروعية التجديد.
لكن، لأن التنوير أمامنا وليس خلفنا عكس الأوروبيين، لابد من العمل عليه، والاشتغال به، ليعيش مثقفنا واقع أمّته، بدل أن يتعالى عنه ويرى ما هو أمام أمته خلفَه، فيهجر الأمّة وتهجره، وهي مشكلة الكثير من مثقفينا المخمليين الذين يتطهرون على الدوام من واقع أمّتهم، ويخاطبون مجتمعات ما قبل الحداثة بلغة ما بعد الحداثة!! فتحديد أين نحن.. قضية ضرورية، ولا يهمّني فقط أين أوروبا اليوم، كما يقول هاشم صالح( ).
والذي يدفع إلى تأكيد مشروعية التجديد وضرورته معاً توليفة متشابكة متواشجة من المسوّغات والأوضاع، يجب رصدها للوصول إلى النتيجة هنا، ويمكن التركيز على الدوالّ التالية:
1 ـ التجديد وظاهرة الانكفاء الحضاري؛ معركة الرأي بين الإحيائية والنقدية
الدافع الأوّل للتجديد ومنبع ضرورته هو إعادة التموضع الحضاري للأمة الإسلامية، هذا السبب هو أكبر الأسباب الملزمة بالتجديد في واقع الأمة، ونعني به أنّ الأمّة الإسلامية سلّمت دفة الحضارة إلى غيرها، وأخذت أمم أخرى ـ الأوروبيون ـ بأسباب الحضارة والتقدّم، وأدّى ذلك إلى تغيّر وضعية المسلمين في العالم، فتراجع موقعهم الحضاري والعلمي تراجعاً ملحوظاً، حتى غدت أغلب دول العالم الإسلامي اليوم ـ ضمن التصنيف الجديد ـ في العالم الثالث، ومنيت الأمّة بجرح نرجسي كبير، لتغيب في موت دماغي نجد معه قلوباً في الأمّة تنبض بالحماس والعاطفة والصدق، فيما كثير من العقول ميتة موتاً سريرياً هذه المرّة.
خسارة العالم الإسلامي موقع الريادة الحضارية وتقدّم الأوروبيين صار يستدعي تجديداً في الفكر الديني الإسلامي وغير الديني أيضاً؛ إذ من المنطقي توجيه السؤال الذي طالما وجّه إلى رجال النهضة المسلمين حول سبب تراجع الأمة المسلمة وتقدّم أمم أخرى؛ فقد كانت أوروبا تعيش في عصور الظلام عندما أمسكت براية التقدّم فيما كان المسلمون يعيشون تراكماً هائلاً في التجربة والعلم والتقدّم لكنّهم تركوا الراية لغيرهم!!
إنّ إعادة دراسة هذا الأمر يعني ـ بكلمة بسيطة ـ نقداً للفكر والواقع اللذين أدّيا إلى تدهور حال المسلمين حضارياً، وخسارتهم التفوّق الحضاري والعلمي، لا ينبغي لأحد يريد أن يحكّم المنطق في عمله أن يحول دون توجيه سيول من النقد للتجربة الإسلامية التاريخية وللمنظومات التي قدّمتها وأدّت بها إلى ما وصلت إليه، دون أن نبخسها حقّها في المنجزات الكبرى التي قدّمتها للإنسانية جمعاء.
عند هذه النقطة، يفترق التجديديون الإصلاحيّون عن رجال الإحياء الإسلامي، فرادة الإحياء يميلون في العادة إلى تحميل مسؤولية ما حصل لسببين مترابطين: أحدهما غياب مفاهيم دينية أعاق استمرار التقدّم الإسلامي، ومن هنا كان حديثهم عن الفرائض الغائبة، عن الجهاد وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر و.. وثانيهما تقصير المسلمين وحصول خطأ في التطبيق وليس في النظرية، لتظهر ـ على أساس ذلك ـ مقولة تجديد في المسلمين لا في الإسلام، كما أطلقها أمثال عمر فروخ( )، وبذلك يتمّ النأي بالنظرية عن أن ينالها أي تجديد نظر وإعادة قراءة، هذا كلّه إلى جانب منطق المؤامرة الحاضر على الدوام في أدبياتنا الأخيرة، والمشكّل لوعي دسائسي للتاريخ يحمّل الآخر مسؤولية كل ما حصل أو كثير مما حصل أو يحصل لنا.
والذي نجده أنّ الحق مع الفريقين معاً، فهناك جزء من أسباب النكسة الإسلامية يرجع إلى ما رآه الإحيائيون، لكن من الصعب تفسير كلّ ظواهر التراجع الإسلامي بمنطقٍ من هذا النوع، لاسيما عندما تكون العلاقة بين التطبيق والنظرية بمثابة العلاقة بين الواقع وتبريره من جهة وبين النظرية وتطبيقها من جهة أخرى؛ فعندما يولد علم الكلام الإسلامي من رحم الانقسامات السياسية في الأمّة منذ قضية الخلافة، ثم يعيد هذا العلم بنفسه تكوين الوعي الإسلامي في المرحلة اللاحقة، فإنّ المسؤولية هنا تقع على التشرذم الإسلامي ـ وهذه مشكلة تطبيقية ـ لكنّها تستمر لتصل إلى النظريات التي صارت منظومة دينية نتجت عن التشظّي الذي حصل في القرن الأوّل، إنّ عدم إمكان الفصل بين واقع التجربة الإسلامية بحسناتها وسيئاتها في التطبيق وبين النظريات التي ولدت من هذا الواقع لتعيد تشكيل الواقع الإسلامي في المرحلة اللاحقة، معناه أنّ النظرية والتطبيق ساهما معاً في تراجع الحال الإسلامي، ولا يمكن تحميل المسؤولية للتطبيق فقط.
