أولاً-البدايات الأولى لدراسة الأنثروبولوجيا :
شهد القرن العشرين مراحل تكوين الأنثروبولوجيا وتطويرها، لتصبح كياناً أكاديمياً ومهنة متخصّصة عند كثير من العلماء والفلاسفة والباحثين. فعلى الرغم من أنّ الفكر الأنثروبولوجي قد ظلّ خلال العقدين الأوليين من القرن العشرين، متأثّراً إلى حدّ بعيد، بالنظريات التي سادت وتبلورت في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر، فإنّه سرعان ما تغيّر وتحوّل إلى منطلقات جديدة، نتج عنها اتّجاهات متعدّدة إزاء دراسة الإنسان وحضارته، سواء ما كان منها نظرياً أو منهجيّاً (فهيم، 1986، ص 149)
إنّ الاتجاه العلمي الذي نشط في القرن التاسع عشر، وتبلور في مجالات متعدّدة، دفع العقل الإنساني إلى نبذ الفكر الفلسفي الذي كان يتحفّظ على قدرة العقل الإنساني في التوصّل إلى الحقيقة المطلقة. وهذا ما نتج عنه قيم فكرية جديدة تدعو إلى النظر إلى العقل والمنطق المحسوس، والواقع الملموس كأدوات للمعرفة، كما تدعو إلى التفاؤل بمستقبل الإنسانية .
إلاّ أن أحداث الحرب العالمية الأولى ونتائجها السلبية على المجتمع الإنساني، بدّدت هذا التفاؤل، وأحلّت محلّه النظرة التشاؤمية. وهذا ما بدا في نظرة الفلاسفة إلى مشكلات الإنسان في هذا القرن (القرن العشرين )، إلى حدّ اعتقاد بعضهم أنّ المستقبل صعب ومظلم مع ظهور النازية في ألمانيا، والفاشية في إيطاليا. وبلغ هذا الاتّجاه ذروته فيما عرف بالحركة( الوجودية) التي شاعت في فرنسا، وعلى رأسها/ جان بول سارتر/ الذي عاش ما بين (1905- 1980)
وبرز مقابل هذا الاتجاه التشاؤمي، اتجاه آخر اتّصف بالتفاؤل، كان من أبرز رواّده في أمريكا الفيلسوف التربوي / جون ديوي / الذي عاش ما بين
(1859-1952). فقد أصدر كتابه الشهير " إعادة البناء في الفلسفة " وتبنّى فيه موقفاً صريحاً مناهضاً للفلسفة الميتافيزيقية .
ودعا فيه إلى ضرورة الاهتمام بالبحث عن القوى المعنوية التي تحرّك مناشط الإنسان، لاعتقاد/ ديوي/ أنّ لدى هذا الإنسان الكثير من الإمكانات والقدرات التي يمكنه بواسطتها الخروج من أزمته الراهنة .. كما تساعده في مشكلاته الحياتية المتزايدة، دون اللجوء إلى قوى خارجة عن نطاق الطبيعة .
وكان للدين أيضاً تأثيراته في تشكيل الفكر الأنثروبولوجي في العقود الأولى من القرن العشرين، ولا سيّما على النظم الاجتماعية. إلاّ أنّ ذلك التأثير تضاءل أمام تعاظم التيارات التحرّرية وما رافقها من إنجازات علمية هائلة، الأمر الذي حدا بالكنيسة في بداية النصف الثاني من القرن العشرين، إلى تقبّل فكرة الحوار وحرية المناقشة في الأمور الدينية والدنيوية .. بعيداً عن الأساليب القمعية التقليدية .(Burns,1973,p.892)
وهكذا، شكّل هذا العلم دعامة أساسيّة في ثقافة القرن العشرين عامة، وفي الفكر الأنثربولوجي خاصة، حيث كان وثيق الصلة بالفكر الاجتماعي والقضايا الإنسانية التي أسهمت في تحديد موضوعات الدراسات الأنثروبولوجية، ومناهجها وأهدافها .
ثانياً-الاتّجاهات المعاصرة في دراسة الأنثروبولوجيا :
لاقت النظرية التطوّرية التي ظهرت في القرن التاسع عشر، انتقادات واسعة باعتبارها استندت إلى الحدس والتخمين، وتعميم الأحكام المطلقة على الثقافات الإنسانية، من دون أن تثبت صحّة ذلك بالبراهين أو القرائن العملية / الواقعية.
ولذلك، بدأت تضمحلّ تدريجياً مع بداية القرن العشرين، لتحلّ محلّها أفكار نظرية جديدة لدراسة الثقافات الإنسانية، من حيث نشوؤها ومكوّناتها وتطوّرها. فكان أن ظهرت خلال الربع الثاني من القرن العشرين ثلاثة اتجاهات رئيسيّة متفاعلة فيما بينها، ركّزت في دراساتها على تناول العلوم الاجتماعية، بأسسها ومنطلقاتها وأهدافها. وهذا ما أسهم بفاعلية في إرساء دعائم علم الأنثربولوجيا المعاصر .
1-الاتّجاه التاريخي :
ويقسم إلى قسمين : الاتجاه التاريخي / التجزيئي ، والاتّجاه التاريخي النفسي. وسنقدّم فيما يلي عرضاً موجزاّ لكلّ منهما .
1/1- الاتّجاه التاريخي / التجزيئي : ذكرنا أنّ الفكر التطوّري للحضارات الإنسانية، أصبح سائداً في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث بدأت تتبلور الدراسات الأنثروبولوجية .وظهر إلى جانبه أيضاً الاتّجاه الانتشاري الذي يعتمد على أنّ نشأة الحضارة الإنسانية كلّها ترجع إلى مصدر (مجتمع) واحد، ومنه انتشرت إلى أماكن أخرى في العالم .
ويوجد الاتّجاه الانتشاري في كلّ من الأنثروبولوجيا الثقافية والأنثروبولوجيا الاجتماعية، وإن أخذ طابعاً خاصّاّ في كلّ منهما. فتطبيق الاتجاه الانتشاري في مجال الأنثروبولوجيا الثقافية، يتعلّق بجمع العناصر الثقافية، بما في ذلك من العناصر التكنولوجية والفكرية، بينما يقتصر في مجال الأنثروبولوجيا الاجتماعية، على العلاقات والنظم الاجتماعية السائدة في المجتمع، والتي تشمل بعض العناصر الثقافية، ولا تشملها كلّها .
