الهرمنيوطيقا والوعي التاريخي
قراءة في كتاب (إشكاليات القراءة وآليات التأويل) لـ "نصر حامد أبو زيد"
د. حسني إبراهيم عبد العظيم
عضو هيئة التدريس - قسم علم الاجتماع - كلية الآداب - جامعة بني سويف - ج.م.ع
مدخل: أشار هنري كوربان (Henry Corbin) في أحد حواراته إلى أهمية التأويل الفلسفي (Philosophical Hermeneutic) في قراءة التراث الإنساني في كل جوانبه الأدبية والفنية والفلسفية والروحية، أي فهم محتوياته النظرية ومضامينه الرمزية. التأويل ينفتح على الفهم (das Verstehen)، فهو يستعمل إذن آليات ومفاتيح لغوية ورمزية وإبستمولوجية في إدراك حقيقة (Wahrheit) هذا التراث، بفهم أجزائه ومكوناته وإدراك حقائق هذه الأجزاء والمكونات في سبيل فهم التراث برمته. فالتأويل الفلسفي، حسب كوربان، هو مفتاح قصد فتح المعنى المتواري والخفي وراء أو تحت العبارات الظاهرة المرئية.(1)
وقد كان نصر حامد أبو زيد (1943 – 2010) واحدا من المفكرين العرب المنشـغلين بقضايا التأويل والفهم للنصوص الدينية والأدبية ، وتجلى انشغاله من خلال إســــهامه بعدد وافر من الدراســـــــات والكتب حول هذه القضية، منها على سبيل المثال : الاتجاه العقلي في التفسير: دراسة في قضية المجاز في القرآن عندالمعتزلة، وكانت تلك أطروحته للحصول على درجة الماجستيروفلسفة التأويل: دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي، وكانت رسالته للحصول على درجة الدكتوراة، ومفهوم النص: دراسة في علوم القرآن،وإشكاليات القراءة وآليات التأويل،ونقد الخطاب الديني، والنص السلطة الحقيقة: إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة،ودوائر الخوف: قراءة في خطاب المرأة، والخطاب والتأويل ، وغيرها.
وسوف نقدم في هذا المقال قراءة لأحد أهم كتبه التي فصل فيها قضية الهرمنيوطيقا، وهو كتاب إشكاليات القراءة وآليات التأويل الصادر عن المركزالثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة السادسة، 2001.
1 - مفهوم الهرمنيوطيقاتتضمن كلمة Herméneutique (بالإغريقية herméneutikè) في اشتقاقها اللغوي على كلمة "tekhnè" التي تحيل إلى الفن بمعنى الاستعمال التقني لآليات ووسائل لغوية ومنطقية وتصويرية ورمزية واستعارية. وبما أن الفن كآلية لا ينفك عن الغائية فإن الهدف الذي لأجله تجند هذه الوسائل والتقنيات هو الكشف عن حقيقة شيء ما. وتنطبق جملة هذه الوسائل على النصوص قصد تحليلها وتفسيرها وإبراز القيم والحقائق التي تختزنها والمعايير والغايات التي تحيل إليها. وعليه تعني herméneutique فن تأويل وتفسير وترجمة النصوص. والتأويل عبارة عن فن كما يذهب فريديريك شلايرماخر، بمعنى طريقة الاشتغال على النصوص بتبيان بنيتها الداخلية والوصفية ووظيفتها المعيارية والمعرفية؛ والبحث عن حقائق مضمرة في النصوص وربما المطموسة لاعتبارات تاريخية وإيديولوجية هو ما يجعل فن التأويل يلتمس البدايات الأولى والمصادر الأصلية لكل تأسيس معرفي وبرهاني وجدلي: "والفهم عندما يعمل لا يلغو فقط، أي لا يقول رموزا، وإنما هو يؤول. أي أنه يبحث عما هو أول في الشيء، عما هو الأس والأصل. فهو يحفر في طبقات النصوص المترسبة والمتراصة (في ذاكرة التراث الإنساني) قصد الكشف عن حقائق دفينة وغابرة وفتح أقفال الكنوز المطمورة. بهذا المعنى حفريات فوكو وتفكيك جاك دريدا عبارة عن فلسفة في التأويل.(2)
يبدأ الكاتب بشرح مفهوم الهرمنيوطيقا فيقول:"القضية الأساسية التي تتناولها الهرمنيوطيقا بالدرس هي معضلة تفسير النص بشكل عام، سواء أكان نصا تاريخيا أم نصا دينياٍ،والأسئلة التي تحاول الإجابة عنها– من ثم – أسئلة كثيرة معقدة ومتشابكة حول طبيعة النص وعلاقته بالتراث والتقاليد من جهة، وعلاقته بمؤلفه من جهة أخرى. والأهم من ذلك أنها تركز بشكل لافت على علاقة المفسر( أو الناقد في حالة النص الأدبي) بالنص. هذا التركيز على علاقة المفسـر بالنص هونقطة البدء والقضية الملحةعند فلاســــفة الهرمنيوطيقا. (ص13).
