ميشيل فوكو وتأسيس سوسيولوجيا الجسد(*)
د حسني إبراهيم عبد العظيم
عضوهيئة التدريس – قسم علم الاجتماع
كلية الآداب – جامعة بني سويف – ج.م.ع
مقدمة: تمثل إسـهامات «ميشيل فوكو» M. Foucault (1926-1984) عامـلاً مهماً ومؤثرا في تطور دراسـات علم اجتماع الجســــدSociology of the body ، ومن هنا تنطلق الدراسـة الحاليـة من قضية أســاسية وهي أن «ميشيل فوكــو» قد أسـهم إسهاماً فعالاً في تأسيس ســـوسيولوجيا الجسد من خلال أطروحاته النظرية والمنهجية حول الجســد التي أعاد من خلالها الاهتمام بالجســــد إلى دائرة وعي العلوم الإنسانية والفلسفة، بعد أن أطاح به «ديكارت»Descartes منذ القرن السابع عشر خارج هذه الدائرة.
ولذلك فإننا نتفق بداءة مع «تيرنر» في أن «فوكو» يعد أحد مؤسسي سوسيولوجيا الجسد، وربما المؤسس الأهم لذلك الفرع المعرفي الهام، إن أهمية «فوكو» تتحدد في أنه أعاد الجسد مرة أخرى إلى قلب علم الاجتماع Brought the body back into sociology بعد أن أطاح به «ديكارت» منذ القرن السابع عشر خارج دائرة اهتمام العلوم الإنسانية والفلسفة. (Turner 1992: 23, 50, 94)
ينتقد «فوكو» بشدة ذلك الإرث الديكارتي، الذي يعتبر الذات أس المعرفة «أنا أفكر إذاً أنا موجود»، وترتب على ذلك تعزيز مكانة الروح على حساب الجسد، حيث أصبحت الروح موطن التسامي والفكر ورمزه اللامتناهي، على حساب الجسد الذي أصبح نفاية للمكبوتات، ومنبت الدوافع والغرائز، وهو بهذا المعنى دنس ومأوى للألم والمرض والرغبة والشهوة والانحراف والجريمة. لقد تعمقت القطيعة بين عالم رذيلة يمثله الجسد، وعالم فضيلة تمثله الروح، حتى استبطن الإنسان داخله الجسد كرذيلة يجب أن يحذر غوايته وشهواته، لأن الروح هي وحدها الجديرة بالاهتمام نظراً لكونها راعية الأسرار القدسية واللذة الحقيقية، أما الجسد فهو مجرد مثوى للذة عابرة ونزوة منحلة، بينما الروح لا تبلى ولا تتبدد، فهي الأصل الذي لا يتعطل. (حسن المصدق 2007)
إن ثنائية ديكارت تضع هوة ضخمة بين الروح (أو العقل) والجسد، تجعل للجسد وجوداً مستقلاً، ولكنه محقر وتابع، بينما تميز الروح في شكل مطلق، فهي تحت وصاية الله، إن الفكر بالنسبة لديكارت مستقل كلياً عن الجسد، إنه يتأسس على الله أيضاً، أما الجسد فهو مهيأ للحقارة، إنه حقيقة طارئة غير جديرة بالفكر. إن الإنسان لدى ديكارت هو كيان تتجاور فيه روح لا تستمد معناها إلا من الفكر، وجسد أو بالأحرى آلة جسدية، يمكن اختزالها في بنيتها العضوية فقط. (ديفيد لوبروتون 1997: 66- 67)
لقد كانت كل هذه القضايا هي نقطة انطلاق «فوكو» في تحليل الجسد، إذ بدأ أولاً في «تفكيك» هذه الثنائية وتعريتها، فأكد أن ذلك الفصل مستحيل على مستوى الواقع، تماماً كما لا يمكن الفصل بين الزمان والمكان في الفكر الإنساني من ناحية، كما أن ذلك الفصل قد أفرز من ناحية أخرى ثنائيات خاطئة كالمقابلة بين المثالية والمادية، والتمييز الذي طرأ على علاقة الرجل والمرأة، والمقابلة بين حاجات الجسد وحاجات الروح، ولذلك فإن ما يجب القطع به أنه لا تفاضل بين الروح والجسد، فهما زوجان لا ينفصلان، وحاضران على الدوام في الفكر والممارسة والخطاب والوجدان. (حسن المصدق 2007)
وبعد تأكيده على ذلك الترابط العضوي والعليّ بين الجسد والعقل، يضع «فوكو» الجسد في قلب الاهتمام، ويجعل من العقل مجرد وظيفة، فالجسد هو ما يستحق الاهتمام والرصد، حيث يجب أن يعبر بكل حرية وبكل تلقائية ومن دون موانع أو قيود؛ لكي يتجلى المكبوت وتظهر الحقائق دون زيف، لذلك كله لا يرى «فوكو» فائدة ترجى من تغييبه، بل يجب أن يصبح الجسد حاضراً في اليقظة والمنام، وجذوة مستقرة في الوعي واللاوعي، كي لا يغيب التفكير في المكبوت والمحرم والمقموع، فالانحراف والجريمة والجشع عنوان عريض لتلك الأعراض المرضية، وهي خير من يكشف قيم ثقافية زائفة اضطهدت الجسد وكبلته وعطلت طاقته ومارست عليه الحجر؛ لذلك يرى أنه من اللازم إعادة الاعتبار للجسد عبر الكشف عن المسكوت عنه، فالجسد له فكره، والفكر له جسده، ومن لا جسد له، لا فكر له، لأن الجسد حضور ووعي بالكينونة، لأنه والروح صنوان لا ينفصمان، إذ لا توجد ذات متعالية فوق الجسد، فهو المأوى والمثوى. ليس هذا فقط، بل إن «فوكو» يؤكد أن تحقير الجسد، وإنكاره وتغييبه بمثابة حرب مدمرة للروح أيضاً، لذلك فإن حق الجسد في الوجود علامة أولى لوجود الروح وسعادتها أيضاً، ومن ثم أصبح الجسد والاحتفاء به عند «فوكو» كناية عن الوجود، وبالتالي فالاحتفاء بالجسد مجرد حق ثم إرجاعه لنصابه بعد أن تم تغييبه طويلاً. (حسن المصدق 2007)
وقد عمل «فوكو» على تقديم تحليل علمي للجسد وفق منهجيات جديدة حيث فكك الآليات والنظم المتعددة التي ساهمت في إخضاع الجسد، إذ أن «فوكو» ينطلق من قضية أساسية، وهي أن الجسد كان عرضة لقوى متعددة ساهمت في إخضاعه وترويضه، وهذا ما سنكشف عنه تفصيلاً الآن.
