الشخصية الحضرية للحفصية وصورتها الرمزية
هذا المقال هو تلخيص مقتطع من أطروحة دكتوراه في علم الإجتماع لصاحب المقال :
حول دور الفاعلين في توزيع الفضاء المديني والتغير الإجتماعي.
د. شهاب اليحياوي: من تونس الإمتياز
تشغل الفئة الأضعف إقتصاديا من " بلدية " الحفصية المقيمين بأحيائها منذ أكثر من جيل أكثر الأزقّة والأنهج تقليديّة. وقد سجّلت الحفصية هجرة الطبقة المتوسّطة مثل بورجوازية الحفصية نحو الأحياء الراقية بالنسبة للأخيرة والأحياء في ضواحي العاصمة بالنسبة للأولى . فكما بيّنت دراسة الدكتورة زنّاد فإنّ الكثافة السكنية للأحياء التقليدية خلّفت هذا الإنفجار العمراني والتحضّر العفوي المتمثّل في خلق أحياء جديدة تبدأ بإستقرار عدد من الأفراد وتتطوّر على أساس الروابط الدموية أو الجغرافية ـ أبناء البلد ـ من بين أخرى . وقد إستفادت هذه الشريحة من " بلدية " الحفصية التي لم تغادر خارج الفضاء التاريخي ولم تكن قادرة على الإستجابة لشروط حيازة الفضاءات الجديدة ضمن المنطقة ، من إستراتيجية الصيانة التي تبنّتها جمعية صيانة المدينة في مشروع 1973 م كتمشّى تثبيتيّ للسكّان في فضائهم عبر القروض الميسّرة لمالكي الدور المستدعية للصيانة والترميم : تحسينات مسّت الواجهة مثلما الداخل (1) . عرفت الحفصية تاريخيّا حركية سوسيو فضائية دائمة ضمنية وبينيّة (2) ولكن أيضا متخارجة نحو المدينة الإستعمارية أو ما تسمّى اليوم بالعاصمة ونحو الأحياء الجديدة . شملت الأخيرة الطبقة القادرة أو المحظوظة مثلما المتوسّطة . وقد أدّت هذه الحركية الإجتماعية المتخارجة إلى إضطراب في شبكة علاقات " البلدية " من الشريحة الإجتماعية غير المحظوظة ماديّا وتقلّصها . فالحركية ضمن الفضاء وخارجه لا تعيد هيكلة العلاقات بين الشخصية التي يتحدّث عنها BLAN فحسب بل تهدّد الإندماج الإجتماعي كما يؤكّد ذلك LIPSET . قوّضت الحركية السوسيو فضائية بمرجعيتها العفوية مثلما الموجّهة (3) أو التي هي نتاج التنمية الحضرية الموجّهة ، البنية التقليدية للروابط الإجتماعية (4) والعلاقات ما بين شخصية التي كانت قائمة على روابط الدمّ والقرابة وإبن البلد أو على أساس سوسيومهني أو إثني أو ديني (5). فالحيّ الواحد اليوم يكشف عن فسيفساء إجتماعية ومهنية والمرجعيات الفضائية . تكشف الأحياء التقليدية للبحث اليوم عن فقدان هويتها التاريخية وشخصيتها التقليدية . فضمنها يتداخل الحديث والتقليدي على صعيد المعمار مثلما الأنشطة التجارية والبنية السوسيو ـ مهنية للحيّ . وهو نتاج لا التغيير الموجّه أو المبرمج بقدر ما هو إفرازة إختراق العفوي للرسمي والمنظّم .
1 ـ شملت توسيع الغرف : لون جدران واجهة الدار وإعادة توزيع مورفولوجية الداخل .
2 ـ المقصود بالضمنية : الحراك الداخلي بين مختلف أحياء الحفصية وبالبينية الحراك بين الحفصية وأحياء المدينة التقليدية .
3 – Tessier ( R ) ; Tellier ( Y ) : Chagement planifié et évolution spontanée ; paris puf ; 1991 ; p44 – 45 .
4 – Chevallier ( D ) ; Bouhdiba ( A.W ) : L’éspace social de la ville arabe ; éd Maisonneuve et Larose ; p 193 – 199 .
5 – Pennec ( P ) : Les trasformations des corps de métiers de tunis ; ISEA ; 1964 ; PP 206 – 208 .