ويستطرد الكاتب في تبيان المصطلح فيشير إلى أنه مصطلح قدبم بدأ استخدامه في دوائر الدراسات اللاهوتية ليشير إلى مجموعة القواعد والمعايير التي يجب أن يتبعها المفسر لفهم النص الديني (الكتاب المقدس)
فقد ارتبط فن التأويل بإشكالية قراءة الكتابات اللاهوتية والنصوص المقدسة، مما دفع أحد اللوثريين (نسبة إلى رائد الإصلاح الديني المعروف مارتن لوثر) وهو ماتياس فلاسيوس (Matthias Flacius) إلى الثورة على سلطة الكنيسة في مسألة مصادرة حرية قراءة النص المقدس ليقترح أولوية التراث في تأويل بعض المقاطع الغامضة من النص وطابع الاستقلالية في فهم محتوياته بمعزل عن كل إكراه أو توجيه قسري.(3)
ويرى بول ريكور أن الهرمنيوطيقا هي نظرية عمليات الفهم understanding في علاقتها بتأويل interpretation النصوص . ولهذا فإن الفكرة الأساسية في الهرمنيوطيقا ستكون إدراك الخطاب discourse بوصفه نصا . وهنا ، ستكون الطريق سالكة أمام محاولة حل المشكلة الهرمنيوطيقية المركزية وهي التعارض ، الذي يصل حد الكارثة ، بين التفسير explanation والفهم . ولذا فإن أي بحث متكامل بين هذين المفهومين ، اللذين تميل الهرمنيوطيقا الرومانسية إلى تفكيكهما ، سوف يقود أبستمولوجياً إلى إعادة توجيه الهرمنيوطيقا ، بما يتطلبه مفهوم النص نفسه .(4)
ويقررأبو زيد أن مفهوم الهرمنيوطيقا قد اتسع في تطبيقاته الحديثة، وانتقل من مجال علم اللاهوت إلى دوائر أكثر اتساعا تشمل كافة العلوم الإنسانية كالتاريخ وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا وفلسفة الجمال والنقد الأدبي والفولكلور.(ص 13)
2 – شلايرماخر وتأسيس الهيرمنيوطيقا يمثل المفكر الألماني فردريك شلايرماخر(1768 – 1834)الموقف الكلاسيكي بالنسبة للهرمنيوطيقا، ويعود إليه الفضل في نقل المصطلح من دائرة الاستخدام اللاهوتي ليكون "علما" أو "فنا" لعملية الفهم وشروطها في تحليل النصوص، وهكذا تباعد شلاير ماخر بالتأويلية بشكل نهائي عن أن تكون في خدمة علم خاص، ووصل بها إلى أن تكون علما بذاتها يؤسس عملية الفهم (5) وبالتالي عملية التفسير.(ص 20)
يذهب شلايرماخر إلى أن التأويل فن يهتم بطريقة الاشتغال على النصوص بتبيان بنيتها الداخلية و الوصفية و وظيفتها المعيارية و المعرفية، و البحث عن الحقائق المضمرة في النصوص و ربما المطموسة لاعتبارات تاريخية و أيديولوجية. هكذا حاول أن يجد تأصيلا منهجيا لعملية تأويل النصوص. و هو يؤسس نظريته على مقولة هامة تتمثل في الفهم. و بذلك لم تعد الهيرمنوطيقا تأويلا للنصوص سواء كانت مقدسة أم مدنسة، و إنما أصبحت تقنية في الفهم. تبعا لذلك قام شلايرماخر بتحويل السؤال من ما معنى النص؟ الذي كان مسيطرا على الهيرمنوطيقا الكلاسيكية(اللاهوتية) إلى ما معنى الفهم؟ هذه الخطوة يصفها بول ريكور بأنها انقلاب كوبرنيكي أولى في تاريخ الهيرمنوطيقا على غرار الانقلاب الكوبرنيكي الكانطي في نظرية المعرفة.(6)
