الخطاب الإسلامي بين القواطع والاجتهاد : معالي الشيخ/ عبدالله بن الشيخ المحفوظ بن بيّـه
-ورقة مقدمة لمؤتمر رابطة العالم الإسلامي "الخطاب الإسلامي وإشكاليات العصر" المنعقد بمكة المكرمة 5-7/12/1428هـ
الخطاب هو: فعال مصدر من خاطبه خطاباً ومخاطبة. وهو يعني كلاماً موجها إلى طرف آخر. قال تعالى:( وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً) ( ولا تخاطبني في الذين ظلموا) ( وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب)
والخطاب عند الأصوليين حسب عبارة الزركشي في البحر المحيط عرفه المتقدمون بأنه كلام المقصود به إفهام من هو متهيئ للفهم. وعرفه قوم بأنه : ما يقصد به الافهام فهو أعم من أن يكون ما قصد افهامه متهيئا أم لا".
وهو في الاصطلاح الغربي: شرح شفوي يتعلق بموضوع معين يوجه إلى الجمهور وهو عبارة عن مجموعة المظاهر القولية والمكتوبة التي تمثل إيديولوجية.
وقد ينقسم إلى مستويات كثيرة هي عند فوكو خطاب متغيير وخطاب ثابت فالأول هو خطاب الناس اليومي المعتاد الذي يفنى وينقضي بانقضاء زمنه والثاني هو خطاب يتردد في حياة الناس ولا ينقضى كالخطاب الوارد في الكتب المقدسة.
كما عبروا عن مستويات الخطاب بأنها ترجع إلى موضوعاته ومصادره وفحواه ومحتواه فمنه الخطاب الديني والخطاب الفلسفي والخطاب الأخلاقي والخطاب القانوني والتاريخي والخطاب الاجتماعي السياسي إلى غير ذلك من أنواع الخطاب.
والخطاب الإسلامي بالنظر لشموله يحتوي كل هذه المناحى باعتبار عموم مفهوم الدين وكونيته التي تلج كل مجالات الحياة ليس بالمعنى الضيق الكنسي للدين الذي يقابل العقل ولكن بالمعنى الواسع الفسيح الذي يجعل كل نشاط إنساني وجداني أو عقلي أو سلوكي بمختلف تعبيراته النافعة موزوناً بميزان القيم ومصالح العباد من الدين.
وحيث إن البحث يتعلق بالخطاب الإسلامي في جوهره في قواطعه واجتهادياته في ثوابته ومتغيراته فينبغي أن نقرر أن الخطاب الإسلامي مبني في أصله على خطاب الله تعالى لعباده فهو تقديم لمضمون الخطاب الإلهي إلى البشرية سواء تعلق بالكليات أو الجزئيات أو بالشكل أو الأساس أو بالوسائل أو بالمقاصد.
وهنا تكون القواطع والاجتهادات الظنية.
ومعلوم أن خطاب الله تعالى للعباد ينقسم إلى نوعين خطاب إخباري يجب الإيمان بمقتضاه كاخباره عن ذاته وصفاته وعن الكون من سموات وأرض وملائكة وجن وعن الآخرة وما فيها من جنان ونيران وحساب وميزان وثواب وعقاب. وخطاب يتعلق بأفعال المكلفين من حيث إنهم به مكلفون فهذا هو الذي يسمى بالحكم وينقسم إلى خطاب تكليف وخطاب وضع لأنه إما أن يكون طلباً أو تخييرا أو وضعاً على التفصيل المعروف عند الأصوليين.
فالقواطع من الخطاب سواء تعلق الأمر بالأخبار أو الأحكام هي ما كان دليلها قطعياً وغير القواطع هي ما بني على اجتهادات وظنيات.
يقول الاصفهاني في شرح المحصول: من الأحكام ما يثبت بأدلة حصل العلم بمقتضاها وذلك في الأحكام الثابتة بنصوص احتفت بقرائن تدفع الاحتمالات المتعارضة عنها بانحصار تعيين المدلول في واحد. ومنها ما ثبت بأخبار آحاد أو نصوص لم تعتضد بما يدفع الاحتمالات فتلك الأحكام مظنونة لا معلومة، قال: هذا هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وذلك بسبب انقسام الطرق إلى الأدلة والأمارات.