إنّ واقع التغيير الحضري اليوم كما يتجلّى في الفضاء الخاص والعام منه يكشف عن هذا التداخل الذي يعطي للبعد اللاشكلي أهميّة في دفع أو كبح نظام حياة جديد مشروع التغيير المنظّم والموجّه . يتّخذ هذا الفعل أشكالا متعدّدة ومتباينة (1) . تتجلّى هذه التحوّلات السوسيو ـ فضائية للحفصية في الوعي اليومي " لبلدية " المنطقة وهو ما تكشف عنه أجوبتهم . ففي إستجوابنا لهم وقفنا على ملاحظة هامّة تميّز هذه الفئة من " بلدية " الحفصية اليوم . فهم يصرّون على إحاطتك بتاريخ المنطقة الإجتماعي ويحدّثونك عن قيم ومعايير التعامل والتواصل في الحياة الإجتماعية للحيّ في ظلّ نظام التراتب والتناضد الإجتماعي التقليدي وعن طبيعة العلاقات الإجتماعية للحي : عن الحياة الدينية ومكانة الفضاءات المقدّسة في الحياة اليومية وعن تفاصيل اليومي في الزمان والمكان ، أين يتداخل الحكي والسرد مع الحنين لهذا الماضي الذي يصطدم اليوم بواقع سوسيو ـ فضائي مغاير وغريب في نظرها عن الشخصية الحضرية : العربية الإسلامية للحفصية ، تاريخيا .
يقول { ليبسات } أنّ الوافدين الجدد على الفضاء نتاجا للحركية الجغرا ـ فضائية يشعرون بالغربة تجاه الفضاء الإجتماعي ، على خلاف ما يكشفه البحث من أنّ الأقدم تواجدا في الحفصية هم أكثرهم إحساسا بتهميش التغيّرات لمقوّمات وجودهم وحياتهم اليومية ومعاشهم أي لتمثّلاتهم لفضائهم ولذواتهم ومنه للمكان ، على إعتبار الصلة الوثوقية بين الشخصية الحضرية للفضاء في تصوّر شاغليه وتصوّراتهم وتمثّلاتهم مثلما ذاكرتهم الجماعية . لا تتعلّق هذه الغربة تجاه الفضاء في وعيها بالتحوّلات العمرانية ولا المعمارية بل بالأرضية السوسيو ـ ثقافية لصورة الحفصية لديهم . هم ينقلون لك أزمة عالم " البلدية " اليومي في فضائهم الإجتماعي الذي فقد شخصيته المدينية وثراء المشاركة في الحياة الجماعية للحيّ . ففي الحياة المدينية لعالم " البلدية " ينكشف نظام تراتبي للفضاءات الدينية وللمسؤوليات الشرفية : من إمام الحي إلى الأشراف المسؤولين عن جوامع الأحياء . تتطلّب الجوامع جهازا بشريّا مثل {الخوجة } ، { باش خوجة } بالنسبة للجوامع الحنفيّة وخاصة مؤذّنين و { وّكاد } و { مزوال } بالنسبة للجامع الكبير .
مسّت التحوّلات ، إذا ، قيم تمثّل جوهر حياة " البلدية " . فالبلدي يثمّن قيمة العمل ولا يقترن ذلك لديه بسنّ بل يلازمه عمله { صنعته } طوال عمره . فتقدّمه في السنّ والصنعة يعني لدى أصحاب الصنعة ثراء التجربة . فحين يبلغ سنّ التقاعد { اليوم } لا يكون موضوع إهمال وتهميش بل يستفيد أهل الحرفة من خبرته . ذلك لأنّ الحرفة أو الصنعة والعالم المهني للبلدي يمثّل كلّ حياته ، فضمنه لا يكبر . فهو يتحدّى الزمن ويعلو عليه وعبره لا يموت حين يعلّم إبنه حرفة الآباء . فتعلّم الحرفة هو نشاط موازي لتعلّم ودراسة الأبناء . ويحتلّ أولوية على التعلّم لدى " البلدي " . وهي عقلية تنسحب على أعيان " البلدية " مثلما بسطائهم .
إنّ إحساس الغربة الذي ينعكس في أجوبتهم تجاه الفضاء اليومي المعاش أو الحفصية يكشف عن تمازج الفضائي بالإجتماعي في ذاكرتهم وفي صورة الفضاء لديهم . فلكلّ فضاء حكاية ولكلّ مكان دلالة وطقوس صارمة . فالمدينة ، مثلا ، لها خارطة جنسية وفواصل وحدود تتأسّس على مبدأ المباح والممنوع / المقدّس والمدنّس (2) ، في حركة وإنتقال المرأة مثلا في الفضاء وفي هيئة حركة الجسد ضمنه . فما هو مباح في مكان وزمان ما يتحوّل إلى ممنوع ومكروه ومنبوذ في مكان آخر . هي خارطة يحفظها " البلدي " جيّدا ويذكرها في كلّ حين لأنّها تشكّل خطّ سير إجتماعيّ معاش
1 – Mann ( P ) : L’action collective ; Mobilisation et organisation des Linorités Actives ; éd Armond colin ; 1991 ; p 8 .