ويقوم الاتجاه هنا على مبدأ هام، وهو أنّ النظم الاجتماعية كثيراً ما تستعار أو تنقل من مكان إلى مكان آخر. وبناء على ذلك، فإنّ تشابه النظم الاجتماعية والعادات، في المجتمع الواحد أو في المجتمعات المختلفة، لا ينشأ على نحو تلقائي، وإنّما ناتج عن التشابه في الإمكانات الاجتماعية والطبيعيّة والإنسانية. (جابر، 1991، ص 85 )
وعلى الرغم من ذلك، استمرّ اهتمام الباحثين باستخدام المنهج التاريخي في تفسير ظاهرة التباين بين الحضارات في المجتمعات الإنسانية. واعتمد هذا الاتّجاه على مبدأين اثنين .
أولهما : أنّ الاتّصال بين الشعوب المختلفة، كان بفعل الاحتكاك الثقافي / الحضاري، المباشر وغير المباشر.
وثانيهما : عملية انتشار بعض المكوّنات (الخصائص) الحضارية أو كلّها، من مصادرها الأصلية إلى المجتمعات الأخرى، سواء بالرحلات التجارية أو بالكشوف أو بالحروب والاستعمار. وهذان المبدآن متكاملان في دراسة الظواهر الثقافية، ويمكن من خلالهما تفسير التباين الحضاري بين الشعوب .
وقد اعتمد هذا الاتّجاه منهجاً تاريخياً –جغرافياً، قاده الألماني /فريدريك راتزال / الذي ركّز على أهميّة الاتّصالات والعلاقات الثقافية بين الشعوب المختلفة، ودورها في نمو الحضارة الخاصة والعامة .وتبعه في ذلك تلامذته، ولا سيّما / هوينريخ شورتز/ الذي أبرز فكرة وجود علاقات حضارية بين العالم القديم (إندونيسيا وماليزيا) والعالم الجديد (أمريكا) .وكذلك /ليوفرو بينيوس / صاحب نظرية (الانتشار الحضاري) بين إندونيسيا وأفريقيا.
وانطلاقاً من هذا الاتّجاه، ظهرت في أوروبا نظريتان مختلفتان حول التفسير الانتشاري لعناصر الثقافة.
النظرية الأولى : هي النظرية الانتشارية التي تعتمد الأصل المركزي الواحد للثقافة / الحضارة . سادت هذه النظرية في إنكلترا، وأرجعت نشأة الحضارة الإنسانية كلّها إلى مصدر واحد، ومنه انتشرت إلى المجتمعات الإنسانية الأخرى .
وكان من روّاد هذه النظرية، عالم التشريح / إليوت سميث / وتلميذه / وليم بيري / اللذان رأيا أنّ الحضارة الإنسانية، نشأت وازدهرت على ضفاف النيل في مصر القديمة، منذ حوالي خمسة آلاف سنة قبل الميلاد .
وعندما توافرت الظروف المناسبة للتواصل بين الجماعات البشرية، بدأت بعض مظاهر تلك الحضارة المصرية القديمة تنتقل إلى أرجاء متعدّدة من العالم، حيث عجزت شعوبها عن التقدّم الثقافي والابتكار الحضاري، فراحت تعوّض عن ذلك العجز بالاستيراد والتقليد. (رياض، 1974، ص 127)
لقد نال / إليوت سميث / شهرة كبيرة عن جدارة، نتيجة أبحاثه عن المخ ودراساته في الأنثروبولوجية القديمة Paleo-anthropology))، حيث انكبّ في إحدى فترات حياته على دراسة المخ في المومياء المصرية. وقادته أبحاثه هذه إلى الإقامة في مصر، حيث أدهشته الحضارة المصرية القديمة. وأخذ، كما فعل العديدون، يلاحظ أنّ الثقافة المصرية القديمة، تضمّ عناصر كثيرة يبدو أنّ لها ما يوازيها في ثقافات بقاع أخرى من العالم، وقلبت نظرياته الجريئة، الاعتبارات التقليدية عن الزمان والمكان. فلم يقتصر على القول بأنّ العناصر المتشابهة في حوض البحر الأبيض المتوسط وأفريقيا والشرق الأدنى والهند، من أصل مصري، بل ذهب إلى أنّ العناصر المماثلة في ثقافات أندونيسيا والأمريكتين، تنبع من المصدر المصري ذاته .
أمّا / وليم بيري / فقد أعطى في كتابه (أبناء الشمس) شرحا كاملاً للنظرية " الهيليوليتية Heliolithic " وهو الاسم الذي أطلق على / المدرسة الانتشارية / عن تاريخ الثقافة. فعنوان الكتاب، يشير إلى أحد عناصر المجمّع الثقافي الذي تزعم هذه المدرسة أنّ أصله في مصر، ومنها انتشر.. وهو الاعتقاد بأنّ الملك ابن الشمس، والعناصر الأخرى في هذا المجمّع هي : التحنيط، بناء الأهرامات، والقيمة الكبرى للذهب واللآلىء .( هرسكوفيتز، 1974، ص 210 )
وتنطلق براهين / سميث وبيري / من أنّ بناء الأهرامات أيضاً من منشأ مصري، كما هي الحال في أهرامات المكسيك. وكذلك الأمر في احتفاظ الأفريقيين بعظم ساق الملك المتوفّى، لاستعماله في الطقوس الدينية نتيجة لانتشار عادة التحنيط عند المصريين.
النظرية الثانية : هي النظرية الانتشارية التي تعتمد الأصل الثقافي / الحضاري، المتعدّد المراكز. وكان من دعاة هذه النظرية، فريق من العلماء الألمان والنمساويين، وفي طليعتهم / فريتز جراينور / الذي عاش في الفترة ما بين 1875-1934) و/وليم شميدت / الذي عاش في الفترة ما بين (1868-1959) .