وتقوم تأويلية شلايرماخر على أساس أن النص عبارة عن وسيط لغوي ينقل فكر المؤلف إلى القارئ، وبالتالي فهو يشير في جانبه اللغوي إلى اللغة بكاملها، ويشير في جانبه النفسي إلى الفكر الذاتي لمبدعه. والعلاقة بين الجانبين - فيما يرى شلايرماخر – علاقة جدلية.وكلما تقدم النص في الزمن صار غامضا بالنسبة لنا ، وصرنا من ثم أقرب إلى سوء الفهم منه للفهم، وعلى ذلك لابد من قيام (علم) أو (فن) يعصمن من سوء الفهم، ويجعلنا أقرب للفهم، وينطلق شلايرماخر لوضع قواعد الفهم من تصوره لجانبي النص اللغوي والنفسي.(ص 20)
واستنادا لذلك يرى شلايرماخر أن المفسر يحتاج إلى موهبتين من أجل النفاذ إلى معنى النص: الموهبة اللغوية، والقدرة على النفاذ إلى الطبيعة البشرية. يقول في ذلك:" الموهبة اللغوية وحدها لاتكفي ؛لأن الإنسان لا يمكن أن يعرف الإطار اللامحدود للغة، كما أن موهبة النفاذ إلى الطبيعة البشرية لاتكفي لأنها مستحيلة الكمال، لذلك لابد من الاعتماد على الجانبين، ولا توجد ثمة قواعد لكيفية تحقيق ذلك.(ص 21)
وينظر معظم مؤرخو الهرمنيوطيقا المحدثون إلى الإسهام الذي قدمه شلايرماخرعلى أنه يمثل المرحلة الثانية ، أي ما يسمى بـ " الهرمنيوطيقا الرومانسية " ، الذي جعلت مهمتها الأساسية تحقيق " التجانس congeniality " أي أن يدرك الناقد أو القارئ الحدث النفسي psychical للمعنى الذي خضع له المؤلف أولاً . ويصف شلايرماخر هذه العملية بمصطلح " الحلقة الهرمنيوطيقية " Hermeneutic Circle ، والتي بقيت منذ ذلك الحين السمة المركزية للكثير من النظريات . والحلقة هي الانتقال من التخمين عند المعنى " الكلي " للعمل إلى تحليل أجزائه عبر علاقتها بالكل ، يعقب ذلك العودة إلى تعديل فهم العمل " كله " . وتجسد الحلقة الاعتقاد بأن الأجزاء والكل يعتمد أحدها الآخر وأنهما يرتبطان بعلاقة عضوية ضرورية . ومن خلال تفسير التأويل بهذه الطريقة ، تصبح الفجوة التاريخية التي تفصل العمل الأدبي عن الناقد أو القارئ سمة سلبية ينبغي التغلب عليها من خلال الحركة المتذبذبة بين إعادة البناء التاريخي من جهة والأفعال acts التكهنية للتقمص empathy من جانب الناقد أو القارئ ، من جهة أخرى (7)
3 – دلتاي: الهرمنيوطيقا والوعي التاريخي ولد فلهلم دلتاي عام 1833 و توفي 1911. يعد من الأسلاف الأكثر نفوذا في فلسفة الحياة. وإذا كان اسم هذا الفيلسوف قد ارتبط ارتباطا وثيقا بالحركة التاريخية أو بفلسفة التاريخ، فإن فلسفته في الحقيقة هي فلسفة للفهم، و هي أيضا فلسفة للحضارة، و التاريخ هو أداة هذا الفهم من حيث أنه حياة يتضمن حياة. و من ثم فإن الموضوع الرئيسي الذي اهتم به دلتاي هو "الحياة"، و التاريخ و الفهم يدوران حول هذه الفكرة.(8)
إن الحياة لدى دلتاي ليست ليست تلك الواقعة البيولوجية التي يتشارك فيها الإنسان والحيوان،ولكن الحياة الإنسانية هي التي نخبرها بكل تعقيداتها المعروفة، وهي مركب من ذلك العدد اللامحدود من (الحيوات) الفردية التي يتكون منها الواقع الاجتماعي والتاريخي لحياة الناس، والتي تدخل فيها آمال الناس ومخاوفهم وأفكارهم وأفعالهم، والمؤسسات التي يقيمونها، والقوانين التي يسترشدون بها، والديانات التي يعتنقونها، وكل أشكال الفن والأدب والفلسفة والعلم.(9)
