سوسيولوجيا المثقفين - جيرار ليكلرك
إذا نظرنا إلى شخصية المثقف الاجتماعية، فإنه لا بد لنا أن نصدم بازدواجية شخصيته وسط المجتمع الذي يحيا فيه. يقوم ذلك على التوتر بين النقل -المحافظ لقيم السلف من جانب، وعلى التجديد الخلاق من جانب آخر. تشكل هذه الازدواجية بحد ذاتها وفي جزء كبير منها، إجابة على حدث التاريخ ومسيرته. فالمثقفون يشكلون نوعاً من التناوب بين بنى النظام عند المجموعة وتأثيرات الحدث المحتملة... تعود وظيفتهم في قدمها إلى العصور البعيدة التي شهدت ولادة الكتابة والدولة، وإلى وضعية الكاتب، خادم الأمير ومستشاره (على أن تجمع هذه الكلمة التي تشير إلى النوع الإمبراطوريات والموك والكنيسة). أما في صورته الحديثة فإن المثقف قد ارتبط بشكل حميمي مع القطيعة التي دخلت قلب هذه الوظيفة السحيقة القدم، عبر ولادة الدولة العلمانية الحديثة، حيث تتطور وتتضاعف النشاطات الدينوية، من خلال العلم والتكنولوجيا والثقافة العلمانية ووسائل الإعلام الخ...
هذا الكتاب الصغير، كتبه مؤلف فرنسي، ولصالح جمهور فرنسي، أي أنه قد تحدد من الناحية الثقافية، ما يعني أن ترجمته ستطرح السؤال حول الإطار التاريخي والثقافي الذي تندرج فيه صورة المثقف. فهل سيتعرف المثقفون الناطقون بالعربية على ذواتهم في الصفحات التي ستلي؟ إذا سلمنا أن الحداثة واحدة، بمعنى أنها تجري على صعيد عالمي، بالتالي فهي لا يمكن أن تكون إلا واحدة بقدر ما تضم مجمل المجتمعات الموجودة وكلية الحضارات الحية، إذ سلمنا بذلك نصل إلى استنتاج يقول إن المثقف شخص حكوني، وهو في الوقت نفسه فاعل ملتزم بمجتمع وبثقافة محددة. وهذا ما يميزه هنا عن أسلافه، الذين ترتبط نشاطاتهم وعقائدهم ووظائفهم بقوة بجزئيات التقليد الديني والثقافي حيث يتكاملون معها.
وبالعودة لمتن الكتاب نجده بداية عرضاً تاريخياً لظهور المثقف بصوره المتعددة وصولاً إلى عصر الأنوار، أو إلى التنوير كما تشاء الفلسفة الإلمانية تسمية ذلك العصر، حيث قدر للمثقفين، وربما لأول مرة لعب أدوار منشطة في الحياة الاجتماعية والسياسية. مع الأنوار صار المثقف شخصية قائمة بذاتها، وحيوية، وصاحبة دور. وهذا ما أشار إليه كانط منذ أن وضع المقالة الأولى في معنى التنوير وإسناده التنوير إلى العقل، ما يعني ترادف ذلك مع العقلانية، علماً أن المثقفين المعاصرين قد دفعوا بمسحة العقلانية التي بلغت حد العقلانية الأداتية بعض الشيء إلى الوراء، لتقديم مسحات أخرى، كالإنسانية مثلاً، وجيرار ليكلرك لا ينسى ذلك بل يركز عليه في فصول متعددة ولدى تطرقه لبعض شخصيات المثقفين.
صحيح أن الكتاب ينظر إلى سوسيولوجيا المثقفين من زاوية غربية صرفة، وأحياناً من زاوية فرنسية حصرية إلا أنه يقدم مع ذلك رؤية بانورامية يمكن الاستفادة منها في التوسع إلى مجتمعات أخرى وإلى فئات مثقفة أخرى، وهذا ما فعله أحياناً، إذ مد دراسة إلى الأفق الروسي وناقش ما يسمى هناك بالنتلجنسيا وعلاقة ذلك بالثورة، قبلها ومعها وبعدها، والعلاقة بالمثقف في الجوار الأوروبي. ولم ينس النظرة الأميركية لذلك وتوسع هذا المفهوم على المتعاطين بالأدب والعلم والفن والنشر والصحافة، ويأتي ذلك انطلاقاً من فكرة التأثير في الرأي العام عموماً، وعلاقة المثقف أيضاً بالإعلام، سواء باستعماله لوسائل الإعلام أو بالدعاية الاجتماعية أو بالمشاركة في الحياة العامة، وهنا يأخذ سارتر موقفاً متميزاً، لما لعبه من دور إن من خلال فلسفته أو من خلال نشاطاته المتعددة أو لمشاركته المستمرة في الحركات الطالبية والعمالية والسياسية.
وإذا كانت الثقافة وجهاً من وجوه العمل السياسي فإن جيرار ليكلرك قد خصص أيضاً مقاطع وافرة لعلاقة المثقف بالأحزاب، لا سيما اليسارية منها، معتبراً ذلك نوعاً من الواجب الالتزامي أو التنويري من زاوية ما، ولهذا يعتبر هذا الكتاب سجلاً صورة للثقافة وللمثقفين في بلادنا، وهذا ما لا نجده بسهولة وافية.
:cyclops: :cyclops: :cyclops: :cyclops:
http://www.4shared.com/document/H2wP9hm3/__-__.html?cau2=403tNull