لا يمكننا أن نتناول علم الإجتماع الخاص أو علم اجتماع بيئة خاصة، الا بعد أن نكون اولا قد الممنا بالاسس العامة للتحليل السوسيولوجي. ورغم ان علم الاجتماع لم يزل فتيا، الا ان له مع ذلك تقاليد وبعضا من المكتسبات النظرية والمنهجية. فثمة لغة قد بنيت، ومفاهيم تحددت، وتيبولوجيات أعدت، ونماذج أو فرضيات نظرية أنشئت. فمن خلال هذا الجهاز الفكري والنظري، يستطيع عالم الاجتماع ان يلقي نظرة على الواقع الاجتماعي. ان الابتداء في دراسة علم الاجتماع يستلزم الاعتياد على المفاهيم الاساسية والنظريات الرئيسية في هذا المجال. لذلك فان هذا الكتاب انما هو مكرس لتعلم المبادىء العامة والاساسية لعلم الاجتماع ودراستها. فيجب، اذا، ان نتوقع ان يكون لهذه المقدمة طابع نظري على جانب كبير من الحقيقة والدقة لنظرية علم الاجتماع في الوقت الحاضر، وللمسائل التي تطرحها، وللاجوبة التي تقدمها، وللبحوث التي تستمر في متابعتها.
لما كان علم الاجتماع يعنى بدراسة المجتمع البشري، والحضارة هي نتاج بيئة اجتماعية، فكل بلد هو جزء من الحضارة العالمية ولكنه يتمتع بملامح أو سمات تميزه عن أي بلد آخر. فحضارة الهند متميزة عن حضارة الصين أو اليابان.
ولنذهب إلى أبعد من ذلك. فإن لكل عائلة تقاليدها وسلوكها ونمطها في الحياة وجوها الخاص. وإن كل معلم يذكر أن أي صف من التلاميذ لا يشبهه صفاً آخر.
ومؤلف "مقدمة في علم الاجتماع العام" يتبع خطا متصاعدا ينطلق من الوحدات الصغرى ثم يصل تدريجا الى معالجة المجموعات الأكثر اتساعا والأكثر تعقيدا في التنظيم الاجتماعي.
وهكذا في الفصل الأول حدد المؤلف الخصائص الأساسية التي يكشفها عالم الاجتماع في الواقع الاجتماعي، حينما يعتبر هذا الواقع وينظر إليه بما هو فعل اجتماعي. وقد أجرى سلسلة من التنقيحات والتصحيحات، انطلاقا من ظاهرة التفاعل، حتى يستنتج تدريجا مفهوم الفعل الاجتماعي وذلك بالاعتماد على تعريفات "فيبر" و"دوركايم" والمؤلفات الاكثر حداثة لعلماء النفس والاجتماع.
وفي الفصلين الثاني والثالث يتناول الأسس المعيارية للفعل الاجتماعي. ويقدم لنا بعض الأمثلة الحسية: عندما يتصافح شخصان عند التقائهما، فإنهما يتقيدان بصريقة معينة في التصرف والسلوك سائدة في الحضارة العربية. بينما في الحضارات الأخرى كما في الهند وباكستان مثلا يضم كل واحد منها يديه الى صدره ويحني رأسه باحترام شديد. أما في ماليزيا مثلا فيتبادل الشخصان احتكاك انفيهما. وإذا كان الغربي يتجنب ان يحدث أصواتا عندما يأكل طعامه، فإن الياباني يكثر من ذلك لكي يظهر مقدار لذته ومتعته. فإنهما الواحد كالآخر يتقيدان اللياقات السارية في بلديهما.
في هذه الحال يسأل عالم الاجتماع أين هو الحد الفاصل بين ما هو شخصي لكل فرد مقابل ما هو اجتماعي.