يبدأ أبو زيد مناقشته لإسهام دلتاي في تطوير الهرمنيوطيقا من محاولة دلتاي التمييز بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية والانسانية(التي يسميها العلوم الروحية)، فيقول في ص24:"تركزت محاولة دلتاي في التفرقة بين العلوم الطبيعية والعلوم التاريخية والإنسانية، وفي الرد على الوضعيين الذين وحدوا بينهما من حيث المنهج، مثل أوجست كونت وجون ستيوارت مل. لقد رأى الوضعيون أن الخلاص الوحيد لتأخر العلوم الإنسانية عن العلوم الطبيعية يكمن في ضرورة تطبيق نفس المنهج التجريبي للعلوم الطبيعية على العلوم الإنسانية؛ سعيا للوصول إلى قوانين كلية يقينية، وتجنبا للذاتية وعدم الدقة في مجال الإنسانيات. لقد آمنوا أن كلا منهما يخضع لنفس المعايير المنهجية من الاستدلال والشرح، ورأوا أن الحقائق الاجتماعية مثلها مثل الحقائق الفيزيقية واقعية وعملية، ويمكن قياسها أيضا، وهذا ما عبر عنه جون ستيوارت مل بقوله:" إذا كان علينا أن نهرب من الفشل المحتم للعلوم الاجتماعية بمقارنتها بالتقدم المستمر للعلوم الطبيعية، فإن أملنا الوحيد يتمثل في تعميم المناهج التي أثبتت نجاحها في العلوم الطبيعية لجعلها مناسبة للاستخدام في العلوم الاجتماعية".
لقد كانت المشكلة التى تصدى لها دلتاي هي إصرار الوضعيين على تطبيق المنهج التجريبي بصرامة في دراسة الإنسان والمجتمع. "فأصحاب منحى الوقائع الخارجية والمعطيات الحسية المقيسة يقنعون بإحالة القضية بأسرها إلى النموذج القياسي الطبيعي حيث ينكرون الفروق بين العلوم الإنسانية والطبيعية، وحسب الباحث أن يلتزم بمزاولة المنهج المنهج المتفق عليه في العلوم الطبيعية؛ لأن فيه الحل الحاسم لمشكلة الموضوعية – قاعدة العلم ومحوره – التي سرعان ما يختفي شبحها، كمشكلة أمام هذا المنهج، وتذوب الأوهام الميتافيزيقية التي تكتنفها.(10)
وانطلاقا من ذلك – يؤكد أبو زيد ( ص24) - أن دلتاي حاول أن يقيم العلوم الاجتماعية على أساس منهجي مختلف عن العلوم الطبيعية،لقد كان صارما في فلسفته ورفض الوضعية وميتافيزيقا الكانتية الجديدة. إن الفارق بين العلوم الاجتماعيةوالعلوم الطبيعية يكمن عنده في أن مادة العلوم الاجتماعية – وهي العقول البشرية – مادة معطاة، وليست مشتقة من أي شيئ خارجها، مثل مادة العلوم الطبيعية التي هي مشتقة من الطبيعة. إن على العالم (بكسر اللام) الاجتماعي أن يجد مفتاح العالم (بفتح اللام) الاجتماعي في نفسه وليس خارجها. إن العلوم الطبيعية تبحث عن غايات مجردة، بينما تبحث العلوم الاجتماعية عن فهم آني من خلال النظر في مادتها الخام.إن الإدراك الفني والإنساني هما غاية العلوم الاجتماعية، وهذان يمكن الوصول إليهما من خلال التحديد الدقيق للقيم والمعاني التي ندرسها في عقول الفاعلين الاجتماعيين، وليس من خلال مناهج العلوم الطبيعية، وهذه هي عملية الفهم الذاتي أو التفسير، نصل إلى مثل هذا الفهم من خلال العيش مرة أخرى Reliving في الأحداث الاجتماعية.