1
- رؤية فوكو للجسد: حوار مع نيتشه و ميرلو - بونتي:يعد «ميشيل فوكو» بحق المنظر الأهم للجسد في القرن العشرين، حيث كشف «فوكو» من خلال رؤاه ما بعد البنيوية الحضور الشامل للسلطة داخل الصياغات الخطابية Discursive formations المتعلقة بالجسد، إن أهمية الجسد لدى فوكو تصل لدرجة أنه يصف أعماله الفكرية بأنها تشكل «تاريخ أجساد» a History of bodies وترصد الطريقة التي يتم من خلالها استثمار الأجساد مادياً وحيوياً. (Shilling 2001: 445)
لقد كان «فوكو» منشغلاً بفهم كيفية دخول الجسد إلى الخطاب السياسي كتمثيل للسلطة، وكيف تُمارس السلطة على الجسد، في المؤسسات المختلفة كالمدرسة والسجن والمصنع والمستشفى، بحيث يتحول الجسد إلى كائن منضبط Regulated (Turner 2006: 42)
إن القضية المحورية التي ينطلق منها «فوكو» هي رصد عملية تطبيع الجسد Normalization of the body ورصد المؤسسات التي تنتج وتفصل المعرفة العلمية المتعلقة بتطويع الجسد، بالإضافة إلى اهتمامه بدراسة كيف يتم تمثيل الجسد في الممارسات المختلفة بضبط وإدارة الكيان الإنساني. (Turner 1992: 52- 53)
والحقيقة أن «فوكو» قد تأثر بداهة برؤى «نيتشه» حول الجسد، كما أن «فينومينولوجيا الجسد» التي فصلها «ميرلو-بونتي» بعد الحرب العالمية الثانية كانت ماثلة في ذهنه أيضاً. (دريفوس ورابينوف 103)
ولذلك فإن الباحث يرى في هذا السياق أن رؤى «فوكو» حول الجسد كانت بمثابة حوار وجدل بناءً مع أفكار كل من «نيتشه» و«ميرلو-بونتي»، ولا يعني ذلك الحوار -بداهة- أن ثمة اتفاق بينه وبينهما، بل أن نقطة الانطلاق لدى «فوكو» تتباين تبايناً حاسماً مع رؤيتهما.
يرى «فوكو» أن الأهمية التي يعطيها «نيتشه» للجسد مبررة، إلا أن «فوكو» يرى من زاوية أخرى أن «نيتشه» قد أعطى الجسد حرية تحرك كبيرة للغاية ورأى فيه رمزاً لمواجهة الحداثة والعقلانية (دريفوس ورابينوف 103)
فالجسد في رؤية «نيتشه» ليس جسداً خاضعاً وديعاً Docile بل على العكس فهو يراه أكثر فاعلية، وسلاحاً في المعركة ضد الميتافيزيقا، وأداة الخطاب الفلسفي نحو حياة وعصر الإنسان الكامل، ووسيلة لنقد معطيات الحداثة بكل أساطيرها وقيمها ورؤاها. (Hughes 1996: 33)
أما «فوكو» فيعتقد أن الجسد ليس مجرد كيان طبيعي، وإنما هو كيان ينتج اجتماعاً Socially produced من خلال نظم المعرفة والسلطة، بحث يصبح جسداً ليناُ طيعاً. (Mcnay 1999: 96)
وثمة اختلاف واضح أيضاً بين رؤية «ميرلو-بونتي» ورؤية «فوكو» حول الجسد، فعلى الرغم من أن الاثنين ينطلقان من مقدمات مشتركة، من قبيل أنهما قد رصدا تجاهل مسألة الجسد في الفكر الفلسفي التقليدي، وأخذا موقفاً معارضاً لذلك التجاهل من خلال التركيز على قضية الجسد في أعمالها، كما أن كليهما عارضا التصور (الأكاديمي) الغربي السائد حول الجسد، باعتباره نظاماً فسيولوجيا موضوعياً مغلقاً، وكان التحدي الخاص بفلسفة كل منهما حول الجسد هو تقديم بديل لذلك التصور، وأخيراً فثمة توافق بينهما حول ذلك التصور البديل، وهو أنهما يركزان على السياق الاجتماعي- التاريخي Socio-historical للجسد، حيث يصوران الجسد كحامل للإشارات والسلوكيات، وينبغي فهمه كتعبير عن المخزون الثقافي العام Common cultural stock، نقول على الرغم من كل ذلك إلا أن ثمة تباين واضح بينهما، يكمن بشكل أساسي في الطريقة التي طور من خلالها كل منهما أفكاره حول الجسد. (Crossley 1996: 100)