ونتيجة ذلك أنّ إعادة إحياء مفاهيم دينية مغيّبة أو إيجاد إصلاح في التطبيق لن يحلّ بمفرده المشكلة، وهذا بالضبط ما التبس على بعض الإحيائيين، فقد أراد أن يعيد ـ مثلاً ـ مفهوم الجهاد لأنّه رآه قد غيّب، وأنّ المسلمين قصّروا في التعامل مع هذه الفريضة العظيمة، لكنّه ـ وهو محقّ ـ لم ينتبه إلى أنّ ما يريد إعادة إحيائه هو صورة ذهنية عن الجهاد نشأت في ظلّ واقع كان فاسداً أيضاً، وأنّ هذه الصورة بنفسها تحتاج إلى إصلاح، فليس المهم هو الإحياء فحسب، بل المهم معه إصلاح هذا الذي نحييه، لأنّ التدهور التطبيقي الذي حصل ترك انعكاسات سلبية على تصوّرات المسلمين للمقولات الدينية التي أرادوا تطبيقها أيضاً.
بكلمة أخيرة: التراجع الحضاري للأمة المسلمة يبرّر للعلماء والمفكرين المسلمين استخدام منهج النقد ثم الإصلاح؛ لإعادة حال الأمّة في العصر الراهن إلى وضع أفضل من هذا الذي هي عليه، وليس فقط منهج الإحياء أو دوافع الإحياء التي وضعت بعض الإحيائيين في غيبوبة عن ملاحظة الثغرات ونقاط العجز في الموروث الإسلامي الذي وصلنا، ظانّين أنّ تغيير لغة التراث كافٍ في النهوض والبناء؛ فالجمع بين الإحياء والتجديد والنقد والإصلاح هو السبيل السليم الذي يعطي كل شيء حقّه، دون الانفراد بواحدة من هذه العناصر الأربعة التي تشكل لبنات النهضة الإسلامية الحديثة، تلك النهضة التي نريدها لإعادة تكوين الحضارة الإسلامية، وليس فقط ـ كما يظهر من ثقافة بعضنا( ) ـ لمواجهة الآخر، الأمر الذي يشي بأزمة هوية.
2 ـ حاجة التجديد وتراجع مشاريع الإحياء والإصلاح الإسلاميّين، المشروعية التاريخية السياقية
فشل بعض تجارب الإحياء الإسلامي في العصر الحديث دافعٌ آخر للتجديد في الفكر الإسلامي، فنحن نعرف أنّ تجربة القرنين الأخيرين كانت حافلة بالمنجزات وبالتجارب التي خاضها الإحيائيون، ونحن لا نرتاب في أنّ حركة الإحياء خلقت حالة ممانعة حمت الأمّة في أكثر من موقع، وحافظت على وجودها طيلة هذه الفترة من أن تذوب أو تتلاشى أمام هول المجريات في العالم، لقد امتاز الإحياء الإسلامي بمنطقي: الدفاع والممانعة؛ اعتقاداً بأن المشكلة الأكبر تأتي من الخارج، وقد نجحت التجربة على غير صعيد، لكن هناك فرق واضح بين حماية منزلي من التعرّض للخراب من الخارج وبين قدرتي على إدارة هذا المنزل بعد حمايته، والإسلام لا يختصر في حماية الجماعة، بل الجزء الأبرز منه يكمن في بناء الجماعة وليس فقط صيانتها، ولو أنّنا رصدنا تجارب القرنين الأخيرين لوجدنا نجاحاً نسبياً في الملفّ الدفاعي، لكنّنا لم نجد ـ غالباً ـ تجارب ناجحة في ملف بناء الداخل الإسلامي، بل ظلّت الكثير من الأمم والشعوب التي أخذت الخيار الإسلامي تعاني من مشاكل لا تبتعد كثيراً عن مشاكل مثيلاتها من الشعوب والأمم المسلمة التي أخذت بالخيار العلماني أو القومي أو...
عندما تأتي أكثر من تجربة في البنك غير الربوي، وتنتظم أجزاء النظرية على المستوى العلمي، لكنّنا عندما نجرّب لا نجد مظاهر تنمية أو تقدّم اقتصادي، فهذا معناه أنّ هناك خللاً في النظرية وحاجة للنقد والإصلاح، فليس المهم أنّ نظريةً ما نجحت في زمن ما حتى تكون محمية من النقد في زمن آخر، فلكل زمان ـ في بعض الموضوعات على الأقلّ ـ معاييره ومحكمته المستقلة عن محاكم غيره.
إنّ وقوع النظم الفقهية والأخلاقية والمعرفية التقليدية في أكثر من إخفاق على مستوى حياة الأمة وشعوبها، هو الذي يفسح في المجال لفتح نافذة نقد وتجديد، وأظنّ أن الشيخ محمد عبده عندما نحا منحاه الاعتزالي في قضية الفعل والإرادة الإنسانيين في (رسالة التوحيد)( )، كان يأخذ بعين الاعتبار أيضاً دور نظرية الجبر وملحقاتها في تكريس التثبّط والتباطؤ والكسل والتعويل الحصري على الغيب في حياة المسلمين، إنّ ملاحظة الآثار السلبية لبعض المفاهيم الدينية كان سبباً أيضاً لإعادة التفكير فيها، وهكذا عندما لاحظ محمد إقبال (1938م) تعطيلية المنطق اليوناني حاول الخروج بقراءة جديدة في (تجديد التفكير الديني في الإسلام) تعيد لمنطق التتبع الحسي والاستقرائي موقعه ومكانته في التفكير الديني؛ إذ بدون ذلك لن يستطيع الفكر الإسلامي مواكبة الانفجار العلمي الحاصل والعيش في العالم الحديث( ).