أن الحقيقة التي يطمح إليها الباحث في العلوم الإنسانية ليست خارجة كعنصر أجنبي وغريب، وإنما بداخله ومحايثة لنشاطه المعرفي. تصبح العلوم الإنسانية، من هذا المنظور"مرآة"يرى بواسطتها الباحث إمكانياته المعرفية وحدوده:" المعرفة في العلوم الإنسانية لها دوما علاقة بمعرفة الذات. العلوم الإنسانية تربط الباحث بذاته عبر عنصر التراث كفهم جذري للذات وتناهيها. "حقيقة" الموضوع المدروس ( المجتمع – الحدث التاريخي – الأثر الفني أو الأدبي ...) هي في الواقع "حقيقة بالنسبة إلى" هذا الباحث الدارس، حقيقتـ(ــه) كما يتمثلها وينتجها.(11)
إن الإنسان - سواء أكان ذاتا خاضعة للدراسة أو باحثا - هو محور الخطاب الهرمنيوطيقي، ولكن عن أي إنسان نتحدث؟ إنه الإنسان، أو صورة الإنسان بالمعنى الأرسطي، التي استقرت معالمها وتحددت قسماتها وماهيتها، فهو الإنسان العاقل الرشيد الذي وهبت له قدراته ومشاعره وتصوراته دفعة واحدة، ولابد أن يكون هو الإنسان الذي يعرفه كل منهم في نفسه، أو فيمن يخالطهم في مجتمعه وعصره.(12)
الإنسان كائن تاريخي - هكذا يرى دلتاي – بمعنى أن الإنسان يفهم نفسه - لا من خلال التأمل العقلي – بل من خلال التجارب الموضوعية للحياة. أن ماهية الإنسان وإرادته ليست أشياء محددة سلفا، فالإنسان ليس مشروعا جاهزا مصمما من قبل، ولكنه مشروع في حالة تخلق.إنه يفهم نفسه بطريق غير مباشر، إنه يقوم بجولة هرمنيوطيقية(تأويلية) من خلال التعبيرات الثابتة التي تنتمي للماضي، وبهذا المعنى فهو كائن تاريخي. إن التاريخ – إذن – ليس معطى موضوعيا في الماضي، قائما هناك ، ولكنه معطى متغير، إننا في كل عصر نفهم الماضي فهما جديدا من خلال التعبيرات الباقية لنا، ويكون فهمنا للماضي أفضل كلما توفرت شروط موضوعية في الحاضر شبيهة بما كان في الماضي.(ص 28)
إن ثمة رؤية مغايرة للتاريخ لدى دلتاي، فإذا كان كانط في "نقد العقل الخالص" قد وضع الأسس الأولى للعلوم الطبيعية، فإن دلتاي في كتابه "نقد العقل التاريخي" حاول اكتشاف أساس علم المجتمع و التاريخ، لقد بين كانط في نقد العقل الخالص أن الموضوعات تعطى لنا عن طريق الحس, من حيث أن قدرتنا على التفكير في موضوع الحس هي الفهم Entendement . و لا أفضلية لإحدى هاتين الخاصيتين عن الأخرى، فبدون الحساسية لا يمكن أن يعطى لنا الموضوع، و بدون الفهم لا يمكن التفكير في أي موضوع. و عن اتحادهما تصدر المعرفة، و بالتالي فإن الوظيفة الموضوعية لمقولات الفهم، ليست سوى الانطباق على الموضوعات الحسية (يتم ذلك من خلال وحدة الشعور، الخيال . . .)، لأجل معرفة موضوعية، لكن أحكام الإدراك الحسي ليست كلية ولا ضرورية، و لا تصدق على كل الذوات في كل الشروط. . . . . يرفض دلتاي التجريد القبلي عند كانط، لأنه جاف بدون فائدة وميت، لكن الشروط الحقيقية للفكر إنما تستخلص من صيرورة الحياة التاريخية، من تطورها. و بالتالي فإن الحقيقة الموضوعية للموضوعات الخارجية و للعقول الأخرى لا تتمثل في مطابقتها لقوانين نســق عقلي، بل تتمثل في علاقة حيوية تتفاعل فيها الذوات مع الفعل. إذن فالمعرفة تصبح مشروطة باستمرار مع دلتاي بفهم الســــياق الداخلي (العقل، الغريزة، الحياة العاطفية، أفعال الإرادة...) فهذا السياق يشكل أساس عملية المعرفة. و ينتج عن ذلك أن نظرية المعرفة تتطلب لأساسها فهما لهذا السياق الداخلي، أي أنها في حاجة إلى "علم نفس جديد".(13)