لقد رفض هذا الفريق فكرة المنشأ( المركز) الواحد للحضارة الإنسانية، لأنّ هذه الفكرة ضرب من الخيال أكثر من قربها إلى الأساس العلمي. وافترضوا وجود مراكز حضارية أساسية وعديدة ، في أماكن متفرقة في العالم. ونشأ من التقاء هذه الحضارات، بعضها مع بعض، دوائر ثقافية تفاعلت ببعض عمليات الانصهار والتشكيلات المختلفة .
وكان / ويسلر / أوّل من استعمل (الدائرة الثقافية) بهذا المعنى، في بحثه عن ثقافات الهنود الأمريكيين. ولا يزال تعريفه لهذا المفهوم على الرغم من تعديله، منذ ذلك الوقت مفيدا في هذا المجال. يقول / ويسلر / : " إذا أمكننا تجميع سكان العالم الجديد الأصليين، أي الهنود الأمريكيين، فسنحصل على دوائر متعدّدة : دوائر طعام، دوائر منسوجات، ودوائر خزف ... وغيرها. وإذا أخذنا في الحسبان العناصر جميعها في وقت واحد، وحوّلنا الوحدات الاجتماعية أو القبلية، يمكننا أن نجد جماعات محدّدة المعالم، وهذا ما يعطينا الدوائر الثقافية، أو تصنيفاً للجماعات وفق عناصر ثقافتهم ". (هرسكوفيتز، 1974، ص 124 )
وهذا ما يفسّر أوجه الاختلاف عن تلك الثقافات المركزية الأساسية. إلاّ أنّ أصحاب هذا الرأي لم يقدّموا الدلائل على أماكن وجود تلك المراكز، أو عمليات تتبع حركات الاتّصال فيما بينها، ودراسة النتائج المترتّبة على ذلك، بطريقة منهجيّة سليمة .( فهيم، 1986، ص160)
لقد كانت وجهة نظر المدرسة (الثقافية التاريخية) الألمانية – النمساوية، أكثر عمقاً وتنميقاً .. وكانت عنايتها باختيار معايير الحكم على قيمة وقائع الاقتباس المفترضة، وإصراراها على الحيطة في استخدام مصادر المعلومات، ودقّتها في تحديد تعريفاتها، وغنى وثائقها، تتجاوب كلّها تماماً مع متطلّبات البحث العلمي الدقيق، ولهذا لاقت قبولاً واسعاً .
تقوم نظرية المدرسة (الثقافية – التاريخية) في جوهرها، وكما شرحها زعيمها / وليم شميدت /، على نظرة صوفية إلى طبيعة الحياة وإلى التجربة الإنسانية. فقد نشأت هذه المدرسة ضمن إطار فكري، واستخدمت تعبيرات ومصطلحات تختلف اختلافاً جوهرياً عن النظرة العقلانية، وعن مفردات أغلب المفكّرين الأنثروبولوجيين .. ويظهر ذلك في مناقشة / شميدت /طرائق البحث في دراسة الدوائر الثقافية المختلفة، والتي تقسم إليها هذه المدرسة، أي الثقافات جميعها .، وترى أنّها انتخبت الثقافات الموجودة – اليوم – في العالم، بواسطة انتشار عناصرها .
ويعترف / شميدت /، كما يعترف الأنثروبولوجيون جميعهم، بالحاجة إلى فهم (معنى الحياة البدائية) بالنسبة لمن يعيشونها. والأهمّ من ذلك، فهم معناها بالنسبة لأولئك الذين عاشوها في العصور الغابرة ... ويقول / شميدت / إنّنا نعرف ذلك باللجوء إلى المبدأ السيكولوجي التعاطفي، الذي يستطيع الإنسان بواسطته أن يضع نفسه في الحالة النفسيّة للشخص الذي يرتبط معه بعلاقة ما.(هرسكوفيتز، 1974، ص213)
أمّا إسهام / فريتز جرابنور/ في منهج المدرسة التاريخية – الثقافية بوجه خاص، وفي علم الأنثروبولوجيا، بوجه عام، فتمثّل في التحديد الدقيق الموضوعي لمعايير تقييم انتشار بعض العناصر الثقافية، من شعب إلى شعب آخر .
فالنظام الاجتماعي والثقافة السائدان عند جماعة (مجتمع ما) لهما تأثير انتقائي، إذ يحولان دون قبول نماذج لا تنسجم البتّة مع النسق القائم. وفي الوقت نفسه، لا يمكن تجاهل أثر الاقتباس على الأنظمة الاجتماعية، حيث تتوقّف فرص الاقتباس على الاحتكاكات التي تكون وليدة المصادفات. ومثال ذلك : أن تكون الثقافة التي احتكّ بها الهنود المكسيكيون هي الثقافة الإسبانية، أمر يمكن اعتباره حدث اتفاقاً وعَرَضاً. وكذلك الحال بالنسبة لهنود الولايات المتّحدة الأمريكية، الذين كان معظم احتكاكهم بالثقافتين الإنجليزية والفرنسيّة. (لينتون، 1964، ص 354 )
إنّ هذه المعايير التي يدعونها معايير الكيف والكم، هي أساسية في الدراسات التي تتناول النقل الثقافي جميعها، ومعناها بسيط جدّا ؛ فعندما يبدو للعيان تماثل بين ثقافتي جماعتين مختلفتين، فإنّ حكمنا حول احتمال اشتقاقهما من مصدر واحد، يتوقّف على عدد العناصر المتماثلة ومدى تشابكها. فكلّما ازداد عدد العناصر المتماثلة، ازداد احتمال وقوع الاقتباس .. وينطبق الأمر ذاته على مدى تداخل (تعقيد) عنصر من العناصر. ولذا يمكن استخدام القصص الشعبية، مثلاً، استخداماً مفيداً في دراسة الاحتكاك التاريخي بين الشعوب البدائية. (هرسكو فيتز، ص 213)
ولم يقتصر التفسير الانتشاري على أوروبا فحسب، وإنّما امتدّ أيضاً إلى أمريكا حيث ظهرت حركة مماثلة لآراء / سميث وشميدت / من حيث نقد التفسير التطوّري للثقافة، والاتّقاق على فكرة انتشار العناصر الثقافية بطريق الاستعارة والتقليد، كأساس لتفسير التباين الثقافي / الحضاري بين الشعوب .