وإذا صحّت مقولة مثل رضوان السيد في أنّ الفكر الإسلامي الحديث مع الأفغاني وعبده كان همّه النهوض، فيما حصلت نكوصية مع الفكر الإسلامي المعاصر منذ البنا إلى سيد قطب وعمر عبدالرحمن، ليصبح الهمّ الأكبر هو همّ الهوية( )، وإذا صحّ ما يسمّيه حسن حنفي كبوة الإصلاح وحالة التراجع التي ضربت ـ على السواء ـ تيار النهضة الإسلامي والتيار العلماني العلمي والتيار السياسي الليبرالي( ).. وإذا صحّ ـ كما يقول عبد الجبار الرفاعي ـ أنّ التحديث الديني في شبه القارة الهندية والذي أطلقه أمثال محمد إقبال قد تراجع بعد خروج فضل الرحمن (1988م) من باكستان وسيطرة الاتجاهات السلفية هناك منذ ثمانينيات القرن العشرين( )، إذا صحّ هذا الكلام ـ وهو صحيح نسبيّاً وليس على إطلاقه لأنّ الخطأ الأبرز في دارسي حركة التحديث والتقدّم تجاهلهم النسبي للمشهد الشيعي( ) الذي يؤرّخ له بشكل مختلف تماماً عن المشهد في مصر والمغرب العربي وشبه القارة الهندية ـ فهذا يؤكّد حصول إخفاقات وتراجع وتدهور في التجربة، ربما بسبب الإخفاقات الميدانية في العلاقة مع الغرب ومع الدولة الحديثة منذ انهيار الخلافة العثمانية مروراً بالنكبة وصولاً إلى النكسة وما تلاها، في تعبير عن فشل مشروعات الليبرالية والاشتراكية والعلمانية والقومية في العالم العربي والإسلامي؛ فالفكر الإحيائي الإسلامي ـ كالكثير من الأفكار الأخرى التي ظهرت في العالم العربي والإسلامي بعد سقوط الخلافة العثمانية كالعلمانية والقومية ـ نضج وقدّم الكثير، لكنّه استنزف ثم احترق في أكثر من موقع، وصار لابد من الخروج من المنطق الدفاعي والنهضوي والذرائعي الذي قام عليه للدخول في المنطق الدرسي هذه المرّة، تحقيقاً لحوار الأجيال واستمراريّتها دون قطيعة، منطق البحث دون أيديولوجيات وغايات مسبقة يستهدف الباحث إرضاءها، مهما كانت مقدّسة ونبيلة؛ فالمثقف ملتزم بقضايا الأمّة لكنّه أيضاً ناقد ومتحرّر.
وفي سياق مسألة الإخفاقات، يأتي الحديث عن واقع المؤسسة الدينية؛ حيث لا يمكننا الحديث عن تجديد الفكر الإسلامي بمعزل عن واقع هذه المؤسّسة، سواء عمّمنا مفهومها أم خصّصناه، مادامت هي المنتج الأبرز للمفاهيم الدينية عند الجمهور المسلم، وعندما أتحدث عن هذه المؤسّسة فأنا أتحدث عن الحالة العامّة وعن الموجبة الأكثرية لا الكلية وعلى صعيد المذاهب كافّة، فهذه المؤسّسة ـ ومع الأسف الشديد ـ مازالت خارج الزمن في كثير من مواقعها، ففي بعض أوجهها نجد صراعات مريرة منذ مائة عام على شرعية تغيير كتاب درسي هنا أو هناك!! هل يعقل أن تظلّ مؤسّسة عريقة بهذا المستوى تختلف قرناً من الزمان على تغيير كتاب في منهج دراسي لطلاب العلوم الشرعية، وتكتب عشرات بل مئات المقالات والدراسات حول هذا الموضوع؟! هل يعقل أنّ هذه المؤسسة مازالت حتى اليوم تحارب ـ في بعض مواقعها ـ الفلسفة الإسلامية بمعناها العريض، فضلاً عن الغربية الحديثة والمعاصرة؟! هل يعقل أن تكون غالبية المنتسبين لهذه المؤسّسة غير متابعة للمشهد الثقافي العربي والإسلامي فضلاً عن ما هو خارج هذا النطاق الجغرافي؟! بل هل يعقل أنّ هذه المؤسسة المختصّة بفهم الكتاب والسنّة ـ وهما نصّان عربيان ـ غير مواكبة لتطوّرات الدرس اللغوي والأدبي في العالم؟!( ) هل يعقل أن تدفع مليارات الدولارات لدعم تطوير هذه المؤسّسة في بعض مواقعها ومن جانب أعلى شخصيات في الدين والدولة وبعد عقدين من الزمان لا نجد سوى هيمنة التراجع والتقوقع والقطيعة مع كل شيء؟! إذا لم تصلح هذه المؤسّسة بعد هذا كلّه وبعد أكثر من قرن على مشروع إصلاح مناهج التعليم مع الإمام محمد عبده.. فمتى يكون الإصلاح ومتى يتحقق؟!
إنّ واقع المؤسّسة الدينية هو بنفسه شاهد صدق على حالة الفشل والترنّح التي يعاني منها الفكر الإسلامي؛ لأنّ الفكر وليد المفكّر وظروفه، وليس دوماً وليد الفكر عينه، فالوضع المأزوم للمؤسسة الدينية يرينا تخلّف الفكر الديني الذي تُنتجه، تماماً كما يساهم تخلّف الفكر الديني في تخلّف صاحبه.
إذن، فشل عدد من التجارب الإسلامية في إخراج المسلمين من عنق الزجاجة، والنهوض بهم بالمستوى المنشود، شاهد على وجود خلل في الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر، لابدّ من إصلاحه وتجديده.