لقد كان نقد الفهم التاريخي هو الموضوع القريب من قلب دلتاي( وعقله بالطبع) وقد قال بثلاثة مبادئ لما سماه بالتارخية: الأول أن كل ما هو إنساني جزء من العملية التاريخية.وينبغي تفسيره تاريخيا،فالإنسان تاريخي في جوهره، والدولة والأسرة والفردتتحدد معانيها بأحوال وظروف تختلف باختلاف العصور.الثاني أن المؤرخ لايمكن أن يفهم هذه العصور إلا بتصور وجهات نظر الناس الذين عاشوا فيها وأمنوا بها، الثالث أن المؤرخ في فهمه لهذه العصور محدود بثقافة عصره ،ويخضع تفسيراته لها بما يثير اهتمامه من أحداثها، وتكون له انعكاسات على على عصره، ومن ثم يفيض عليها من معاني عصره ما يصبح جوانب مشروعة من معاني ذلك الماضي.(14)
إن أهمية دلتاي هي التي دفعت فيلسوفا تأويليا آخر و هو بول ريكور بأن ينظر إلى التمييز الذي أقامه دلتاي بين علوم الطبيعة و علوم الروح على أنه إحدى أهم لحظات تحول الهيرمنوطيقا فهو يعتبر أن دلتاي يقع في المنعطف النقدي للهيرمنوطيقا, حيث أصبحنا بعد ذلك و عوضا من أن نطرح: كيف نفهم نصا ما انتمى إلى الماضي؟ صار السؤال المحوري الآن هو كيف نتصور تسلسلا تاريخيا؟ و قبل انتظام نص معين يأتي انتظام التاريخ باعتباره وثيقة الإنسان الكبرى و أهم تعبير للحياة. بذلك استطاع دلتاي نظم الصلة بين الهيرمنوطيقا و التاريخ, و استطاع أن يجد أساسا كونيا للعلوم الإنسانية, فأصبحت التاريخانية(الوعي التاريخي) تهتم بالتسلسل التاريخي الذي يحمل آثار الإنسان الفنية و العقلية. هكذا طرح دلتاي سؤالا أساسيا و هو كيف يمكن أن تكون المعرفة التاريخية ممكنة؟ هذا السؤال يقودنا بالضرورة إلى عتبة التعارض الكبير بين فهم الفكر و شرح الطبيعة. بهذا يمكن اعتبار أن دلتاي قد طور الجانب النفسي لهيرمنوطيقا شلايرماخر التي تناقش المشكلة الأخرى للفهم و ذلك في محاولة نقله للآخر. بمعنى أن التأويل الذي كان مرتبطا فقط بالنصوص المكتوبة, أصبح الآن مرتبطا أكثر بمجالات الحياة النفسية الذاتية و الأخرى الخارجية. و أصبح التأويل الأول مجرد جزء بسيط من مجال الفهم الأكثر اتساعا, و الذي يهتم بالحياة في شموليتها. الحياة في نظره لا يمكن تأويلها إلا بصورة غير مباشرة عن طريق العلامات التي تمثل تجسيدا لها و تعبيرا عنها كالفن و الدين و الفلسفة… لهذا فإن كل معرفة عند دلتاي هي معرفة تاريخية تبقى راسخة في الذهن.(15)
ومن ذلك فإن دلتاي قد قام بإنزال الفكر في مفهومه الهيجلي من السماء المتعالية على التاريخ؛ فهو يتجاوز المعرفة المطلقة و المتعالية على التاريخ ليقرر معرفة تاريخية و متجذرة في تجربة الحياة. كل من الدين, الفن و الفلسفة و العلم و المنطق هي عبارة عن تجارب حيوية واستعمالات تعبر عن الطابع الخلاق للفكر و تجليات الحس التاريخي.(16)