2 – Abdelkafi ( J ) : La medina de Tunis ; éspace historique ; Tunis Alif ; 1989 ; P 174 .
يومي ، ينشأ عليه ويستبطن رموزه ودلالاته . يقترن ضمن معاشه الفضاء بنمط حياة يومي يختزن في ذاكرة فضائه هذه الصلة والتنافذ بين ما هو فضائي وما هو ثقافي : قيم ومعايير سلوك وتواصل وتفاعل جماعية . لم تحمل التغيّرات التي عرفتها الحفصية في ذهن " بلدية " المكان منذ ما يزيد عن الخمسين سنة من الفئات المتوسطة وضعيفة الدخل سوى تقويض لنمط حياة تشكّل شخصية الحفصية الحضرية وشخصية البلدي الملتصقة والمتّصلة بها في تصوّره مثلما في معاشه .
إنّ فقدان الحفصية لشخصيتها المدينية ونمط حياة الجماعة المقترن بها هو فقدان لشخصية " البلدية " في خضمّ هذه التحوّلات ، لذلك نجدهم يغيّبون البعد المعماري أو المورفولوجي أو الجمالي لفائدة التركيز على المضمون الثقافي للجديد . فهذا أحد المستجوبين يقول << سأعطيكم مثالا عن إضطراب شخصية الحفصية : في زماننا كنّا نعرف بلاد الشخص أو كونه " بلدي " أو " برّاني " يهودي أو مسلم من مهنته. فهناك تقسيم تاريخي أصبح مع الوقت إحتكارا يعرفه " البلدي " مثل الوافد " البرّاني " . فالوسطاء أو السماسرة أو الذين يقدّمون القروض " بالرهنيّة " وموظفّي البنوك هم في الغالب يهود زحفوا على حيّنا وسيطروا على العديد من المهن التي أصبحت مرتبطة بهم . أمّا المسلمون فيعملون في الغالب " عتّالة " وبائعي غلال وخضر وتسيير الحمّامات وبائعي الفحم وحرّاس في الأسواق والمنازل أو جزّارين إلى غير ذلك من المهن المرتبطة بالوافدين " البراينيّة " . وضمن " البراينيّة " تجد تخصّصا جهويّا للمهن : فالـ " جرابة " كانوا باعة الصوف وتجّار الفخّار " عطايرية " وأصحاب مطاعم شعبية جدّا ، أمّا " القابسية " فهم في الغالب باعة الخضر " عتّالة " و " كلاّسة " ، أمّا " الخمّاسة " و " الفطايرية " وحرّاس المنازل وبائعي الفول والحمص النيّء والمطهوّ فهم ما نسمّيهم " بالحبايليّة " ( مطماطة ، تطاوين ) >> .
يتّخذ التنظيم الإجتماعي للفضاء ، كما يقرأ من هذا النصّ بعدا تحديديّا في تشكّل صورة الفضاء لدى " بلدية " الحفصية الأقدم تواجدا فيها ومواقفها من التغيّرات والتحوّلات التي تتمثّلها في مضمونها السوسيو ـ ثقافي أو تأثيرها على الشخصية الحضرية التاريخية التي تختزنها ذاكرتهم . تتوسّط ، إذا ، ذاكرة الفضاء المستبطنة بكلّ ما تحيل إليه من قيم ومعايير ثقافية تحكم وتوجّه تعاطيهم وإستعمالهم للفضاء بين الذوات الإجتماعية وتمثّلهم للتغيّر وللحاصل المديني وللواقع المديني الذي تعيشه وتتموقع بالنظر إليه في إرتباط بماض يشكّل معيار القياس والحكم على إتّجاه التغيّر وتكوّن صورة الحفصية الذهنية . إنّ تعقّل البحث لهذا هو تعقّل للمدينة (1) ، ثمّ إنّ صورة المدينة ليست " فحسب صورة مرئية مورفولوجية ، فهي تقارب في صورتها الرمزية عير الأفكار والمشاعر التي يجسّدها المعنى الذي تكتسبه لدى المواطن الذي يستعملها " (2) . والتنظيم هو ذاته لا يوجد " إلاّ عبر وساطة فاعلين " (3) . وهو أيضا بناء " إجتماعيّ أو نتاج نشاط إنسانيّ " (4) .
1 - Revue : L’éspace géographique ; N° 3 ; 1985 ; p 191 .