3 ـ الضرورة المعرفية الخارج ـ دينية للتجديد الإسلامي
تطوّر العلوم الخارج ـ دينية في المعرفيات والماينبغيات والطبيعيات والإنسانيات معاً يفرض تلقائيّاً تجديداً في الفكر الديني، فنحن نعرف أنّه كانت على الدوام علاقة وطيدة بين الفكر الإنساني الخارج ـ ديني، والفكر الداخل ـ ديني، ولا نعني بذلك لا حديثاً عن نسبية مطلقة، ولا تبسيطاً واستخفافاً بالمعرفة الدينية الداخلية، أو حملاً لما حُمِّله أصحاب نظرية القبض والبسط النظري في الدين في هذا الموضوع، لكن من الطبيعي ـ وهذا ما يشهد به التاريخ ـ أن يكون لتطوّر المعرفة عموماً دور في تكوين تصوّراتنا عن الدين، ولا أقلّ في بعض شعبه وملفّاته، فعندما نشهد تحوّلات معرفية هائلة على الصعد كافّة فإنّه من الطبيعي أن يترك ذلك أثره على حصول تطوّر في رؤيتنا الدينية وفي فهمنا للنصوص أيضاً، إن التطوّر اللساني والهرمنوطيقي ـ بصرف النظر عن الصحّة والخطأ في هذه النظرية أو تلك، هنا أو هناك ـ لا شك عندما نقحمه في دراسات أصول الفقه الإسلامي أو بتعبير أدقّ: أصول فهم النص الديني، سوف ينتج ـ مهما ناقشناه ـ تعديلات في الرؤى، وتجديداً في الفهم والانطباع.
ولا أتحدّث هنا عن تأويل النصوص، لا على نظرية المجاز المعتزلية ولا على نظرية التأويل الصوفية، لمواجهة نصّ ظنّي الدلالة بمعطيات علمية نهائية حاسمة، وإنّما عن المناخ الفكري الذي تولّده هذه العلوم ـ بعد نقدها وتمحيصها ـ لدي قارئ النص لمطالعة مستجدات في ثنايا هذا النص، ولسنا نقصر القضية، كما حاول كثير من الباحثين، على المجالات العلمية الطبيعية ـ وإن بدّلت العلوم الطبيعية والتكنولوجية حياتنا اليوم؛ فبعد أن صنع الإنسان هذه العلوم صار يعيش مسؤولية الاستجابة لها، لتحكمه بعد أن كانت بيده ولتخرج من عقالها بعد أن كانت تحت قبضته، كما يقول الدكتور سروش( ) ـ فالمنطق الأرسطي والعقل اليوناني الذي حكم مجمل دراساتنا الدينية لعدة قرون وما يزال على غير صعيد هو بنفسه قد عصفت به رياح النقد والمساءلة، فإذا كان ابن سينا أو الفارابي أو الكندي أو ابن رشد قد طالعوا الإسلام من عقل يوناني من بين العقول التي حملوها معهم لقراءة النص، فإن من الطبيعي حينئذٍ أن نقرأ الإسلام وفقاً لآخر منجزات هذا المجال المعرفي، لا بمعنى الاعتقاد ببداهة ما ينتجه الغرب أو الشرق على هذا الصعيد، بل مع حقنا في ممارسة النقد ـ أولاً ـ على هذا المُنْتَج في العلوم الطبيعية والإنسانية، ثم مطالعة النص ـ ثانياً ـ وفقاً لهذه العلوم أو على الأقل مع أخذها بعين الاعتبار بدرجة ما، وهذا ما سيكوّن مطالعة جديدة، ويحقّق المصالحة مع العلم، تلك المصالحة التي وصلت إليها الكنيسة بعد معاندات طويلة وخسائر فادحة.
نعرف أنّ هذا الموضوع سيثير القلق، لكنّ الفرق بين مفكّري الإسلام في القرون السابقة ومفكّرنا الإسلامي اليوم، ليس فرقاً معرفياً إيبستميّاً على الدوام، وإنّما فرقٌ سيكولوجي نفسي؛ لأن المتكلّم الإسلامي آنذاك كان يستعين بالفكر الغربي (الإغريقي ـ اليوناني) والشرقي (الفارسي ـ الهندي) من موقع القوّة؛ لأن جيوش المسلمين كانت تهدّد تلك الممالك، أمّا في حالنا اليوم فالمفكّر المسلم يأخذ أفكاره من الغرب القويّ، غرب حضارة اللحظة، ويخشى على هويّته ممّا يأخذه؛ لأنّه في موقع المنهزم والمغلوب والتابع نفسياً وسياسياً وحضارياً، وكل مغلوب ميّال لتقليد متبوعه كما يقول ابن خلدون( )، فليست المشكلة في الأخذ بالمنتج الغربي؛ لأننا قد سبق وكوّنا علومنا الإسلامية مستعينين بهذا المنتج، وإنّما في مركّب النقص الاجتماعي والشخصي الذي يحكم واقعنا فيربط بين الأخذ بالمنجزات العلمية للغرب، وبين فقدان الهوية.
إذن، فمن الطبيعي في ظلّ تطوّر العلوم في العالم أن تتطوّر رؤيتنا للدين وفهمنا لنصوصه، هذا ما نريده ولا نريد ليّاً لعنق الحقيقة أو تطويعاً للنصوص أو استخفافاً بها، أو وضعها على الدوام في موضع المنفعل لا الفاعل؛ فهذا ما لا نراه صحيحاً حتى من الناحية العلمية فضلاً عن الأيديولوجية، وسبب عدم تطوّر وعينا الديني رغم قرون التطوّر العلمي الأخيرة أنّنا لم نواكبها، ومؤسّساتنا الدينية ظلّت بمنأى عنها، ولهذا خيّم السكون عليها وعلينا، وعندما وجدنا مفكراً عملاقاً هنا أو هناك يأخذ بعين الاعتبار تطوّر المعرفة.. وجدنا قراءة جديدة للإسلام، تحاول أن تعطيه أو تضفي عليه المزيد من الحيوية والنضارة.