إن «ميرلو-بونتي» يتصور الجسد ككيان حي وفاعل ناشط، وممثل للحياة النابضة، أما «فوكو» فيرى الجسد مفعولاً به Acted upon ومنسحقاً تاريخياً وسياسياً، وممثلاً لمنهج التدوين Inscription approach فكل الممارسات التاريخية مدونة عليه، إن تصوري «فوكو» و«ميرلو-بونتي» للجسد يمثلان نقطتين على طرفي نقيض، الأول يمثل السلبية Passivity بينما يمثل الثاني الإيجابية Activity، «فوكو» يتصور الجسد كمستقبل سلبي للقوى السياسية والتاريخية، وعرضة لتقنيات السلطة وخاضعاً لها، أما «ميرلو-بونتي» فيتبنى وضعاً مخالفاً تماماً، إنه يؤكد على الأساس الثقافي للفعل، ويؤكد على قدرة الجسد الإيجابية في استخدام وتطويع القوى الاجتماعية والسلوكية المقننة حوله، يعتمد الجسد على المهارات والأدوات الثقافية المتاحة أمامه، كما أنه مسئول بنفس الدرجة عن إعادة إنتاج تلك المهارات والأدوات، وأكثر من ذلك، فإن أفعال الجسد المنظمة والطبيعية هي المسئولة عن إعادة إنتاج البناء الاجتماعي والزمن. (Crossley 1996: 104)
لقد كان «فوكو» منشغلاً على مدار تحليلاته بالكشف عما يكبل الجسد، ويقيده، لأن ذلك في رأيه تكبيل للعقل، ففك أغلال الجسد من آليات التوجيه والنفي والترويض هو إطلاق سراح العقول من سراديب الحجر والزيف والإثارة والحاجيات المزيفة. (حسن المصدق 2007)
ففي أعماله المبكرة، كان «فوكو» يدرس كيف يمكن للجسد أن يظهر في ممارسات مختلفة تساهم في ضبطه وإدارته، ففي ولادة العيادة كان مشغولاً بفهم كيف تنتج المعرفة والممارسة الطبيعة الجسد، وكيف تطوعه داخل شبكة المؤسسات المستقرة للسلطة الطبية، وفي دراسته عن مولد السجن حلل نمو الجسد المنضبط والوديع كنتيجة للممارسات العقابية التي اقترنت بالنظرية النفعية للألم، وفي دراسته عن تاريخ الجنس كشف عن أن بروز خطاب الجنس في القرن التاسع عشر اظهر الجنس كموضوع أو قضية مهمة، وكشف عن أن الجنس قد أضحى مادة للصراع السياسي تمارس من خلال معرفة طبية محددة. (Turner 1992: 53)
فالجنس كمظهر من مظاهر أنشطة الجسد يشكل رهاناً سياسياً، فهو من جهة يرتبط بأشكال ضبط الجسد: ترويض، تقوية، توزيع القوى، تدبير الطاقة، ومن جهة أخرى يرتبط بتنظيم السكان مع كل ما يثيره هذا التنظيم من قضايا. (زينب المعادي 2004: 26)
إن الجسد في فكر «فوكو» إذاً واقع تحت تأثيرات قوى متعددة ومتنامية تعمل على تطويعه، وقد كشف «فوكو» باقتدار عن هذه التأثيرات من خلال ما أبدعه من أدوات منهجية؛ شكلت في ذاتها نقلة نوعية في منهجيات العلوم الإنسانية.
2- منهجيات فوكو في دراسة الجسد: خطاب جديد في المنهج: اعتمد «فوكو» أداتين منهجيتين في تحليل الجسد ورصد أبعاده، ابتكر إحداهما وهي «الأركيولوجيا» Archeology واستعار الثانية من «نيتشه» وهي «الجينالوجيا» Genealogy وتعد هاتان الأداتان منظومة متكاملة اعتمد عليها «فوكو» في تحليل قضايا الخطاب والسلطة والمعرفة والجسد وغيرها من القضايا.
الأركيولوجيا، كما هو متعارف عليها في المعاجم هو العلم الذي يدرس الماضي البشري أساساً، ويحاول تفسيره من خلال الآثار والمعالم الحضارية المندثرة، التي يكشف عنها الحفر والتنقيب، وعادة ما يعد ذلك العلم فرعاً من فروع التاريخ أو على الأقل وثيق السلطة به، فالمضمون الواضح لمصطلح الأركيولوجيا يحيل إذاً إلى فكرة الحفر والتنقيب بحثاً عن أشياء وآثار قديمة، اندثرت بفعل الزمان، ولقد استخدم «فوكو» مصطلح الأركيولوجيا بمعنى مجازي، ويقصد به سبر الأعماق من أجل الكشف عن وقائع خفية في ميدان معين؛ لإعادة بناء حقيقة ما. (عبدالرزاق الدواي 1992: 139)
أن ثمة إلحاح واضح من جانب «فوكو» على مصطلح الأركيولوجيا في الستينات، حيث استعمله كعنوان فرعي وتوضيحي لكتابيه ميلاد العيادة أو أركيولوجيا النظرة الطبية، والكلمات والأشياء، أو أركيولوجيا العلوم الإنسانية، كما استخدمه كعنوان رئيسي لكتابه أركيولوجيا المعرفة الصادر في عام 1969. (عبد الرزاق الدواي 1992: 139)
يرى «فوكو» أن المنهج الأركيولوجي يمكن الباحث من فصل أشكال الخطاب التي انطمرت من أجل الوصول إلى الحقائق المفصلية، والخطاب Discourse ليس مجموعة النصوص التي احتفظت بها حضارة ما، ولكنه مجموعة الممارسات المعرفية والسلوكية التي تنتج المعرفة المتعلقة بالجسد، والتجربة، والظواهر المختلفة، إن المنهج الأركيولوجي يكشف عن التداخل بين ما قيل في الماضي وما يمكن أن يقال عن الظواهر المختلفة. (Powell 2002: 2- 3)