وفي الفصل الرابع يتناول موضوع الثقافة والحضارة فيقارن بين مفهوم الثقافة ومفهوم الحضارة. ويرى أن أمرين أساسيين يفرقان بينهما. الاول، وقوامه أنه في مفهوم الثقافة تلتقي جميع الوسائل الجماعية التي يمتلكها الانسان أو أي مجتمع، من أجل ان يسيطر على البيئة الفيزيائية والعالم الطبيعي ويستعملها. ان المقصود بذلك العلم والتكنولوجيا وتطبيقاتهما. أما الحضارة فهي تضم مجموع الوسائل الجماعية التي قد يلجأ إليها الانسان لكي يمارس سيطرته، على ذاته وينمو عقليا وأخلاقيا وروحيا. فالفنون والفلسفة والدين والقانون جميعها عندئذ وقائع حضارية.
والثاني هو ان مفهوم الحضارة ينطبق على الوسائل التي تخدم غايات نفعية ومادية في الحياة البشرية الجماعية. والحضارة في هذا السياق تحمل صفة عقلية، يفرضها تقدم الشروط الطبيعية والمادية للعمل وللإنتاج وللتكنولوجيا. أما الثقافة فهي تشتمل على جوانب أكثر نزاهة وسموا أو روحية في الحياة الجماعية، هي ثمرة التأمل والفكر "المجردين" والوعي والادراك والمثالية.
بيد اننا نجد عند بعض علماء الاجتماع والانثربولوجيا أي علم الانسان انهم يستخدمون مصطلح "حضارة" لكي يفيد مجموعة من الثقافات الخاصة التي بينها تشابه أو أصول مشتركة، كالحضارة الغربية مثلاً التي تنضوي تحتها الثقافات الفرنسية والانكليزية والألمانية والايطالية والاميركية... ولكننا نتكلم ايضا على الحضارة الاميركية أو حضارة الولايات المتحدة الاميركية عندما نقصد نمط الحياة الخاصة والمميزة للثقافة الاميركية. اي ان مفهوم الثقافة يرتبط آنذاك بمجتمع معين ومحدد الهوية. في حين ان اصطلاح "حضارة" يستخدم لنشير إلى مجموعات اكثر اتساعا وأكثر شمولا في المكان والزمان.
التكيف الاجتماعي
وفي الفصل الخامس والاخير من الكتاب يتناول التنشئة الاجتماعية والامتثال والانحراف.
حول تكيف الانسان مع بيئته الاجتماعية فإنه يرى ان الشخص يتكيف مع حياة الجماعة او المجتمع بحيث يعيش في "الوسط" أي البيئة المحيطة وينتمي بالتالي الى العائلة أو الجماعة أو المصنع أو الدين أو الأمة، فيكتسب أشياء مشتركة مع الأعضاء الآخرين وبالنتيجة يشاركهم في الكثير من عواطفهم ويقاسمهم آمالهم وأذواقهم وحاجاتهم ونشاطاتهم.
ان هذا التكيف إنما يخص الشخصية في أعماقها، إذ انه ينتج على مستويات ثلاثة في آن معاً: بيولوجي ونفسي وعقلي. إن الشخص الذي كان قد نشأ نشأة اجتماعية في إطار ثقافة ما في مجتمع معيّن، قد نمّى حاجات فيزيولوجية وأذواقا وأوضاعا جسدية استلزمت تكييف عضويته العصبية الفيزيولوجية.
يمكن التعرف على الايطالي واليهودي والفرنسي من خلال بعض الحركات أو إيماءة أو مشية تخصهم وتميز بعضهم من بعض. فالمكسيكي يلتهم بلذة فائقة أطباقا من الطعام تبدو للآخرين مفرطة التوابل تمجّها أذواقهم. والانكليزي يتناول فطورا وفيرا ويشرب معه الشاي، بينما الفرنسي يكتفي بقطعة من الخبز وبفنجان قهوة.
وختاما لا بد من أن نشير الى ان الدكتور مصطفى دندشلي قد بذل جهدا كبيرا في ترجمة هذا الكتاب الذي وضع في الأصل ليكون كتاب تدريس لمادة علم الاجتماع فهو كتاب أكاديمي وخاصة في نقل المصطلحات الى العربية فليس ذلك بالأمر اليسير.