لقد أصبح التاريخ حقله المعرفي المفضل لممارسة الهرمنيوطيقا لأنه فرض المشكلة الفلسفية المتمثلة بوضع الخبرة الفردية التاريخية في فهم عام واضح يفترض أن تكون الطبيعة الإنسانية فيه الوعي الشمولي التاريخي ، أي نمط المعرفة.(17)
إن ثمة ارتباط وثيق بين الهرمنيوطيقا والتاريخ، فالهرمنيوطيقا على ما يقرر دلتاي هي الوسيلة المثلي لتحقيق الوعي التاريخي، فمن خلالها نستطيع قراءة التاريخ واستيعابه، إن الهيرمنيوطيقا تمكننا من الدخول في أعماق التجارب التاريخية، إننا في كل عصر نفهم الماضي فهما جديدا من خلال التعبيرات الباقية لنا، ويكون فهمنا للماضي أفضل كلما توفرت شروط موضوعية في الحاضر شبيهة بما كان في الماضي.
ــــــــــــــ
الهوامش والمراجع:(1) محمد شـوقي الزين، مفتاح التأويل في قراءة التراث الإنساني، مجلة فكر ونقد، السنة الثالثة، العدد28،إبريل 2000
(2)المرجع السابق.
(3) المرجع السابق.
(4) بول ريكور،مهمة الهرمنيوطيقا، ترجمة خالدة حامد، مجلة أفق التقافية، أكتوبر2002.
(5)يؤثر صلاح قنصوة ترجمةالمصطلح الألماني Verstehen بالتفهم تمييزا له عن الفهم الذي يقارب لفظا ألمانيا آخر هو Begreifen الذي لاينقل المعنى الخاص المقصود بالتفهم كمنهج مستقل . فكلمة الفهم تشير إلى الغاية التي تهدف إليها كل المناهج والعلوم، بينما تتضمن كلمة "تفهم" العربية لونا من المشاركة والتواصل والتواد، وهو ما يزكيها مقابلا للأصل الألماني. أنظر: صلاح قنصوة، في فلسفة العلوم الاجتماعية،مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة،1987،ص 188.
(6) نادر الصاوي، مبادئ فلسفة الفهم وأسس العلوم الإنسانية عند دلتاي، منتدى آفـاق الفلســـفة والسوسيولوجيا والأنثروبولوجيا، يونيو 2009. .
(7) إيان ماكلين،التأويل والقراءة، ترجمة خالدة حامد، مجلة أفق الثقافية،إبريل 2002.لتأ
(8) نادر الصاوي، مبادئ فلسفة الفهم وأسس العلوم الإنسانية عند دلتاي، مرجع سابقٍ.
(9)عبد المنعم الحفني، موســوعة الفلسفة والفلاسفة، الجزء الأول،مكتبة مدبولي، القاهرة،الطبعة الثانية 1999 ص 580.
(10) صلاح قنصوة، في فلسفة العلوم الاجتماعية،مرجع سابق،ص 187.
(11) هانس جيورج جادامير، فلسفة التأويل:الأصول – المبادئ – الأهداف، ترجمة محمد شوقي الزين،المركز الثقافي العربي، المغرب، الطبعة الثانية،2006، ص 17.
(12) صلاح قنصوة، المرجع السابق،ص190.
(13) نادر الصاوي، مبادئ فلسفة الفهم وأسس العلوم الإنسانية عند دلتاي، مرجع سابق.
(14) عبد المنعم الحفني، موســوعة الفلسفة والفلاسفة، مرجع سابق ، ص582.
(15) ) نادر الصاوي، مبادئ فلسفة الفهم وأسس العلوم الإنسانية عند دلتاي، مرجع سابق.
(16) محمد شـوقي الزين، مفتاح التأويل في قراءة التراث الإنساني، مرجع سابق.
(17) ) إيان ماكلين،التأويل والقراءة، مرجع سابق.