في البدء كان كل شيء دينيا و قد نستعير عبارة برغسون الفيلسوف لنقول معه ' إننا نجد في الماضي بل قد نجد اليوم أيضا مجتمعات إنسانية تفتقر إلى العلم و الفن و الفلسفة ، لكن لم يوجد أبدا مجتمع دون دين ' . ويمكن تفصيل المعنى بأن الظاهرة الدينية لها حضورها في كل المجتمعات و أثناء مختلف مراحل التطور التاريخي ، ومن هنا كان من الطبيعي أن يكون للديني علاقة بالسياسي ، فمنذ أن كان الملوك آلهة يجمعون بين قوة السلطان و قداسة الرحمان و وصولا إلى كل الحركات المعاصرة ذات التوجه الديني التي لا تتوقف عن تأكيد إنطواء الكتب المقدسة على حلول لكل المشكلات ، فإن ثنائية الدين / السياسة ظلت تلازم الاجتماع البشري منذ بدء النشأة و لا يعني هذا أن ليس ثمة إختلالات تلحق هذا الجانب أو ذاك من طرفي العلاقة بحيث يبدو أحدهما المركز والآخر الهامش في إطار لعبة صراع مكشوف على حق الهيمنة .
ففي ظل كل الأنظمة السياسية حتى أكثرها عداء للدين فإن حضور المسألة الدينية لا يخفى من خلال توظيفاتها المختلفة المعلنة منها والخفية وهو ما يتمثل في الخطاب المتكرر بأن طاعة الحاكم من طاعة الله وأن الولاء للدين يمر حتما عبر الولاء لرجل السياسة و بمقابل هذا التوظيف الرسمي فإن الدين بوسعه أن يتحول إلى أداة إحتجاج و تعبير عن الرفض و المعارضة تتراوح بين الإحتجاج الصامت ( على نحو ما يصنع الرهبان في التيبت احتجاجا على الاحتلال الصيني بإغلاقهم لمعابدهم و عدم ربط أي علاقة مع السلطة المركزية ) وصولا إلى الاحتجاج العنيف الذي يتجلى في بعض جماعات العنف السياسي ( جيش الرب الأوغندي مثلا ) أو حركات المقاومة في المنطقة العربية ( حركة حماس بفلسطين وحزب الله في لبنان على سبيل المثال لا الحصر ) وليظل الأمر الأساسي في كل ما ذكرنا هو أن الدين حاضر بين الناس و في تدبير شؤون حياتهم العامة ، يؤثر فيهم و يتأثر بهم ، يتغير مع الزمان و المكان و يظل جوهره المقدس باقيا بين الناس . و إذا كان من نافلة القول التأكيد على حضور الدين بين الناس يفعل فيهم و ينفعلون به فان مجال النقاش يظل دوما هل بالإمكان فصل الدين عن السياسة أو بالأحرى هل ثمة إمكانية لفصل الدين عن الشأن العام ؟ بل وهل أفلحت أكثر الأنظمة لائكية ودكتاتورية أن تقصي المقدس من دائرة اهتمام الناس ؟
العلمانية بين تجني الخصوم وجهل المناصرين :
لقد شاع القول بين الناس أن العلمانية إنما هي فصل الدين عن الدولة وقد يبالغ البعض فيذهب بها إلى حد التأكيد إنها فصل الدين عن الحياة . و إذا كان التعريف الأول يجعل الدين شانا خاصا بين العبد و ربه ـ وهو كذلك في كل الأحوال ـ و لكنه يفوض أمر الإشراف على هذا الشأن للكنيسة المخولة برعاية المؤمنين ( بالمعنى الأصلي لكلمة كنيسة و التي تدل على مجمل جماعة المؤمنين ) فان المعنى الثاني يقصي الدين أصلا من الحياة لتتحول الدولة إلى جهاز يحارب مظاهر التدين مهما كانت تحت دعاوى مختلفة ، باسم الرجعية والظلامية حينا و التخلف و عدم مسايرة العصر حينا آخر .