2 - Horacio ( C ) : L’image de la ville et le comportement spacial des citadins ; in : l’éspace géographique n° 1 / 1975 ; jan – mars ; p 77
3 - Ledrut ( R ) : Sociologie urbaine ; paris puf ; 1979 ; p 55 .
4 - Hogue ( J.P ) ; Levesque ( D ) ; Morin ( G ) : Groupe ; pouvoir et communication ; presses de l’université du québec ; 1988 ; p 62 .
تلتقي هذه النتيجة التي إنتهينا إليها لدى أقدم " بلدية " الحفصية اليوم من الشرائح الإجتماعية المتوسّطة والضعيفة الدخل ، مع مقولة Rymond ledrut في أنّ " المدينة والمدن لها لدى الناس دلالات إجتماعية "(1) . من هنا تتّخذ الصورة الرمزيّة مضمونا وجدانيّا أو عقلانيّا ، فتكون متفائلة أو متشائمة / تقدّمية أو محافظة. مع هذه الفئة نحن أمام صورة رمزيّة للحفصية متشائمة أو قاتمة تكشف عن الإحساس بالإقصاء والتهميش الممارس عليها من الفضاء في حاصله الحاضر. وتترجم هذه الفئة إحساسها في سلوك الإنكماش على الذات إعتبار المنزل أي الفضاء الخاص عالمها اليومي الذي تتواصل ضمنه وعبره مع ماضيها ومع ذاكرنها أي مع ذاتها الفضائية ، رغم أنّ هذا العالم الذاتي
والذاكرة الحيّة قد إستوعب هو ذاته إنعكاسات التغيّرات في متعدّد تجلّياتها السلوكية والنفسية والقيمية . وقد بيّنت في هذا السياق دراسة الدكتورة { زنّاد } وجود تداخل بين التقليدي والحديث في الممارسة ضمن الفضاء التقليدي مثلما الحديث لدى " بلدية " باب سويقة والحلفاوين (2) ، تحتفظ ضمنه الجماعة بذكرى تجعلها بإستمرار حاضرة في واقعها(3) اليومي . وتشكّل الدار عالما يحتفظ بالصلات بين ماض مستبطن وحاضر معاش / حيّ ، تقرأ في الممارسات اليومية والتعاطي اليومي للفضاء الذي هو تواصل مع هذا الماضي أو الذي كان فضائيّا .
يتمثّل أقدم " البلدية " من ذوي الدخل العائلي المتوسّط والضعيف ، الحفصية اليوم من خلفية ثقافية لا يشكّل ضمنها البعد الجمالي أو الحضري ( تطوّر البنية الأساسية العمرانية والإجتماعية ) مستندا ذو أهميّة في أحكامها تجاه الحاضر المديني للحفصية . ففي حين يتداخل التاريخي والجمالي في تمثّل " بلدية " الجيل الثاني كما أسلفنا لفضاءات النشاط بعبارة { هورتون } (4) ، أو لفضاءات التمثّل بعبارة { لوفافر } (5) .
1- Ledrut ( R ) : Les images de la ville . p 29 .
2- Bouchrara zanned ( T ) : Symbiliques corporelles et éspaces Musulmans ; cérés prod ; 1984 ; p 110 .
3- Chevallier ( D ) ; Bouhdiba ( A.W ) : L’éspace social de la ville arabe ; éd Maisonneuve et Larose ; paris 1979 ; p20 .
4- Horacio ( C ) : L’image de la ville et le comportement spacial des citadins ; in : l’éspace géographique n° 1 / 1975 ; jan – mars ; p 78 .
5- Lefebvre ( H ) : La production de l’éspace ; éd Anthropos ; 1974 ; p 43 .
أمّا إذا تدرّجنا إلى الجيل الحالي لسكّان الحفصية منذ جيل تقريبا فنقف على معادلة خاصّة ينسحب ضمنها التاريخي ليبرز الجمالي والحضري كمرجعيّة لتقييممهم للحفصية الذي تقترن ضمنه الخارطة الذهنية بجغرافيا حركية الجسد في الفضاء . وإذا أردنا ، تلخيصا ، أن نعيد صياغة النتائج المتحصّل عليها يمكن القول بأنّه : كلّما صعدنا في سلّم أقدمية التواجد بالفضاء كلّما تعاظم المضمون الوجداني للصورة الرمزيّة وتراجع المضمون العقلاني وكلّما إقتربنا من " البلدية " الجدد أي الأقلّ أقدمية تدرّجنا من المضمون الوجداني إلى العقلاني صعودا . ومثلما أشرنا إلى ذلك ، كلّما صعدنا في أقدمية التواجد بالحفصية إنتقلنا من اليومي إلى التاريخي في صورة الذوات الإجتماعية لفضائها المديني . / .
[u]