إن الباحث الأركيولوجي من وجهة نظر «فوكو» هو الذي يستطيع التوصل إلى تلك العصور الغابرة المطمورة تحت الركام عن طريق الحفر والتعرية، فخلال قرون عديدة حصل تراكم لوقائع يغطي بعضها بعضاً -تماماً كما في علم الآثار- حيث نجد مدناً كاملة مطمورة تحت طبقات عميقة من التراب والرمل، إن على الباحث أن يقوم بعمل الأركيولوجي من أجل إزاحة الركام واكتشاف الطبقات العميقة للحقيقة التاريخية أو الواقع التاريخي. (هاشم صالح 1996: 10)
ويعتقد «فوكو» أن الأركيولوجيا لا تسعى إلى استكشاف مظاهر الاستمرار غير المحسوس الذي يربط بطريقة اتصالية الخطابات بما يسبقها، وبما يحيط بها، وبما يلحقها، إنها لا تترصد اللحظة التي تم فيها تكوّن الخطابات، أو حدوثها بالصورة التي هي عليها، ولا حتى اللحظة التي تفقد متانة خلقتها، وتفقد من جراء ذلك ماهيتها، فكل ذلك دراسة تاريخية مباشرة، إنما تهتم الأركيولوجيا بتحديد الخطابات في خصوصيتها، وإبراز كيف أن القواعد التي تخضع لها تلك الخطابات، لا يمكن إرجاعها إلى شيء آخر، فالأركيولوجيا تتبع تلك الخطابات من خلال مظاهرها الخارجية وصورها البرانية، بغية الإحاطة بها بكيفية أفضل، غايتها في النهاية تحليل الفوارق والاختلافات الموجودة بين صيغ الخطاب ووجوهه. (ميشيل فوكو 1987: 128- 129)
إن الأركيولوجيا -إذا- وصف منهجي ومنظم للخطاب باعتباره موضوعاً إنها تسلم بأن خطاب المعرفة يمكن أن يدرس كظاهرة موضوعية ومستقلة، كتب في أركيولوجيا المعرفة: «لا تهدف الأركيولوجيا إلى تحديد الأفكار والتمثلات والصور والموضوعات والهواجس التي تختفي أو تظهر في الخطاب، ولكن تحليل الخطابات نفسها باعتبارها ممارسات تخضع لقواعد» وكتب في الكلمات والأشياء موضحاً بعض معالم منهجه، «... مثل هذا التحليل لا يرجع كما نرى ذلك إلى تاريخ الأفكار، ولا إلى تاريخ العلوم، إنه بالأحرى دراسة تحاول أن تهتدي وتتعرف على تلك المنطلقات التي أصبحت بفضلها المعارف والنظريات ممكنة، حسب أي فضاء تنظيمي نشأت المعرفة، وعلى أساس أي أوليات تاريخية، أمكن لأفكار معينة أن تظهر، ولعلوم أن تتأسس، ولتجارب معينة أن تنعكس في الفلسفة، ولمعقوليات أن تتكون، لكي، ربما تنحل وتتلاشى في أمد غير بعيدة. (عبدالرزاق الدواي 1992: 140- 141)
يتضح بجلاء إذاً أن «فوكو» لا يخفي رفضه لأن تصنف أبحاثه وتحليلاته «الأركيولوجية» ضمن أحد فروع التاريخ، سواء تعلق الأمر بتاريخ الأفكار أو تاريخ العلوم،، فالأركيولوجيا التي يقترحها تبحث عن «الأسس» لا عن النشأة والتكون والتطور خلال الزمان، على أن لا نفهم من «الأسس» هنا البدايات الكبرى أو اللحظات التاريخية الحاسمة التي أصبحت المعارف ابتداءً منها ممكنة، البدايات التي يبحث عنها نسبية، ولا تتجاوز فترة تاريخية معينة، إن أركيولوجيا «فوكو» بدلاً من أن تكون بحثاً وعملاً في أحد ميادين التاريخ كما يوحي بذلك أسمها، فإنها تطرح نفسها كبديل له يقوم بالأحرى على أنقاضه، كبديل يطرح من جديد النقاش حول تاريخ الفكر ومناهجه وحدوده، ويهدف إلى تحريره من القيود التي لا تزال عالقة به، وإلى إظهار كيف أمكن لتلك القيود أن تتكون». (عبدالرزاق الدواي 1992: 141)
تمثل الأركيولوجيا إذاً منهجاً مغايراً للمنهج التاريخي التقليدي، منهجاً يهدف إلى الكشف والتنقيب عن كل صور الخطاب المتعلق بالمعرفة والسلطة والجسد، في فترة زمنية محددة، لا تهدف الأركيولوجيا إلى فحص تطور الخطاب في مسارات محددة، إنما تهدف بالأحرى إلى كشف الممارسات المرتبطة بالخطاب في تلك الفترة بغض النظر عن ما سبقها من أحداث وما تلاها من نتائج.
وإذا كانت الأركيولوجيا قد كانت المفهوم الأكثر حضوراً في فكر «فوكو» خلال الستينات، فإنه شرع منذ بداية السبعينات في صياغة أداة منهجية جديدة مكملة للأركيولوجيا ومساندة لها، وهي الجينالوجيا، التي استعارها كما سبق أن ذكرنا من «نيتشه».