أمّا بخصوص فكرة المراكز الحضارية (الدوائر الثقافية) فيرى أصحاب المدرسة الأمريكية، أنّ الملامح المميزّة لثقافة ما، وجدت أولاً في مركز ثقافي – جغرافي محدّد ثمّ انتقلت إلى أماكن أخرى من العالم. وهذا يعني أنّ أصحاب الاتّجاه الانتشاري في أمريكا، رفضوا آراء الأوربيين بعدم إمكانية التطوّر الحضاري المستقلّ، وأن بعض الناس بطبيعتهم غير مبتكرين أو قادرين على القيام بعملية الابتكار والتطوّر.
وكان الأمريكي / فرانز بواز / الرائد الأوّل لهذا الاتّجاه التاريخي / التجزيئي، قد عارض الفكرة القائلة بوجود طبيعة واحدة وثابتة للتطوّر الثقافي. ورأى أنّ أية ثقافة من الثقافات، ليست إلاّ حصيلة نمو تاريخي معيّن. ولذلك، يتوجب على الباحث الأنثروبولوجي أن يوجّه اهتمامه نحو دراسة تاريخ العناصر المكوّنة لكلّ ثقافة على حدة، قبل الوصول إلى تعميمات بشأن الثقافة الإنسانية بكاملها. وقد أصرّ/ بواز/ على أنّه لكي تصبح الأنثربولوجيا علماً، فلا بدّ أن تعتمد في تكوين نظرياتها على المشاهدات والحقائق الملموسة، وليس على التخمينات أو الفرضيات الحدسيّة .
ومن هذا المنطلق، استخدم / بواز / مصطلح (المناطق الثقافية) للإشارة إلى مجموعة من المناطق الجغرافية ذات النمط الثقافي الواحد، بصرف النظر عمّا تحتويه هذه المناطق من جماعات أو شعوب. وقد طبّق / بواز / هذا المفهوم على ثقافات قبائل الهنود الحمر في أمريكا، واستطاع تحديد – تمييز- سبع مناطق ثقافية رئيسة، يندرج تحتها هذا العدد الهائل من قبائل الهنود الحمر، والذي كان يزيد عن (50) قبيلة، في الوقت الذي نزح الأوروبيون لاستعمار القارة الأمريكية .
وبهذا يشير مفهوم (المنطقة الثقافية) إلى طرائق السلوك الشائعة بين عدد من المجتمعات التي تتميّز باشتراكها في عدد من مظاهر الثقافة، نتيجة لدرجة معيّنة من الاتّصال والتفاعل.(أبو زيد، ،1980، ص 202 )
وإذا ما تصفّحنا كتابات / بواز / وجدنا أنّ أفكاره تتميّز عن أفكار/ سميث وبيري وشميدت / وغيرهم من الانتشاريين المتطرّفين، وذلك بتشديده على النقاط التالية :
1- إنّ الدراسة الوصفية للانتشار، مقدّمة لدراسة عملية الانتشار دراسة تحليلية .
2- يجب أن تكون دراسة الانتشار دراسة استقرائية، أي أنّه يجب دراسة العناصر الثقافية المترابطة (المجمّعات الثقافية) التي يزعم أنّها ناشئة عن الانتشار تبعاً لعلاقتها الداخلية، أكثر من كونها مجموعة من العناصر شكّلها الباحث اعتباطياً .
3- يجب أن تتّجه دراسة الانتشار من الخاص إلى العام، ورسم توزيع للعناصر في مناطق محدودة، قبل رسم خارطة توزّعها في القارة، وترك الكلام عن توزّعها في العالم كلّه .
4- إنّ منهج دراسة العملية الديناميكية ،والانتشار ليس سوى وجه من وجوهها، يجب أن يكون منهجاً سيكولوجياً، وأن يعود إلى الفرد بغية فهم حقائق التغيّر الثقافي. (هرسكوفيتز، 1974، ص 216)
واستناداً إلى هذه المنطلقات، يرى / بواز / أنّ مراعاة العوامل السيكولوجية الكامنة في عملية الاقتباس، تكتسب أهميّة كبيرة في هذه الدراسات الثقافية. كما يجب تحليل هذه الثقافات بصورة إفرادية أولاً، ومن ثمّ إجراء مقارنة تفصيلية فيما بينها، سواء من حيث نظامها البنائي أو من حيث عناصرها. ولا تكون النتائج مقبولة، إلاّ بتحرّيات في مناطق عديدة ـ تسمح بتعميم هذه النتائج .
فقد اكتشف / بواز / أنّ ثمّة عدداً من السمات الثقافية المشتركة بين جماعات الهنود الحمر، التي تعيش في السهول الساحلية لأمريكا الشمالية .فعلى الرغم من أنّ لكلّ منها استقلاليتها الخاصة واسمها ولغتها وثقافتها، إلاّ أنّ سكانها جميعهم يصطادون الجاموس للغذاء، ويبنون المساكن على أعمدة يغطونها بالجلود التي يستخدمونها أيضاً في صنع الملابس. ..
وهكذا جاء مفهوم (مصطلح) المنطقة الثقافية، كتصنيف وصفي وتحليلي للثقافات، الأمر الذي يسهل المقارنة بين الثقافات، ومن ثمّ الوصول إلى تعميمات بشأن الثقافة الإنسانية كلّها .( أبو زيد، 1980، ص 203)
ونتج عن هذا الاتّجاه الانتشاري بوجه عام، أن بدأ الأنثروبولوجيون ينظرون إلى أنّ للثقافات الإنسانية كيانات مستقلّة من حيث المنشأ والتطوّر والملامح الرئيسة التي تميّز بعضها من بعض. وهذا ما عزّز فكرة تعدّد الثقافات وتنوّعها، وطرح مفهوم النسبية الثقافية التي أصبحت من أهمّ المفهومات الأساسيّة في الفكر الأنثربولوجي وتطوّره، كعلم خاص من العلوم الإنسانية لـه منطلقاته وأهدافه، توجب دراسته من خلالها .
ولكنّ نظرية الانتشار الثقافي بحسب فكرة الدوائر المتّحدة المركز، لاقت انتقادات شديدة، ومنها ما وجّهه / إدوارد سابير/ الذي ذكر ثلاثة تحفّظات على فكرة التوزّع المستمرّ :
أولها : يمكن أن يكون الانتشار في أحد الاتّجاهات، أسرع منه في اتّجاه آخر .