مشكلة الكثيرين في الوسط الديني أنّهم ما زالوا يؤمنون بتعميم فكرة القرون المفضّلة، وأنّ القرون الأولى تمثل القمّة في كلّ شيء، في الإيمان والخُلُق الحسن والعلم والمعرفة و.. وأنّنا اليوم في حال انحدار واندحار وانتحار لا تطوّر وتقدّم وانفتاح، ومادامت مثل هذه الأفكار مهيمنة على ثقافتنا الدينية ـ ولسنا في موقع النقد الداخلي لها الآن ـ فلن نتمكّن من الانفتاح على منجزات المعرفة الإنسانية؛ فالحلّ يكمن في إعادة بناء ثقتنا بثقافتنا وتراثنا من جهة أولى، أي إصلاح أوضاعنا النفسية، وفي نقد المعوقات الدينية ـ بتصوّرنا ـ التي تعطّل فينا التفاعل الإيجابي مع المعرفة أياً كان مصدرها من جهة ثانية، وفي تكوين منظومتنا المعرفية تكويناً تعدّدياً لا يصاب بالصدمة عند اكتشاف خطأ عنده، بل هو مهيأ على الدوام لتعديل في رؤاه وأفكاره، ومروّض ومدجّن لإعادة النظر وتصويب الآراء.
4 ـ المنطلق الأيديولوجي الداخل ـ ديني لمشروعية التجديد
العنصر الآخر لضرورة التجديد وشرعيته هو عنصر أيديولوجي داخل ـ ديني هذه المرّة، وهذا هو العنصر الذي وجدت له رواجاً ـ حسب ما بدا لي ـ في أدبيات العلماء والمفكّرين المسلمين في العصر الحديث، وبإمكاني اختصار هذا العنصر في التالي:
أ ـ فكرة الخلود والعالمية، فحيث كان الإسلام عالمياً خالداً عنى ذلك أنّه من الضروري أن يلحظ التغيّرات الموجودة بين الشعوب والأمم والأوضاع والظروف والمناخات؛ لأنّه إذا لم يتكيّف الإسلام مع الواقع وتحوّلاته، ولم يواكب الصيرورة الطبيعية والاستثنائية للزمن، فسوف ينعدم وينجمد ويتلاشى، وسيظلّ في حالةٍ من الرتابة والمراوحة، وهذا ما يقع على خلاف مفهوم الخلود والعالمية؛ فنحن نمارس التجديد حماية للدين من الزوال وحفظاً لعالميته وخلوده.
ب ـ فكرة فتح باب الاجتهاد، ذلك أنّ هناك علاقة تلازم بين التجديد وفتح باب الاجتهاد، ولكي أوضح هذا المفهوم وفي الوقت عينه أمارس نقداً على بعض أشكال فهمه، يجب أن أؤكد سلفاً أنّ الاجتهاد لا يتأطّر بمجال؛ لأنّه تعبير آخر عن الحق في التفكير داخل النطاق الإسلامي، وضمن إطار الشهادتين، إنّه مواجهة شرسة مع العقل المستقيل، فنحن لا نريد بالاجتهاد هنا بعض معانيه الضيّقة نسبياً في أصول الفقه السنّي والشيعي، وإنّما نقصد به الحقّ في ممارسة الإبداع لا الابتداع ولا الاتّباع، دون أن نميّز بين الإبداع في مجال فهم النص أو في خارج النص عندما تسمح نظريتنا بذلك وفقاً للأدلّة المنطقية، وهذا ما يجعلنا نتحفّظ على الجمود عند الاجتهاد الترجيحي الانتقائي الذي يوظّف نفسه ليقوم باختيار أحد الاجتهادات السابقة، وإنّما المهم ـ إلى جانب هذا النوع من الاجتهاد عندما تقدّمه الأدلّة ـ هو الاجتهاد الإبداعي الإنشائي، كما يسميه بعضهم( )، كذلك نتحفّظ على شيوع الدعوة للاجتهاد في الفقه، وقلّة سماع الحديث عن الاجتهاد في غير الفقهيات، مع أنّ الاجتهاد في علم الكلام أهمّ بكثير من الاجتهاد في الفقه، بل هو مقدّم عليه، فما لم نعط حماية دنيوية وأخروية للاجتهاد بهذه الدائرة الواسعة، فسنكون ـ كما يقول بعض المتصوّفة ـ كمن يحلّق داخل غرفة ظانّاً أنّه بتحليقه قد طار في السماء.
إذن، فلنحرّر كلمة الاجتهاد من تفسيره بفهم النص كما راج عند الشيعة؛ لأنّ من الاجتهاد ما يكون سابقاً على النص، ولنحرّره أيضاً من التفسير السنّي لنجعله في النص وخارجه معاً، ونحن مع دعوة الشيخ القرضاوي للانتقال بالاجتهاد من الفقه إلى أصول الفقه( )، لكنّنا نطالب ببسط العملية الاجتهادية لتصل إلى خارج علوم النقل، فتطال العقليات بمدياتها الواسعة، فالتجديد لا ينحصر ـ كما فهمه بعض العلماء ـ بإطار النصوص الظنيّة التي تسمح بالحركة، بل يطال النصوص الثابتة؛ لأنّ الاجتهاد ليس تخلّياً بالضرورة عن الثوابت، بل قد يكون فهماً لها، أو إبداعاً لشكل من أشكال ممارستها، أو محاولة جديدة لتكييفها مع بعضها، مادام الفقيه أو المفسّر يقدّم نظرياته ضمن منطق علمي يعطيه حقّ الاجتهاد، كما يعطي الآخرين حقّ نقده في اجتهاده هذا.