يعرّف «نيتشه» الجينالوجيا في كتابه: «جينالوجيا الأخلاق» Genealogy of morals «بأنها تتبع وتعقب مراحل نشأة وتطور القيم الميتافيزيقية، بالإحالة دائماً إلى الشروط الوجودية والمصلحية المنتجة لها، والفكرة الناظمة لهذا المنهج الجينالوجي هي أن جميع الظواهر عبارة عن تأويلات، ولا توجد هناك على الإطلاق أية ظاهرة في حد ذاتها». (عبد الرزاق الدواي 1992: 35)
لقد بدأ التحول نحو الجينالوجيا يظهر عند فوكو منذ كتابيه: نظام الخطاب، ونيتشه والجينالوجيا والتاريخ اللذين صدرا في عام 1971، وأصبح أكثر بروزاً ووضوحاً في كتابيه المراقبة والعقاب عام 1975، والجزء الأول من كتابه تاريخ الجنس عام 1976، حيث قام «فوكو» بقلب نظام الأولوية لصالح «الجينالوجيا» التي أصبحت الآن تحتل المرتبة الأولى في سلم اهتماماته، وإن كان يؤكد أن الجينالوجيا تتكامل مع الأركيولوجيا وتتمم عملها. (عبدالرزاق الدواي 1992: 158)
يصف «فوكو» الجينالوجيا بشكل عام بأنها شكل من التاريخ يفسر كيفية تشكل المعرفة والخطاب والموضوعات دون الاضطرار إلى الرجوع إلى الذات، سواء أكانت الذات متعالية في علاقتها بمجال الأحداث أو ناقشة هويتها "الفارغة" عبر التاريخ. (Giddens 1995: 262)
الملاحظ هنا بداءة أن ثمة تصور مغاير للتاريخ يقدمه «فوكو» يتأسس على فكرة الاختلاف وليس التواصل التاريخي، فالجينالوجيا تهتم بالبحث عن أصل و«نسابية» وجذر الفكرة أو الحدث، ليس طبقاً للمنهج التاريخي التقليدي الذي يتابع نشأة الظاهرة ومسارها اللاحق، ولكنها تلاحق من موقع الحاضر فيما وصلت إليه الفكرة أو الحدث وتكشف التأويلات التي مرت بها والأقنعة التي تلبستها في مسارها التاريخي، أي أن الجينالوجيا ترجع من الحاضر إلى الماضي، ولا تبدأ تاريخياً من الماضي إلى الحاضر في سياق زمني «كورنولوجي» محدد. (عبدالعزيز العبادي 1994: 55)
وإذا كان المعنى المثبت للجينالوجيا هو دراسة مراحل النشوء والتكون لغاية إثبات الأنساب والأصول، وفي ميدان تاريخ الفكر البحث عن الأصل الذي صدرت عنه فكرة ما، فإن «فوكو» يأخذ هذا المصطلح في دلالاته القصوى، ويجعله يعني أولاً وأخيراً الاقتلاع من الجذور أكثر مما يعني البحث عن حقيقة أولى أو عن هوية مفقودة: فغاية الجينالوجيا هي بالأحرى هدم وتقويض فكرة الأصل والمركز والحقيقة، فليست هناك ماهية للأشياء...المهايا كلها مصطنعة ومحبوكة قطعة .. قطعة. (عبدالرزاق الدواي 1992: 158- 159)
إن الجينالوجيا تسعى إلى كشف تميز الأحداث بعيداً عن كل غائية، بالنسبة للباحث الجينالوجي لا توجد جواهر ثابتة ولا قوانين أساسية، ولا غايات ما ورائية، تسعى الجينالوجيا إلى توضيح الانقطاعات حيثما يكون آخرون قد لاحظوا أن ثمة تطور مستمر، إنها تصف ماضي الإنسانية لكي تكشف زيف أناشيد التقدم الرسمية، إنها لا تهتم بالبحث عن العمق، وتحاول بالأحرى أن تظهر الأحداث السطحية والتفاصيل الصغيرة والانتقالات عديمة الشأن والحدود الدقيقة. (دريفوس ورابينوف: 99)
الجينالوجيا – أو ما يسميه بالتاريخ الفعال هي مقابل للبحث عن الماهيات والجذور. إن الاعتقاد في فكرة الأصل هو أن الأشياء تخفي سراً جوهرياً سرمدياً، بيد أن التحليل الجينالوجي يكشف فقط التفاوت والانقطاع، في الحقيقة أن الجوهر يتشكل واقعياً من أشكال غريبة غير متجانسة. (Marks 2000: 130)
أصبح «فوكو» يؤكد الآن بأن لا شيء عميقاً وخفياً يكمن خلف المظاهر، ولا وجود لمعنى أو لحقيقة أولى يمكن الوصول إليها من خلال التأويل، فالتأويل لا يصل أبداً إلى نص أول، وإنما ينتهي إلى تأويلات أخرى لا علاقة لها بالواقع أو الأشياء، فرضت ووضعت من قبل أناس آخرين ... على الجينالوجي إذاً أن ينسف أفكار الذات والحقيقة والمعنى والأصل والتطور والتقدم، ويعلن الغياب الدائم للأساس والحقيقة، ليست هناك مهايا أو حقائق أو قوانين أساسية أو غايات ميتافيزيقية، هناك فقط انقطاع واتصال، بعد هذا الهدم للبداهات الراسخة، عليه أن يكشف عن لعبة صراع الإرادات: فحيثما صوب نظرة عليه أن يبحث عن مظاهر الخضوع والهيمنة والصراع، وكلما تطرق إلى سمعه حديث عن المعنى والقيم والفضيلة، فعليه أن ينكب على تعرية أساليب السلطة والقوة. (عبدالرزاق الدواي 1992: 159)