ويرى ابن دقيق العيد أن الأحكام تنقسم إلى متواترات وهي مقطوع بها وإلى ما ليس كذلك.
والحق انقسام الحكم إلى قطعي وظني وممن صرح بذلك من الأقدمين الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في كتاب "الحدود" وابن السمعاني في "القواطع".( الزركشي البحر المحيط 1/ )
ولشرح ما أشار إليه الأصفهاني من كون القواطع تنشئو عن أدلة يحصل بها القطع.
فلابد من لمحة هنا عن الأدلة القطعية التي إذا ثبت خطاب أو حكم بها يكون قاطعاً، إن الأدلة القطعية من حيث الدلالة هي نصوص من الشارع كتاباً أوسنة لا تحتمل التأويل ومن حيث الثبوت قطعية الورد لا نها في القرآن الكريم بين دفتي المصحف أو في متواتر الحديث على الاختلاف المعروف في حده أو الإجماع النطقي المستند إلى دليل ويشترط في الجميع الخلو عن المعارض القوي الذي ينهض حجة.
وهناك ما هو قريب من القطعي كالمستفيض إذا رواه أربعة فما فوق أو اشتهر ، وكخبر الآحاد السالم من العلل المروي في الصحيحين عند بعض العلماء وقد ندد إمام الحرمين في البرهان بقائل ذلك في خبر الآحاد ببداهة احتمال الخطأ على رواية العدل.
وكالعام المتكرر عند الشاطبي وكالكلي المستفاد معناه من معقول النصوص المشهود له بتفاريق الأدلة وبشتى القرائن الحافة والإجماع السكوتي على خلاف مع الخلو من المعارض وكذلك قياس الأولى أو المساوي إذا كان مستند الأصل قطعياً
وجود جامع به متمما شرط وفي القطع إلى القطع انتمى
بهذه المقدمة يراد إثبات نوعين من الخطاب لا ترجع إلى القسمة المعهودة للخطاب بين خطاب تكليفي وخطاب وضعي، وإنما ترجع إلى مرتبة الدليل ودرجته قوة وضعفاً ووضوحاً وغموضاً تواتراً أو انفرادا شيوعاً واستفاضة أو خمولاً وزمانة.
فيكسب الدليل القوي المتواتر الواضح مدلوله قوة وقبولاً وشمولاً يرفعه من درجة العمل بمقتضاه إلى مكانة تحتم الاعتقاد بمحتواه وذلك ما علم من الدين ضرورة.
وهذه هي القواطع التي تمثل أساس بناء هذا الدين ومرتكزاته ودعائمه.
فالأساس هو الإيمان وما يجري مجراه وما يتعلق بمقتضياته.
أما الدعائم فهي تلك الأركان التي ترفع سقف الدين فهي برهان الإيمان وتتفاوت بعد الأساس والدعائم مشمولات البناء التي تمثلها أحكام الشريعة الغراء حيث تتشكل منظومة كاملة وشاملة لمناحي الحياة موزرعة في مختلف المهمات وموجهة إلى مختلف المرامي والغايات، متناغمة في اختلافها متجانسة في تنوع أهدافها.
فقواطع الخطاب الإسلامي إنما هي تذكير دائم بالاساسيات القطعية في الإسلام اعتقاداً وسلوكاً ومعاملة.
قد لا تكون هناك ضرورة لذكر الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال الأئمة المعروفة والمتداولة في مختلف المصادر وإنما التذكير بكبريات قضايا هذا الدين الذي يقوم على التوحيد ومقتضياته والنبوة ولوازمها وتكريم الإنسان وتكليفه والمحافظة على ضرورات لايجاد توازن بين الدنيا والآخرة وبين الروح والجسد.
إيمان بعالم الغيب لا يلغي عالم الشهادة الذي يقوم دليلا وبرهاناً على عالم الغيب ومعبراً إليه (فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون)
( إن في خلق السموات والأرض)
رابط التحميل يظهر بعد الرد علي الموضوع