ثانيها: قد يكون الشكل الأقدم تاريخياً، تعرّض لتعديلات في المركز، بحيث يخطىء الباحث في تحديد المركز الحقيقي لأصل الشكل.
وثالثها: قد يكون لتحرّكات السكان داخل منطقة التوزّع، آثار تؤدّي إلى سوء تأويل نموذج " الانتشار الثقافي " .
ولكن، هل يعني هذا التخلّي عن محاولات إعادة تركيب الاحتكاك التاريخي، بين الشعوب البدائية والتطوّر التاريخي للمناطق التي ليس لها تاريخ؟ والجواب : ليس ثمّة ما يبرّر هذه النتيجة. ويبدو أنّ هذا الجهد المبذول في هذا المجال، إذا ما أخذ كل شيء في الحسبان، جدير بالاهتمام والعناية، بشرطين :
1- أن يكون بالإمكان اعتبار المنطقة المختارة للتحليل، ذات وحدة تاريخيّة.
2- أن يكون الهدف من التحليل، تقرير احتمال وقوع التطوّرات التاريخية، وليس تقرير الحقيقة المطلقة عنها .( هرسكوفيتز1974، ص 221 )
ولكن، مهما تعدّدت الأدلّة على ظاهرة الانتشار الثقافي، فإنّه يتعذّر بالنسبة للمجتمعات غير المتعلّمة –وفي معظم الأحيان – التمييز بين العناصر الثقافية التي تسرّبت إليها من الخارج، وبين العناصر التي نشأت من داخلها. ويتّضح من وجهة النظر التجريبية، أنّ كلّ ثقافة بمفردها اقتبست عن الثقافات الأخرى، أشياء أكثر من التي اخترعتها بذاتها. والدليل على ذلك، الانتشار الواسع لعناصر ثقافية معقدة في مجالات التكنولوجية والفنون الشعبية، والمعتقدات الدينية والمؤسّسات الاجتماعية. (لينتون، 1967، ص 272)
وهكذا نجد، أنّ عملية الانتشار الثقافي تسير في اتّجاهين، حيث يستفيد كلّ مجتمع من ثقافة المجتمع الآخر الذي يحتكّ به .. ولا سيّما في المجتمعات الكبيرة، حيث تتمّ عملية الانتشار الثقافي من خلال اقتباس عناصر من ثقافات أخرى، وانتشار مقوّماتها وأنماطها الرئيسة والفرعية، بين فئات هذه المجموعة البشرية الكبيرة.
1/2- الاتّجاه التاريخي / النفسي :
بدأ الاتّجاه التاريخي / التجزيئي يتعدّل ويأخذ مسارات جديدة، حيث ظهرت فكرة توسيع المفهوم التاريخي في دراسة الثقافات الإنسانية، وذلك بفضل من تأثّروا بنتائج علم النفس، ولا سيّما / سيغموند فرويد / الذي عاش ما بين (1852-1939) وتلامذته، الذين رأوا أنّه بالإمكان فهم الثقافة من خلال التاريخ، مع الاستعانة ببعض مفهومات علم النفس وطرائقه التحليلية. وهذا ما كان لـه أثر كبير في الاتّجاه نحو الكشف عن الأنماط المختلفة للثقافات الإنسانية.
فقد رأت / روث بيند كيت / ورفاقها أنّ دراسة التاريخ، بوقائعه وأحداثه، لا تكفي لتفسير الظواهر الاجتماعية والثقافية، وذلك لأن الظاهرة الثقافية بحدّ ذاتها مسألة معقّدة ومتشابكة العناصر. فهي تجمع بين التجربة الواقعية المكتسبة والتجربة السيكولوجية (النفسية )، وأنّ أية سمة من السمات الثقافية، تضمّ مزيجاّ من النشاط الثقافي والنفسي بالنسبة لبيئة معيّنة .( أبو زيد، 1980،
227)
وعلى الرغم من ذلك، فإنّ أية ثقافة لا تؤلّف نظاماً مغلقاً أو قوالب جامدة، يجب أن تتطابق معها سلوكات أعضاء المجتمع جميعهم . ويتبيّن من حقيقة الثقافة السيكولوجية، أن الثقافة – بهذه الصفة – لا تستطيع أن تفعل شيئاً، لأنّها ليست سوى مجموع سلوكات الأشخاص الذين يؤلّفون مجتمعاً خاصاً (في وقت معين ومكان محدّد) وأنماط عادات التفكير عند هؤلاء الأشخاص.
ولكنّ، على الرغم من أنّ هؤلاء الأشخاص يلتزمون – عن طريق التعلّم والاعتياد- بأنماط الجماعة التي ولدوا فيها ونشأوا، فإنّهم يختلفون في ردود أفعالهم تجاه المواقف الحياتية التي يتعرّضون لها معاً. كما أنّهم يختلفون أيضاً في مدى رغبة كلّ منهم في التغيير، إذ إنّ الثقافات جميعها عرضة للتغيير. (هرسكو فيتز 1974، ص65)
وهذا يدلّل على مرونة الثقافة، وإتاحتها فرصة الاختيار لأفرادها .. بحيث أنّ القيم التي يتمسّك بها مجتمع ما وتميزه من المجتمعات الأخرى، ليست كلّها ثابتة بالمطلق وتنتقل إلى حياة الأجيال المتعاقبة، وإنّما ثمّة قيم متغيّرة، تتغيّر بحسب التغيّرات الاجتماعية والثقافية التي يمرّ بها المجتمع.
ويعتبر كتاب " أنماط الثقافة " الذي نشرته/ بيند كيت / عام 1932، البداية الحقيقية لبلورة الاتّجاه التاريخي / النفسي في دراسة الثقافات الإنسانية. حيث أوضحت الدراسة أنّه من الضرورة النظرة إلى الثقافات في صورتها الإجمالية، أي كما هي في تشكيلها العام. وذلك، لأنّ لكلّ ثقافة مركز خاص تتمحور حوله وتشكّل نموذجاً خاصاً بها، يميزها عن الثقافات الأخرى .