وفي سياق تحليل الجسد وفق المنهج الجينالوجي، يؤكد «فوكو» أن الباحث الجينالوجي هو شخص يتفحص العلاقات بين السلطة والمعرفة والجسد في المجتمع الحديث، أي أن مهمة الجينالوجي ليست البحث عن معنى عميق للسلطة قائم في ما وراء سطح الحوادث والعلاقات، وليست كشفاً لما لم يتمكن من الإعلان عن ذاته منها، وليست تحريراً لما كبتته السلطة أو قمعته، وليست إعلان حقيقة مالا يجد حقيقته في ذاته، وليست وصلاً لما انقطع من عرى وحدة الذات واستمرارية التاريخ، بل هي وصف للحدث كما يتبدى، ومتابعة لما هو كائن، هي انحياز لصوت المعركة ضد ثبوتية السلم المزعومة، إنها عمل توصيفي لتقنيات مراقبة الجسد وتطويعه، بهذا الاعتبار نستطيع أن نبين أن «ما يجمع بين أعمال فوكو حول الجزاء وأعماله حول الجنسانية، إنها العلاقة بالجسد، بتاريخه، بل أيضاً بمساره الاقتصادي-السياسي، نتيجة للتأثير الذي تمارسه عليه السلطة السياسية بشكل عام». (عبدالعزيز العبادي 1994: 55)
وفي إطار اهتمام «فوكو» بالوثيقة أو الأرشيف ضمن منهجه الجينالوجي، يرى «فوكو» أن الوثيقة Document كما يراها ليست في النص الذي يأسرنا في بحثنا عن أكبر قدر ممكن من الموضوعية لمقاربة موضوعات البحث، وليست الوثيقة هي التزامنا تجاه الماضي، نقدس مطلقيته لتصبح مستقبلية المستقبل، والأنموذج الموجه لآنية الحاضر، بل الوثيقة هي الجسد ذاته كما هو مأخوذ في علاقات السلطة، تحفر فيه أخاديد لا تمحى، وترسم على جدرانه بوشم عصي زواله، فتكون الجينالوجيا بذلك هي إعادة رسم الشناعات والفظا عات التي تخترق التاريخ بعيون الراهن وأسئلة الحاضر، إن وصف الأرشيف يظهر خصوصية السلطة التي مورست والتي تمارس، لا كما يجب أن تمارس. (عبدالعزيز العبادي 1994: 56)
ويكشف «فوكو» في نهاية كتابه «نيتشه» الجينالوجيا والتاريخ «بمنظاره الجينالوجي» العلاقة بين المعرفة والجسد والسلطة والهيمنة، فيرى أن المعرفة متورطة تماماً في الصراع الدنيء لعلاقات الهيمنة، المعرفة لا تقدم مخرجاً، بل تفاقم المخاطر التي نجابهها، يقول فوكو: «قديماً كانت الديانات تطلب التضحية بجسد الإنسان، واليوم تدعو المعرفة إلى إجراء التجارب على أنفسنا من أجل فاعل المعرفة، كل الميادين مباحة الآن بقوة البحث العلمي، ينجم عن ذلك أن كل شيء عالق بالقوة في شبكات المعرفة التي يزداد تشابكها تعقيداً كلما تقدمت المعرفة، ونحن الآن على وشك التضحية بأجسادنا من أجل كذبتنا الكبرى: الوهم بأن المعرفة موجودة بمعزل عن السلطة». (دريفوس ورابينوف: 105)
ويوظف «فوكو» أداتيه المنهجيتين المذكورتين في "الحفر والتنقيب" عن الآليات والنظم والممارسات التي ساهمت في إخضاع الجسد وتدجينه، منذ القرن السابع عشر، ويسقطها كذلك على الجسد في القرن العشرين، وهذا ما تكشف عنه الفقرة التالية.
3- آليات إخضاع الجسد: ارتباط السلطة والبيولوجيا:يعمق «فوكو» في دراساته المتعددة الإطار النظري للتعامل مع مفهوم الجسد من قلب العلوم الإنسانية. ففي تحليله لأشكال ومظاهر السلطة في العالم العربي يستخدم الجسد ككاشف ثمين لتحليل آليات السلطة في المجتمع الغربي المعاصر، ويعتبر أنه يشكل إحدى أهم الوسائط التي استخدمت لممارسة وتمرير سلطة مغلقة، ورقابة سياسية رهيفة. حيث يتحدث عن انتقال السلطة الممارسة على الأفراد مما يسميه «امتلاك حق الحياة أو الموت» حين كان الملك يملك حق التصرف في حياة رعاياه، إلى الحرص على الحياة وعلى تدبيرها، هذا الحرص تطور منذ القرن السابع عشر في شكلين أساسيين لممارسة السلطة والرقابة على الجسد يعبر عنهما فوكو بمفهومين مركزيين هما: التشريح السياسي للجسد، والبيولوجيا السياسية للسكان. (زينب المعادي 2004: 23- 24)
والحقيقة أن عمليتي التشريح السياسي للجسد Political anatomy والبيولوجيا السياسية للسكان Bio-politics تمثلان آليتين ناجعتين لإخضاع الجسد وتطويعه و«استثماره» بحيث يمكن الاستفادة منه بأكبر قدر ممكن ، يقرر فوكو في هذا الصدد: «أن التشريح السياسي للجسد، والبيولوجيا السياسية للسكان، يشكلان القطبين الأساسيين للذين يدور حولهما تنظيم وممارسة القوة على الجسد». (Turner 1992: 10)
تتركز الآلية الأولى –التشريح السياسي للجسد- في العمل على تدحين الجسد وترويضه من خلال زيادة قدراته الإنتاجية، إنهاك قوته، تنمية نفعه وخضوعه في آن واحد، دمجه في أنساق رقابة صارمة سياسية واقتصادية. (زينب المعادي 2004: 24)
والحقيقة أن «فوكو» كان منشغلاً بفهم طبيعة الممارسات المصاحبة للنظام الرأسمالي التي أنتجت الجسد الوديع Docile body والجسد المنضبط disciplined body والجسد المنتج Productive body لقد تصور ظهور نمط جديد من المجتمع يسميه المجتمع الجسدي Carceral society. (Turner 1992: 10)
لقد أنهار الجسد –وفق رؤية فوكو- بفعل العديد من النظم، لقد أنهار من إيقاع العمل، وعدم الراحة، وسمم بالطعام أو «القيم» من خلال خضوعه للعادات والقوانين الأخلاقية، لقد انسحق الجسد كلياً عبر التاريخ. (Crossley 1996: 101)