على هذا الأساس، يجب تحرير الاجتهاد من مضمونه، وإذا استطعنا البرهنة على ذلك في علم الكلام فقد شَرْعَنّا التجديد بأوسع دوائره، وأعني بذلك أنّنا عندما نعطي الحق في الاجتهاد فنحن نعطي حقّ ممارسة فعل فكري، ولا نربط هذا الحق بنتيجة معيّنة؛ لأننا إذا ربطناه بهذه الطريقة نكون قد ألغيناه وأولدنا نقيضه داخله، تصوّروا معي أنّنا منعنا التقليد في العقائد وأعطينا للإنسان الحقّ في الاجتهاد والنظر، إنّ هذا الحق معناه أنّنا أعطيناه ضمانات دنيوية وأخروية بعدم تعرّضه للعقوبة لو أخطأ، وإلا فإذا شرطنا الاجتهاد والتجديد بأن لا يتوصل إلى غير ما توصّلنا إليه، فإنّ هذا لا يعني أننّا أعطيناه حقّ الاجتهاد، وإنّما فرضنا عليه أن يفكر ليتوصل سلفاً إلى نتيجة محدّدة.
الشرط الوحيد الذي نأخذه في إعطاء حقّ الاجتهاد كي نضمن به مشروعية التجديد، هو ممارسة البحث الفكري بأمانة وأخلاقية وأكاديمية ومهنية، وهذه أمور لا تحدّدها نتائج البحث كما يفعل الكثيرون منّا؛ حيث يحكمون بعدم أمانة الباحث أو عدم علميّته؛ لأنّه لم يتوصّل إلى ما توصّلوا هم إليه؛ إذ لا تساوي بين مهنية العمل الفكري وأخلاقيّته وبين الصواب، فالأخلاق والصدق والأمانة والمهنية ليست ضمانة نهائية للوصول إلى الحقيقة، وإنّما هي ضمانة الأمن عند عدم الوصول إليها، هي المفاهيم التي تجفّف منابع القلق والاضطراب والارتباك، فكما يشعر الفقهاء بالأمن عندما يجتهدون ولا يخافون من الخطأ وإنّما يخافون من المقدمات غير المهنية وغير الأخلاقية التي توصلهم إلى الخطأ، كذلك يفترض ـ بعد توسعة مفهوم الاجتهاد بالمعنى الذي قلناه ـ أن يشعر المجتهد في العلوم الإسلامية كافّة أنّه في مأمن في الدنيا والآخرة لو أخطأ، مادام ـ بينه وبين الله ـ صادقاً باذلاً مقدرته وطاقته في الوصول إلى الحقيقة، وبذلك ننفتح على شرعية المذاهب الإسلامية كلّها بهذا المعنى للشرعية ـ لنؤسّس تقريباً معرفيّاً وليس سياسياً فحسب ـ لا على صوابها وصحّتها، سواء في المجال العقائدي أم الأصولي أم الفقهي أم التفسيري أم ..
ج ـ النبوي المعروف: إنّ الله يبعث لهذه الأمّة على رأس كل مائة سنة من يجدّد لها دينها( )، حيث اعتبر هذا الحديث شاهداً على حصول تجديد في الدين كل مائة عام، وهو تعبير آخر عن التجديد المتواصل في الإسلام( ).
وبصرف النظر عن صحّة هذا الحديث وعدم صحّته، نميل إلى عدم التعامل مع مشاريع كبرى وحبلى بالمتغيرات بالاعتماد على نص حديثي واحد، حتى لو كان صحيح السند، لأنّنا لا نرى حجية خبر الواحد ما لم يفد الوثوق والاطمئنان، مشروعٌ كمشروع التجديد بهذه الخطورة التي يحملها يجب تعقيله وعقلنته ولا يجوز حبسه في إطار الظنون ولو كانت معتبرة يجوز التعبّد بها، وهذه قضية تختلف حولها الآراء في أصول الفقه الإسلامي، لا نتعرّض لها هذه الساعة، وقد بحثناها بالتفصيل في موضعه.
5 ـ ضرورة التجديد واجتهاد الأولويات، من فقه النصوص المعلّقة إلى فقه النصّ والواقع
اعتاد كثير من الناشطين في مجال الفقه الإسلامي والدراسات القانونية الإسلامية على التعامل مع النصّ، وبهذا أخذ الاجتهاد الإسلامي نمطاً ثنائيّاً في أطرافه؛ فهناك النصّ من جهة وهناك المجتهد في هذا النص من جهة ثانية، ولم يكن الفقيه المسلم ليلاحظ ـ إلا في حالات قليلة وفي بعض مدارس الفقه الإسلامي ـ طرفاً ثالثاً كان يفترض أخذه بالحسبان، وهو الواقع، لأنّ الفقيه المسلم كان يخشى على ما يبدو، وهو محقّ في خشيته، من إلقاء الواقع ضغوطه على المجتهد كي يكيّف النص وفقه، فيما المطلوب أن يُخضع الفقيهُ الواقعَ للنص، أي إنّه يريد أن يؤسلم الواقع، ولا يريد أن يبرّره أو يكرّسه، فالفقيه المسلم كان من دعاة المعرفة لتغيير الواقع هنا، وليس من دعاة المعرفة لتفسيره أو تبريره.
لقد حمى الفقيه بهذه الطريقة اجتهاده من التلاعب بالنصوص المقدّسة، لكنه لم يكن يدري أنّ مشكلةً أخرى تنتظره على المقلب الآخر، إنّها مشكلة تكوين فقه غير واقعي، فالعزلة التي سعى إليها الفقيه ليحمي النصوص من التطاول عليها جرّته إلى فقه فرضي، كفقه الأرأيتيين في القرن الثاني الهجري من جهة، وفقه متجافٍ عن التطبيق غير قابل للممارسة من جهة ثانية؛ لأنّ الفقيه تعامل مع النصوص كونها تقدّم له أحكاماً أوّلية تقترب من السكون والثبات، وعندما أفتى بهذه الأحكام لم ينتبه أنّ الواقع يطالب على الدوام بأحكام من النوع المتحرّك، وهذا ما قدّم الفقه الإسلامي بصورة نظرية تجريدية أحياناً، أو أوحى بأنّ الأحكام الأوليّة مغيبة غالباً لصالح الأحكام الثانوية.