ومن هذا المنظور، قامت/ بيند كيت/ بإجراء دراسة مقارنة بين ثقافات بدائية متعدّدة، وخلصت إلى أنّ ثمّة علاقات قائمة بين النموذج الثقافي العام ومظاهر الشخصية، وهذا ما ينعكس لدى الأفراد في تلك المجتمعات .
(F reidle, 1977, p.302)
ومن الممكن دراسة مظاهر التكيّف المورفولوجي (الشكلي) للنوع البشري بالمصطلحات المألوفة في علم الأحياء، وفي الوقت نفسه، كان لا بدّ من تطوير أساليب فنيّة جديدة لوصف مظاهر التكيّف السلوكي والنفسي. ويعدّ مفهوم الثقافة من أهم المفهومات التي طوّرت في هذا المجال، وأكثرها فائدة وحيوية. ومع أنّ هذا المفهوم اقتصر في السابق على النواحي الوصفية، فإنّه – على أضعف تقدير – زوّدنا بطريقة محدّدة للتعرّف إلى النتاج النهائي لعمليات التكيّف، فوضع بالتالي أسساً للمقابلة بين النماذج المختلفة لطرق التكيّف. (لينتون، 1967، ص 196 )
لقد شهد الاتّجاه التاريخي/ النفسي في الدراسات الأنثربولوجية، ظهوراً متميّزاً في الربع الثاني من القرن العشرين، مترافقاً مع انتشار مدرسة التحليل النفسي التي أنشأها / فرويد / واستمدّ منها الأنثروبولوجيون الكثير من المفاهيم النفسية، لتحديد العلاقات المتبادلة بين الفرد وثقافته في إطار المنظومة الثقافية / الاجتماعية.
وقد انصبّ اهتمام أصحاب هذا الاتّجاه، على دراسة الموضوعات المتعلّقة بالتمييز الثقافي / الاجتماعي، بالاستناد إلى الميزات النفسية السائدة بين الأفراد والجماعات. وتعدّ دراسة بيند كيت، بعنوان " الكريزنتيموم والسيف The Chrsyanthemum and the Sword، عام 1946 " من أهمّ الدراسات في هذا الاتّجاه، حيث بحثت في علاقة الثقافة بالشخصيّة اليابانية .
وهذا ما ساعد في بلورة السياسة الأمريكية تجاه استسلام المحاربين اليابانيين في أثناء الحرب العالمية الثانية. وأوضحت الدراسة أنّ الجنود اليابانيين كانوا سيرفضون الاستسلام بصورة مطلقة، ويستمرون في القتال حتى الموت. إلاّ أنّ تأثير مبادىء الطاعة والولاء للإمبراطور على هؤلاء الجنود، جعلهم يستجيبون لتعليماته ويخضعون لأوامره .( المرجع السابق، ص510)
ولكن يرى بعض العلماء _ وهو محقّ في ذلك – أنّ الانشغال الزائد بالأشكال الخارجية للثقافة، قد أثّر سلبياً في المحاولات الرامية إلى تفهّم دلالتها السيكولوجية. ومن المعروف أن الحقيقة النهائية للثقافة، هي سيكولوجية .. ونقصد بذلك، أنّ وجود الثقافة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بوجود أناس يديرون مؤسّساتها. وهذه الحقيقة السيكولوجية للثقافة تفسّر الاستقرار الثقافي، أو بالأحرى، تفسّر السبب الذي من أجله تشعر الكائنات البشرية بارتياح كبير عندما تعيش وفق نظام رتيب معروف .
وهذه الحقيقة تفسّر أيضاً آلية التغيّر الثقافي. فالأفراد في كلّ مجتمع يملكون قابليات وحوافز وميولاً، وقدرات تؤدّي دورها ضمن إطار القالب الثقافي العام، وتسهم باستمرار في مراجعة التقاليد القائمة، وإدخال تحسينات عليها. (لينتون، 1967، ص 285 )
وكان من نتيجة ذلك، ظهور مدرسة ثقافية نفسية (أمريكية) من روادها : (كلايد كلاكهون، مرغريت ميد، رالف لينتون) وغيرهم ممّن اعتمدوا على مفهوم بناء الشخصيّة الأساسي الذي يشير إلى مجموعة الخصائص السيكولوجية والسلوكية، التي يبدو أنّها تتطابق مع كلّ النظم والعناصر والسمات التي تؤلّف أية ثقافة. (أبو زيد، 1989، ص238) إذ إنّه على الرغم من أنّ النمط الثقافي السائد في إي مجتمع، لا يمكن أن يزيد – أو يقلّل – من وجود الفوارق الفردية في نطاق الثقافة الواحدة، إلاّ أن تلك العلاقة القائمة بين الأنماط الثقافية والشخصيّة الفردية، وما تحدث من تأثيرات متبادلة بينهما، لا يجوز إهمالها، بل يجب أخذها في الحسبان أثناء دراسة الثقافات الإنسانية .(Freidle, 1977, p.303)
إنّ الأساس السيكولوجي للقوانين الاجتماعية القائمة، مثل : (أنماط السلوك الثابتة، والأعراف والتقاليد، والعادات والقيم)، هو تكوين أطر استناد مشتركة، ناتجة عن احتكاك الأفراد بعضهم ببعض ؛ وإذا ما تكوّنت مثل هذه الأطر الاستنادية وتغلغلت في أعماق الفرد، أصبحت عاملاً هامّاً في تحديد ردود فعله أو تعديلها، في الأوضاع التي سيواجهها فيما بعد، سواء كانت اجتماعية أو غير اجتماعية، ولا سيّما في الحالات التي لا يكون الحافز فيها جيّد التنظيم، أي في حالة تجربة ليس لها سوابق في السلوك الذي اعتاد عليه الفرد. (هرسكوفيتز، 1974، ص 68 )
وضمن هذا الاتّجاه أيضاً، اهتمّ / مالينوفسكي / بنظرية فرويد وكتاباته النفسيّة / وعلاقة ذلك بالمحرّمات الجنسيّة، من خلال المادة التي جمعها ميدانياً من سكان جزيرة (التروبرياند ). إلاّ أنّه عارض تفسير فرويد لعلاقة الابن بالأم وغيرته من الأب في إطار ما أسماه فرويد بـ (عقدة أوديب )، وقدّم بدلاّ منها تفسيراً وظيفيّاً، توصّل من خلاله إلى أنّ تحريم العلاقات الجنسية المكوّنة للعائلة الموحّدة (النووية) والتي تشمل : " الأم والأبناء والأخوة والأخوات " هو الذي يمنع ما قد ينشأ من صراعات داخلية، بسبب الغيرة أو التنافس ..