يقول «فوكو» في كتاب "المراقبة والعقاب" Discipline & Punish الذي صدر في عام 1975: «إن الجسد غارق مباشرة في الميدان السياسي، فعلاقات السلطة تمارس تأثيراً مباشراً عليه، إنها تستثمره، توصمه، تروضه، تعذبه، تفرض عليه أعمالا، تلزمه باستعراضات، تطلب منه إشارات ... وكل ذلك مرتبط مباشرة بالنظام الاقتصادي، لأن الجسد مفيد ومنتج في ذات الآن، إنما لا يمكن تشغيل الناس بصورة فعالة ومريحة، إلا عندما يكونون قد «أسروا» في نظام إخضاعي، حيث الحاجة هي أيضاً أداة سياسية معدة ومدروسة ومستخدمة بعناية. لا يصبح الجسد قوة مفيدة إلا إذا كان الجسد منتجاً خاضعاً في ذات الوقت». (دريفوس ورابينوف: 104)
ويخلص «فوكو» في النهاية إلى قضية أساسية في هذا الصدد وهي أن الجسد يمثل المحصلة التاريخية للعلاقة بين المعرفة والقوة والتي تنتج واقعياً أنماطاً مختلفة من الأجساد الخاضعة، وهذه الرؤية تتباين مع رؤى الفلاسفة الوجوديين والفينومينولوجيين من أمثال سارتر وميرلو-بونتي. (Turner 1992: 94)
أما الآلية الثانية لإخضاع الجسد –وهي ما يسميها فوكو البيولوجيا السياسية للسكان- فهي ترتبط بتنظيم الحياة البشرية بتقنيات ووسائل وأدوات علمية صارمة، لا تشمل الروح فحسب، وإنما تتضمن الجسد أيضاً، حيث اعتمدت في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر مجموعة من التدابير الإدارية والإجراءات العملية استعارتها السياسة من البيولوجيا والاقتصاد والرياضيات وعلم الإحصاء لتدبير مجالات الكائن الحي من صحة وعمران وتعليم، تعدتها بعد ذلك لضبط المجال العام والخاص بالإنسان من زواج ومواليد ووفيات وتحديد النسل، وتدابير الإنقاذ والإسعاف في حالة الأوبئة والكوارث الطبيعية. (حسن المصدق 2007)
لقد تجلت تقنية السيطرة على الجسد وإخضاعه في عصر التنوير في تنظيم الرقابة على الحياة عبر ضبط الجسد وتنظيم السكان وتميزت بأنها ذات بعد بيولوجي-تشريحي، فلم يُعد القتل مهماً بالنسبة للسلطة السياسية، بل المهم هو استثمار الحياة من خلال استثمار الجسد، إدارته، تدبيره، ويعتبر «فوكو» أن السلطة على الجسد كانت من أهم العناصر في نمو الرأسمالية الذي لم يكن ليتحقق إلا بالدمج المضبوط والمراقب للجسد في جهاز الإنتاج، وبواسطة تكييف الظواهر السكانية مع التغيرات الاقتصادية. (زينب المعادي 2004: 24- 25)
وإذا كانت الأجهزة الكبرى للدولة كمؤسسات سلطة قد ضمنت تثبيت علاقات الإنتاج، فإن البيولوجيا السياسية والتشريح السياسي أيضاً –كتقنيتي سلطة - حاضرتان على كل مستويات الجسد الاجتماعي، ومستخدمتان من جانب مؤسسات مختلفة كالأسرة والجيش والمدرسة والشرطة والطب والسجون، قد أثرتا على مستوى العمليات الاقتصادية، كما تم استعمالها كعوامل لتبرير التمييز والتراتبية الاجتماعية، وبالتالي لتبرير علاقات الهيمنة، لقد كان تكييف تراكم البشر مع تراكم رأس المال، وتكييف نمو الجماعات الإنسانية مع توسع قوى الإنتاج والتوزيع اللامتساوي للأرباح ممكناً بفضل ممارسة ما يسميه «فوكو» السلطة البيولوجية في أشكالها المتنوعة، فاستثمار الجسد الحي وتدبير قواه ومنحه قيمة أشياء ضرورية لا غنى عنها لنمو واستمرار النظام الرأسمالي. (زينب المعادي 2004: 25)
لقد تبين للحكومات في نهاية القرن السابع عشرو بداية القرن الثامن عشر، أنها ليست معنية «بالشعب» أو«بالرعية» بل مهتمة «بظاهرات» محدودة قطاعياً هي الظاهرات السكانية كالصحة والولادة والتغذية والسكن Habitation والاهتمام بالمكان؛ لأن الجسد ذاته بالنسبة لها مكان، فالسلطة البيولوجية هي الشكل الذي حاولت به الحكومات منذ القرن الثامن عشر عقلنة المشكلات التي تطرحها ظواهر خاصة بمجموعة من «الأحياء» الذين تشكلوا كسكان على الحكومة، كالعافية، وقواعد الصحة، ومعدل الأعمار والأنساب ... إلخ». (عبدالعزيز العبادي 1994: 56)
وقد كشف «فوكو» في كتابه إرادة المعرفة أنه يريد توضيح الكيفية التي ترتسم بها أجهزة الدولة على الجسد، وعلى وظائفه البيولوجية وعملياته النفسية، فثمة ارتباط بين التاريخي والبيولوجي، وثمة تعقد يتصاعد باستمرار مع تطور التقنيات الحديثة للسلطة التي تتخذ الحياة كهدف لها: يقول فوكو: «لا يتعلق الأمر بتاريخ للعقليات لن يهتم بالأجساد إلا حسب الطريقة التي ندركها بها أو نعطيها به دلالة ومعنى، ولكن الأمر ينبغي أن يتعلق بتاريخ للأجساد يهتم بالطريقة التي استثمر بها ما هو أكثر مادية وأكثر حيوية فيها». (زينب المعادي 2004: 26)