نحن مع فقه التغيير وليس فقه التبرير الذي هو فقه عطالة ذاتية وفقه محافظة على الحال القائم، ذاك الفقه السلطاني الذي ينتظر الحاكم كي يتخذ قراره السياسي ليأتي الفقيه فيأوّل النصوص له، أو يصدر الحاكم فتواه فيجتهد الفقيه له، مع الانتباه إلى أنّني أعمّم مفهوم السلطان هنا ليشمل الشركات المتعدّدة الجنسية والقوى الكبرى ذات المصالح اليوم في العالم، والتي تفرض واقعاً ما أو نمط حياة ما، ثم يأتي فقيهنا أو مثقفنا ليبرّر هذا الواقع أو يكرّسه بدل أن يدرسه بموضوعية وعلمية وتجرّد، لكنّ هذا لا يعني تجافياً أو منافرة بين الواقع والاجتهاد، ودليلنا على ما ندّعي ينبع من تحليل حقيقة علم الفقه، فهل هو علم دنيوي يستهدف صلاح الدنيا التي أمرنا بصلاحها كي ننال بذلك صلاح الآخرة، أم أنّه علم أخروي يطالب بالتعبّد والطاعة للنجاة يوم القيامة وليس مسؤولاً عن صلاح الدنيا؟
لقد نظّر العديد من علماء الكلام وأصول الفقه الإسلامي للفقه القادر على ترشيد حياتنا الدنيوية، وعلى إدارتها بنجاح، لكنّ النظم التي بني عليها الفقه والتعامل الميداني معه كانا في كثير من الأحيان على النقيض من ذلك، وعندما كانت الأزمات الواقعية تبدو أمام الفقيه في فهمه للنصّ كان ينزع من حيث لا يشعر إلى تجهيل العقل لتغييب الأزمة؛ كي يسدّ عليه ما يراه من المصالح والمفاسد، كان يقال: إنّ معرفة ملاكات الأحكام وعللها غير ميسور في الغالب، وكان يقال ـ كما قالها الفيض الكاشاني (1091هـ) في المحجة البيضاء من قبل ـ: إنّ الفقه علم المقرّبات والمبعّدات عن الآخرة، وكان يقال: إنّ المصالح والمفاسد التي تقوم عليها الأحكام لا دليل على حصرها بالمصالح والمفاسد الدنيوية، بل دخول النار أو الجنّة من المصالح والمفاسد أيضاً، وكان يقال: إنّ الاجتهاد في عصورنا سعيٌ لتحصيل التنجيز والتعذير، فالمهم براءة الذمة، ولهذا ولد الفقه المتشظّي، أعني ذلك الفقه الذي لا يرى بأساً في الفصل بين الشيء ولوازمه الطبيعية؛ لأنّ الفقه ـ كما يقولون ـ يقوم على تفريق المؤتلفات وجمع المتفرّقات، الأمر الذي صعّب كثيراً على أنصار فقه النظرية ـ مثل الصدر وشمس الدين وغيرهما ـ من بناء فقه متكامل، وهو ما دفع الصدر في (اقتصادنا) للحديث عن فقه نظرية تأتلف عناصره من فتاوى العلماء أجمع( )؛ لأن الفقه الاجتهادي لكلّ فقيه لا يمكن في العادة أن يقدّم لنا نسقاً متكاملاً ونظاماً متناغماً.
من هذا كلّه، نعلم أنّنا عندما نتحدّث عن الفقه الإسلامي، فنحن نتحدث عن فقه الواقع، لأنّ هذا هو معنى الفقه الذي يدير الحياة؛ فالحياة هي الواقع، ونتيجة ذلك أنّ أيّ فقه نعرضه على واقع التطبيق والممارسة، ثم يفشل؛ فإنّ معناه ـ وبحسب نسبة الفشل ـ أنّه ليس الفقه الإسلامي المنشود، وعندما نقول ذلك لا نعني أنّه خاطئ على مستوى المصادر الاجتهادية وليس له ما يبرّره من كتابٍ أو سنّة، بل يعني أنّه ليس فقه زماننا، بل هو فقه زمان آخر ووضع آخر، فالتخطئة هنا هي أيضاً تخطئة نسبية وليست مطلقة.
والتخطئة النسبية تجعلنا ننطلق من فقه الواقع / النص إلى فقه الأولويات، فما دامت الحياة في سيرورة وصيرورة فإنّ الأولويات سوف تتغيّر تبعاً لذلك، هنا لا نتحدّث عن فهم النصّ في دلالاته اللغوية بل عن جماع الدلالات المتعاضدة وأنواع المصالح والمقاصد المتعاونة لتحقيق إدارة حسنة للواقع، ففقه الأولويات فقهٌ متغيّر؛ لتغيّر موضوعه وهو الأولويات نفسها التي تتغيّر بتغيّر الواقع المناخي الذي يحيط بها على الدوام، وإذا لم يكن الفقه فقهَ أولويات فسوف تكون نتيجته تصادماً مع الواقع وفشلاً، حيث ستنقلب المعايير، كذاك الذي جاء إلى الإمام أحمد بن حنبل (241هـ) زانياً يحدّثه عن تركه العزل لكراهته، والحال أنّه قد تورّط في الزنا المحرّم!!