و هذا التحديد المفهومي لمعنى العلمانية هو تحديد قاصر لسببين :
أولا : إن العلمانية عندما نشأت لم تظهر لتحارب الدين فهذا ليس من شانها وإنما لتحرر الإنسان ولتبسط الحق في تأويل النص الديني لجميع الناس دون حاجة إلى الوصاية أو الرقابة وهو ما يقتضي ضرورة إقرار الحرية أولا وأساسا .
ثانيا : لا يمكن الادعاء أن التصورات العلمانية التي ظهرت في اروبا مثلا انبنت كلها على إقصاء ماهو ديني فحركة التنوير الألماني مثلا ترافقت مع حركة الإصلاح الديني فدعمتها ووجدت لنفسها جذورا فيها .
أخيرا وبناء على ما تقدم يمكن القول إن العلمانية كمفهوم وفكرة قد نشأت لتحرير الإنسانية من الاستبداد السياسي و من الجمود الديني و كلا الأمرين يستمد نفوذه من الآخر . ونحن اليوم في الوطن العربي ما أحوجنا إلى الخلاص من الأمرين معا وهذا ما يجعل من العلمانية مطلبا ملحا للجميع حتى للذين يعتقدون إنها خروج عن الدين .
أي علمانية نريد ؟
إن العلمانية التي نقصدها هي التي تستهدف إرساء أسس الحرية السياسية و الفكرية و تلغي الجمود العقائدي والديني بحيث يمكن أن نميزها بجملة الخصائص الآتية :
أولا : هي علمانية لا تقصي الدين و لا تستمد وجودها من نفيه .
ثانيا : إن الفصل الضروري و اللازم بين التشريع الديني و المؤسسة السياسية و الاجتماعية لا يعني بحال من الأحوال تهميشا للدين بقدر ما هو محاولة لمنع توظيفه من كل الأطراف ( سلطة ومعارضة ) .
ثالثا : إن الكثير من أنصار العلمانية هم ليسوا مناهضين للدين و لا لشعائره بل هم يدافعون عن حق التدين بوصفه من حقوق الإنسان الأساسية دون إرغام أو إكراه .
رابعا : إن بناء نظام علماني حقيقي يستلزم أولا وأساسا انجاز الإصلاح السياسي الذي يكفل الحرية و التعددية و التداول على السلطة وهو ما يمنع نشوء كل ظواهر الانغلاق أو التشدد أو اللجوء إلى العنف بسبب انسداد الأفق السياسي .
خامسا : إن بقاء العقائد الدينية ( ومنها الإسلام ) فاعلة ومؤثرة طوال هذه القرون دلالة على حيويتها و قوتها وقدرتها على التجدد الذاتي و هو ما يعني أن أي إصلاح ديني ' لا يجب أن يتم على حساب الدين بل يقع في الوقت نفسه بواسطة الدين و في الدين و مستقلا عنه ' كما يقول الدكتور هشام جعيط .
أن نكون علمانيين بهذا المعنى يعني بداية الطريق نحو النهوض الحقيقي من جديد . لان العلمانية إنما نشأت ' استردادا للإنسان لحريته في السلوك و التعبير و حريته في الفهم والإدراك و رفضه لكل أشكال الوصاية عليه و لأي سلطة فوقه إلا من سلطة العقل والضمير . العلمانية إذن رجوع إلى المضمون دون الشكل والى الجوهر دون العرض و إلى الصدق دون النفاق و إلى وحدة الإنسان دون ازدواجيته و إلى الإنسان دون غيره ' كما يؤكد الدكتور حسن حنفي ... وهذا هو جوهر الدين متى فهمناه على الحقيقة و طهرناه من كل الشوائب التي طرأت عليه ، ثم الم يقل الفقهاء حيث مصلحة الناس فثم شرع الله والعلمانية اليوم هي مصلحة الناس المتحققة و لا ريب .
' كـاتب من تونس.
* نقلا عن (القدس العربي)