ويوضح «فوكو» أن ممارسة السياسة الحيوية لا تزال مستمرة في المجتمعات المعاصرة، فالدولة الحديثة تهتم بصورة متزايدة بتنظيم الأجساد الإنسانية من خلال التشريعات الطبية التي تعني بقضايا كالإجهاض، رعاية الأطفال، الاهتمام بالإيدز كوباء حديث، والتشريعات المتعلقة بحقوق المواطنة فيما يخص التغيرات النوعية sex changes والعلاقات المثلية وغيرها. إن عملية «تسييس» Politicization الجسد تعيد التأكيد على العلاقة المعقدة بين المواطنة والجسد والنوع Gender وقد كانت هذه التغيرات الهائلة في سياسات الجنس إحدى العمليات الهامة التي أسهمت في الظهور المعاصر للجسد في النظرية الاجتماعية. (Turner 1992: 46)
والحقيقة أن برامج تنظيم الأسرة التي تروج لها حكومـات العالم الثالث تمثل نموذجاً بيناً (وخاطئا) للبيولوجيا السياسية للسكان، حيث تختزل الحكومات مشــكلات الفقر والبطالة والمرض وغيرها في زيادة معدل المواليد (وهي بهذا المعنى تعيد إنتاج النظرية المالتســـية التي ثبت زيفها وعنصريتها) وتحاول الحكومات بأســاليب سطحية الحد من الزيادة السكانية، دون الالتفات إلى تنمية قدرات هؤلاء السكان وتحويلهم إلى قوى إنتاجية فعالة، بحيث يصبح الســـكان عاملاً للتنمية، وليس معوقاً لها. واللافت للنظر في هذا الإطار أنه حتى مع التعامل السـطحي للمشكلة، فإن معالجتها إعلامياً تتم بشكل قاصر لا يتغلغل إلى أعماق البنية الثقافية بما تحتويه من قيم ومعتقدات ورؤى متباينة للعالم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*)هذا المقال جزء من دراسة سابقة للباحث في المرجع التالي:
حسني إبراهيم عبد العظيم، الجسد والسلطة والمعرفة: دراسة تحليلية لإســـــهام ميشيل فوكو في تأسيس سوسيولوجيا الجسد،مجلة كلية الآداب، جامعة بني ســـــويف، العدد الثاني عشر – الجزء الثاني، إبريل 2008.
المراجع:–
1 - أوبيير دريفوس وبول رابينوف (د.ت)ميشــــــيل فوكو: مسـيرة فلسفية، ترجمة جورج أبي صالح،مركز الإنماء العربي ، بيروت .
2 - حسن المصدق (2007) البيولوجيا السياسية بين سلطة المعرفة ومعرفة الســلطة، جريدة العرب الدولية ، لندن ،26 – 7 – 2007.
3 – ديفيد لوبروتون (1997) انثروبولوجيــــا الجســــد والحداثة ، ترجمة محمد عرب صاصيلا، المؤسســة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ،بيروت
4- – زينب المعادي (2004) الجســــد الأنثوي وحلم التنمية : قـــراءة في التصـورات عن الجســـــد بمنطقة الشاوية ، غير مبين دار النشر.
5 – عبد الرزاق الدواي (1992)موت الإنســــان في الخطاب الفلسفي المعاصر ، دار الطليعة للطباعة والنشر ، بيروت.
6 – عبد العزيز العيـــــــادي(1994) ميشيل فوكو : المعرفة والســــلطة ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ، بيروت.
7 – ميشيل فوكو (1987) حفريــات المعرفة ، ترجمة ســالم يفوت ،المركز الثقافي العربي، بيروت ، الدار البيضاء.
8 – هاشــم صـالح (1996)بين مفهوم الأرثوذوكســـية والعقلية الدوجمائيــة ، مقدمة الترجمة العربية لكتاب محمد أركون ، الفكر الإســـلامي : قراءة علمية ، مركز الإنماء العربي، بيـــــــروت.
9 – Crossley , N. (1996) Body – subject / Body power : agency, inscription and control in Foucault and Merleau – ponty, Body & society , Vol. 2 ,No.2.
10 – Giddens A. (1995) Politics , sociology and social theory :encounters with classical and contemporary social thought ,
Stanford university press , California.
11 – Hughes ,B. (1996) Nietzsche : philosophizing with the body , Body & society , Vol.2 ,No. 3.
12 – Marks ,J.(2000) Foucault ,Franks , Gauls : the 1979 lectures at the College de France, Theory , Culture & Society ,Vol.17 ,No.5.
13 - McNay, L.(1999) Gender, Habitus and the field: Pierre Bourdieu and the limits of reflexivity, Theory, Culture & Society,Vol.16, No.1
14 - Powell, J. (2002) archaeology and genealogy : developments in Foucauldian gerontology, International Journal of linguistics , society& culture , Issue 11
15 - Shilling, K. (2001) The embodied foundations of social theory ,In Ritzer, G.& Smart, B. (eds.)Handbook of social theory, Sage publications , London.
16 - Turner, B.(1992) Regulating bodies :Essays in medical sociology, Routledge, London and New York.
17 - Turner, B.(ed.)(2006) The Cambridge dictionary of sociology , Cambridge university press .