وبكلام جامع: الواقع ضروري في الاجتهاد، لكنّه ليس كافياً أو بديلاً عن النصّ، وهذا أحد أوجه امتياز الفقه الإسلامي عن القانون الوضعي؛ فمن تغيّر الواقع إلى الأولوية إلى الفقه الحراكي، خطّ متواصل ينتهي بالحاجة إلى التجديد لتحقيق المواكبة، وللوفاء بدنيوية الفقه الإسلامي ـ بالمعنى غير السلبي للكلمة ـ التي تنتهي بصلاح الإنسان في الدنيا والآخرة معاً.
6 ـ حتمية التجديد وتصفية الدين، التباس المفهوم والممارسة الزمكانية
عرفنا أنّ علاقة النص بالواقع علاقة جدليّة ضمن وضع ما، فأيّ تحوّل في الواقع يستدعي تحوّلات في النص، أعني في فهم النص وطريقة التعامل معه، لكنّ الأمر المهم الآخر هو أنّه لم يقدّم أيّ دين ـ فيما نعلم ـ صيغاً نهائية لأنماط العيش وأشكال ممارسة الحياة، وإنّما وضع ضوابط عامّة ومؤشرات كليّة؛ لضبط حركة الحياة وحمايتها من الانزلاق، إلى جانب مجموعة من التدخلات المحدودة هنا وهناك للحدّ من شيء ما أو إطلاق شيء محدود، أمّا الأشكال التطبيقية للممارسة الدينية فتظلّ أمراً زمكانياً، وهنا نجد إشكاليّة شائعة في الوسط الديني وهي إشكاليّة الدمج بين النظرية والتطبيق، وهذا من أخطر ما يحصل في الوسط الديني، ويدعو دوماً لحتمية تجديد الفكر الديني، وذلك أنّه من الطبيعي ـ عندما ينزل الدين بمجموعة مفاهيم عملية ـ أن يقوم المؤمنون بتطبيق هذه المفاهيم في حياتهم، وهناك مجموعة ضافية وافرة من المفاهيم الدينية ليس لها شكل تطبيقي واحد ومحدّد وصارم في الدين نفسه، باعتراف الفقهاء المسلمين أنفسهم، مثلاً: يقولون: كثرة الضحك مكروهة، لكن من هو الذي يحدّد عنصر الكثرة؟ لا يوجد في الدين رقم محدّد للكثرة، وإنّما هي قضية موكولة لعرف الناس. ويقولون أيضاً: احترامك الكبار أو الوالدين أمرٌ حسن في الدين، لكن لا يوجد تحديد نهائي لأشكال الاحترام، فالوقوف عند دخول الكبير إلى المجلس شكلٌ من أشكال الاحترام في بعض المجتمعات، لكنّه ليس كذلك في مجتمعات أخرى، وما أكثر المظاهر الاجتماعية التي يعدّها مجتمع ما سلبيةً فيما لا يراها مجتمع آخر كذلك.
في هذه الحالات، وأمثالها كثير، يحيل الفقهاء المسلمون إلى العرف، ولو سألنا ما هو العرف؟ سيكون الجواب: إنّه حصيلة العقل الجمعي الذي كوّنته السياسة والاقتصاد والاجتماع والنظم الطبقية وأنماط العيش وغير ذلك، إذاً مفهوم واحد تأتي به السماء لكنّ أشكال تبلوره الميداني تكون متعدّدة، وهذا شيء طبيعي على المستوى الزماني المترامي وعلى المستوى المكاني أيضاً.
ليس هذا بالأمر الجديد، لكن المهم هو أنّ الجيل المؤمن الأوّل يقوم بممارسة هذا المفهوم أو ذاك طبقاً لواقع أعرافه وتقاليده وحالته الزمكانية، وبمرور الزمن يصل المفهوم الديني إلى الأجيال اللاحقة مكسوّاً بشكله التطبيقي الزمني، فيحصل التحام في الوعي الجماعي بين المفهوم وبين الممارسة التي وصلت للجيل الثالث أو الرابع، فيصبح التطبيق جزءاً من المفهوم، مع أنّه لم يكن سوى شكل من الأشكال الاجتماعية الزمنية لممارسة هذا المفهوم، وعندما تظهر حركة تجديدية تفكيكية تطالب بفك الارتباط بين المفهوم والمصداق، بين الفكرة وشكلها التطبيقي؛ لأنّ الارتباط يعيق التقدّم واحترام الظروف الزمكانية الجديدة.. هناك يقع الانقسام والتشظي بين محافظين وإصلاحيين.
هنا تكمن واحدة من أهم وأخطر وظائف علماء الدين التجديديين والمصلحين الاجتماعيين، أن يقوموا بفك الوصلة بين الصورة التاريخية للمفهوم الديني وبين نقاوة المفهوم الديني نفسه، ومن دون فك هذه الوصلة سيبقى الغلوّ في الدين ـ بمعنى الإفراط في الأخذ بحرفيّته ـ أمراً سائداً مهيمناً.
سأعطي مثالاً بسيطاً أترك تحليله الفقهي إلى مجال آخر، بعض أشكال الشعائر الحسينية مثل التطبير، لم ترد في نص ديني ثابت، وإنّما هي شكل من أشكال التعبير عن الحزن والتفجّع ظهر منذ ما لا يزيد عن القرنين من الزمن، من وسط اجتماعي لبعض البلدان الإسلامية ـ إمّا تركيا أو الهند أو .. ـ ثم راج بين الناس، والآن نحن نتناقش فيه منذ مدّة، وتتشظّى الأمة نتيجته، مع أنّ المفهوم السماوي هو إحياء هذه الشعيرة الحسينية وضخّها المستمرّ في النفوس والعقول والمشاعر والعمل، أمّا شكل ذلك وآليته فهو أمرٌ بشري نصنعه نحن طبقاً لمناخنا الثقافي والاجتماعي، فمن حقّ الناقد المجدّد بل من واجبه المطالبة بالتغيير، لأنّ التغيير