وهذا ما يحفظ بالتالي تماسك الأسرة، ويمنع تفكّك أواصرها وتهديم كيانها،
وما ينجم عنه من ضعف المجتمع العام، وتهديد وحدته وتماسكه.
Freidle, 1977, p. 303))
وخلاصة القول، إنّ هذه الاتّجاهات بأفكارها وتطبيقاتها، مثّلت مرحلة انتقالية بين الأنثروبولوجيا الكلاسيكية التي كانت تعتمد على التخمينات والتفسيرات النظرية فحسب، وبين الأنثروبولوجيا الحديثة التي بدأت مع النصف الثاني من القرن العشرين معتمدة على الدراسات الميدانية / التحليلية، والتي تعنى بالجوانب الاجتماعية الثقافية المكوّنة للفكر الأنثروبولوجي.
وهذا ما أدّى بالتالي إلى ظهور التخصّص في علم الأنثروبولوجيا، ممّا ساعد في إرساء المبادىء الأساسيّة للأنثروبولوجيا المعاصرة .
2-الاتّجاه البنائي / الوظيفي :
ترافق نشوء هذا الاتّجاه مع ظهور اتّجاه الانتشار الثقافي، كردّ فعل عنيف على النظرية التطوّرية. وقد تميّز الاتّجاه البنائي، بأنّه ليس تطوّرياً وليس تاريخياً، حيث ركّز على دراسة الثقافات الإنسانية كلّ على حدة، في واقعها الحالي / المكاني والزماني /.
وهذا ما جعله يختلف عن الدراسات التاريخيّة، لأنّه اعتمد العلم في دراسة الثقافات الإنسانية كظاهرة، يجب البحث في عناصرها والكشف عن العلاقات القائمة فيما بينها، ومن ثمّ العلاقات القائمة فيما بينها وبين الظواهر الأخرى. (فهيم، 1986، ص 164)
يعود الفضل في تبلور الاتّجاه البنائي / الوظيفي في الدراسات الأنثروبولوجية، إلى أفكار العالمين البريطانيين، (برونسلو مالينوفسكي) و (راد كليف براون )، اللذين عاشا في أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. ويدينان باتّجاهاتهما النظرية، إلى أفكار عالم الاجتماع / إميل دوركهايم / الذي ركّز اهتمامه على الطريقة التي تعمل بها المجتمعات الإنسانية ووظائف نظمها الاجتماعية، وليس على تاريخ تطوّر هذه المجتمعات والسمات العامة لثقافاتها.
ولعلّ / كلود ليفي ستروس / الوحيد بين البنائيين الفرنسيين، الذي يستخدم كلمة (بناء أو بنائية) صراحة في عناوين كتبه ومقالاته، ابتداء من مقاله الذي كتبه عام 1945، عن " التحليل البنائي " في اللغويات وفي الأنثروبولوجيا، والذي يعتبر – بحق –" ميثاق " النزعة البنائية، وإلى كتاب " الأبنية الأولية للقرابة " الذي كان سبباً في ذيوع اسمه وشهرته، والذي يعتبره الكثيرون أهمّ وأفضل إنجاز في الأنثروبولوجيا الفرنسية على الإطلاق .. ومن ثمّ إلى كتابه " الأنثروبولوجيا البنائية ".
وعلى الرغم من الانتقادات التي وجّهت إليه، فلا يزال يؤمن بأنّ البنيوية (البنائية) هي أكثر المناهج قدرة على تحليل المعلومات وفهم الأثنوجرافيا وتقريبها إلى الأذهان، وإنّها في الوقت نفسه، أفضل وسيلة يمكن بها تجاوز المعلومات والوقائع العيانية المشخّصة، والوصول إلى الخصائص العامة للعقل الإنساني. فقد أفلح في أن يحقّق للبنائية ما لم يحقّقه غيره، مع أنّه لم يقم بدراسات حقلية بين الشعوب المتخلّفة (البدائية )، وحتى حين قام بدراساته في (البرازيل والباكستان) كان يمضي فترات قصيرة ومتباعدة بين الجماعات التي درسها. وخرج بالبنائية من مجال الأنثروبولوجيا، إلى ميادين الفكر المختلفة، الواسعة والرحيبة. وجعل منها اتجاهاً فكرياً ومنهجياً يهدف إلى الكشف عن العمليات العقلية العامة، وله تطبيقاته في الأدب والفلسفة واللغة والميثولوجيا (الأسطورة) والدين والفن. وبلغ من قوّة البنائية أن أصبحت في البداية، تمثّل تهديداً مباشراً للوجودية التي تركّز على الفرد والسلوك الفردي. (أبو زيد، 2001، ص 82-83 )
فالاتّجاه البنائي / الوظيفي، يعبّر في جملته عن منهج دراسي تمّ التوصّل إليه من خلال المقابلة (الموازنة) بين الجماعات الإنسانية (المجتمعات) والكائنات البشرية (الأفراد ). ولم يعد استخدامه مقصوراً على الأنثروبولوجيين، وإنّما تناولـه أيضاً علماء الاجتماع بالفحص والتطبيق والتعديل، على يد / تلكوت بارسونز، وجورح ميرتون /. كما ارتبط أيضاً بالعلوم الطبيعية، ولا سيّما علوم الحياة والكيمياء. Leach, 1982, p.184))
فقد رأى / مالينوفسكي / أنّ الأفراد يمكنهم أن ينشئوا لأنفسهم ثقافة خاصة، أو أسلوباً معيّناً للحياة، يضمن لهم إشباع حاجاتهم الأساسية، البيولوجية والنفسيّة والاجتماعية. ولذلك ربط الثقافة – بجوانبها المختلفة، المادية والروحية والاجتماعية، بالاحتياجات الإنسانية .
فالاهتمام بالبنية Struture، كترابط منظّم وخفي للعناصر الثقافية، يساعد النموذج في تفسيره وراء العلاقات الاجتماعية، يوازيه في اتجاه آخر اهتمام وظائفي بالمعنى الذي يحدّده / مالينوفسكي /، والذي تعني فيه الوظيفة : تلبية حاجة من الحاجات، ويكون فيها التحليل الوظيفي هو ذلك الذي : " يسمح بتحديد العلاقة بين العمل الثقافي والحاجة عند الإنسان، سواء كانت هذه الحاجة أولية أو فرعية / ثانوية " (لبيب، 1987، ط3، ص12 )
فالثقافة كيان كلّي وظيفي متكامل ، يماثل الكائن الحي، بحيث لا يمكن فهم دور وظيفة أي عضو فيه، إلاّ من خلال معرفة علاقته بأعضاء الجسم الأخرى، وإنّ دراسة هذه الوظيفة بالتالي، تمكّن الباحث الأثنولوجي من اكتشاف ماهية كل عنصر وضرورته، في هذا الكيان المتكامل .
ولذلك، دعا / مالينوفسكي / إلى دراسة وظيفة كلّ عنصر ثقافي، عن طريق إعادة تكوين تاريخ نشأته أو انتشاره، وفي إطار علاقته مع العناصر الأخرى. وهذا يقتضي دراسة الثقافات الإنسانية كلّ على حدة، وكما هي في وضعها الراهن، وليس كما كانت أو كيف تغيّرت .
وبذلك يكون / مالينوفسكي / قد قدّم مفهوم( الوظيفة) كأداة منهجيّة تمكّن الباحث الأنثروبولوجي من إجراء ملاحظاته بطريقة مركّزة ومتكاملة، في أثناء وصفه للثقافة البدائية. (Freidle, 1977, p.304 )
أمّا / براون / فقد قام من جهته، بدور رئيس في تدعيم أسس الاتّجاه البنائي / الوظيفي، في الدراسات الأنثروبولوجية، وذلك مع بداية القرن العشرين، موجّهاً الأثنولوجيا نحو الدراسات المتزامنة، وليس نحو التفسير البيولوجي للثقافة كما فعل / مالينوفسكي / .
اعتمد / براون في دراسة المجتمع وتفسير الظواهر الاجتماعية تفسيراً اجتماعياً، بنائياً ووظيفياً، على فكرة الوظيفية التي نادى بها / دوركهايم / والتي تقوم على دراسة المجتمعات الإنسانية، من خلال المطابقة (المماثلة) بين الحياة الاجتماعية والحياة العضوية، كما هي الحال في المشابهة بين البناء الجسمي المتكامل عند الإنسان، والبناء الاجتماعي المتكامل في المجتمعات الإنسانية .
ويوضح / براون / طبيعة هذا (البناء الاجتماعي) بأنّه يندرج تحت هذا المفهوم، العلاقات الاجتماعية كلّها، والتي تقوم بين شخص وآخر. كما يدخل في ذلك التمايز القائم بين الأفراد والطبقات، بحسب أدوارهم الاجتماعية، والعلاقات التي تنظّم هذه الأدوار. وكما يستمرّ تجدّد بناء الكائن العضوي طوال حياته، فكذلك تتجدّد الحياة الاجتماعية مع استمرارية البناء الاجتماعي في علاقاته وتماسكه .
واستناداً إلى ذلك، يصبح الاعتراف بالتنوّع الثقافي بين المجتمعات – مهما كان شكله- إحدى الخطوات الهامة في تطوّر علم الأنثروبولوجيا، انطلاقاً من النقاط التالية:
1- إنّ الثقافة تعبير عن سلوك شعب ما، وعن قواعد هذا الشعب .
2- إنّ مجموع التنوّعات في العقيدة والسلوك الفرديين لدى أفراد جماعة معيّنة وفي زمن معيّن، يحدّد ثقافة تلك الجماعة .. وهذا صحيح بالنسبة للثقافات الفرعية في الوحدات الصغيرة، داخل الكلّ الاجتماعي.
3- ليست العقيدة والسلوك في أي مجتمع، أبداً نتاج الصدفة، بل يتحوّلان وفق قواعد راسخة.
4- يجب استنباط هذه القواعد بواسطة الاستقراء من التوافق الملاحظ في العقائد وأنماط السلوك لدى جماعة ما .. وهي تشمل نماذج ثقافة تلك الجماعة .
5- كلّما صغر حجم الجماعة، كانت نماذج عقائدها وسلوكاتها، أكثر تجانساً فيما إذا تساوت الأمور الأخرى.
6- قد يظهر لدى الفئات الاختصاصية، تنوّع في حقل اختصاصها أكثر اتّساعاً ممّا يظهر لدى الفئات الأخرى، المساوية لها في الحجم، بين الجماعة الكليّة. (هرسكوفيتز، 1974، ص 263-264 )
وإزاء هذه الأمور مجتمعة، لا بدّ من الاعتراف بأهميّة مسألة التجانس الثقافي والتنافر الثقافي، في الدراسات الأثنولوجية، وفي أثناء مناقشة النظريات الأنثروبولوجية.
وإذا كان / مالينوفسكي / أخذ بفكرة النظم الاجتماعية لتأمين الحاجات البيولوجية والنفسية للأفراد، بينما اتّجه / براون / نحو مسألة تماسك النظام الاجتماعي، من حيث مكوّناته وعلاقاته، فأنّهما رفضا معاً فكرة تجزئة العناصر الثقافية (مكوّنات البناء الاجتماعي) إلى وحدات صغيرة يقوم الباحث بدراسة منشئها أو انتشارها وتطوّرها ..
واعتمدا بدلاّ من ذلك على الدراسات الميدانية، لوصف الثقافات بوضعها الراهن. وقد وجد هذا الاتّجاه قبولاً واسعاً لدى المهتمّين بدراسة الثقافات الإنسانية في النصف الأوّل من القرن العشرين، ولا سيّما بين الأنثربولوجيين الأوروبيين، الذين انتشروا في المستعمرات لإجراء دراسات ميدانية، وجمع المواد الأولية اللازمة لوصف الثقافات في هذه المجتمعات، وتحليلها في إطارها الواقعي وكما هي في وضعها الراهن